برنارد لويس... بطريرك الاستشراق

غرس بذور الأصولية وحصد الغرب من ورائه مرارة الكراهية

برنارد لويس في حديث يعود إلى 2001 مع «الرئيس التنفيذي» لحكومة أفغانستان عبد الله عبد الله (أ.ف.ب)
برنارد لويس في حديث يعود إلى 2001 مع «الرئيس التنفيذي» لحكومة أفغانستان عبد الله عبد الله (أ.ف.ب)
TT

برنارد لويس... بطريرك الاستشراق

برنارد لويس في حديث يعود إلى 2001 مع «الرئيس التنفيذي» لحكومة أفغانستان عبد الله عبد الله (أ.ف.ب)
برنارد لويس في حديث يعود إلى 2001 مع «الرئيس التنفيذي» لحكومة أفغانستان عبد الله عبد الله (أ.ف.ب)

ربما لم يثر رحيل أحد من المفكرين الكبار مؤخرا ضجة مثل تلك التي أثارها رحيل برنارد لويس الأستاذ الفخري لدراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون الأميركية، والملقب ببطريرك الاستشراق منذ أن وضع رسالته العلمية الأولى عن «الطائفة الإسماعيلية وجماعة الحشاشين»، وقد اشتهرت مؤلفاته الكثيرة من عينة «العرب في التاريخ»، «الإسلام والغرب»، «تشكيل الشرق الأوسط الحديث»، «الإسلام في التاريخ»، «يهود الإسلام»، «مستقبل الشرق الأوسط»، «ما الخطأ»، «أزمة الإسلام».
الملاحظ أن لويس المولود في إنجلترا لعائلة يهودية اشكينازية من الطبقة الوسطى قد وضع في بدايات حياته منطقة الشرق الأوسط والدين الإسلامي كهدف بحثي رئيسي لمنهجه على أمل أن يصل ذات يوم إلى رقي أفكار أستاذه المستشرق الفرنسي الكبير «لويس ماسينيون» في تاريخ الشرق الأوسط.
غير أنه حين اندلعت الحرب العالمية الثانية ترك لويس مسار التعلم الجامعي الذي كان قد بدأه للتو ليعمل ضابطا في الاستخبارات العسكرية البريطانية، ثم عاد غداة انتهاء الحرب إلى منصبه كأستاذ محاضر في جامعة لندن، رغم أن الكثيرين من معارفه يؤكدون على استمرار صلاته بالمؤسسة الاستخباراتية البريطانية ومن بعدها الأميركية حتى وفاته.
أحد الأسئلة التي واكبت حياة لويس وربما تبعت موته: «لماذا حمل الرجل على العالم الإسلامي وعلى المسلمين على هذا النحو، فقد كان سببا رئيسيا في تنامي التيارات الأصولية اليمينية في الداخل الأميركي من جهة، عطفا على أنه يعد صاحب فكرة أسلمة أوروبا، الأمر الذي استدعى صحوة التيارات القومية واليمينية الأوروبية، تلك التي نجح بعضها، فيما البعض الآخر على الطريق في الوصول إلى مقاعد الحكم في عدد من الدول الأوروبية؟
الجواب مرتبط ارتباطا جذريا بهوية لويس وهل كان الرجل مفكرا ومؤرخا، أم منظرا لسياسات إمبريالية بعينها، خدمت المنطلقات الغربية في التعاطي مع الشرق الأوسط خاصة، والإسلام عامة حول العالم وطوال أكثر من سبعة عقود أضحى فيها لويس مثل الإله الروماني «جانوس» الذي يحمل وجهين... إنسانا وإلها، فقد عرج لويس كثيرا بين دور المؤرخ الذي يتحتم عليه الموضوعية والحياد حين تناوله قضايا التاريخ، وبين صاحب الرأي المنحول عادة والذي يحمل عداء مجانيا للعرب والمسلمين، ويضعهم في أسفل السلم الإنساني، في رؤية عنصرية قريبة جدا من السلم البشري الذي قال به هتلر ذات مرة ووضع فيه القرود في درجة مرتفعة عن الهنود.
لا يمكن بحال في بضعة سطور أن نناقش آراء لويس وأطروحاته والتي تصدى وتحدى لها عدد كبير من رجالات الفكر العربي، وجميعهم يذهب في طريق نقد أو نقض آرائه العنصرية، غير أن ما يهمنا هنا هو التركيز على الدور الذي لعبه في تأجيج نيران الكراهية التي ولدت وأشعلت تاليا ظاهرة الإسلاموفوبيا في قلوب ونفوس شرق الأطلسي وغربه منذ ستينات القرن الماضي.
عرف جيدا لويس وهو ربيب الاستخبارات البريطانية التي تمثل العقل الكبير للمؤسسة الغربية في تعاطيها مع الشرق وجله إسلامي أن العدو لا بد منه لكي تبقى الشعوب متيقظة، وعليه فإنه أصل بشكل واسع لحتمية تاريخية - وإن كانت حتمية زائفة – مفادها عداوة الإسلام للمسيحية واليهودية، ورفض الإسلام لغيره من الأديان والثقافات، ومن هنا بسط لا سيما في عقول العوام فكرة عداء المسلمين للسامية، وفي وقت تلا الحرب العالمية الثانية حيث كان العالم لتوه قد خرج من واحدة من أشد النكبات الإنسانية التي ارتكبها الغرب الذي يطلق عليه مجازا «المسيحي» ضد اليهود في اوشفيتز، تلك المحرقة التي أدانها العالم الإسلامي قديما وحديثا.
هيأ لويس الأرضية لفكرة العداء التاريخي من قبل المسلمين لكل ما هو غربي يهودي أو مسيحي، بل يرجع إليه تعبير «كفاح المسلمين الألفي» بمعنى نوايا المسلمين لإعلان الحرب على العالم المغاير لهم دينيا، لا سيما الحاضنات الأوروبية والأميركية والتي يمكن لها أن تستمر لألف عام حتى يتمكنوا من غزو شعوب تلك الدول وأسلمتها، وهو ما جعل حالة القلق النظري تنتقل في لحظة زمنية معينة إلى حروب وأخبار حروب.
حجر الزاوية الذي أرساه لويس كتب عليه أن المسلمين أقوام لا يحسنون استيعاب ما اقتبسوه من الغرب، وقد تناسى عمدا وهو المؤرخ بالضرورة ما كان من فضل سابق للحضارة العربية على أوروبا، أو كيف ساهم العلماء العرب في رفع شأن مستوى الحياة الغربية عبر الاختراعات والمكتشفات التي قدموها للإنسانية دون الوقوف عند عرق بعينه أو شعب بذاته.
اتهامات لويس العنصرية تمضي في سياق العرب الذين باءت – على حسب تقديره - مساعيهم للحق بركب المدنية الحديثة، مدنية الغرب، بالفشل الذريع فراحوا يبحثون عن «كبش فداء»، هنا وهناك، لتبرير تخلفهم، وعجزهم وقصورهم، ويصبون جام غضبهم على الغرب، دون أن يدركوا ما وقعوا فيه من أخطاء تتمثل في رفض الحضارة الغربية والعداء للسامية وينتهي إلى نتيجة واحدة، قاسية كلماتها... المسلمون أوغاد بطبعهم، يكرهون الآخر، ويرون ذبح الغرب واليهود أمرا طبيعيا لتعويض الدونية والقصور الذي يعيشونه في حاضرات أيامهم.
حين نطلق على لويس بطريرك الاستشراق فمرد ذلك أن الكثير مما قال به مرفوض من وجهة النظر التاريخية، سيما وأنه يضع المسلمين في قالب ثابت سرمدي لا يتغير ولا يتبدل، مهما تغيرت الظروف البيئية أو تعدلت الأجواء الإنسانية.
أفضل من قدم أطروحات لنقد لويس اثنان، آلان جريش الكاتب والصحافي الفرنسي الشهير، والآخر الدكتور إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني الأصل العروبي النزعة والأميركي الجنسية.
تهكم «جريش» طويلا على لويس بالقول بأنه يتوجب على علماء البيولوجيا ووظائف جسم الإنسان، البحث عن «جينة الإسلام»، بمعنى أنه لدى المسلمين فقط دون غيرهم هذه الجينة التي تحمل بذور العنف والشر والكراهية، بل والتخلف والفوضى، وهي لا توجد عند غيرهم من شعوب العالم.
يؤكد جريش أن لويس هو الأب الروحي لـ«صموئيل هنتنغتون» صاحب رؤية صدام الحضارات، سيما وأن كليهما يخلص إلى أن العرب والمسلمين يكرهون الغرب ليس بسبب أفعال الشعوب الفرانكوفونية أو الأنجلوفونية، بل لأنهم يرفضون قيم الحرية بعد أن فقدوا قوتهم وقدرتهم ومنعتهم التي كانت لهم في التاريخ يوما ما.
القول المتقدم لبرنارد لويس قول مزيف جملة وتفصيلا، ذلك أن هناك من المبررات العقلية التي دفعت جزءا كبيرا من العرب والمسلمين لرفض منهجية الغرب السلطوية الكثيرة جدا.
على سبيل المثال لا الحصر هل كان تأميم شركة قناة السويس في مصر بسبب كراهية المسلمين للغرب؟ هل الانتفاضات الفلسطينية ضد سلب أراضيهم سببها تلك الكراهية؟ المقاومة للاحتلال الأميركي للعراق هل سببها الحقد الأخلاقي أو الآيديولوجي؟ بل الصراع في كوسوفو والبوسنة هل كان منشأه فقدان مشاعر الود وإحلال الكراهية موضعها وموقعها؟
الرفض العربي والإسلامي منطقه غالبا الظلم التاريخي الذي حاق بالمنطقة وشعوبها عبر مرحلتين استعماريتين الأولى بقوة السلاح في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، والمرحلة الثانية ماضية قدما إلى اليوم والاحتلال فيها بأدوات وآليات مغايرة منها الإعلامي وفيها الاقتصادي، وتسخير المجتمع الدولي لتحقيق رغبات الكبار.
كارثية لويس التي فضحها بمنهجية علمية وعقلانية الراحل الدكتور إدوارد سعيد تتصل بالتنميط القاتل للعالم الإسلامي وللمسلمين، فقد وضعهم لويس جميعا في سلة واحدة عبر حالة استاتيكية، بمعنى أنهم لا يتغيرون ولا يتبدلون عبر الأزمنة أو الأماكن، فيما يشبه الجمود الحتمي وكاهل الكهف وصاحبهم الرقيم، الأمر الذي يجافي وينافي حركة التاريخ.
كتب سعيد ذات مرة مقالا يتوجب الرجوع إليه وقراءته بعين محققة ومدققة من جديد، وقد كان عنوانه: «الإسلام من خلال عيون غربية» يشير فيه إلى الدور الكارثي الذي لعبه لويس وأمثاله من تلك الجماعة التي تفتخر بأنها نخبة الغرب الفكرية، ذلك أنه كان ملقى على عاتقهم توضيح صورة الإسلام والمسلمين بطريقة علمية موضوعية وتهذيبها في عيون الشعب وكذا صناع القرار، إلا أن هؤلاء جذروا الصورة المشوهة والمغلوطة للإسلام كتهديد للغرب من رؤية «زيجينو بريجنسكي» في خلال الأزمات إلى نظرية لويس عن عودة الإسلام، وكلهم يجمعون على رسالة واحدة «.. الإسلام ضد الإنسانية ومعاد للسامية ولا عقلاني».
خلال عقود كان لويس هو العقل المفكر للدولة الأميركية العميقة، والحديث في هذا السياق يحتاج إلى مؤلفات قائمة بذاتها، ويكفي الإشارة إلى أنه الرجل الذي تحدث إلى الكونغرس الأميركي باكرا جدا عن حتمية تفكيك الشرق الأوسط ودوله بصورتها الحالية وإعادة خلق واقع جيوسياسي مغاير، اصطلح البعض على تسميته «سايكس بيكو 2»، كان ذلك عام 1983. وفيما يؤكد لنا الدور الكبير في تأجيج أصولية المنطقة فقد عمد لويس إلى ضرورة استخدام الجماعات التي كان هو أول من أطلق عليها في منتصف سبعينات القرن الماضي «جماعات الإسلام السياسي» كمخلب قط لإسقاط دول المنطقة، الأمر الذي يعود بنا إلى دائرة تاريخية قديمة تربط بين الاستخبارات البريطانية والجماعات الأصولية في الشرق الأوسط بدءا من الإخوان المسلمين مرورا بالقاعدة ووصولا إلى «داعش».
والأكثر غرابة أن الرجل يستثني دولتين من مصير التفخيخ المحتوم... إسرائيل وتركيا ويشير إلى أنه ينبغي الحفاظ على استقرارهما وقوتهما واستقلالهما والاعتماد عليهما. المسطح يضيق عن الاستطراد ويدفعنا دفعا إلى الرحيل إلى أوروبا تلك التي أرعب لويس سكانها وألقى بهم في يم الأصولية المتطرفة حين سطر مقاله المنحول أيضا في صحيفة الواشنطن بوست: «أوروبا والمسلمون: ناقوس الخطر القادم»، حيث هدد الأوروبيين بأن قارتهم العجوز سوف تضحى قارة مسلمة مع العقود القادمة، وبحلول نهاية القرن الحادي والعشرين على أقصى تقدير، وعنده أن الأعداد المتزايدة من المهاجرين المسلمين إلى أوروبا سوف تفعل فعلها وبخاصة في ظل ميل المسلمين لإنجاب أكبر عدد من الأفراد، إضافة إلى تأخر الأوروبيين في سن الزواج وعزوفهم عن الإنجاب، أو في أفضل الأحوال إنجاب طفل واحد.
أدخل لويس الذعر في نفوس الأوروبيين حين تناول إشكالية الولاءات السياسية، والهويات التي يمكن أن نطلق عليها الروحية والدينية، إذ روج بين الأوروبيين أن المسلم في أوروبا سيظل ولاؤه وانتماؤه عرقيا دينيا وأيديولوجيا بأكثر من ولائه السياسي، وفي التحليل بهذه الصورة ولا شك ربط بالنتيجة المسبقة وهي أن المسلمين قوة تدمير لا أدوات تعمير، وعليه فإنه هو الأصل في حالة الانتفاضة الأصولية اليمينية التي عرفها الشارع الأوروبي والتي يعتبرها الملايين هناك صحوة في مواجهة موجة الهجوم الثالثة على أوروبا التي تناولها لويس بالتوضيح والتشريح ضمن استعادته لعلاقة أوروبا مع الإسلام عبر خمسة عشر قرنا خلت.
رحل لويس بعد أن زرع بذور الشقاق والفتنة الأصولية من جديد، وكأنه «دو مونتكروتشي» يبعث ثانية من القرون الوسطى، وفي وقت يحتاج العالم فيه للوفاق لا الافتراق وللحوار والجوار عوضا عن الكراهية وإحياء الخصومات.



«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)
TT

«حزب الله»... خلايا قائمة وقادمة

متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي  (أ.ب)
متظاهرون موالون لـ«حزب الله» يشعلون النيران أمام مجمع السفارة الأميركية، في العاصمة بغداد نهاية الشهر الماضي (أ.ب)

قبل نحو شهر تقريباً أدرجت السلطات البريطانية جماعة «حزب الله» بمؤسساتها المختلفة السياسية والعسكرية كمنظمة إرهابية، ومن قبلها مضت ألمانيا في الطريق عينه، الأمر الذي دفع المراقبين لشأن الميليشيات اللبنانية الجنسية الإيرانية الولاء والانتماء للتساؤل: «ما الجديد الذي جعل الأوروبيين يتصرفون على هذا النحو؟»

الشاهد أن الأمر لا يقتصر فقط على الجانب الأوروبي، بل أيضاً تبدو الولايات المتحدة الأميركية في حالة تأهب غير مسبوقة، وسباق مع الزمن في طريق مواجهة الخلايا النائمة «لحزب الله» على أراضيها، ناهيك عن تلك المنتشرة في الفناء اللوجيستي الخلفي، لها أي في أميركا اللاتينية.
غير أن الجديد والذي دفع جانبي الأطلسي لإعلان مواجهة شاملة لميليشيات «حزب الله» هو ما توفر لأجهزة الاستخبارات الغربية، والشرقية الآسيوية أيضاً، لا سيما تلك التي ترتبط بعلاقات تبادل أمني مع بروكسل وواشنطن، من معلومات تفيد بأن «حزب الله» ينسج خيوطاً إرهابية جديدة في دول أوروبية وأميركية وآسيوية، من أجل الاستعداد للمواجهة القادمة حكماً في تقديره بين طهران والغرب.
ليس من الجديد القول إن ميليشيات «حزب الله» هي أحد أذرع الإيرانيين الإرهابية حول العالم، وقد أعدت منذ زمان وزمانين من أجل اللحظة المرتقبة، أي لتكون المقدمة الضاربة في إحداث القلاقل والاضطرابات، ومحاولة ممارسة أقصى وأقسى درجات الضغط النفسي والمعنوي على الأوروبيين والأميركيين، مع الاستعداد التام للقيام بعمليات عسكرية سواء ضد المدنيين أو العسكريين في الحواضن الغربية حين تصدر التعليمات من نظام الملالي.
مؤخراً أشارت عدة مصادر استخباراتية غربية لعدد من وسائل الإعلام الغربية إلى الخطة الجديدة لـ«حزب الله» لإنشاء شبكات موالية له في العديد من مدن العالم شرقاً وغرباً، الأمر الذي أماطت عنه اللثام صحيفة «لوفيغارو» الفرنسية بنوع خاص والتي ذكرت في تقرير مطول لـ«نيكولا باروت»، أن فكر التقية الإيراني الشهير يمارس الآن على الأرض، بمعنى أن البحث يجري على قدم وساق من أجل تجنيد المزيد من العناصر لصالح ميليشيات «حزب الله»، لكن المختلف هو انتقاء عناصر نظيفة السجلات الأمنية كما يقال، أي من غير المعروفين للأجهزة الأمنية والاستخباراتية سواء الأوروبية أو الآسيوية أو الأميركية.
هل الحديث عن عناصر «حزب الله» في الغرب قضية حديثة أم محدثة؟
الواقع أنهما الأمران معا، بمعنى أن ميليشيات «حزب الله» كثفت حضورها الخارجي في الأعوام الأخيرة، لا سيما في أميركا اللاتينية، وهناك جرى إنشاء «كارتلات» تعمل على تهريب البشر والسلاح والمخدرات من جهة، وتتهيأ لمجابهة أميركا الشمالية من ناحية أخرى.
ولعل المثال الواضح على قصة هذا الاختراق لدول القارة اللاتينية يتمثل في قضية الإرهابي سلمان رؤوف سلمان، الذي شوهد مؤخراً في بوغوتا بكولومبيا، والذي ترصد الولايات المتحدة الأميركية عدة ملايين من الدولارات لاقتناصه، بوصفه صيداً ثميناً يحمل أسرار ميليشيات «حزب الله» في القارة الأميركية الجنوبية برمتها.
أما المثال الآخر على الخلايا النائمة في الولايات المتحدة الأميركية فيتمثل في شخص علي كوراني الذي تم القبض عليه في نيويورك بعد أن تم تجنيده لصالح «حزب الله» لتنفيذ هجمات إرهابية، حال تعرض إيران أو «حزب الله» في لبنان لهجمات من جانب الولايات المتحدة الأميركية، ولاحقاً أكدت التحقيقات التي جرت معه من قبل المباحث الاتحادية الأميركية أنه أحد أعضاء وحدة التخطيط للهجمات الخارجية في الحزب والمعروفة بـ«الوحدة 910».
كارثة كوراني تبين التخطيط الدقيق لإيران وأذرعها لإصابة الدول الغربية في مقتل، ذلك أنه كان دائم التنقل بين كندا والولايات المتحدة، حيث حاول تهريب متفجرات من كندا إلى الداخل الأميركي.
كان كوراني مثالاً على الخلايا النائمة التابعة «لحزب الله» في دول العالم، لا سيما أنه ينتمي لعائلة معروفة بصلاتها الوثيقة مع الحزب، وقد التحق بمعسكر تدريب تابع للحزب عندما كان في السادسة عشرة من عمره، وتعلم إطلاق النار، والقذائف الصاروخية قبل أن يجند كجزء من خطة للانتقام لمقتل عماد مغنية أحد قادة «حزب الله» رفيعي المستوى الذي قضى بسيارة مفخخة في دمشق عام 2008.
هل كان القبض على كوراني المدخل للخطط الجديدة لميليشيات «حزب الله» لنسج خيوط شبكات إرهابية جديدة غير معروفة لقوى الأمن والاستخبارات الدولية؟
يمكن أن يكون ذلك كذلك بالفعل، ولهذا تقضي الآلية الجديد تجنيد عناصر غير عربية، وغالباً ما يكون المعين المفضل من دول شرق وجنوب آسيا، والتي تكثر فيها الحواضن المشبعة بالإرهاب الأصولي، وقد كان آخر شخص تم الاشتباه فيه مهندس باكستاني لا يتجاوز الثلاثة عقود من عمره، وبدا أنه على اتصال «بحزب الله».
ويعزف القائمون على الميليشيات الخاصة «بحزب الله» على الأوتار الدوغمائية الشيعية تحديداً، ويستغلون الكراهية التقليدية تجاه الولايات المتحدة الأميركية والقارة الأوروبية، ويلعبون على أوتار القضايا الدينية، مظهرين الصراع بين إيران والغرب على أنه صراع ديني وليس آيديولوجياً، وفي الوسط من هذا يقومون بتجنيد من يقدرون على تعبئتهم، وفي هذا تكون الكارثة لا الحادثة، أي من خلال استخدام جوازات سفرهم الأجنبية أو تزويد بعضهم الآخر بجوازات سفر قد تكون حقيقية مسروقة، أو مزورة، ليمثلوا حصان طروادة في الجسد الأوروبي أو الأميركي.
لا تكتفي خطط ميليشيات «حزب الله» الخاصة بإعداد شبكات إرهابية جديدة في الغرب بالطرق التقليدية في تجنيد عناصر جديدة من الصعب متابعتها، بل يبدو أنها تمضي في طريق محاكاة تنظيم «داعش» في سعيه لضم عناصر إرهابية إضافية لصفوفه عبر استخدام وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة من مخرجات الشبكة العنكبوتية الإنترنت، مثل «فيسبوك» و«تويتر» و«إنستغرام».
في هذا السياق تبدو الخطط الجديدة لـ«حزب الله» كمن ينسج شبكات إرهابية في العالم الرقمي، بمعنى أنها خطط لتجنيد المزيد من «الذئاب المنفردة»، تلك التي يمكن أن يتفتق ذهنها عن وسائل انتقام غير مدرجة من قبل على خارطة الأعمال الإرهابية، فكما كان استخدام الشاحنات للدهس في أوروبا أداة غير معروفة، فمن الجائز جداً أن نرى آليات جديدة تمارس بها الجماعة الإيرانية الخطى طريقها في إقلاق الحواضن الغربية.
يتساءل المراقبون أيضاً هل من دافع جديد يقودها في طريق شهوة الانتقام غير المسبوقة هذه؟
من الواضح جداً أن قيام الولايات المتحدة الأميركية باغتيال قاسم سليماني، والتهديدات التي أطلقها «إسماعيل قاآني»، قائد فيلق القدس الجديد، ضمن صفوف الحرس الثوري الإيراني، بأن تملأ جثث الأميركيين الشوارع، هي وراء تسريع إيران في طريق دفع ميليشيات «حزب الله» في تغيير طرق تجنيد واكتساب عملاء جدد يكونون بمثابة رؤوس حراب في المواجهة القادمة.
خلال صيف العام الماضي كشفت مصادر استخباراتية لصحيفة «ديلي تليغراف» البريطانية عن أن الأزمة مع إيران قد تتسبب في إيقاظ خلايا إرهابية نائمة، وتدفعها إلى شن هجمات إرهابية على بريطانيا، ولفتت المصادر عينها إلى الخلايا يديرها متشددون مرتبطون بـ«حزب الله» اللبناني.
ولم تكن هذه تصريحات جوفاء أو عشوائية، وإنما جاءت بعد أن كشفت شرطة محاربة الإرهاب في عام 2015 في بريطانيا عن خلية جمعت أطناناً من المتفجرات في متاجر بضواحي لندن، موضحة أن إيران وضعت عملاءها في «حزب الله» على استعداد لشن هجمات في حالة اندلاع نزاع مسلح، وهذا هو الخطر الذي تشكله إيران على الأمن الداخلي في بريطانيا.
والثابت أنه لا يمكن فصل مخططات ميليشيات «حزب الله» الخاصة بتجنيد عناصر ونسج شبكات جديدة عن الموقف الواضح لـ«حزب الله» من الصراع الدائر بين أميركا وإيران، فهي ترغب في القتال، وهو ما أشار إليه حسن نصر الله أمين عام الحزب في مقابلة تلفزيونية مع قناة المنار التابعة لجماعته عندما أجاب على سؤال حول ما ستفعله الجماعة في حال نشوب حرب بين إيران والولايات المتحدة، إذ أجاب بسؤال استفهامي أو استنكاري على الأصح في مواجهة المحاور: «هل تظن أننا سنقف مكتوفي الأيدي؟ إيران لن تحارب وحدها، هذا أمر واضح وضوح الشمس، هكذا أكد نصر الله».
هل قررت إيران إذن شكل المواجهة القادمة مع الولايات المتحدة الأميركية، طالما ظلت العقوبات الاقتصادية الأميركية قائمة وموجعة لهيكل إيران التكتوني البنيوي الرئيسي؟
فوفقا لرؤية «ماثيو ليفيت» مدير برنامج ستاين لمكافحة الإرهاب والاستخبارات في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، يبدو أن إيران و«حزب الله» لن يعتمدا المواجهة المباشرة مع الولايات المتحدة في حال نشوب حرب بين واشنطن طهران، إذ سيتم إيقاظ «الخلايا النائمة» من سباتها في الداخل الأميركي الشمالي والجنوبي أولاً، عطفاً على ذلك إعطاء الضوء الأخضر للعناصر والشبكات الجديدة بإحداث أكبر خسائر في صفوف الأوروبيين، وتجاه كل ما يشكل أهدافاً ومصالح أميركية من شمال الأرض إلى جنوبها، ومن شرقها إلى غربها دفعة واحدة.
الخلاصة... العالم أمام فصل جديد مقلق من تنامي مؤامرات «حزب الله» والتي ظهرت خلال السنوات القليلة الماضية خارج الشرق الأوسط، ربما بشكل لا يقل إقلاقاً عن الدور الذي يلعبه على التراب الوطني اللبناني في حاضرات أيامنا، ما يجعل التفكير في حصار هذا الشر أمراً واجب الوجود كما تقول جماعة الفلاسفة، من غير فصل مشهده عن حجر الزاوية الذي يستند إليه، أي إيران وملاليها في الحال والمستقبل.