تصاعد الحرب الافتراضية على الإرهاب

«فيسبوك» أزالت 1.9 مليون محتوى متطرف على صلة بـ«داعش» و«القاعدة»

تصاعد الحرب الافتراضية على الإرهاب
TT

تصاعد الحرب الافتراضية على الإرهاب

تصاعد الحرب الافتراضية على الإرهاب

تفشي العنف البصري والتوحش له انعكاسات وخيمة على السلوكيات البشرية قد تفضي إلى إدمان هذا العنف أو السعي في تحقيقه، الأمر الذي يمدنا بتأويل لأسباب تكثيف تنظيم {داعش} دخوله العالم الافتراضي على الرغم من المساعي الدولية للحد من ذلك.
وقد أعلنت شركة «فيسبوك» مؤخراً بأنها أزالت أو وضعت إشارات تحذير على ما يصل إلى نحو 1.9 مليون محتوى متطرف على صلة بتنظيم «داعش» أو تنظيم «القاعدة»، وذلك خلال الربع الأول من هذا العام، ويعد ذلك عدداً مهولاً يشير إلى استمرارية المتطرفين في الوصول إلى الآخرين من خلال العالم الافتراضي.
وقد امتد ذلك بطبيعة الحال إلى برامج أخرى مثل الـ«يوتيوب» و«فيسبوك» و«غوغل» وحتى «الإنستغرام»، التي لا تزال هذه البرامج حاضنة لمئات التسجيلات المرئية والصور والعبارات التي تحوي عنفاً وتطرفاً، بل إن عدداً كبيراً من هذه الصور يظل مغروساً في العالم الإلكتروني لفترة تمتد إلى أسابيع تزيد من فرص تطرف البعض نتيجة مشاهدتهم للكم الهائل تطرف من الرسائل التحريضية لخطاب الكراهية ومشاهدة الصور الدموية مثل مشاهد التعذيب أو قطع الرؤوس.
ولقد سعى تنظيم داعش منذ بداية تأسيسه بالتواصل الشخصي الذي برع فيه أعضاؤه من خلال إقناعهم بمزايا الانضمام إليهم وأهمية التنظيم ومدى سلطته، وتحوله إلى «يوتوبيا» يتمنى الجميع العيش في ظل خلافتها.
في حين تعاظم مؤخراً دور نشر الصور والتسجيلات المرئية المتفشية في المواقع الإلكترونية ووسائل التواصل الاجتماعي والتي تستعرض قوة التنظيم سواء من خلال عمليات الاختطاف والقتل أو التعذيب بسادية مفرطة، أو من جهة أخرى تحمل رسائل للآخرين ونصائح بشن هجمات إرهابية أو تسليط الضوء على مناسبة أو أشخاص ينتمون لجماعة ما. فمثل هذه الرسائل الإعلامية المكثفة تمثل سعياً جاهداً على التأثير على المشاهدين إلى درجة التعاطف والانضمام للتنظيم. وقد تميز «داعش» عن نظرائه بتطوره التقني وقدرته على التغلغل عبر وسائل التواصل الاجتماعي واستقطاب المتعاطفين، فعلى الرغم من اضطراب فكرته المركزية المتمحورة حول خلافة داعشية في كل من سوريا والعراق، فإن هذا لم يثبط الكثير من المنضمين إلى التنظيم المتناثرين في العالم والذين تآلفوا مع فكرة «الخلافة الداعشية الافتراضية»، أو مساعي الانتقام لأجل التنظيم وقتل الآخرين وإن كان ذلك عشوائياً. وذلك عكس رسالة تنظيم القاعدة التي تمثلت بالوضوح منذ بداية عهدهم، ففي البدء كانت منحصرة بمحاربة القوات السوفياتية في البداية ومن ثم «الكفار» و«أميركا كقوة عظمى مضطهدة للمسلمين».
وكان يظهر التسلسل الهرمي للتنظيم والترويج لقادته كسلطة أعلى تملك إدراكاً أعمق بمآسي المسلمين ودراية في الشريعة تفوق بكثير قدرة المنتمين إلى التنظيم في أسفل الهرم من منفذي الهجمات الإرهابية أو الانتحارية، ممن ترتسم على أوجههم ابتسامة رضا وقناعة بالمبادئ التي غرسها فيهم قادتهم.
يأتي تنظيم «داعش» من جهة أخرى بأهداف مضطربة بما هو أشبه ببؤرة تستقطب التخريبيين حيث تحرض الجماعة ككل الأفراد على القيام بالقتل والتعنيف، سواء من خلال «البروباغندا» الداعشية بهدف أعمال العنف وتشويق المشاهد، أو من خلال الانضمام إلى الجماعة والشعور بالانتماء لها، الأمر الذي يؤججه تصاعد هرمون الأكسيتوسين، الذي غالباً ما يتم تفسير إفرازه نتيجة الشعور بالحب أو إدمان تعاطي المخدرات، إلا أنه فعلياً قد يتسبب بمضاعفة الرغبة في أعمال العنف في حالات كثيرة، مثل ما يحدث للمنتمين إلى تنظيمات إرهابية».
والواقع أنه ترتفع لديهم نسبة هذا الهرمون بالدم جراء شعورهم بالانتماء للتنظيم، الأمر الذي يتسبب بالعداء وشيطنة الآخرين، على اعتبار مخالفتهم لهم. التنظيم الداعشي يستمد قدرته في التجنيد عبر استكشاف أولئك الذين يعانون من مشكلات اجتماعية أو نفسية أو أسرية، مثل من يشعر بالنبذ جراء عيشه في مجتمع يخالف قيمه ومبادئه، أو شعوره بعدم تفهم أسرته ومحيطه مشكلاته الخاصة ورغبته بالانضمام ببيئة حاضنة له. إلا أن قدرة داعش الاستفادة من هذا النوع من الأفراد بدأت تخفت مع غياب حلم الخلافة الممتدة واستحالته إلى أهداف تخريبية مبعثرة، بالأخص بعد أن أصبح الذئب المنفرد هو الأكثر شيوعاً في الهجمات الداعشية كونه أسهل في التوجيه عن بعد ودون حاجة إلى التدريب، فتظهر شخصيات مضطربة تغتنم مثل هذه الفرص من أجل إخراج العنف الداخلي وحث على عن المارة أو دهسهم. وذلك على نسق ما حدث مع البلجيكي بينجامين هيرمان، مشرد ثلاثيني قام بطعن شرطيتين في مدينة لييج البلجيكية في نهاية مايو (أيار) قبل أن يطلق النار عليهما مستخدماً أسلحتهما، فيما يظهر متماثلاً مع تسجيلات مصورة لتنظيم داعش نشرت عبر مواقع إلكترونية دعت المشاهدين لمهاجمة عناصر الشرطة واستخدام أسلحتهم لقتلهم. مثل هذا الصنف من الشخصيات يجد في الرسائل الإعلامية التي ينتجها تنظيم داعش ألقاً وجاذبية، ففي البدء كانت فكرة منطقة أشبه «بيوتوبيا» المتطرفين حيث يقوم كل منهم بما يشاء من أفعال عنف ووحشية تحت مسمى التنظيم. وانتقل ذلك إلى حرب عصابات مبعثرة في مناطق مختلفة سواء من خلال هجمات إرهابية مباغتة أو تكثيفها في المناطق التي يسهل فيها التأثير على كثير من الأشخاص سواء نتيجة ضعف الأمن أو القدرة على التأثير على المجتمع. هذا ما حدث من هجمات إرهابية في مدينة سورابايا الإندونيسية من هجمات إرهابية في مايو هذا العام، تضمنت الأب وزوجته وأطفاله ما دون الثالثة عشر، الأمر الذي وصل إلى حد عدم اكتراث البعض بتعريض أسرهم إلى الموت والتضحية بهم. مثل هذه الحيثيات تؤكد مدى تضخم حجم الاضطراب النفسي الذي يعاني منه المتطرفون مما يؤدي إلى عدم الشعور بالتعاطف مع الآخرين أو ما يتصف بالشخصيات «السيكوباتية»، التي قد يمتد بها الأمر إلى التلذذ بتعذيب الآخرين.
من جهة أخرى، فإن مشاهدة عدد كبير من المواد والرسائل الإعلامية التي تحوي أعمال عنف يؤثر بالأشخاص، سواء من خلال إقناعهم بأن ما يحدث إقناع المشاهد يثير الحماسة، بالأخص الباحثين عن العنف وإن لم تكن لديهم قناعات سياسية أو دينية معينة، ومن جهة أخرى هناك من تزداد قناعتهم بما يرونه. وقد تفشى في فترة أوج التنظيم بالأخص ما بين عامي 2015 و2016 وقت امتداد نفوذه في كل من العراق وسوريا، ظاهرة انضمام أوروبيين من أديان مختلفة وغير منتمين لأقليات إثنية لتنظيم داعش، وذلك في الفترة التي ظهرت فيها منابر التنظيم وصوته من خلال منشوراته الإلكترونية مثل مجلة «دابق» وشبكة «شموخ الإسلام». وإن كان الاستهداف العسكري لأماكن نفوذهم قد قلص من قدراتهم. لا سيما وأن الغارات الجوية تسببت بقتل أعداد كبيرة من أعضاء التنظيم من بينهم شخصيات مؤثرة في الرسائل الإعلامية للتنظيم مثل مقتل المتحدث الرسمي باسم داعش «أبو محمد العدناني» في عام 2016 والذي أعلن عن بدء «خلافة» داعش ومبايعته للبغدادي في 2014 وقد حملت خطاباته وعيداً وتهديداً مستمراً لأعداء التنظيم. وعلى الرغم من التقهقر الجلي في الامتداد والتجنيد الإلكتروني الداعشي، فإن المحاولات لا تزال مستمرة في المحافظة على الوهج الإعلامي واستغلال التقنيات الإلكترونية الحديثة، مثل ما حدث مؤخراً حين ذاعت صور بتقنية «السيلفي» لمتطرفين تم نشرها في وسائل التواصل الاجتماعي، من بينهم شخص التقط صورة «سيلفي» له في نيويورك وقدا بدا انتماؤه لتنظيم داعش من خلال تلثمه بوشاح يحمل شعار التنظيم، وقد كتب على الصورة تعليق يحمل لهجة الوعيد: «نحن في عقر داركم».
ويعبر اللثام عن سرية التنظيم وسعيه في إثارة الذعر في العالم بهجمات إرهابية في أماكن مختلفة بعد أن فقد ما اعتبره «شرعية» بامتداده الجغرافي السابق في منطقة محددة يرد إليها كل من حمل بداخله حلمه المتطرف. صور أخرى منسوبة للتنظيم هددت روسيا بتنفيذ هجمات إرهابية في مناسبة كأس العالم، تضمنت أحدها رجلاً ملثماً يحمل سلاحاً وخلفه يظهر ملعب الفولفوغراد الروسي مع كلمة «انتظرونا» باللغتين العربية والروسية. وعلى الرغم من تميز تنظيم داعش في استغلاله للفضاء الإلكتروني عن غيره من التنظيمات، فإن ضعفه على الساحة في الفترة الأخيرة رفع من ميزان تنظيم القاعدة الذي لا يزال يسعى للنهوض مرة أخرى بالأخص في مناطق امتد فيها نفوذه مثل اليمن. وقد أصدرت «شبكة الملاحم» التابعة لتنظيم القاعدة تسجيلاً مرئياً جديداً يظهر فيه السوداني إبراهيم القوصي الذي كان خبيراً مالياً للقاعدة اعتقل في 2001، ويدعو فيه لشن المزيد من الهجمات في الولايات المتحدة، وقد ظهر في التسجيل تفعيل دور خرائط «غوغل» للاستقصاء عن المناطق المستهدفة. وفي ذلك تحريض واضح للمتطرفين بشكل عام وللمنتمين للتنظيم القيام بعمليات إرهابية واستغلال مناسبة وجود مكان يكتظ بعدد كبير من الأشخاص. فيما من جهة أخرى تهدف التسجيلات المرئية الدموية إثارة الرعب والبلبلة، وهو هدف أزلي للتنظيمات الإرهابية يجمع ما بين البحث عن البريق الإعلامي وتخويف الآخرين.



2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
TT

2020... موجة إرهابية جديدة تجتاح العالم

رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)
رجال الشرطة البريطانية بجانب سيارة مخصصة لكشف المتفجرات في برادفورد بعد اعتقال رجل للاشتباه بحيازته قنابل أول من أمس (إ.ب.أ)

مبكراً جداً بدأت العمليات الإرهابية في العام الجديد 2020، وربما استغلت الخلايا الإرهابية القائمة والنائمة حالة الارتباك الحادثة في الشرق الأوسط والخليج العربي وشمال أفريقيا، لا سيما أزمة المواجهة الإيرانية - الأميركية الأخيرة، وما يحدث على سطح البحر الأبيض المتوسط من أزمات، مثل المحاولات التركية لإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا... نقول استغلت تلك الجماعات المشهد، وها هي آخذة في النمو السيئ السمعة مرة جديدة، وإن كانت كالعادة الأيادي التركية والقطرية وراءها وتدعمها لأهداف لا تخلو عن أعين الناظر المحقق المدقق في المشهد الآني: ماذا عن تلك العمليات؟ وما دلالاتها في الحال والاستقبال وتجاذباتها وتقاطعاتها مع الدعم التركي والقطري الذي لا يتوقف؟

المتابع لشأن الإرهاب حول العالم يمكنه -بسهولة ويسر- رصد الاعتداء الإرهابي الذي حدث على قاعدة عسكرية في مالي، وكذا تعرض مسجد في باكستان لعمل هجومي من جماعات متطرفة، وصولاً إلى مهاجمة معسكر للجيش في نيجيريا.
إرهاب 2020 إذن به مسحات جديدة من التعرض لدور العبادة الإسلامية، الأمر الذي أودى بحياة 12 شخصاً، وهو أمر وصفته الحواضن الإسلامية الشرعية في المنطقة بأنه عمل إجرامي آثم يخالف دين الإسلام، بل يخالف كل الأديان التي دعت إلى حماية دور العبادة وحرمتها والدفاع عنها، وهو ما يؤكد أيضاً أن الإرهاب لا يرعى حرمة دين أو وطن، كما أنه يهدف إلى زعزعة استقرار البلاد، والإضرار بالعباد في كل مكان وزمان.
ولعل التفجير الإرهابي الثاني في هذا الحديث هو ما يقودنا إلى قصة الساعة، وما يجري لتحويل أفريقيا إلى موقع وموضع لحاضنة إرهابية، حكماً ستكون الأكبر والأخطر من تجربة دولة الخلافة المزعومة في العراق وسوريا، المعروفة بـ«داعش».
وجرى ذلك العمل الإرهابي على أراضي جمهورية مالي التي باتت يوماً تلو الآخر تتحول إلى بؤرة إرهابية كبرى، لا سيما جراء تنوع وتعدد الجماعات الإرهابية القائمة على أرضها. فقد تم استهداف قاعدة عسكرية نهار الخميس التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، وأسفر عن إصابة 20 شخصاً، بينهم 18 من قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وقد وقع التفجير في منطقة تساليت بإقليم كيدال، شمال جمهورية مالي.
هل كانت تلك العملية الأولى من نوعها في مالي؟
بالقطع الأمر ليس كذلك، ففي أوائل نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، أعلن تنظيم داعش في منطقة الصحراء الكبرى مسؤوليته عن الهجمات الإرهابية التي وقعت هناك، وأودت بحياة 53 جندياً مالياً ومدنياً واحداً، وفق حصيلة رسمية، و70 جندياً، وفق الحصيلة التي أعلن عنها التنظيم الإرهابي الذي تبنى أيضاً هجوماً في المنطقة نفسها، قتل فيه جندي فرنسي.
وكان واضحاً من بيان «داعش» أن مالي تحولت إلى مركز متقدم على صعيد عمليات الإرهاب، إذ أعلن التنظيم، في بيان له عبر تطبيق «تلغرام»، أن من يطلق عليهم «جنوده» استهدفوا رتل آليات للقوات الفرنسية بالقرب من قرية انديليمان، بمنطقة ميناكا، شمال شرقي مالي، بتفجير عبوة ناسفة. كما أعلن التنظيم في بيان منفصل أن مقاتليه «هاجموا قاعدة عسكرية يتمركز فيها جنود من الجيش المالي».
ولا يستهدف إرهابيو «داعش» وبقية الجماعات الإرهابية في تلك المنطقة القوات الفرنسية فحسب. ففي وقت سابق من سبتمبر (أيلول) من العام الماضي أيضاً، تم استهداف ثكنات عسكرية في بولكيسي، قتل فيها 40 جندياً مالياً، وفق الحصيلة الحكومية، وإن كانت هناك حصيلة أخرى غير رسمية تشير إلى أن الخسائر أكبر من ذلك بكثير.
ويخشى المراقبون من أن يكون الإرهاب قد جعل من مالي قاعدة متقدمة له، رغم الرفض والتنديد الشعبيين هناك بتلك الجماعات المارقة التي أضحت تتمركز على الشريط الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، الأمر الذي وصفه الإمام محمود ديكو بأنه «نزف تعيشه مالي، ولا يمكن أن يستمر طويلاً». وقد سبق أن دعا ديكو إلى ضرورة فتح حوار وطني يشارك فيه جميع الماليين لتوحيد الصفوف في وجه الإرهاب، وهو الذي سبق أن تفاوض مع الإرهابيين للإفراج عن رهائن، من ضمنهم جنود ماليون.
ولعل المراقبين لشأن هذه الجمهورية الأفريقية التي باتت مصدر خوف وقلق لبقية القارة الأفريقية يتساءلون عن السبب الرئيسي الذي جعل منها خلفية للإرهاب الأممي، يخشى معها أن تمثل مع النيجر والصومال وكينيا مربع قوة ونفوذاً غير تقليدي يستنهض أوهام ما أطلق عليه الخلافة في فكر «الدواعش»، وغيرهم من جماعات التكفير، لا التفكير.
البداية في واقع الحال تنطلق من التركيبة الديموغرافية لهذا البلد، فهي مليئة بالأعراق التي تكاد عند نقطة بعينها تضحى متقاتلة، ففيها مجموعة الماندي التي تشكل نحو 50 في المائة من إجمالي السكان، والطوارق والعرب الذين يشكلون نحو 10 في المائة، والفولتايك الذين يشكلون 12 في المائة، والسنغاري بنسبة 6 في المائة، والبول الذين يشكلون 17 في المائة، بالإضافة إلى مجموعات عرقية أخرى تشكل ما نسبته 5 في المائة.
ويمكن القطع بأن الجماعات الأصولية المختلفة قد أجادت العزف السيئ على مسألة الأعراق المالية المختلفة، وجعلت منها نقطة انطلاق لتقسيم المجتمع المالي، وتجزئته عبر تنويع وتعدد الانتماءات الإرهابية، الأمر الذي أدى إلى وقوع 270 هجوماً إرهابياً في جمهورية مالي خلال الأشهر الثلاثة الماضية، والعهدة هنا على التقرير الأممي الصادر عن الأمم المتحدة الذي أشار إليه الأمين العام أنطونيو غوتيريش، مؤكداً أن حصيلة تلك الهجمات قد بلغت 200 قتيل من المدنيين، و96 مصاباً، إضافة إلى اختطاف 90 آخرين، لافتاً إلى أن 85 في المائة من الهجمات المميتة وقعت في منطقة موبتى، حيث قتل خلالها 193 من القوات المسلحة، وجرح 126.
وفي هذا الإطار، كان من الطبيعي أن تشهد مالي حالة من حالات انعدام الأمن، بعد أن سيطرت جماعات مرتبطة بتنظيم «القاعدة» على مناطق واسعة من شمال مالي، قبل أن يتدخل الفرنسيون والأفارقة لطرد هذه الجماعات من المدن الكبرى، وإن كانت الأخيرة تشن حرب عصابات منذ ذلك الوقت كبدت الفرنسيين والأفارقة والجيش المالي خسارة كبيرة.
ولم تكن مالي بطبيعتها المهترئة اجتماعياً لتغيب عن أعين الدواعش الذين دخلوا على الخط عام 2015، عندما أعلن المدعو أبو الوليد الصحراوي الانشقاق عن جماعة «المرابطون»، وتشكيل تنظيم جديد بايع تنظيم داعش، سماه «تنظيم داعش في الصحراء الكبرى».
وخذ إليك، على سبيل المثال، بعضاً من تلك الجماعات التي باتت تغطي ثلثي الجهورية المالية منذ عام 2012، وفي المقدمة منها «جماعة التوحيد والجهاد». وقد كان حصان طروادة بالنسبة إليها، وما تسبب في انتشارها في البلاد، حالة الفوضى والارتباك التي أعقبت الانقلاب العسكري الذي حدث في 22 مارس (آذار) 2012. فقد برزت على السطح في هذا التوقيت، وتمكنت من احتلال شمال مالي. ويرى محللو شؤون الإرهاب الدولي في القارة الأفريقية أنه أحد أكثر التنظيمات رعباً، لكونه مسلحاً وممولاً بشكل جيد، فضلاً عن قيامه بتكثيف عملياته الإرهابية منذ ظهوره، وتمركزه في الهضبة الصحراوية الشاسعة الممتدة في منطقة تساليت، وفرض سيطرته بلا منازع على عدد من القرى في تلك المنطقة.
ولم تكن جماعة «التوحيد والجهاد» بعيدة بحال من الأحوال عن تنظيم القاعدة، غير أنها انفصلت عنها وانتشرت في بلاد المغرب الإسلامي، تحت دعوة نشر فكر «الجهاد» في غرب أفريقيا، بدلاً من الاكتفاء فقط بمنطقة الغرب أو منطقة الساحل.
ويمكن للمرء أن يعدد أسماء كثيرة من التنظيمات الإرهابية على الأراضي المالية، مثل جماعة أنصار الدين، وهذه لها جذور عميقة في المجتمع المالي، ولذلك تضم ما بين 5 آلاف و10 آلاف عضو مزودين بأسلحة متقدمة.
وعطفاً على ذلك، يلاحظ المراقبون جماعات أصولية، وإن كانت أقل قوة من حيث العدة والعتاد، إلا أنها أخطر من جانب الأساس العقائدي، مما يجعل فرص ارتقائها أكبر وأوسع.
ومع تصاعد عمليات الإرهاب في مالي، وما حولها من دول جميعها مرتبطة بعقد واحد من الأصوليات الخبيثة، يبقى البحث عمن يزخمها ويساندها أمر واجب الوجود، كما تقول جماعة الفلاسفة.
أما الجواب فهو يسير. ففي 25 ديسمبر (كانون الأول) الماضي، أعلنت الإدارة العامة للأمن الوطني في النيجر عن القبض على مجموعة إرهابية تتكون من 3 أشخاص، يحمل 2 منهم الجنسية التركية، بالإضافة إلى متعاون محلي من مواطني النيجر.
ويضحي من الطبيعي القول إن اعتقال أتراك في النيجر يفتح ملف الإرهاب التركي - القطري في العمق الأفريقي، ويثير من جديد قضية نقل الإرهابيين إلى طرابلس دعماً للميليشيات الموالية لقطر وتركيا في ليبيا، في مواجهة الجيش الوطني الليبي.
ويوماً تلو الآخر، يثبت للعالم أن هناك أكثر من ستار تختبئ تركيا من وراءه، وبتمويل قطري لا يغيب عن الأعين، في محاولة متجددة لا تنقطع من أجل إعادة إنتاج مشروع الخلافة الوهمي، حتى إن كلف ذلك أكثر من دولة أفريقية أمنها وأمانها.
ومن عينة الستر التي تختبئ تركيا وراءها: «الهلال الأحمر التركي»، و«الوكالة التركية للتعاون والتنسيق». أما قطر، فمنذ أمد بعيد تستخدم جمعية «قطر الخيرية» ستاراً لاستقطاب الإرهابيين والمرتزقة لدعم الميليشيات في طرابلس.
ومؤخراً، كان موقع «انفيستجتيف بروجكت» الأميركي المتخصص في إلقاء الضوء على القضايا الإرهابية يكشف عن العلاقة التي تربط بين المثلث الجهنمي الإخواني بأذرعه المختلفة، لا سيما في الولايات المتحدة الأميركية، وجمعيات تركيا الخفية التي تعمل تحت ستار الأعمال الخيرية، والرابط الأكبر المتمثل في الدعم المالي القطري لهما، وهي قصة يضيق المسطح المتاح للكتابة عن سردها وعرضها، وإن كانت باختصار تبين أن العمق الأفريقي هو مكمن خطر الإرهاب العالمي في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين.
ومؤخراً، تتحدث واشنطن عن انسحاب قواتها المسلحة من القارة الأفريقية، بذريعة التفرغ لملاقاة روسيا والصين حول العالم، وتالياً ترفض ألمانيا المشاركة بجنود في القوة الأوروبية التي تقودها فرنسا في الساحل الغربي الأفريقي لمواجهة خطر الإرهاب... فهل يعني ذلك أن هناك فصلاً جديداً من فصول نماء الإرهاب الدولي في ظل غض الطرف عنه؟!
آفة حارتنا النسيان. والذين لدغوا من ثعبان الإرهاب من قبل يبدو أنهم لم يتعلموا الدرس بعد.