برنارد لويس... بطريرك الاستشراق

غرس بذور الأصولية وحصد الغرب من ورائه مرارة الكراهية

برنارد لويس في حديث يعود إلى 2001 مع «الرئيس التنفيذي» لحكومة أفغانستان عبد الله عبد الله (أ.ف.ب)
برنارد لويس في حديث يعود إلى 2001 مع «الرئيس التنفيذي» لحكومة أفغانستان عبد الله عبد الله (أ.ف.ب)
TT

برنارد لويس... بطريرك الاستشراق

برنارد لويس في حديث يعود إلى 2001 مع «الرئيس التنفيذي» لحكومة أفغانستان عبد الله عبد الله (أ.ف.ب)
برنارد لويس في حديث يعود إلى 2001 مع «الرئيس التنفيذي» لحكومة أفغانستان عبد الله عبد الله (أ.ف.ب)

ربما لم يثر رحيل أحد من المفكرين الكبار مؤخرا ضجة مثل تلك التي أثارها رحيل برنارد لويس الأستاذ الفخري لدراسات الشرق الأوسط في جامعة برنستون الأميركية، والملقب ببطريرك الاستشراق منذ أن وضع رسالته العلمية الأولى عن «الطائفة الإسماعيلية وجماعة الحشاشين»، وقد اشتهرت مؤلفاته الكثيرة من عينة «العرب في التاريخ»، «الإسلام والغرب»، «تشكيل الشرق الأوسط الحديث»، «الإسلام في التاريخ»، «يهود الإسلام»، «مستقبل الشرق الأوسط»، «ما الخطأ»، «أزمة الإسلام».
الملاحظ أن لويس المولود في إنجلترا لعائلة يهودية اشكينازية من الطبقة الوسطى قد وضع في بدايات حياته منطقة الشرق الأوسط والدين الإسلامي كهدف بحثي رئيسي لمنهجه على أمل أن يصل ذات يوم إلى رقي أفكار أستاذه المستشرق الفرنسي الكبير «لويس ماسينيون» في تاريخ الشرق الأوسط.
غير أنه حين اندلعت الحرب العالمية الثانية ترك لويس مسار التعلم الجامعي الذي كان قد بدأه للتو ليعمل ضابطا في الاستخبارات العسكرية البريطانية، ثم عاد غداة انتهاء الحرب إلى منصبه كأستاذ محاضر في جامعة لندن، رغم أن الكثيرين من معارفه يؤكدون على استمرار صلاته بالمؤسسة الاستخباراتية البريطانية ومن بعدها الأميركية حتى وفاته.
أحد الأسئلة التي واكبت حياة لويس وربما تبعت موته: «لماذا حمل الرجل على العالم الإسلامي وعلى المسلمين على هذا النحو، فقد كان سببا رئيسيا في تنامي التيارات الأصولية اليمينية في الداخل الأميركي من جهة، عطفا على أنه يعد صاحب فكرة أسلمة أوروبا، الأمر الذي استدعى صحوة التيارات القومية واليمينية الأوروبية، تلك التي نجح بعضها، فيما البعض الآخر على الطريق في الوصول إلى مقاعد الحكم في عدد من الدول الأوروبية؟
الجواب مرتبط ارتباطا جذريا بهوية لويس وهل كان الرجل مفكرا ومؤرخا، أم منظرا لسياسات إمبريالية بعينها، خدمت المنطلقات الغربية في التعاطي مع الشرق الأوسط خاصة، والإسلام عامة حول العالم وطوال أكثر من سبعة عقود أضحى فيها لويس مثل الإله الروماني «جانوس» الذي يحمل وجهين... إنسانا وإلها، فقد عرج لويس كثيرا بين دور المؤرخ الذي يتحتم عليه الموضوعية والحياد حين تناوله قضايا التاريخ، وبين صاحب الرأي المنحول عادة والذي يحمل عداء مجانيا للعرب والمسلمين، ويضعهم في أسفل السلم الإنساني، في رؤية عنصرية قريبة جدا من السلم البشري الذي قال به هتلر ذات مرة ووضع فيه القرود في درجة مرتفعة عن الهنود.
لا يمكن بحال في بضعة سطور أن نناقش آراء لويس وأطروحاته والتي تصدى وتحدى لها عدد كبير من رجالات الفكر العربي، وجميعهم يذهب في طريق نقد أو نقض آرائه العنصرية، غير أن ما يهمنا هنا هو التركيز على الدور الذي لعبه في تأجيج نيران الكراهية التي ولدت وأشعلت تاليا ظاهرة الإسلاموفوبيا في قلوب ونفوس شرق الأطلسي وغربه منذ ستينات القرن الماضي.
عرف جيدا لويس وهو ربيب الاستخبارات البريطانية التي تمثل العقل الكبير للمؤسسة الغربية في تعاطيها مع الشرق وجله إسلامي أن العدو لا بد منه لكي تبقى الشعوب متيقظة، وعليه فإنه أصل بشكل واسع لحتمية تاريخية - وإن كانت حتمية زائفة – مفادها عداوة الإسلام للمسيحية واليهودية، ورفض الإسلام لغيره من الأديان والثقافات، ومن هنا بسط لا سيما في عقول العوام فكرة عداء المسلمين للسامية، وفي وقت تلا الحرب العالمية الثانية حيث كان العالم لتوه قد خرج من واحدة من أشد النكبات الإنسانية التي ارتكبها الغرب الذي يطلق عليه مجازا «المسيحي» ضد اليهود في اوشفيتز، تلك المحرقة التي أدانها العالم الإسلامي قديما وحديثا.
هيأ لويس الأرضية لفكرة العداء التاريخي من قبل المسلمين لكل ما هو غربي يهودي أو مسيحي، بل يرجع إليه تعبير «كفاح المسلمين الألفي» بمعنى نوايا المسلمين لإعلان الحرب على العالم المغاير لهم دينيا، لا سيما الحاضنات الأوروبية والأميركية والتي يمكن لها أن تستمر لألف عام حتى يتمكنوا من غزو شعوب تلك الدول وأسلمتها، وهو ما جعل حالة القلق النظري تنتقل في لحظة زمنية معينة إلى حروب وأخبار حروب.
حجر الزاوية الذي أرساه لويس كتب عليه أن المسلمين أقوام لا يحسنون استيعاب ما اقتبسوه من الغرب، وقد تناسى عمدا وهو المؤرخ بالضرورة ما كان من فضل سابق للحضارة العربية على أوروبا، أو كيف ساهم العلماء العرب في رفع شأن مستوى الحياة الغربية عبر الاختراعات والمكتشفات التي قدموها للإنسانية دون الوقوف عند عرق بعينه أو شعب بذاته.
اتهامات لويس العنصرية تمضي في سياق العرب الذين باءت – على حسب تقديره - مساعيهم للحق بركب المدنية الحديثة، مدنية الغرب، بالفشل الذريع فراحوا يبحثون عن «كبش فداء»، هنا وهناك، لتبرير تخلفهم، وعجزهم وقصورهم، ويصبون جام غضبهم على الغرب، دون أن يدركوا ما وقعوا فيه من أخطاء تتمثل في رفض الحضارة الغربية والعداء للسامية وينتهي إلى نتيجة واحدة، قاسية كلماتها... المسلمون أوغاد بطبعهم، يكرهون الآخر، ويرون ذبح الغرب واليهود أمرا طبيعيا لتعويض الدونية والقصور الذي يعيشونه في حاضرات أيامهم.
حين نطلق على لويس بطريرك الاستشراق فمرد ذلك أن الكثير مما قال به مرفوض من وجهة النظر التاريخية، سيما وأنه يضع المسلمين في قالب ثابت سرمدي لا يتغير ولا يتبدل، مهما تغيرت الظروف البيئية أو تعدلت الأجواء الإنسانية.
أفضل من قدم أطروحات لنقد لويس اثنان، آلان جريش الكاتب والصحافي الفرنسي الشهير، والآخر الدكتور إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني الأصل العروبي النزعة والأميركي الجنسية.
تهكم «جريش» طويلا على لويس بالقول بأنه يتوجب على علماء البيولوجيا ووظائف جسم الإنسان، البحث عن «جينة الإسلام»، بمعنى أنه لدى المسلمين فقط دون غيرهم هذه الجينة التي تحمل بذور العنف والشر والكراهية، بل والتخلف والفوضى، وهي لا توجد عند غيرهم من شعوب العالم.
يؤكد جريش أن لويس هو الأب الروحي لـ«صموئيل هنتنغتون» صاحب رؤية صدام الحضارات، سيما وأن كليهما يخلص إلى أن العرب والمسلمين يكرهون الغرب ليس بسبب أفعال الشعوب الفرانكوفونية أو الأنجلوفونية، بل لأنهم يرفضون قيم الحرية بعد أن فقدوا قوتهم وقدرتهم ومنعتهم التي كانت لهم في التاريخ يوما ما.
القول المتقدم لبرنارد لويس قول مزيف جملة وتفصيلا، ذلك أن هناك من المبررات العقلية التي دفعت جزءا كبيرا من العرب والمسلمين لرفض منهجية الغرب السلطوية الكثيرة جدا.
على سبيل المثال لا الحصر هل كان تأميم شركة قناة السويس في مصر بسبب كراهية المسلمين للغرب؟ هل الانتفاضات الفلسطينية ضد سلب أراضيهم سببها تلك الكراهية؟ المقاومة للاحتلال الأميركي للعراق هل سببها الحقد الأخلاقي أو الآيديولوجي؟ بل الصراع في كوسوفو والبوسنة هل كان منشأه فقدان مشاعر الود وإحلال الكراهية موضعها وموقعها؟
الرفض العربي والإسلامي منطقه غالبا الظلم التاريخي الذي حاق بالمنطقة وشعوبها عبر مرحلتين استعماريتين الأولى بقوة السلاح في القرن التاسع عشر وحتى منتصف القرن العشرين، والمرحلة الثانية ماضية قدما إلى اليوم والاحتلال فيها بأدوات وآليات مغايرة منها الإعلامي وفيها الاقتصادي، وتسخير المجتمع الدولي لتحقيق رغبات الكبار.
كارثية لويس التي فضحها بمنهجية علمية وعقلانية الراحل الدكتور إدوارد سعيد تتصل بالتنميط القاتل للعالم الإسلامي وللمسلمين، فقد وضعهم لويس جميعا في سلة واحدة عبر حالة استاتيكية، بمعنى أنهم لا يتغيرون ولا يتبدلون عبر الأزمنة أو الأماكن، فيما يشبه الجمود الحتمي وكاهل الكهف وصاحبهم الرقيم، الأمر الذي يجافي وينافي حركة التاريخ.
كتب سعيد ذات مرة مقالا يتوجب الرجوع إليه وقراءته بعين محققة ومدققة من جديد، وقد كان عنوانه: «الإسلام من خلال عيون غربية» يشير فيه إلى الدور الكارثي الذي لعبه لويس وأمثاله من تلك الجماعة التي تفتخر بأنها نخبة الغرب الفكرية، ذلك أنه كان ملقى على عاتقهم توضيح صورة الإسلام والمسلمين بطريقة علمية موضوعية وتهذيبها في عيون الشعب وكذا صناع القرار، إلا أن هؤلاء جذروا الصورة المشوهة والمغلوطة للإسلام كتهديد للغرب من رؤية «زيجينو بريجنسكي» في خلال الأزمات إلى نظرية لويس عن عودة الإسلام، وكلهم يجمعون على رسالة واحدة «.. الإسلام ضد الإنسانية ومعاد للسامية ولا عقلاني».
خلال عقود كان لويس هو العقل المفكر للدولة الأميركية العميقة، والحديث في هذا السياق يحتاج إلى مؤلفات قائمة بذاتها، ويكفي الإشارة إلى أنه الرجل الذي تحدث إلى الكونغرس الأميركي باكرا جدا عن حتمية تفكيك الشرق الأوسط ودوله بصورتها الحالية وإعادة خلق واقع جيوسياسي مغاير، اصطلح البعض على تسميته «سايكس بيكو 2»، كان ذلك عام 1983. وفيما يؤكد لنا الدور الكبير في تأجيج أصولية المنطقة فقد عمد لويس إلى ضرورة استخدام الجماعات التي كان هو أول من أطلق عليها في منتصف سبعينات القرن الماضي «جماعات الإسلام السياسي» كمخلب قط لإسقاط دول المنطقة، الأمر الذي يعود بنا إلى دائرة تاريخية قديمة تربط بين الاستخبارات البريطانية والجماعات الأصولية في الشرق الأوسط بدءا من الإخوان المسلمين مرورا بالقاعدة ووصولا إلى «داعش».
والأكثر غرابة أن الرجل يستثني دولتين من مصير التفخيخ المحتوم... إسرائيل وتركيا ويشير إلى أنه ينبغي الحفاظ على استقرارهما وقوتهما واستقلالهما والاعتماد عليهما. المسطح يضيق عن الاستطراد ويدفعنا دفعا إلى الرحيل إلى أوروبا تلك التي أرعب لويس سكانها وألقى بهم في يم الأصولية المتطرفة حين سطر مقاله المنحول أيضا في صحيفة الواشنطن بوست: «أوروبا والمسلمون: ناقوس الخطر القادم»، حيث هدد الأوروبيين بأن قارتهم العجوز سوف تضحى قارة مسلمة مع العقود القادمة، وبحلول نهاية القرن الحادي والعشرين على أقصى تقدير، وعنده أن الأعداد المتزايدة من المهاجرين المسلمين إلى أوروبا سوف تفعل فعلها وبخاصة في ظل ميل المسلمين لإنجاب أكبر عدد من الأفراد، إضافة إلى تأخر الأوروبيين في سن الزواج وعزوفهم عن الإنجاب، أو في أفضل الأحوال إنجاب طفل واحد.
أدخل لويس الذعر في نفوس الأوروبيين حين تناول إشكالية الولاءات السياسية، والهويات التي يمكن أن نطلق عليها الروحية والدينية، إذ روج بين الأوروبيين أن المسلم في أوروبا سيظل ولاؤه وانتماؤه عرقيا دينيا وأيديولوجيا بأكثر من ولائه السياسي، وفي التحليل بهذه الصورة ولا شك ربط بالنتيجة المسبقة وهي أن المسلمين قوة تدمير لا أدوات تعمير، وعليه فإنه هو الأصل في حالة الانتفاضة الأصولية اليمينية التي عرفها الشارع الأوروبي والتي يعتبرها الملايين هناك صحوة في مواجهة موجة الهجوم الثالثة على أوروبا التي تناولها لويس بالتوضيح والتشريح ضمن استعادته لعلاقة أوروبا مع الإسلام عبر خمسة عشر قرنا خلت.
رحل لويس بعد أن زرع بذور الشقاق والفتنة الأصولية من جديد، وكأنه «دو مونتكروتشي» يبعث ثانية من القرون الوسطى، وفي وقت يحتاج العالم فيه للوفاق لا الافتراق وللحوار والجوار عوضا عن الكراهية وإحياء الخصومات.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.