بين أحضان جزيرة صخورها الأماني وأشجارها الأحلام

لأني أمضي العمر بين سفر وترحال، غالباً ما يستفسرني المعارف المقبلون على الدخول إلى القفص الذهبي عن الوجهات التي أنصح بها لقضاء شهر العسل. ولأني جبلي المنبت والهوى، تشدّني مطارح الطفولة كما الجذور تشدّ جذوع الشجر، لكن كلّما هبّ نسيم الحلم وضاق المدى، تراني أطير إلى الجزر البعيدة. أنشد فيها السكون وهناء العيش وهدهدة الأيام تكرّ كسُبحة المرجان في يد الزمن. ربما لأن «... الحياة جزيرة في بحر من الوحدة والانفراد، صخورها الأماني وأشجارها الأحلام» كما قال جبران، أو لأنك عندما تنزل في جزيرة تشعر بأن اتصالك بالعالم قد انقطع، وبأنك أصبحت في عالم آخر لا رغبة عندك في مغادرته، أو لأن الجزر، بكل بساطة، لا تعرف مشكلة اسمها الحدود.
- سردينيا... رمال بيضاء وتقاليد
الجزيرة المفضلة لشهر العسل وكل الشهور والأيام. ثاني أكبر الجزر في البحر المتوسط بعد صقلية، وأكثرها تضاريس وجبالاً ووهاداً. أكثر من 80 في المائة من مساحتها تكسوها الغابات التي تسرح فيها قطعان الماعز والأغنام، فهي المنتج الأول للأجبان في إيطاليا، وحقول خضراء يغسل أطرافها بحرٌ ساحر يتقلّب فيروز مياهه بين ألف طيف وطيف. أهلها طيّبون يعشقون أرضهم ويحافظون على أصالة تقاليدها، ويحرصون بشدّة على عدم فتحها من غير ضوابط أمام جحافل السيّاح.
لن تقع العين على بشاعة في شواطئ سردينيا التي تتراوح بين الجمال والروعة على امتداد 1850 كلم من الرمال الناعمة والأخاديد الخلابة والمحميات الطبيعية يزنّرها بحر عبرته كل الحضارات القديمة التي تركت في سردينيا بصمات مذهلة تفخر بها متاحف الجزيرة الموزعة على مدنها الرئيسية.
يكفي الابتعاد مئات الأمتار عن الساحل أو خارج المدن، حتى تمتد أمام الناظر مروج النباتات العطرية التي تعبق بها النسائم، ويستخدمها كثيراً سكان الجزيرة في تحضير الأطعمة الموصوفة والحلويات التقليدية التي توزّع على أشهر المتاجر العالمية. وكلّما توغّلت في الداخل عبر الطرقات الجميلة المتعرّجة بين الهضاب والجبال، تطالعك قرى ودساكر تعيدك إلى غابر العصور بعمرانها الحجري وشوارعها المرصوفة، وهدأة الحياة المنسابة بين حناياها خارج دائرة الزمن.
الصناعات الحرفية التقليدية التي يتقنها أهل الجزيرة ويتوارثونها من جيل إلى آخر، بلغت درجة من الجودة والإبداع دفعت بمتاحف عالمية، مثل متحف الفن المعاصر في نيويورك، إلى اقتناء قطع منها تعرضها مع مجموعاتها الدائمة. ويتوافد فنانون عالميون على متحف الحرفيات في سردينيا، تجذبهم مجموعاته الفريدة في تصاميمها وتقنياتها والمواد الطبيعية المستخدمة في صناعتها.
لكن في سردينيا أيضاً ما يرضي الباحثين عن الفخامة في الإقامة، والساعين إلى اللهو في المراتع التي يرتادها النجوم وأفراد المجتمعات المخملية. في العام 1960 وقع الأمير كريم آغا خان في هوى الجزيرة، وقرر إقامة مشروع سياحي فخم في أحد أجمل شواطئها، ما لبث أن أصبح محجة المشاهير ومقصد الأثرياء. بورتو تشيرفو (ميناء الغزال) على الساحل الزمرّدي (كوستا زميرالدا)، هو اليوم من أفخم المنتجعات السياحية في العالم وأكثرها اعتناء بالبيئة، ونقطة العبور إلى أجمل المحميات الطبيعية المتوسطية في أرخبيل المجدلية (مادّالينا) الصغير، حيث توجد المقبرة التي تضّم رفاة جيوزيبي غاريبالدي البطل القومي الذي وحّد إيطاليا عام 1861، والفيلّا الفخمة التي كان بيرلوسكوني يستضيف فيها كبار زوّاره ويحيي الحفلات الصاخبة الذائعة الصيت.
كل الأيام عسلٌ في هذه الجزيرة التي جعلت من الحياة الطبيعية والملذات البسيطة أجمل الفنون، وما زالت تحمل الرقم القياسي في العالم بعدد السكان الذين تجاوزوا المائة عام.
- إبيثا... الجزيرة البيضاء
المتوسط هو أيضاً البحر الذي تنام على صدره الجزيرة الأخرى التي ننصح بقضاء شهر العسل بين ربوعها. Ibiza (من يابسة بلغة الضاد) التي تنفرد بأسلوبها الخاص في عالم السياحة واللهو والاصطياف. يقصدها المشاهير والنجوم والأثرياء من كل الأصقاع، يتنافسون في التأنق والبذخ والظهور، ويصلون الليل بالنهار.
«الجزيرة البيضاء» لقبها المأخوذ من اللون الغالب على بيوتها الصغيرة المنثورة في القرى الغافية بين كروم العنب وحقول الزيتون. وعلى شواطئها الرملية الحالمة التي ترتادها العائلات في النهار، تنعقد حتى طلوع الفجر حفلات الرقص والموسيقى الصاخبة التي ذاعت شهرتها في العالم.
ميناء إبيثا الترفيهي يستقبل في الصيف أشهر اليخوت وأكبرها، يتنافس أصحابها، على استضافة نجوم السينما والفنون والرياضة في الحفلات التي يقيمونها. وليس مستغرباً أن يلتقي المتنزه في شوارع الجزيرة والذي يرتاد مطاعمها الفخمة ومرابعها الليلية، مشاهير مثل كريستيانو رونالدو وشاكيرا وليونيل ميسّي وناعومي كامبل وكيم كاردأشيان. أما الذي يحار كيف ينفق أمواله، فما عليه إلا أن يتناول طعام العشاء في مطعم Sublimotion الذي يعتبر الأغلى في العالم، ويقع في فندق هارد روك الذي يصعب أن تجد بين روّاده ناساً عاديين.
معظم الذين يرتادون إبيثا يدفعهم الفضول إلى رؤية المشاهير الذين تملأ أخبارهم وصورهم الصحف والمجلات وشاشات السينما والتلفزيون. يتقاطرون عليها في طائراتهم الخاصة ويخوتهم الفارهة أياماً معدودات في فصل الصيف، ويغادرونها حتى الموسم التالي بعد أن يتركوا فيها بصماتهم ويسجّلوا حضورهم الدسم في وسائل الإعلام. لكن هذا الوجه الرائج للجزيرة في موسم الصيف يخفي الجانب الجميل والأصيل منها، والذي دفع منظمة اليونيسكو إلى إعلانها تراثاً عالمياً للثقافة والتنوع الحيوي. المقابر الفينيقية التي تعود إلى القرن الثامن قبل الميلاد والتي تُظهر معالم التنظيم المُدني المتطور في المستعمرات التي بناها الفينيقيون غربي المتوسط، والمعمار الحجري التقليدي على الطراز الذي كان شائعاً في الأندلس لمقاومة الحرّ في الصيف والبرد والرطوبة في الشتاء، والنباتات البحرية الفريدة التي تتميز بتنقيتها مياه البحر وحمايتها للتربة من الانجراف، كلها تجعل من هذه الجزيرة أيضاً ملاذاً لمن يبحثون عن الطبيعة المضيافة والسكينة.
وبإمكان الذين يرغبون في الاحتفال بشهر العسل بعيداً عن الصخب والازدحام، الاختيار بين عشرات المنازل التقليدية والمجمعات الفخمة في حدائق الزيتون وغابات الصنوبر، والتي يرتادها عادة المشاهير الذين يرغبون في الابتعاد عن الأضواء.
محطة أخيرة لا بد منها قبل مغادرة الجزيرة هي زيارة مركز «مدينة يابسة» الذي يعرض مراحل الحقبة الإسلامية في تاريخ إبيثا بالتقنيات المسموعة – المرئية المتطورة، قبل وضع باقة من الأزهار الطبيعية أمام تمثال «تانيت» إلهة الخصوبة عند الفينيقيين.
- بالي... لؤلؤة إندونيسيا
أما الخيار الثالث أمام روّاد الشهور العسلية فهي جزيرة بالي، لؤلؤة الأرخبيل الإندونيسي الذي يضمّ أكثر من 17 ألف جزيرة. المناظر الطبيعية الخلابة، وشواطئ الرمال البيضاء الناعمة التي تظللها الأشجار الوارفة على امتداد المياه الصافية والهادئة، والفنون الحرفية الذائعة الصيت والمهرجانات والاستعراضات الموسيقية الراقصة، تغذّي مخيّلة هواة السفر منذ عقود في كل أنحاء العالم. تغذّي أيضاً مخيّلة العشّاق الذين يحلمون بطقوس الزواج على طريقة سكان بالي، بعد عقد قرانهم في بلدانهم.
لا يزيد عدد سكان بالي على نصف مليون نسمة يتوزّعون على مساحة 5 آلاف كيلومتر مربع بين مزارع الأرز الخضراء التي أُعلنت مصاطبها الشهيرة التي تعود إلى آلاف السنين تراثاً عالمياً، والبراكين العالية التي ما زال بعضها يهدر بالانفجارات ويقذف الحمم من فترة إلى أخرى، والقرى السياحية الساحلية التي تزخر بعشرات الفنادق والمنتجعات من بين الأفخم في العالم.
كثيرون من الذين يزورون بالي للمرة الأولى يؤكدون أن لهذه الجزيرة، ولسكانها الذين يتميّزون بلطفهم ورقتهم وطباعهم المسالمة، وقعاً خاصاً يجعل المرء مختلفاً عمّا كان قبل زيارتها.
مواكب الفرق الموسيقية بالملابس التقليدية المزركشة التي تجوب الأزقة الضيقة عشرات المرات كل يوم، الشوارع التي تظللها الأشجار الوارفة المزهرة والمحفوفة بالبيوت الخشبية الجميلة والمتواضعة التي يلعب أمامها الأطفال بجذل، والأمسيات الحالمة على الشواطـئ تحت ضوء القناديل وعبق البخور... كلها تجعل من بالي أقرب الأماكن إلى الجنة الموعودة، ووجهة مثالية لعشّاق الرحلات الرومانسية.
يُستحسن تجنّب زيارة بالي في الصيف وفترات الأعياد الكبيرة لشدة ازدحامها بالسياح. يُفضل زيارتها في الربيع أو الخريف، والبحث عن إقامة خارج المناطق التي تكثر فيها الفنادق السياحية المعروفة. هناك عدد كبير من الفلل الفخمة والمنتجعات الفاخرة المنعزلة في الطبيعة على مقربة من الشواطئ كخيار مثالي لرحلات شهر العسل. كما توجد شركات متخصصة في تنظيم رحلات خاصة إلى المعالم الطبيعية الفريدة التي تتميز بها الجزيرة، مثل بركان آغونغ الذي يعلو أكثر من ثلاثة آلاف متر عن سطح البحر، ويطلّ على سهول الأرز في مشهد يحبس الأنفاس عند ساعات الفجر الأولى.