برنارد لويس... بطريرك الاستشراق

غرس بذور الأصولية وحصد الغرب من ورائه مرارة الكراهية

برنارد لويس في حديث يعود إلى 2001 مع «الرئيس التنفيذي» لحكومة أفغانستان عبد الله عبد الله (أ.ف.ب)
برنارد لويس في حديث يعود إلى 2001 مع «الرئيس التنفيذي» لحكومة أفغانستان عبد الله عبد الله (أ.ف.ب)
TT

برنارد لويس... بطريرك الاستشراق

برنارد لويس في حديث يعود إلى 2001 مع «الرئيس التنفيذي» لحكومة أفغانستان عبد الله عبد الله (أ.ف.ب)
برنارد لويس في حديث يعود إلى 2001 مع «الرئيس التنفيذي» لحكومة أفغانستان عبد الله عبد الله (أ.ف.ب)

ربما لم يثر رحيل أحد من المفكرين الكبار مؤخرا ضجة مثل تلك التي أثارها رحيل برنارد لويس الأستاذ الفخري لدراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون الأميركية، والملقب ببطريرك الاستشراق منذ أن وضع رسالته العلمية الأولى عن «الطائفة الإسماعيلية وجماعة الحشاشين»، وقد اشتهرت مؤلفاته الكثيرة من عينة «العرب في التاريخ»، «الإسلام والغرب»، «تشكيل الشرق الأوسط الحديث»، «الإسلام في التاريخ»، «يهود الإسلام»، «مستقبل الشرق الأوسط»، «ما الخطأ»، «أزمة الإسلام».
الملاحظ أن لويس المولود في إنجلترا لعائلة يهودية اشكينازية من الطبقة الوسطى قد وضع في بدايات حياته منطقة الشرق الأوسط والدين الإسلامي كهدف بحثي رئيسي لمنهجه على أمل أن يصل ذات يوم إلى رقي أفكار أستاذه المستشرق الفرنسي الكبير «لويس ماسينيون» في تاريخ الشرق الأوسط.
غير أنه حين اندلعت الحرب العالمية الثانية ترك لويس مسار التعلم الجامعي الذي كان قد بدأه للتو ليعمل ضابطا في الاستخبارات العسكرية البريطانية، ثم عاد غداة انتهاء الحرب إلى منصبه كأستاذ محاضر في جامعة لندن، رغم أن الكثيرين من معارفه يؤكدون على استمرار صلاته بالمؤسسة الاستخباراتية البريطانية ومن بعدها الأميركية حتى وفاته.
أحد الأسئلة التي واكبت حياة لويس وربما تبعت موته: «لماذا حمل الرجل على العالم الإسلامي وعلى المسلمين على هذا النحو، فقد كان سببا رئيسيا في تنامي التيارات الأصولية اليمينية في الداخل الأميركي من جهة، عطفا على أنه يعد صاحب فكرة أسلمة أوروبا، الأمر الذي استدعى صحوة التيارات القومية واليمينية الأوروبية، تلك التي نجح بعضها، فيما البعض الآخر على الطريق في الوصول إلى مقاعد الحكم في عدد من الدول الأوروبية؟
الجواب مرتبط ارتباطا جذريا بهوية لويس وهل كان الرجل مفكرا ومؤرخا، أم منظرا لسياسات إمبريالية بعينها، خدمت المنطلقات الغربية في التعاطي مع الشرق الأوسط خاصة، والإسلام عامة حول العالم وطوال أكثر من سبعة عقود أضحى فيها لويس مثل الإله الروماني «جانوس» الذي يحمل وجهين... إنسانا وإلها، فقد عرج لويس كثيرا بين دور المؤرخ الذي يتحتم عليه الموضوعية والحياد حين تناوله قضايا التاريخ، وبين صاحب الرأي المنحول عادة والذي يحمل عداء مجانيا للعرب والمسلمين، ويضعهم في أسفل السلم الإنساني، في رؤية عنصرية قريبة جدا من السلم البشري الذي قال به هتلر ذات مرة ووضع فيه القرود في درجة مرتفعة عن الهنود.
لا يمكن بحال في بضعة سطور أن نناقش آراء لويس وأطروحاته والتي تصدى وتحدى لها عدد كبير من رجالات الفكر العربي، وجميعهم يذهب في طريق نقد أو نقض آرائه العنصرية، غير أن ما يهمنا هنا هو التركيز على الدور الذي لعبه في تأجيج نيران الكراهية التي ولدت وأشعلت تاليا ظاهرة الإسلاموفوبيا في قلوب ونفوس شرق الأطلسي وغربه منذ ستينات القرن الماضي.
عرف جيدا لويس وهو ربيب الاستخبارات البريطانية التي تمثل العقل الكبير للمؤسسة الغربية في تعاطيها مع الشرق وجله إسلامي أن العدو لا بد منه لكي تبقى الشعوب متيقظة، وعليه فإنه أصل بشكل واسع لحتمية تاريخية - وإن كانت حتمية زائفة – مفادها عداوة الإسلام للمسيحية واليهودية، ورفض الإسلام لغيره من الأديان والثقافات، ومن هنا بسط لا سيما في عقول العوام فكرة عداء المسلمين للسامية، وفي وقت تلا الحرب العالمية الثانية حيث كان العالم لتوه قد خرج من واحدة من أشد النكبات الإنسانية التي ارتكبها الغرب الذي يطلق عليه مجازا «المسيحي» ضد اليهود في اوشفيتز، تلك المحرقة التي أدانها العالم الإسلامي قديما وحديثا.
هيأ لويس الأرضية لفكرة العداء التاريخي من قبل المسلمين لكل ما هو غربي يهودي أو مسيحي، بل يرجع إليه تعبير «كفاح المسلمين الألفي» بمعنى نوايا المسلمين لإعلان الحرب على العالم المغاير لهم دينيا، لا سيما الحاضنات الأوروبية والأميركية والتي يمكن لها أن تستمر لألف عام حتى يتمكنوا من غزو شعوب تلك الدول وأسلمتها، وهو ما جعل حالة القلق النظري تنتقل في لحظة زمنية معينة إلى حروب وأخبار حروب.
حجر الزاوية الذي أرساه لويس كتب عليه أن المسلمين أقوام لا يحسنون استيعاب ما اقتبسوه من الغرب، وقد تناسى عمدا وهو المؤرخ بالضرورة ما كان من فضل سابق للحضارة العربية على أوروبا، أو كيف ساهم العلماء العرب في رفع شأن مستوى الحياة الغربية عبر الاختراعات والمكتشفات التي قدموها للإنسانية دون الوقوف عند عرق بعينه أو شعب بذاته.
اتهامات لويس العنصرية تمضي في سياق العرب الذين باءت – على حسب تقديره - مساعيهم للحق بركب المدنية الحديثة، مدنية الغرب، بالفشل الذريع فراحوا يبحثون عن «كبش فداء»، هنا وهناك، لتبرير تخلفهم، وعجزهم وقصورهم، ويصبون جام غضبهم على الغرب، دون أن يدركوا ما وقعوا فيه من أخطاء تتمثل في رفض الحضارة الغربية والعداء للسامية وينتهي إلى نتيجة واحدة، قاسية كلماتها... المسلمون أوغاد بطبعهم، يكرهون الآخر، ويرون ذبح الغرب واليهود أمرا طبيعيا لتعويض الدونية والقصور الذي يعيشونه في حاضرات أيامهم.
حين نطلق على لويس بطريرك الاستشراق فمرد ذلك أن الكثير مما قال به مرفوض من وجهة النظر التاريخية، سيما وأنه يضع المسلمين في قالب ثابت سرمدي لا يتغير ولا يتبدل، مهما تغيرت الظروف البيئية أو تعدلت الأجواء الإنسانية.
أفضل من قدم أطروحات لنقد لويس اثنان، آلان جريش الكاتب والصحافي الفرنسي الشهير، والآخر الدكتور إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني الأصل العروبي النزعة والأميركي الجنسية.
تهكم «جريش» طويلا على لويس بالقول بأنه يتوجب على علماء البيولوجيا ووظائف جسم الإنسان، البحث عن «جينة الإسلام»، بمعنى أنه لدى المسلمين فقط دون غيرهم هذه الجينة التي تحمل بذور العنف والشر والكراهية، بل والتخلف والفوضى، وهي لا توجد عند غيرهم من شعوب العالم.
يؤكد جريش أن لويس هو الأب الروحي لـ«صموئيل هنتنغتون» صاحب رؤية صدام الحضارات، سيما وأن كليهما يخلص إلى أن العرب والمسلمين يكرهون الغرب ليس بسبب أفعال الشعوب الفرانكوفونية أو الأنجلوفونية، بل لأنهم يرفضون قيم الحرية بعد أن فقدوا قوتهم وقدرتهم ومنعتهم التي كانت لهم في التاريخ يوما ما.
القول المتقدم لبرنارد لويس قول مزيف جملة وتفصيلا، ذلك أن هناك من المبررات العقلية التي دفعت جزءا كبيرا من العرب والمسلمين لرفض منهجية الغرب السلطوية الكثيرة جدا.
على سبيل المثال لا الحصر هل كان تأميم شركة قناة السويس في مصر بسبب كراهية المسلمين للغرب؟ هل الانتفاضات الفلسطينية ضد سلب أراضيهم سببها تلك الكراهية؟ المقاومة للاحتلال الأميركي للعراق هل سببها الحقد الأخلاقي أو الآيديولوجي؟ بل الصراع في كوسوفو والبوسنة هل كان منشأه فقدان مشاعر الود وإحلال الكراهية موضعها وموقعها؟
الرفض العربي والإسلامي منطقه غالبا الظلم التاريخي الذي حاق بالمنطقة وشعوبها عبر مرحلتين استعماريتين الأولى بقوة السلاح في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، والمرحلة الثانية ماضية قدما إلى اليوم والاحتلال فيها بأدوات وآليات مغايرة منها الإعلامي وفيها الاقتصادي، وتسخير المجتمع الدولي لتحقيق رغبات الكبار.
كارثية لويس التي فضحها بمنهجية علمية وعقلانية الراحل الدكتور إدوارد سعيد تتصل بالتنميط القاتل للعالم الإسلامي وللمسلمين، فقد وضعهم لويس جميعا في سلة واحدة عبر حالة استاتيكية، بمعنى أنهم لا يتغيرون ولا يتبدلون عبر الأزمنة أو الأماكن، فيما يشبه الجمود الحتمي وكاهل الكهف وصاحبهم الرقيم، الأمر الذي يجافي وينافي حركة التاريخ.
كتب سعيد ذات مرة مقالا يتوجب الرجوع إليه وقراءته بعين محققة ومدققة من جديد، وقد كان عنوانه: «الإسلام من خلال عيون غربية» يشير فيه إلى الدور الكارثي الذي لعبه لويس وأمثاله من تلك الجماعة التي تفتخر بأنها نخبة الغرب الفكرية، ذلك أنه كان ملقى على عاتقهم توضيح صورة الإسلام والمسلمين بطريقة علمية موضوعية وتهذيبها في عيون الشعب وكذا صناع القرار، إلا أن هؤلاء جذروا الصورة المشوهة والمغلوطة للإسلام كتهديد للغرب من رؤية «زيجينو بريجنسكي» في خلال الأزمات إلى نظرية لويس عن عودة الإسلام، وكلهم يجمعون على رسالة واحدة «.. الإسلام ضد الإنسانية ومعاد للسامية ولا عقلاني».
خلال عقود كان لويس هو العقل المفكر للدولة الأميركية العميقة، والحديث في هذا السياق يحتاج إلى مؤلفات قائمة بذاتها، ويكفي الإشارة إلى أنه الرجل الذي تحدث إلى الكونغرس الأميركي باكرا جدا عن حتمية تفكيك الشرق الأوسط ودوله بصورتها الحالية وإعادة خلق واقع جيوسياسي مغاير، اصطلح البعض على تسميته «سايكس بيكو 2»، كان ذلك عام 1983. وفيما يؤكد لنا الدور الكبير في تأجيج أصولية المنطقة فقد عمد لويس إلى ضرورة استخدام الجماعات التي كان هو أول من أطلق عليها في منتصف سبعينات القرن الماضي «جماعات الإسلام السياسي» كمخلب قط لإسقاط دول المنطقة، الأمر الذي يعود بنا إلى دائرة تاريخية قديمة تربط بين الاستخبارات البريطانية والجماعات الأصولية في الشرق الأوسط بدءا من الإخوان المسلمين مرورا بالقاعدة ووصولا إلى «داعش».
والأكثر غرابة أن الرجل يستثني دولتين من مصير التفخيخ المحتوم... إسرائيل وتركيا ويشير إلى أنه ينبغي الحفاظ على استقرارهما وقوتهما واستقلالهما والاعتماد عليهما. المسطح يضيق عن الاستطراد ويدفعنا دفعا إلى الرحيل إلى أوروبا تلك التي أرعب لويس سكانها وألقى بهم في يم الأصولية المتطرفة حين سطر مقاله المنحول أيضا في صحيفة الواشنطن بوست: «أوروبا والمسلمون: ناقوس الخطر القادم»، حيث هدد الأوروبيين بأن قارتهم العجوز سوف تضحى قارة مسلمة مع العقود القادمة، وبحلول نهاية القرن الحادي والعشرين على أقصى تقدير، وعنده أن الأعداد المتزايدة من المهاجرين المسلمين إلى أوروبا سوف تفعل فعلها وبخاصة في ظل ميل المسلمين لإنجاب أكبر عدد من الأفراد، إضافة إلى تأخر الأوروبيين في سن الزواج وعزوفهم عن الإنجاب، أو في أفضل الأحوال إنجاب طفل واحد.
أدخل لويس الذعر في نفوس الأوروبيين حين تناول إشكالية الولاءات السياسية، والهويات التي يمكن أن نطلق عليها الروحية والدينية، إذ روج بين الأوروبيين أن المسلم في أوروبا سيظل ولاؤه وانتماؤه عرقيا دينيا وأيديولوجيا بأكثر من ولائه السياسي، وفي التحليل بهذه الصورة ولا شك ربط بالنتيجة المسبقة وهي أن المسلمين قوة تدمير لا أدوات تعمير، وعليه فإنه هو الأصل في حالة الانتفاضة الأصولية اليمينية التي عرفها الشارع الأوروبي والتي يعتبرها الملايين هناك صحوة في مواجهة موجة الهجوم الثالثة على أوروبا التي تناولها لويس بالتوضيح والتشريح ضمن استعادته لعلاقة أوروبا مع الإسلام عبر خمسة عشر قرنا خلت.
رحل لويس بعد أن زرع بذور الشقاق والفتنة الأصولية من جديد، وكأنه «دو مونتكروتشي» يبعث ثانية من القرون الوسطى، وفي وقت يحتاج العالم فيه للوفاق لا الافتراق وللحوار والجوار عوضا عن الكراهية وإحياء الخصومات.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.