إيران والإرهاب توأمان

طهران تسعى لزعزعة الأمن بمنطقة الخليج والشرق الأوسط

أحمد المغسل العقل المدبر للهجوم الإرهابي على جزء من مجمع سكني بمدينة الخبر في يونيو 1996 كان في إيران ثم تم تسليمه للسعودية بعد أن قبض عليه في لبنان عام 2015 (غيتي)
أحمد المغسل العقل المدبر للهجوم الإرهابي على جزء من مجمع سكني بمدينة الخبر في يونيو 1996 كان في إيران ثم تم تسليمه للسعودية بعد أن قبض عليه في لبنان عام 2015 (غيتي)
TT

إيران والإرهاب توأمان

أحمد المغسل العقل المدبر للهجوم الإرهابي على جزء من مجمع سكني بمدينة الخبر في يونيو 1996 كان في إيران ثم تم تسليمه للسعودية بعد أن قبض عليه في لبنان عام 2015 (غيتي)
أحمد المغسل العقل المدبر للهجوم الإرهابي على جزء من مجمع سكني بمدينة الخبر في يونيو 1996 كان في إيران ثم تم تسليمه للسعودية بعد أن قبض عليه في لبنان عام 2015 (غيتي)

بات من الصعب تقصي مدى انتهاك مبدأ سيادة الدولة وعدم التدخل في ظل عالم شائك تمارس فيه بعض الدول حرب الوكالات أو دعم تنظيمات إرهابية في أراضي دول أخرى، مثل ما يحدث من انتهاكات إيران لدول الخليج بتدخلها السافر دون وضع أي اعتبار لمفهوم ظهر جزءاً من نظام الدول القومية ذات السيادة بموجب صلح وستفاليا عام 1948، الذي ينص على أن ما يقع «داخل نطاق الأرض ذات الكيان السياسي، تمثل الدولة فيه القوة المطلقة»، وقد جعلت من مبدأ «ولاية الفقيه» حجة لما تسميها حماية مصالحها الدينية، وإن كان ذلك خارج أراضيها.
تحتضن إيران كثيرا من الجماعات الإرهابية، بعد أن فروا نحو طهران، في أعقاب الهجوم الأميركي على أفغانستان، إبان تفجيرات 11 سبتمبر (أيلول) 2001، حيث جعلت لهم مقراً لعمليات التنظيمات الإرهابية، لاستهداف الدول في المنطقة، خصوصاً السعودية، وتصدير العناصر الإرهابية إلى اليمن والعراق وسوريا وليبيا، حيث شهدت بعض الدول الأبرز في العالم، هجمات إرهابية متعددة الأدوار، وكذلك جنسيات منفذيها، والمخططون لها، إلا أن إيران لم تتعرض لمثل ذلك، بحيث إن إيران والإرهاب ليسا عدوين.
يتضح ذلك في أعقاب ما حدث مؤخراً من كشف القضاء السعودي عن بدء محاكمة سعوديين متورطين بالتخابر مع إيران، بهدف «إثارة الفتن» بتمويل جهات خارجية مناوئة للسعودية يتضح أنها إيرانية، الأمر الذي يكشف عن سعي إيران الحثيث لزعزعة الأمن في عدة مناطق في الخليج، وطالبت النيابة العامة بالسعودية بتنفيذ حكم الإعدام بهم، وكان هؤلاء الأربعة ضمن سلسلة من القضايا، في التواطؤ مع إيران، ولكن بطرق مختلفة، بعضهم مع دبلوماسيين إيرانيين يعملون في سفارة طهران في الرياض، وكذلك القنصلية في جدة، إضافة إلى المبعوث الإيراني في منظمة التعاون الإسلامي، وآخرون كانوا على تواصل مباشر مع أحمد المغسل، العقل المدبر للهجوم الإرهابي على جزء من مجمع سكني في مدينة الخبر عام 1996، الذي راح ضحيته 19 من الضباط والأفراد الأميركيين الذين كانوا يوجدون في المبنى، خصوصاً أن إيران كانت تحتضن الإرهابي المغسل من ذلك الوقت، ثم تم تسليمه للسعودية بعد أن قبض عليه في لبنان عام 2015.
كذلك أصدرت المحكمة الجزائية المتخصصة في العاصمة الرياض حكماً ابتدائياً بإعدام 4 سعوديين تمت إدانتهم بالتواطؤ مع إيران ضد مصالح السعودية، وتأسيس خلية إرهابية برئاسة أحمد المغسل المدبر لتفجيرات أبراج الخبر عام 1996؛ ومما كشف عن التدخل الإيراني في مثل هذه القضايا، اعتراف موقوف سعودي في السابق ببقائه مع كل من المغسل وإبراهيم اليعقوب وعبد الكريم الناصر ومحمد الحسين تحت حماية المخابرات الإيرانية خلال الفترة ما بين 1996 و2010. إضافة إلى الاعتراف بمد أسر المتورطين في التفجير ممن تم تجنيدهم من قبل طهران بالأموال، إلى جانب عدد من السعوديين ممن تم تجنيدهم ودعمهم بأموال من أجل التجسس على السعودية بالتعاون مع عناصر إيرانية بسفارة طهران في الرياض وقنصليتها في جدة، إضافة إلى موظف كان يعمل في مندوبية منظمة التعاون الإسلامي.
هذا الأمر ليس بجديد؛ إذ يأتي امتداداً لحالات أخرى تم فيها الكشف عن سعوديين آخرين تم تجنيدهم من قبل السلطات الإيرانية، وقد أعلنت السلطات السعودية في مارس (آذار) 2013 القبض على 15 سعودياً وآخر يمني الجنسية في كل من مكة المكرمة والمدينة المنورة والرياض والمنطقة الشرقية ممن انضموا إلى خلية للتجسس وتعاونوا مع إيران، وعقدوا عدة لقاءات بتمويل من قبل المخابرات الإيرانية.

إيران وتنظيم «القاعدة»
عكست أدلة كثيرة تورط إيران بدعمها تنظيمات وميليشيات متطرفة، ومما يعد الأكثر تعقيداً تلك العلاقة مع تنظيم «القاعدة»؛ بالأخص لتناقض الرؤى فيما بينهما؛ بل ورفض كل منهما مبادئ الآخر. وقد ظهرت العلاقة ما بين التنظيم وإيران من خلال رسالة زعيم «القاعدة» أيمن الظواهري التي تعود إلى عام 2005، حين وجه لأبي مصعب الزرقاوي ما شدد فيه على ضرورة تجنب مواجهة إيران والشيعة بشكل عام؛ بالأخص في العراق، إذ كثف الزرقاوي في تلك الفترة هجماته على الشيعة فيه، وتبعه أبو بكر البغدادي الذي جعل من الشيعة هدفاً لتنظيم «داعش» إلى جانب كل من يعدّهم مخالفين لنهجه، الأمر الذي شكل سبباً محورياً لتكوين تنظيم جديد منشق عن تنظيم «القاعدة» متمثلاً في تنظيم داعش.
وقد كشفت الوثائق التي أفصحت عنها القوات الأميركية في آبوت آباد بعد الحصول عليها من مخبأ زعيم «القاعدة» السابق أسامة بن لادن بعد مقتله في نوفمبر (تشرين الثاني) 2011، عن مدى علاقة تنظيم «القاعدة» بإيران، وقد تضمن ذلك أن عضواً بارزاً في التنظيم أكد في رسالة له أن إيران مستعدة لتوفير كل ما تحتاجه «القاعدة»، وتضمن ذلك أسلحة وأموالا ومعسكرات لتدريب «حزب الله» في لبنان، مقابل أن يقوم التنظيم بالهجوم على مصالح أميركا في السعودية ودول الخليج.
وقد آوت إيران عدداً كبيراً من أعضاء تنظيم «القاعدة»؛ إذ احتضنت عدداً من أبرز قيادييه مثل حمزة بن لادن الذي أقيم حفل زفافه وابنة الرجل الثاني في تنظيم «القاعدة» المكنى أبو محمد المصري، في إيران مطلع عام 2005، وذلك في مقر إقامته بالمجمع الذي خصصه الحرس الثوري الإيراني سكنا لقياديي «القاعدة»، بعد أن فر عدد منهم إلى إيران. من جهة أخرى؛ اتضح وجود سيف العدل المصري في إيران منذ عام 2011 ولمدة 9 أعوام؛ وتوجه فيما بعد إلى المنطقة الحدودية ما بين أفغانستان وباكستان.
ويعرف سيف العدل بأنه ضابط سابق في الجيش المصري انضم إلى تنظيم «القاعدة»، وأشرف على معسكرات التدريب فيه في كل من السودان وأفغانستان في التسعينات، وقد ساهم في عمليتي تفجير السفارتين الأميركيتين في كل من نيروبي ودار السلام في عام 1998، إضافة إلى تدبيره تفجيرات الرياض في عام 2003.
دعم إيران لتنظيم «القاعدة» تمثل أيضا في التنسيق لاستقبال مقاتلين قادمين من السعودية أو تمويلهم من أجل تمكينهم من السفر إلى مناطق قتال أخرى، إضافة لعدد آخر من قياديي التنظيمات، وذلك على الرغم من وجود معرفة مسبقة من قبل السلطات الإيرانية بهم، مثل ما حدث مع أولمزون أحمدوفيتش صادقين المعروف بكنيته «جعفر الأوزبكي» وعز الدين عبد العزيز خليل المعروف بـ«زين العابدين السوري»، وهو المنسق لتنظيم «القاعدة» في إيران... وقد التقى آنذاك به السعودي صالح القرعاوي الملقب بـ«نجم الخير» والذي قام باستقطاب عدد من السعوديين وإرسالهم إلى إيران على أن يكون بحوزتهم ما لا يقل عن 50 ألف ريال يتم تسليمها إلى زين العابدين السوري، وقد عرف القرعاوي بأنه زعيم لكتائب عبد الله عزام قبل أن يتم استبداله السعودي «الماجد» به نتيجة إصابة القرعاوي جراء انفجار، وقد كان القرعاوي من أخطر عناصر كتائب عبد الله عزام، وقد كان يتحرك مع عناصر أخرى لـ«القاعدة» بين إيران ووزيرستان.
مثل هذه الأدلّة لم تقتصر على وثائق كشفتها السلطات الأميركية، وإنما اتضحت من خلال تصريحات لمسؤولين إيرانيين، وقد صرّح مؤخراً معاون السلطة القضائية الإيراني محمد جواد لاريجاني في مقابلة حصرية مع التلفزيون الإيراني الرسمي بأن «إيران سهلت مرور عناصر (القاعدة) الذين نفذوا هجمات 11 سبتمبر 2001 في نيويورك»، وأكد في لقاء مع التلفزيون الرسمي الإيراني أن الحكومة الإيرانية وافقت على «عدم ختم جوازات بعضهم لأنهم عبروا بشكل رحلات (ترانزيت) لمدة ساعتين وكانوا يواصلون رحلتهم دون ختم جوازاتهم، لكن كل تحركاتهم كانت تحت إشراف المخابرات الإيرانية بشكل كامل».

إيران والمجتمع الدولي
وضعت الولايات المتحدة الأميركية إيران في قائمة الدول الداعمة للإرهاب منذ 19 يناير (كانون الثاني) 1984، وذلك نتيجة دعمها «حزب الله» وتنظيمات أخرى، أو الحرس الثوري من جهة أخرى، بما في ذلك في سوريا التي يتجلى دعمها من قبل الحكومة الإيرانية مالياً، إضافة إلى وجود جماعة «حزب الله» في سوريا من أجل حماية النظام السوري.
وقد نشرت منظمة الأمم المتحدة عدة تقارير لانتهاكات إيران للمواثيق الدولية وقرارات مجلس الأمن نتيجة دعمها الحوثيين بتسليحهم في اليمن، وقد ظهر دورها من خلال توفيرهم الصواريخ الباليستية الإيرانية التي وصلت إلى الرياض في عدّة مرّات مما شكل ضرراً مباشراً على المملكة؛ الأمر الذي يعيد إلى الأذهان دور الحرس الثوري في التدخل في كثير من الدول الأخرى بما يناقض مبدأ السيادة الوطنية للدول، والذي يضمن للمجتمع الدولي حدود كل عضو من أعضائه من خلال المواثيق والمعاهدات الدولية من أجل درء حل النزاعات الدولية بالقوة، مثلما ظهر من تدخل إيران السافر في شؤون البحرين والشعب لزعزعة أمنها بدعمها عددا من الأعمال الإرهابية فيها. وقد أشار وزير الداخلية البحريني إلى وجود اعترافات لعدد ممن تم القبض عليهم بخصوص تلقيهم تدريباً في معسكرات تابعة للحرس الثوري الإيراني على استخدام السلاح وتصنيع المتفجرات.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.