تجربة شاعر احترف التشكيل

تجربة شاعر احترف التشكيل
TT

تجربة شاعر احترف التشكيل

تجربة شاعر احترف التشكيل

تحت عنوان «حانة الذئب»، صدر للشاعر والفنان التشكيلي المغربي عزيز أزغاي ديوان شعري، هو السابع في تجربة شعرية قاربت ثلاثة عقود.
وعن علاقة عمله الشعري الجديد، الصادر عن دار «راية»، بتجربته، التي يتوزعها أكثر من مجال إبداعي، قال أزغاي لـ«الشرق الأوسط»، «بصدور ديواني الشعري الجديد (حانة الذئب)، أكون قد راكمت سبع مجموعات شعرية، بعد (لا أحد في النافذة)، و(كؤوس لا تشبه الهندسة)، و(رصاص الموناليزا)، و(أكبر من قميص)، و(الذين لا تحبهم) و(أسرى على قماش)، على امتداد ما يقارب ثلاثة عقود، أي بمعدل مجموعة على رأس كل أربع سنوات. ربما تكون هذه الوتيرة بطيئة، إلا أنها تلائم طريقتي في التفكير والكتابة والحياة. من عادتي أنني لا أتعجل الأمور، ولا أستبق الأشياء. أميل أكثر إلى إنضاج ما أفكر فيه على نار هادئة. لذلك، أزعم أنني راكمت في مختلف هذه التجارب الإبداعية ملامح نص شعري ينحاز إلى مشاغله الخاصة، بما تؤشر عليه من اجتهاد في صياغة جملة شعرية مباشرة وحارة، وإيقاع داخلي يحفر في أراضي الشجن والقسوة أكثر من ارتهانه إلى بساطة التطريب».
وعن علاقة الشعر بالتشكيل في تجربته، قال شاعر «رصاص الموناليزا»: «ربما أفادني حقل التشكيل - الذي كنت أمارسه هواية قبل الاحتراف منذ مطلع عقد الثمانينات من القرن الماضي، أي قبل الانجذاب إلى كيمياء الكتابة - كثيراً في كتابة قصيدتي الشعرية التي أسعد بتقديمها لقارئي المفترض؛ أقصد وعيي الإضافي والمثمر بتلك المحاولة الخطرة التي أراهن من خلالها على استغلال التقاطعات الرفيعة التي تشد اللغة إلى الألوان والأشكال والكتل، بالشكل الذي يخلق هرمونية خاصة، تحضر فيها اللغة وقد تشرَّبت رائحة الأصباغ والمواد والخامات، بما ينتج نصاً يجتهد في نحت صوته أو صمته (لا فرق) داخل ضجيج العالم».
والنتيجة، يستدرك أزغاي، أنني «ما زلت أحاول، قدر الجهد والإمكان، إثارة ما أعتبره كلاماً أو فناً يفيد الناس أو، على الأقل، يثير لديهم مزيداً من الدهشة أو شهية الأسئلة، أو مجرد الشك في كل ما يحيط بنا جميعاً، ويعطي لهذه الحياة معنى ما».
ونقرأ لحسن نجمي الشاعر والروائي المغربي، على ظهر غلاف الديوان الجديد: «إن أزغاي، قبل أن يكون فناناً تشكيلياً، وبعد أن يكون، هو أحد أصوات القصيدة المغربية الجديدة. ولا أعرف كيف عثر على الكيمياء السرية التي تؤاخي، في تجربته ومساره ومتخيله، بين الشعري والتشكيلي. كأنه يرسم قصيدته الأخرى التي لا تستطيع الكلمات أن تفي بها أو تستوعبها».
وختم نجمي كلمته عن الشاعر، بقوله: «طوبي له، لقد اكتشف في أعماقه سعة أخرى، ويمكنه الآن أن يجري، ويطير، ويحلم كما يشاء. وهذا أجمل ما يحتاجه شاعر في صراعه مع اللغة التي تكاد تختنق في بعدها الزمني، بينما توفر الصباغة أبعاد الفضاء والأمكنة الرمزية الرحبة».
من جهته، قال الشاعر والمترجم الفلسطيني سامر أبو هواش، على ظهر الغلاف: «عزيز أزغاي يعرف أنه شاعر مهم، لكنه يعرف أيضاً أن الألم الشخصي، ألم الخسارات الفادحة، أكبر من ذلك، كيف يفهمنا، هو الآخر، هذه المعادلة الصعبة. سوف يعنيه أن يحب الآخرون شعره، لكن لن يعنيه الأمر كثيراً في الوقت نفسه».
وضمت المجموعة 31 قصيدة، أخذت عناوين: «شاعر» و«ميراث» و«صباحات» و«حلبات بلا أمجاد» و«تلك الحياة» و«وقت ميت» و«اللصوص» و«فاصلة» و«شارع بلا غبطة» و«بروليتاريا» و«سوء تقدير» و«حين كانت الأرض» و«طرق لا تضحك لأحد» و«عزف منفرد» و«مفارقة» و«الكطالاني» و«رجع صدى» و«غنائم فاسدة» و«مثل أطفال ناضجين» و«حانة الذئب» و«سرير سليم بركات» و«اكتشاف» و«رجل سكران» و«قتيل» و«ضحكة شامتة» و«شهادة ميت» و«لقطة غامضة» و«سر» و«طلقة بيضاء» و«فكرة مضيئة» و«في الموت... في الحياة الماضية».
ونقرأ في قصيدة «حانة الذئب»: «في هذا الثغر الأميركي / ما زال الحظ يجثو على ركبتيه / منذ نصف قرن / والمراهنون يقضون صباحاتهم البائسة / في ترويض الدواب / ويتوجهون إلى السماء بغبطة مطفأة / مجرد رخويات تحن إلى زمن المظليين، / إلى نعيم الإسطبلات المعدة لتخزين الأسلحة / كلهم ورثة سوء طالع وتسوس أسنان / كل صباح يعيدون إشعال فتيل الفرص الماكرة / بلفافات التبغ / ويصهرون المشاعر الضارية / بقناني النبيد / منذ نصف قرن / وهم يقطعون نفس الشريط / بإيقاع خائر / بينما المطربة / في عمق الضجيج / تلملم أطراف حبها القاسي / بمكنسة التوبة / تحت أنظار جنود المارينز».



عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف
TT

عبده خال كاتب رواية بوليسية... هل توقف نموه؟

 نوبوكوف
نوبوكوف

كنت أتهيأ للكتابة حين باغتتني رغبة في تصفح محتوى صفحة «الثقافة» في جريدة أجنبية. فوقع بصري، لحظة انبساط محتواها أمامي، على عنوان مُرَكبٍ من جزأين؛ الجزء الأول «مُلائِمَةٌ للقراءةِ في ليالي الشتاء»، وعرفت من الجزء الثاني أن الملائِمَةَ للقراءة هي عدد من روايات الجريمة يقترح مُعِدُّوها الاستمتاع بقراءتها في عطلة «الكريسماس». تلك قائمة لا أتوقع أن تقترحها الصحافة الثقافية العربية. «يا للمصادفة الغريبة» قلت في داخلي، فالمقالة التي كنت أنوي كتابتها تتمحور حول رواية الجريمة، أو الرواية البوليسية؛ لا أُفرقُ هنا بين النوعين. وكان للمصادفة امتداد آخر، إذ فرغت، وقبل قراءة تلك القائمة، من قراءة روايتين، هما روايتا جريمة «فسوق» لعبده خال، و«اللص والكلاب» للروائي العربي الكبير نجيب محفوظ.

عبده خال

ثنائية الركض والزحف

ركضت عبر «فسوق» عبده خال لأنها كانت القراءة الثانية، أو الثالثة؛ ووجدت في تعليقاتي وشخبطاتي في هوامش صفحاتها ما يغني عن قراءتها زاحفاً. أما أثناء قراءة رواية محفوظ، وكانت القراءة الثانية، كنت القارئ المتأني والبطيء لأنني لم أستطع مقاومة الرغبة في تفحص التقنية السردية فيها، ورصد لعبة الضمائر التي لا بد أن محفوظ استمتع بها أثناء الكتابة، واستمتع باستباق تلاعبه بالقارئ المحتمل بانتقاله من ضمير إلى آخر على نحو قد يجعل القراءة بطيئةً، أومُشوِشَّةً لبعض القراء.

يبدأ الفصل الأول بصوت السارد العليم - المحدود - بضمير الغائب: «مرة أخرى يتنفس نسمة الحرية، ولكن الجو غبار خانق وحر لا يُطاق. وفي انتظاره وجد بدلته الزرقاء وحذاءه المطاط، وسواهما لم يجد في انتظاره أحداً» (5). وابتداءً من الكلمتين الأخيرتين من السطر الثامن، يتحول ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب المثنى، إلى صوت سعيد مهران مُخاطباً زوجتة سابقاً وزوجها الغائبين: «نبوية عليش، كيف انقلب الاسمان اسماً واحداً؟ أنتما تعملان لهذا اليوم ألف حساب، وقديماً ظننتما أن باب السجن لن ينفتح، ولعلكما تترقبان في حذر» (5)، ثم إلى ضمير المتكلم «ولن أقع في الفخ، ولكني سأنقض في الوقت المناسب كالقدر» (5). وقبل نهاية الصفحة بسطرين، يتحول الخطاب إلى مونولوغ داخلي بضمير المُخاطب المفرد: «استعِن بكل ما أوتيت من دهاء، ولتكن ضربتك قوية كصبرك الطويل وراء الجدران» (5). وفي مكان آخر فيما بعد، يلتقي ضميرا المتكلم والمخاطب الجمع معاً في كلام سعيد مهران، وهو يتحدث إلى مستشارين متخيلين في محاكمة متخيلة: «لست كغيري ممن وقفوا قبلي في هذا القفص، إذ يجب أن يكون للثقافة عندكم اعتبار خاص، والواقع أنه لا فرق بيني وبينكم إلا أني داخل القفص وأنتم خارجه...» (100). من المستبعد ألا يتذكر البعض همبرت همبرت في رواية فلاديمير نابوكوف «لوليتا» وهو يخاطب المحلفين أثناء محاكمته. اللافت في الأمر أن سعيد وهمبرت «بطلان» مضادان «antiheroes»، ومُبَئِران، وساردان إشكاليان غير موثوقين في روايتي جريمة؛ سعيد مهران لص وقاتل، وهمبرت همبرت «بيدوفايل/pedophile/ المنجذب جنسياً للأطفال» وقاتل. مأزق أخلاقي يجد القارئ نفسه مُسْتَدْرَجاً إلى التورط فيه في حال تماهيه مع الشخصية جراء تقلص أو تلاشي المسافة الجمالية بينه وبينها.

البداية المُزاحة بالاستطراد

هنا البداية الأولى، الأصلية، للمقالة، وقد أزاحها إلى هذا المكان الاستطراد السابق، ولا أخفي أنني مِلْتُ إلى الاسترسال فيه. البداية الأصلية: الروائي والأكاديمي موكوما وانغوغي ودعوته في «نهضة الرواية الأفريقية» إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للقص الشعبي ومنه الرواية البوليسية؛ «جائزة القلم الذهبي» بكونها، في الأساس، مشروعاً يرفع القص الشعبي العربي من الهامش ويُنزله في المركز وبؤرة الاهتمام في المشهد الأدبي؛ ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن الرواية البوليسية في العالم وخُلُوِّه من أي ذكر لرواية بوليسية عربية واحدة، ثلاثة عوامل شكلت دافعاً على الكتابة عن الرواية البوليسية، وعن عبده خال، الذي أراه مشروع كاتب رواية بوليسية يعيش في كمون، أو لأقل، في حالة «توقف نمو» (ARRESTED DEVELOPMENT)، بغض النظر عمّا إذا كان يرى نفسه كذلك أم لا. الأمر مجرد رأي شخصي.

وانغوغي... الانحياز إلى الرواية البوليسية

بالإضافة إلى مناداته باعتبار الكتابات المبكرة - ما قبل جيل ماكيريري - جزءاً لا يتجزأ من «الخيال الأدبي والنقدي الأفريقي» (نهضة الرواية الأفريقية، 34)؛ دعا وانغوغي إلى فتح التقليد الأدبي الأفريقي للأدب المكتوب باللغات المحلية وللأدب الشعبي، مؤكداً على الرواية البوليسية بالذات، واصفاً مجيء أدباء ماكيريري بأنه مثل «تسونامي أدبي» طمر الكتابات المبكرة «تحت سيل من الروايات الواقعية» التي كتبوها بالإنجليزية. وكانت قوة وزخم حركتهم السبب في إخفاق النقد الأدبي في استرداد الحقبة الأدبية المبكرة. لقد أرسى أولئك الأدباء تسلسلاً هرمياً «يعلي شأن كل ما هو أدبي على الفنون الشعبية» (253)، بينما الفجوة بين الأدبي والشعبي، في رأيه، مجرد تباينات سطحية، لا تعني له ولجيله شيئاً ذا بال، فهم يقرأون «الأدب جنباً إلى جنب الأدب الشعبي» أو يقرأون «ما هو أدبي مع ما هو شعبي في آن معاً» (255). ويرى أن النقد الأدبي الأفريقي الملتزم بالخط الفكري الممتد من تشينوا أتشيبي إلى تشيماماندا أديتشي كاذب ومزيف، وأنه ومجايليه يتطلعون إلى نقدٍ أدبي يتيح لهم قراءة الأعمال الأدبية لشكسبير وأتشيبي ونغوغي وا ثيونغو، على سبيل المثال، إلى جانب الروايات الشعبية والبوليسية.

الرواية الشعبية من الهامش إلى المركز

لا اسم في الذاكرة الأدبية العربية لناقد أو روائي أو أكاديمي عربي دعا، مثل وانغوغي، إلى الالتفات نقداً أو بحثاً إلى الرواية الشعبية العربية، فالمشهد العربي عموماً يشيح باهتمامه واعترافه بها عنها، وإن ينظر إليها فبنظرة دونية، باعتبارها أدباً من الدرجة الثانية، أو ليست من الأدب على الإطلاق. وكان الوضع سيستمر لو لم يطرح المستشار تركي آل الشيخ مشروع «جائزة القلم الذهبي»، لينقلها من الهامش إلى المركز، مثيراً بذلك موجات من التصفيق والترحيب، مقابل «حلطماتِ» وهمهماتِ رفضٍ لم يجرؤ على رفع صوته في وجه المشروع. الوضع سيكون مختلفاً تماماً لو لم يكن «الرسمي» مصدرَ القرار والتنفيذ لمشروع «القلم الذهبي».

في مقالته الموسومة بـ«جائزة القلم الذهبي وصناعة مشهد مختلف» المنشورة في مجلة «القافلة» (نوفمبر/ديسمبر 2024)، يكتب الأستاذ الدكتور حسن النعمي أن «جائزة القلم الذهبي»، «فريدة من نوعها في بناء جسور التلاقي بين الرواية والسينما» (31). ما أراه هو أن فرادة وتميز الجائزة ينبعان أساساً من التفاتها إلى المهمش، أو حتى غير المعترف به؛ القص الشعبي بطيف أنواعه. القص الشعبي هو الأساس والقواعد التي تبني عليها الجائزة «جسور التلاقي بين الرواية والسينما»، وما الرواية الأدبية «الواقعية» سوى مضاف إلى الجائزة على نحو استدراكي وعرضي.

وأتفق مع الدكتور النعمي في أن الجائزة ستصنع مشهداً مختلفاً، بيد أنه اختلاف من المحتمل أن يدفع، وعلى نحو لافت، بالقص الشعبي عموماً، والرواية البوليسية خاصة، إلى الواجهة، ما قد يؤدي إلى دخولها في مجال رادارت الصحافة والنقد. فتخرج الرواية البوليسية العربية من جب غيابها الملحوظ الذي ناقشته الصحافة العربية، وكُتِبَ عن أسبابه مراراً وتكراراً، قبل أن يتأكد - غيابها - عالمياً، أيضاً، من خلال ملف صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية (جولة حول العالم عبر 80 رواية بوليسية). وكان عبده وازن (إندبندنت عربية) وباقر صاحب (جريدة «الصباح»)، ممن كتبوا عن هذا الغياب الذي وصفه وازن بالفادح.

غياب الرواية البوليسية في «المجلة العربية»

لم تسعفني ذاكرتي إلا برواية محلية واحدة (فسوق) عبده خال وأنا أفكر فيما أشارك به في ملف «المجلة العربية» عن غياب الرواية البوليسية العربية (نُشر الملف في 1/4/2011). «فسوق» رواية بوليسية بامتياز حتى وإن لم يصرح مؤلفها بأنها كذلك، لاحتوائها على عناصر الرواية البوليسية الثلاثة: الجريمة، نبش قبر جليلة محسن الوهيب وسرقة جثتها ومضاجعتها؛ «المجرم/السارق، داود الناعم/شفيق الميت»؛ التحقيق والقبض على المجرم. أو وفقاً لتنظير تزفيتان تودوروف في «تصنيف القص البوليسي»، يتألف المتن الحكائي في «فسوق»، كما في أي رواية بوليسية، من القصة الأولى، وهي سرقة جثة جليلة، والقصة الثانية، قصة التحقيق المنتهية بالتعرف على من سرق الجثة ليمارس معها «النكروفيليا». القصة الأولى، كما يُنَظِّر تودوروف، تحكي ما يحدث بالفعل، بينما تشرح الثانية، قصة التحقيق، «كيف عرف القارئ أو السارد» عنها. بالتحديد تنتمي «فسوق» إلى النوع المعروف باسم «police procedural»، القص البوليسي الذي تأخذ فيه إجراءات وأساليب عمل الشرطة موقعاً مركزياً في البنية والثيمات والحدث كما يوضح جون سكاغز في كتابه «قص الجريمة».

لم يخطر ببال عبده خال أنه سيصبح ذات يوم عضواً في لجنة تحكيمٍ روايات جريمة/بوليسية جزءٌ من مهمتها. ربما يحفزه هذا على السماح لكاتب «فسوق» في داخله بالنمو والتطور، ليكتب روايات بوليسية أخرى.

* ناقد وكاتب سعودي