استخدام الكيماوي في «مذكرات سورية»

استخدام الكيماوي في «مذكرات سورية»
TT

استخدام الكيماوي في «مذكرات سورية»

استخدام الكيماوي في «مذكرات سورية»

صدر هذا الشهر عن دار «بلومزبري» البريطانية، كتاب «بلادي» لقاسم عيد. والكتاب عبارة عن مذكرات مؤلمة يروي فيها عيد نشأته في ظل نظام بشار الأسد، وتعرض المدنيين ومجموعته، حين كان عضواً في الجيش السوري الحر، لهجوم كيماوي، كان هو أحد ضحاياه. وكان قدم شهادته لإحدى اللجان التابعة للأمم المتحدة. وهو يقطن ألمانيا حاليا ويعيش هناك كلاجئ سياسي.
هنا مقتطفات مترجمة من الكتاب، يصف فيها معاناته بعد استنشاق الغاز الكيماوي:
كانت عيناي تحترقان، وكان رأسي يطن، وكان حلقي جافاً يكاد يتمزق لقلة الهواء. كنت على شفا الاختناق. وبذلت قصارى جهدي كي أتنفس - مرة، ومرتين، وثلاثة مرات. وكل ما سمعته كان نفس صوت الكشط الرهيب حال انسداد حنجرتي فلم أقو على الكلام.
صارت أصوات الطبول في رأسي تتلاحق بوتيرة لا تُحتمل. وبدأت أشعر بضباب شديد يلف العالم من حولي. وعلى نحو مفاجئ فُتحت قصبتي الهوائية مرة أخرى. واندفع الهواء مسرعاً عبر حنجرتي مخترقاً رئتي في سرعة عارمة. وشعرت بوخزات إبر شديدة تدخل في عيني. وهاجمت آلام رهيبة بطني ومعدتي. ضاعفت من جهودي وصرخت منادياً على رفاق غرفتي، «استيقظوا! إنه هجوم كيماوي!»
أبو عبده، زميلي من المدرسة الثانوية، وأحمد، صديقي من المدرسة الإعدادية، القائد الميداني في الجيش السوري الحر، هرعوا جميعا فرارا من فرشهم مذعورين. انطلقت إلى دورة المياه ودفعت المياه دفعا على وجهي. وسمعت جلبة في الخارج وصرخات عالية من جيراني.
وكان أصدقائي يكافحون لأجل تنفس بعض الهواء، وكانوا يسعلون بشدة وتكاد رئاتهم تنفجر بسبب ذلك. اندفعنا حول الغرفة في ذهول، وكنا نلهث بشدة، وتنتفض أجسادنا ونحن نحاول ارتداء ملابسنا بأسرع ما يمكننا.
وحتى قبل أن ننتهي من ذلك، سمعنا طرقت سريعة وقوية وملحة على الباب.
هرع أحمد ليفتح الباب. كانت جارتنا أم خالد واقفة عند الباب تستغيث بنا. «ساعدونا، أرجوكم، إنهم يموتون». وكانت لاهثة الأنفاس بشدة. وكانت تحمل طفليها على ذراعيها، أحدهما في عمر الرابعة والآخر في السادسة. وكانا فاقدين للوعي تماما كمثل الأموات.
كانت وجوههم زرقاء وصفراء. وكانوا يتقيأون زبدا أبيض اللون قبيح الرائحة من أفواههم. أمسك أحمد وأبو عبده بالطفلين وأطلقا ساقيهما للرياح.
واندفعت عبر المبنى لأتأكد من عدم تعرض أي شخص آخر للإصابة. ثم هرعت إلى الطابق السفلي ومنه إلى الشارع، مندفعا عبر النوافذ المتداعية، والجدران المنهارة، والأرضيات المدمرة، وأكوام الأنقاض في كل مكان.
وعندما بلغت البوابة الخارجية ونظرت إلى الداخل، توقفت لبرهة قليلة. كان منظرا رهيبا لعشرات الرجال والنساء والأطفال يتلظون من الألم الشديد على الأرض. وكان أناس آخرون يصرخون طلبا لقدوم الأطباء، ويصلون، ويدعون الرب القدير في السماء، ويحاولون مع ذويهم ممن سقطوا على الأرض أن يتنفسوا ثانية.
لاحظت وجود كتلة كبيرة ملقاة على التراب بمسافة خمسين مترا تقريبا إلى يساري. ومع اقترابي الحثيث منها أدركت أنها جسد لصبي صغير وجهه مسدل على الأرض. فانطلقت لمحاولة تعديل وضعه لإنقاذه. وكان منظر وجه الصبي الصغير كافيا لكي أنسى كل مشاهد الرعب والهلع التي انتابتني خلال السنوات الثلاث الأخيرة في بلادي: الجثث المحترقة والمتحللة في أعقاب المذابح، النساء والأطفال المجزأة أوصالهم إلى قطع صغيرة جراء القصف العنيف، وبكاء الرفاق ونحيب الأصدقاء حال سقوطهم جرحى من القتال، لقد أنساني وجه ذلك الصبي الصغير كل تلك الفواجع والفظائع في لمحة من الزمن.
كل ما دعاني وجداني للتركيز عليه كان وجه ذلك الصبي ملطخاً ببقع الدماء الحمراء والكدمات الصفراء والبثور الصفراء. حملقت عينه في عيني في نظرة أبدية سرمدية خاوية من كل إحساس أو شعور. كان القيء الأبيض يندفع من جوفه، ويخرج من حنجرته صوت حشرجة مقضبة وهو لا يزال يناضل من أجل التنفس في رمقه الأخير. خلعت قميص الصغير وحاولت دفع الهواء دفعا إلى رئتيه عبر فمه. وواصلت الضغط على صدره من أجل طرد السموم البيضاء خارج رئته. ثم صرخت طالبا العون من أحد وتوسلت إلى الله ليرحم الصبي المسكين.



سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات
TT

سردية ما بعد الثورات

سردية ما بعد الثورات

لا تؤجل الثورات الإفصاح عن نكباتها، هي جزء من حاضرها، وتوقها إلى التحقق، وتلافي تكرار ما جرى، بيد أنها سرعان ما تصطنع مآسيها الخاصة، المأخوذة برغبة الثأر، وتصفية الخصوم، وعدم السقوط في براثن الثورات المضادة، من هنا تضحى المذكرات والسير المرافقة لوقائع التحول، داخل الأنظمة والدول، سردية لوعي الضحايا والهاربين والمنتصرين على حد سواء. ولا جرم بعد ذلك تتجلى تفاصيل العمر القديم وكأنما من عمق لحدي، وجوه متقلبة لشخص يَمْثُلُ بوصفه «آخر»، بوقائع وأهواء وصلات منتهية، وصداقات تعيد تركيب كلام منسي، ومواقف تنأى عن الحاضر، عن الشخص الملتفت إلى وقائع الذاكرة البعيدة. إنه الإحساس الذي ينزغنا، من الوهلة الأولى، بعد الانتهاء من كتاب «قافلة الإعدام: مذكرات سجين في طهران» (دار الساقي، بيروت، 2023) لبهروز قمري المؤرخ وعالم الاجتماع الإيراني وأستاذ دراسات الشرق الأدنى بجامعة برنستون.

حمل الكتاب في الطبعة الإنجليزية (الأصل) عنوان «في تذكر أكبر: داخل الثورة الإيرانية»، ولم يكن «أكبر» إلا الاسم الذي سعت السيرة إلى استعادة ملامحه الممحوة من شاشة الذاكرة، استنباته في تربة أخرى، لطالب الجامعة والمناضل الشيوعي، والحالم المشارك في يوميات الثورة الإيرانية، ثم المعتقل السياسي، المحكوم بالإعدام، ضمن المئات من المحكومين الآخرين، المنتظرين تنفيذ العقوبة في سجن إيفين الرهيب، الذي خصصه «الملالي» لتصفية خصومهم الآيديولوجيين، بعد تسلمهم الحكم.

لقد درج عدد كبير من الأكاديميين الإيرانيين على التأريخ للثورة، وتحولات المجتمع الإيراني في تلك السنوات المفصلية، من لحظة سقوط الملكية إلى استحواذ نظام الولي الفقيه على السلطة، على نموذج السيرة الروائية، فمن كتاب «آذر نفيسي» المعنون بـ«أن تقرأ لوليتا في طهران»، إلى كتاب «بردة النبي» لـ«روي متحدة»، تواترت نصوص سردية عديدة عن السنوات الثلاث الأولى للثورة الإيرانية، وما تخللها من صراع نكد بين فرقائها، من الشيوعيين إلى الليبراليين الديمقراطيين، ومن الاشتراكيين إلى القوميين والأقليات الإثنية، ومن رجال الدين إلى طلاب الجامعة الراديكاليين، ومن الملالي إلى «اليساريين الإسلاميين»، وغيرهم ممن انتهى بهم الحال إلى الدفاع عن قناعة امتلاكهم وحدهم «المعنى الحقيقي للثورة»؛ ومن ثم ستسعى تلك التخاييل السردية إلى محاولة فهم ما جرى من انقلاب في الاصطفافات النضالية، ومن صدام دامٍ، ومن تمزقات، وتحولات في المشهد، تكاد لا تستند لمنطق، وتحتاج للتعبير الروائي لتصوير مفارقاتها والتباساتها، ذلك ما سعى إليه مجدداً بهروز قمري في كتابه «قافلة الإعدام».

في الأسطر الأولى من السيرة يقول السارد ما يلي: «متُّ في السابعة والنصف من صباح 31 ديسمبر (كانون الثاني) 1984. لا أقول ذلك مجازاً، وإنما بالمعنى الحقيقي للوجود. في تلك اللحظة تماماً، وضعت قدماً في العالم الآخر مع توقيع متردد ذيل قرار الإفراج... هكذا متُّ، بالخروج من عالم لا يمكن تصوره، ودخول عالم مرتبك من التفاهات، تركت نفسي السابقة في مكان يوجد فقط في شروط مستحيلة» ص9-13. وعبر فصول الكتاب الـ26 تتخايل تدريجياً الحياة المنتهية للشخص الملتبس بالاسم الحركي: «أكبر»، الذي كان قبل أزيد من 4 عقود معتقلاً سياسياً أصيب بالسرطان، عالم جحيمي يركب مفصلاً عابراً في حياة لا تتجاوز 3 سنوات، داخل سجن سياسي بطهران، استضاف «أعداء الثورة» لاستراحة ما قبل الإعدام.

على هذا النحو تقدم لنا السيرة الروائية تفاصيل عودة «أكبر» (الاسم الحركي لبهروز)، من تجربة تنفيذ حكم الإعدام، بعد مضي عقود على خروجه من المعتقل «لأسباب صحية»، كان السرطان الذي تفاقم في جسم المعتقل اليافع، سبباً في الإفراج عنه، فقد كان شخصاً ميتاً، بحكم وضعه الصحي، ولا يحتاج لأن يحال على المشنقة. بعد خروجه وإثر مصادفات شتى انتهت به إلى الولايات المتحدة، وإلى علاج كيميائي قاسٍ، كلل بشفائه التام، وعودته من تجربة موت محقق. فتحول تاريخ خروجه في 31 ديسمبر من سنة 1984، إلى لحظة لاستعادة تفاصيل ما جرى في معتقل إيفين، وإلى استرجاع ملامح وأسماء وحيوات رفاقه في الزنازين، وفي تجربة الانتظار؛ انتظار تنفيذ حكم الإعدام الذي يختصر في جملة يطلقها الحارس على حين غرة، منادياً اسماً معيناً، طالباً منه: «جمع أغراضه»، وعبر مساحات الاستعادة المرمّمة للوقائع والأحاسيس، والمتخيلة للكلام المنسي، تنبت تأملات في تحولات البلد والناس، كما تستدرج للسيرة سير أشخاص عاديين ممن واكبوا منعرجات الثورة في الشوارع والمصانع والجامعات والمقاهي والحانات، من حكاية الكحول والعمل النقابي وصناعة الأحذية، إلى حكاية الهروب من حظر التجول، إلى صور مناضلين ركبت أحلامهم الثورية على شغف بأشعار حافظ والموسيقى الأذربيجانية... على ذلك النحو انتسجت ملامح شخصيات: «علي» و«شاهين» و«غُلام» و«داوود» و«منصور» و«برهام» و«أصغر» و«صلاح»، ممن شيعهم «أكبر» مع بقج متاعهم الصغيرة إلى باب المغادرة النهائية.

«نصر الله»، «الخال حسين»، «ما العمل؟»، «المنزل الآمن»، «سيمفونية ميلر الأولى»، «التروتسكي»، على هذا المنوال صيغت عناوين فصول السيرة، المنطوية على حكايات لحظات وصفات وسجايا، وطرائف، سكبت في فجوات زمن التحقيق والتعذيب والمحاكمة، ومعايشة برودة زنازين المعتقل، وانتظار نداءات مدعي عام الثورة «أسد الله لاجوردي»، لتعيد الفصول تركيب صور حياة يومية مأخوذة من مفارقات الصخب الثوري، داخل فضاءات مغلقة تملأ بنقاشات الأسرى واسترجاعاتهم، في تلك الحكايات نتعرف على حكايات صناع الأحذية مع النقابات الممنوعة، والأدبيات الماركسية المتنقلة عبر الأيدي في نسخ صغيرة، مخبأة ككنوز مهربة، نكتشف مواسم القراءة تحت اللحاف في الليل بمصابيح عمال المناجم، كما نصاحب النقاشات السياسية المحمومة بين الخصوم/ الشركاء في الثورة، عن فائض القيمة والعنف الثوري، كما نلتقط شذرات الشعر الطليعي جنباً إلى جنب مع الأشعار الكلاسيكية، مع تخايلات موسيقية ومسرحية، وطبعاً حكايات الصمود أمام آلة التحقيق الجهنمية، ونوازع الانتقام البارد، وفناء الذوات في الحشود، والمواهب في الشعارات.

لكن ما يوحد مقامات تلك الفصول في الغالب الأعم هو انتظامها على إيقاع التحقيق والمحاكمة وانتظار دعوة الحارس للخروج النهائي، فعبر تلك الفواصل يكتشف القارئ أمزجة وطبائع بشرية شتى، وقدرات خارقة على الصمود، وضعف بديهي يفضي إلى التراجع والتنكر للقناعات وطلب العفو. بين تلك المدارات تتكشف قدرات تحويل المأساة إلى طاقة للهزل، والتخفف من رهاب الموت والتصالح مع قرار الذهاب إلى الإعدام، ذلك ما يفسر تلك القدرة على استنبات السخرية في فجوات الصمت والألم والعلة: «كانت الغرفة مليئة بدخان السجائر، نحن نصنع غرفة إعدام بالغاز، قال السيد الصالحي بمحاولة باهتة للمزاح».

كانت التفاصيل المفعمة حماساً وعمقاً وتشبثاً بالمعنى، واستحضاراً للأشعار والموسيقى، تُطل لتبديد سطوة الحراس والمحققين، وجعل الخروج النهائي مجرد إجراء عابر، مفرغ من الفجائعية، لهذا كانت محاولات الإقناع المتبادلة بين المعتقلين ليست عن الموت وإنما عن الحياة، عن السياسة والثورة والماركسية والفكر الإسلامي والعمال والحركة الطلابية وانتظارات الإيرانيين منهم، ومدى أخلاقية التراجع تحت وطأة التعذيب، ومصداقية التحولات الفكرية الأخيرة. كان النقاش بصدد ضمائر منذورة للحياة، لا بين أجساد ذاهبة لموت محتوم، يقول السارد في الأسطر الأخيرة من فصل يحمل عنوان «اعتراف»: «أعدمت منية هدائي بعد شهرين من رفضها سحب إنكارها لتراجعها. ألقى حسين روحاني اثني عشر خطاباً آخر، ظهر في ثلاثة منها كماركسي ولد من جديد يدافع عن سنواته في (بيكار)، وفي ثلاثة أخرى كماركسي رفض أجندة (بيكار) السياسية، لكنه دافع عن آيديولوجيتها الثورية. وظهر خلال محاضراته الستة الأخيرة كناقد إسلامي للماركسية وأعلن أنه أخيراً وجد الله بصدق. أعدم بعد وقت قصير من ذلك». (ص168)