الألغاز المحيرة للسيد هيتشكوك

أعماله وفرت اللغز غير المفبرك فحولت المشاهد إلى شريك

TT

الألغاز المحيرة للسيد هيتشكوك

هناك كتاب جديد صدر في الشهر الماضي بعنوان «بطلات هيتشكوك» يتناول المرأة في أفلام هذا المخرج الكبير: فيرا مايلز، جانيت لي، تيبي هيدرن، غريس كيلي، إنغريد برغمان وسواهن. الكتاب بحد ذاته ليس حدثاً، ولو أن قراءته ملهمة، لكن الحدث هو أن كتاباً آخر رقمه مجهول، لكنه يُضاف إلى مئات الكتب قبله، صدر عن هذا المخرج الذي ترك وراءه 54 فيلماً كلها تستدعي الاهتمام وغالبها جيد بامتياز.
خذ، على سبيل المثال: «الطيور» و«سايكو» و«شمال شمالي غرب» و«فرتيغو» (وهي من بين أعماله في أواخر خمسينات وحتى منتصف ستينات القرن الماضي)، فتجدها منفردة عن كل ما حققه أي مخرج آخر على كثرتهم. أكثر من ذلك، نجد هيتشكوك منذ أفلامه الأولى في أواخر العشرينات يبرهن على فرديته وتميّـزه. حتى «المستأجر» (1927) و«ابتزاز» (1929) و«الرقم 17» (1932) تجد جذور الأسلوب الهيتشكوكي الفريد من اختيار موضوعاته إلى كيفية معالجتها وبث الحياة الخاصة فيها ولها، موجودة. لاحقاً في الثلاثينات طوّرها إلى كلاسيكيات مبهرة، من بينها «الرجل الذي عرف أكثر من اللازم» (1934) و«الدرجات الـ39» (1938) و«السيدة تختفي» (1938) تجد أن الرجل توسع في مداركه حول الكيفية التي يريد بها السيطرة على حواس مشاهديه عبر شخصياته كما عبر أحداث أفلامه ودائماً من خلال معالجة مختلفة لحد التميّـز.

- بعيداً عن الافتعال
وهناك خطوط مشتركة كثيرة بين أفلامه. هيتشكوك كان حريصاً على توفير اللغز غير المفبرك أو المفتعل. على عكس كثيرين سواه، لم يتعامل والغموض من منطق إخفاء الإجابة عن التساؤلات الكثيرة التي تزخر بها أفلامه. لم ير ضرورة لتأخير الكشف عن أسباب لما يدور. لم يواكب الآخرين الذين يحافظون على سر ما حتى الفصل الأخير من الأحداث لضمان فعل التشويق لدى المشاهدين.
«حبل» (1948) ليس عن لغز اختفاء طالب، بل نعرف من البداية من قتله، وبل أين تم إخفاء الجثة. السؤال البديل هو كيف سينجح البروفسور جيمس ستيوارت في تأكيد شكوكه. في «غريبان في القطار» (1951) يبدأ بالكشف عن كل ما سنراه: رجل يفرض على آخر ارتكاب جريمة قتل: «دائماً يبحثون عن الدافع. لكن إذا قتلت امرأتك التي لا أعرفها وقتلت أنت امرأتي (أمّـه) فلن يكتشف البوليس ما حدث». بذلك يتحوّل السؤال إلى ما الذي سيحدث تبعاً لهذا الاتفاق.
وكم كان مثيراً أن نشاهد، مع جيمس ستيوارت وغريس كيلي في «نافذة خلفية» (1954) الجريمة ترتكب أمامنا: رايموند بار يقتل زوجته. طار الغموض. حط التشويق الناتج من رغبتنا في متابعة ما الذي سيحدث من بعد.
وعندما تصل جانيت لي إلى ذلك الفندق المنزوي بعيداً عن الطريق السريع في «سايكو» (1960) لا يمهلها هيتشكوك إلا بضع دقائق قبل أن نرى القاتل يقتحم حجرتها ويتخلص منها. ماذا ترك هيتشكوك بعد ذلك ولماذا لم يلجأ إلى منهج أغاثا كريستي الروائي القائم على «من القاتل»؟
هذا المنهج المطروح هو أكثر من تفعيلة بديلة. عبر ذلك وحده يستطيع هيتشكوك (إلى اليوم) وضع المشاهد في موضع غير مريح. جعله بصباصاً وجعل منه شاهداً على ما يقع. يتمثل ذلك على أفضل وجه في «سايكو» و«نافذة خلفية» بين ما ذكرناه.
في «سايكو» لن يتمحور البحث عما حدث للشخصية التي لعبتها جانيت لي لأننا شاهدنا مقتلها بعيون مفتوحة على آخرها (تبعاً لطريقة تصويره وتوليفه المشهد). نحن نعلم أكثر من شقيقتها التي جاءت تبحث عنها وأكثر من التحري الذي استجاب لشكوك شقيقتها (ودفع حياته ثمناً لذلك). نعلم كل شيء، ومع ذلك لا يتركنا الفيلم لحظة من دون تشويق (إلا في الدقيقة الأخيرة تماماً).
«نافذة خلفية» ليس، بدوره، عن اختفاء الجارة، بل عن قيام زوجها بقتلها. هذا واضح. جيمس ستيوارت مصوّر صحافي يلازم منزله بعدما كسر ساقه. تسليته الوحيدة (لم يكن هناك كومبيوتر آنذاك) هي مراقبة صف المباني وساكنيها من النافذة الخلفية. التشويق آت من أننا نعلم أن شكوكه حقيقية ونشارك البصبصة ونتساءل عما سيحدث له إذا ما اكتشف القاتل إنه كان يراقبه.

- خطر محتم
أفلام هيتشكوك مليئة دوماً بالمخاطر. هناك خطر على حياة الجميع حتى في فيلم غير مبني على التشويق البوليسي مثل «قارب حياة» (1944) أو «المتاعب مع هاري» (1955). الخطر محدق على بطل «نافذة خلفية» الذي لا يستطيع الحراك عن كرسيه لإصابته. الخطر أكيد على حياة غاري غرانت في «شمال شمالي غرب» أو على الممثلة إنغريد برغمان في «شنيع» (1946) وعلى المتهم بالجاسوسية جووَل ماكريا في «مراسل أجنبي» (1940) كما في غير هذه الأمثلة.
«فرتيغو» (الذي تم انتخابه أفضل فيلم في التاريخ في استفتاء مجلة «سايت أند ساوند» قبل سنوات عدّة) يبدأ بالخطر المحدق. جيمس ستيوارت (مرّة أخرى، أكبر سناً) مفتش يطارد مجرماً فوق أسطح مباني سان فرانسيسكو. فجأة يجد نفسه معلقاً بحافة السطح مهدد بأن تفلت يداه فيسقط من علو شاهق.
لا ندري كيف نجا، لكننا نتعرف عليه وقد ترك العمل الرسمي وقبل مهمّـة متابعة امرأة (كيم نوفاك) التي تراودها (كما يقول له زوجها) أفكار انتحار. يلحق بها إلى برج كنيسة وهو الذي بات يخاف الأدوار العليا ويراها تلقي بنفسها. يعيش حزناً دفيناً ثم يشاهد امرأة تشبهها تماماً. يتعرّف إليها مدركاً أنه كان وقع في غرام الراحلة ويريد الآن تحويل المرأة الجديدة لتكون نسخة من الأولى.
بصرف النظر عن المفاجآت المتوالية طوال الوقت، «فرتيغو» هو من أكثر أفلام هيتشكوك تعدداً في التفسير والاحتمالات. كيف تم إنقاذه من السقوط في مطلع الفيلم؟ هذا السؤال يقود إلى إذا ما كان الفيلم حقيقياً؟ خيال ميت أم تم إنقاذ بطل الفيلم وبالتالي فإن ما نراه خيال رجل حي؟. لماذا تعاود الحكاية دورانها حول تلك العلاقة المحيرة بين الرجل الذي دهمه الحب والمرأة التي ربما كانت من اعتقد أنها ماتت؟ أو هل هي ماتت فعلاً وباقي الفيلم مرتع من الكوابيس؟ وحتى حين نكتشف أنه كان ضحية لعبة مخادعة فإن السؤال حول دوره في هذه الخديعة يستمر طويلاً من بعد.
في حين أن الخطر في «فرتيغو» فريي النزعة، نراه في «طيور» (1063) جاثماً على نحو جماعي. ببراعة يربط المخرج الطيور القاتلة بحياة امرأة (تيبي هيبورن) مستقلة وقوية الشخصية ومن ثم بحياة رجل (رود تايلور) يحاول التخلص من سُلطة أمه (فيرونيكا كارترايت) عليه كما بأهل بلدة ساحلية صغيرة قرب سان فرانسيسكو. كل هذا والذين دخلوا الفيلم آنذاك دخلوه على أساس أنهم سيشاهدون - فقط - حكاية طيور تعيش بيننا تنقلب إلى وحوش كاسرة.

- عروض جديدة
Action Point
• كوميديا حول رجل (جوني نوكسفيل) يدير مدينة ملاهٍ خطرة على حياة من يرتادها؛ ما يتسبب في مقالب غير متوقعة.
Adrift
• تشويق حول رجل وصديقته يبحران في المحيط على يخت وعلى إثر عاصفة عاتية يموت الرجل غرقاً وتبقى الفتاة وحدها في عرض البحر.
Operation Beyrouth
• هو نفسه فيلم «بيروت» بعد تغيير جزئي لعنوانه في العروض الفرنسية. دبلوماسي سابق يعود إلى بيروت لإنقاذ أميركي محتجز.
Midnight Cowboy
• إعادة تقديم لفيلم جون شليسنجر (المنتج سنة 1969) حول شاب حالم (جون فويت) يحط في نيويورك ليجد أنه سيعيش في قاعها.


مقالات ذات صلة

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

سينما المخرج إيستوود مع نيكولاس هاولت (وورنر)

كلينت إيستوود ناقد السُلطات والباحث عن عدالة غائبة

ماذا تفعل لو أنك اكتشفت أن الشخص المتهم بجريمة قتل بريء، لكنك لا تستطيع إنقاذه لأنك أنت من ارتكبها؟ لو اعترفت لبرّأت المتهم لكنك ستحلّ مكانه في السجن

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
سينما من «الفستان الأبيض» (أفلام محمد حفظي)

شاشة الناقد: دراما نسوية

في فن صنع الأفلام ليس ضرورياً أن يتقن المخرج الواقع إذا ما كان يتعامل مع قصّة مؤلّفة وخيالية.

محمد رُضا‬ (بالم سبرينغز)
يوميات الشرق مشهد من فيلم «هُوبَال» الذي يُعرض حالياً في صالات السينما السعودية (الشرق الأوسط)

بعد أسبوع من عرضه... لماذا شغل «هُوبَال» الجمهور السعودي؟

يندر أن يتعلق الجمهور السعودي بفيلم محلي إلى الحد الذي يجعله يحاكي شخصياته وتفاصيله، إلا أن هذا ما حدث مع «هوبال» الذي بدأ عرضه في صالات السينما قبل أسبوع واحد.

إيمان الخطاف (الدمام)
لمسات الموضة أنجلينا جولي في حفل «غولدن غلوب» لعام 2025 (رويترز)

«غولدن غلوب» 2025 يؤكد أن «القالب غالب»

أكد حفل الغولدن غلوب لعام 2025 أنه لا يزال يشكِل مع الموضة ثنائياً يغذي كل الحواس. يترقبه المصممون ويحضّرون له وكأنه حملة ترويجية متحركة، بينما يترقبه عشاق…

«الشرق الأوسط» (لندن)
سينما صُناع فيلم «إيميليا بيريز» في حفل «غولدن غلوب» (رويترز)

«ذا بروتاليست» و«إيميليا بيريز» يهيمنان... القائمة الكاملة للفائزين بجوائز «غولدن غلوب»

فاز فيلم «ذا بروتاليست» للمخرج برادي كوربيت الذي يمتد لـ215 دقيقة بجائزة أفضل فيلم درامي في حفل توزيع جوائز «غولدن غلوب».

«الشرق الأوسط» (لوس أنجليس)

نجم بوليوود عامر خان يصرف النظر عن الاعتزال ويواصل التمثيل والإنتاج

نجم بوليوود عامر خان (أ.ف.ب)
نجم بوليوود عامر خان (أ.ف.ب)
TT

نجم بوليوود عامر خان يصرف النظر عن الاعتزال ويواصل التمثيل والإنتاج

نجم بوليوود عامر خان (أ.ف.ب)
نجم بوليوود عامر خان (أ.ف.ب)

خطرت فكرة اعتزال السينما في بال نجم بوليوود، عامر خان، في خضمّ فترة التأمل التي أمضاها خلال جائحة كوفيد-19، لكنّ الممثل والمنتج الهندي بدّل رأيه مذّاك ويعتزم مواصلة مسيرته المهنية الغنية التي بدأت في سبعينات القرن العشرين.

وقال خان لـ«وكالة الصحافة الفرنسية»، خلال مقابلة أجرتها معه في لندن، إنه مرّ قبل بضع سنوات بمرحلة إعادة نظر ذاتية.

وأضاف: «كان ذلك خلال أزمة كوفيد، وكنت أفكر في كثير من الأمور، وأدركت أنني قضيت حياتي بأكملها في عالم السينما السحري هذا منذ أن أصبحت بالغاً».

وتولى عامر خان بطولة عدد كبير من الأفلام التي حققت نجاحاً تجارياً واسعاً في بلده، ومنها «3 بلهاء» و«دانغال»، و«نجوم على الأرض»، كما اشتهر عامر خان بإنتاج وبطولة فيلم «لاغان Lagaan» الذي كان بين الأعمال المرشحة لجائزة الأوسكار للأفلام الأجنبية عام 2002.

وتابع خان الذي بدأت مسيرته التمثيلية منذ الطفولة في السبعينات، وأصبح لاسمه ارتباط وثيق ببوليوود: «لقد أدركت أنني لم أعطِ حياتي الشخصية الأهمية التي كنت أرغب فيها».

وزاد: «واجهتُ صعوبة في التغلب على الشعور بأنني أهدرت الكثير من الوقت، وكنت أشعر بالكثير من الذنب... كان رد فعلي الأول القول إنني اكتفيت من السينما».

لكنّ عائلته، وخصوصاً ابنه وابنته، أقنعته بالعدول عن الاعتزال. وقال: «في رأسي كنت أقول سأتوقف. ثم لم أفعل ذلك».

والآن، مع اقتراب عيد ميلاده الستين في مارس (آذار)، يريد عامر خان، الذي يعيش في مومباي، «مواصلة التمثيل والإنتاج لبعض الوقت».

«أحب أن أفاجئ جمهوري»

ويعتزم النجم الهندي أيضاً جعل شركته للإنتاج «عامر خان بروداكشنز» منصة «لتشجيع المواهب الجديدة التي تكون أحاسيسها قريبة» من أحساسيسه و«تريد أن تروي القصص» التي تهمه.

ومن ذلك مثلاً فيلم «لاباتا ليديز» Laapataa Ladies الكوميدي عن شابتين من منطقة ريفية في الهند، يطرح موضوع الزواج ووضع المرأة في بلده، وقد شارك في إنتاجه مع زوجته السابقة كيران راو، وحضر أخيراً إلى لندن للترويج له.

ويتناول عدد من أفلام عامر خان قضايا اجتماعية، مثل حقوق المرأة في المناطق الريفية، أو الصناعة الرياضية، أو الضغط المفرط في التعليم العالي أو حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.

لكن خان يرفض أن يحبس نفسه في نوع واحد فقط من الأفلام أو الأدوار، وقال في هذا الصدد: «أحب التنويع والتطرق إلى قصص مختلفة. أحب أن أفاجئ نفسي وجمهوري».

ولم يتردد النجم البوليوودي في انتقاد نفسه أيضاً، مشيراً إلى أنه «غير راضٍ» عن أدائه في فيلم «لا سينغ شادا» Laal Singh Chaddha الهندي المقتبس من فيلم «فورست غامب» تم إنتاجه عام 2022، لكنه لم يحظَ بالاستحسان المألوف الذي تُقابَل به أعماله.

وأما في «أن يكون هذا الفيلم أفضل»، في إشارة إلى عمله الجديد «سيتار زامين بار» Sitaare Zameen Par الذي يُطرَح قريباً.

ورغم فوزه بالعشرات من الجوائز السينمائية في الهند بالإضافة إلى ثالث أعلى وسام مدني في بلده، فإن عامر خان يحرص على تقويم كل فيلم من أفلامه.

وشدّد على أن «إخراج فيلم أمر بالغ الصعوبة». وقال: «عندما أنظر إلى الفيلم الذي أخرجناه، ثم إلى السيناريو الذي كتبناه، أتساءل هل حقق الفيلم الأهداف التي حددناها».

وأضاف: «إذا وصلنا إلى ما أردناه، وصنعنا الفيلم الذي أردناه، فيشكّل ذلك ارتياحاً كبيراً».