رحلة اللون من الورق إلى الشاشة

عبقري السينما الإيطالية فيلليني في معرض تشكيلي

من أعماله - فيلليني
من أعماله - فيلليني
TT

رحلة اللون من الورق إلى الشاشة

من أعماله - فيلليني
من أعماله - فيلليني

معرض فني لعبقري السينما الإيطالية الراحل فيديريكو فيللي (1920 - 1993)، يحتوي على 41 لوحة، في صالة غاليري «آرس بيربيتوا»، وسط مدينة روما، يشكل تجاوزاً لجغرافية العمل السينمائي والمسرحي، ليدخل إلى إيقاع الروح الحسية للإنسان، وتتحول عين المتلقي إلى عناق مع ما تشيعه حوارية مكونات المكان، فتبزغ الألوان الحارة لتعكس نفسها على تضاريس الورق الأبيض وكأنها حنين راقص لمعانقة أعماله السينمائية، وما لهذه الأعمال وتلك من أبعاد معاصرة، ومن شاعرية تلوح من خلال شفافية الأشكال الجميلة التي سكنت تلك اللوحات.
ويدرك المشاهد من خلال عشرات الأعمال الفنية ما يريد هذا الفنان أن يقوله من خلال شخصيات تملأ فضاء اللوحات، وتحيل المكان الذي ترسمه لوحته إلى فرح يأسر الإنسان من كل الجهات.
للوهلة الأولى، تبدو تخطيطات (المايسترو) فيلليني وكأنها تنتمي إلى تلك العوالم المدهشة التي حوتها أفلامه الشهيرة، مثل: «أنا أتذكر» و«الحياة حلوة»، و«ثمانية ونصف»، و«مملكة النساء»، و«السفينة تبحر»، و«كازانوفا»، و«بروفة الأوركسترا»، و«ضوء القمر»، وغيرها من الأفلام التي جرى الحديث عنها دائماً كفعاليات إبداعية تستقطب كيان الفنان، إذ تبدو تخطيطاته الصغيرة التي نفذت لتكون بمثابة «سكيتشات» لمشاهد أفلامه قبل البدء بتنفيذها سينمائياً، بقيت تديم نفسها بدأب وصرامة وإخلاص، حتى أنها اليوم تكاد تستفز مشهد الإبداع التشكيلي الإيطالي، الذي بدأ خلال السنوات القليلة الماضية في الضمور، فحساسية اللون عند المايسترو تصفو وتشف في معظم التخطيطات الصغيرة المعروضة، التي تعرف المتلقي بما يمكن وصفه بعمل الألوان فيها، وبتلك الفراغات التي تنشأ في أماكن متفرقة، فراغات قد يجدها البعض عفوية، لكنها مدروسة، تمتلك روح المشاكسة الطفولية، وإلحاحها وأنانيتها ورغباتها في الإعلان عن نفسها، التي اشتهر بها هذا الفنان الكبير، واتخذها مبدأ لتكريس ابتكاراته الخالصة التي جمعت مواهب عدة أطلقها في بوتقة السينما، فهو أصلاً جاء من عالم الرسوم المتحركة، ومجلات الضحك التي برع في إنجاز رسوم وتخطيطات كثيرة لها وجدت طريقها للنشر، إذ بدأ حياته العملية رساماً لمثل هذه المجلات بعد مغادرته مدينته الأثيرة على قلبه «ريميني»، نازحاً إلى روما وعوالمها الصاخبة، حيث رافقته هذه العادة إلى العمل السينمائي، فانكب على رسم وتخطيط شخصيات أشرطته وديكوراتها وإكسسواراتها، وأجسادها الممتلئة، وحركاتها المضحكة. كما قدم فيلليني من عالم الصحافة الذي علمه الاختزال والإيجاز وتعدد مستويات القصص، ومقاربة الشخصيات الأكثر غرابة وتراكباً، وقد جعلها محوراً مركزياً لواحد من أهم أفلامه، وهو «الحياة حلوة» (لادولشا فيتا)، الذي قدمه عام 1960، وفاز بالسعفة الذهبية بمهرجان كان السينمائي العالمي.
لقد غرف هذا السينمائي من الأرياف بكل ما تزخر به من صور وخيالات وبساطة وواقع وتفكير، حيث عاش مع جدته التي هي أهم شخصية في حياته، كما يقول، ولم يكن يستطيع أن يتصور حياته من دونها، إنها الجدة الأكثر قرباً إلى منبع الإلهام، إنها الجدة التي تعلم من خلالها مشاهدة الحياة وألوانها، لذلك نراه في معظم أفلامه ولوحاته يحاول جمع كل شيء في شيء، حتى لكأن أفلامه ولوحاته تكون مرجعاً ضخماً لصور ومشاهد لم تكن تتعامل معها السينما الإيطالية في كل تاريخها، لأن أسلوبه المتميز، وحياكته للمشهد وللشخصيات، جعل منه المبدع دونما منازع، ليس في إيطاليا وحدها وإنما في عموم بلدان أوروبا الغربية.
ولقد انعكست على أعماله الفنية عوالم الموسيقى الشعبية، ومشعوذي السيرك، ولاعبي الأكروباتيك، ونافخي النيران، ورجال العصابات المحلية، وأدعياء السياسة، ومرتزقة الفن، وعشرات النماذج الأخرى، فكل هؤلاء وجدوا سبيلهم إلى عين فيلليني وذاكرته، ليبثهم بغزارة احتفالية أخاذة في مجمل نشاطاته الفنية، خصوصاً في أفلامه الأولى، مثل «الشيخ الأبيض»، الذي قدمه عام 1952، وفيه أول استعارة واضحة لتجربته القديمة الأولى كرسام ماهر.
وقال عنه الكاتب الإيطالي ألبيرتو مورافيا، بعد رؤيته الفيلم التاريخي «ساتيركون» (المأساة الساخرة)، الذي صوره داخل مبنى الكولوسيوم التاريخي، الذي يقع في قلب العاصمة الإيطالية، ويتناول فيه مشكلة تاريخية، وهي مصير الإمبراطورية الرومانية، بأنه «يصور أحلامه»، ولقد كان هذا صحيحاً لأن فيلليني له حياة سرية خاصة لم تظهر إلا في أفلامه التي كانت هي أحلامه، التي استمد منها خصوصيته الفنية، وكان يقول على الدوام: «إن كثيراً من المشكلات الفنية يمكن حلها من خلال الأحلام، فكثير من أفضل أفكاري تخطر لي وأنا نائم، فهي صور وليست كلمات، وحين أصحو أحاول رسمها دون إبطاء قبل أن تبهت وتتلاشى، فكثير من أفكاري السينمائية جاءتني في أحلامي، ولم أعرف كيف أو لماذا».
ومن خلال أفلامه، التي تعد تركيبة عجائبية لمختبر من الأحلام المتشكل من الأفعال والألوان والكلمات والصور، يمكن تلمس هذه الأحلام التي سلكها هذا العاشق الذي غاص بجرأة وواقعية في أعماق إيطاليا التي لفها قناع الزيف الحضاري والتقدم الرأسمالي، رجالها جلادون، ونساؤها - ما عدا الأمهات - عاهرات في الخفاء، إلا أنه ظل أحد الاستثناءات السينمائية الفريدة التي لا يمكن أن يتماثل أو يماثل مع أقرانه من الكبار السينمائيين، فقد ظل أميناً إلى إيطاليته حتى النخاع، لم يعبر حدودها أو تاريخها أو رموزها، ولكن أيضاً دون أن يتخلى لحظة عن شمولية قناعاته ومواقفه من الإنسان والحياة والموت والغربة والذاكرة والتاريخ، وغيرها من العناصر التي كان يضعها في إطار سينمائي مشوب بالتهكم والسخرية والانتقاد اللاذع، وهي مسلمات ظل محافظا عليها حتى آخر أفلامه «صوت القمر»، الذي قدمه عام 1990.
ولد فيلليني في مدينة ريميني السياحية، التي تقع على شواطئ البحر الأدرياتيكي، عام 1920، وغادرها إلى مدينة روما عام 1940 ليعمل في الصحافة، ولكنه سرعان ما تحول إلى كتابة السيناريو، ثم مساعد مخرج لرائد الواقعية الإيطالية الجديدة روسيلليني. وظلّ فيلليني يسجل مظاهر الكذب والخداع لهذا العصر، فهو يصور هذا المجتمع وكأنه مشهد جنائزي، كما لو كان نقياً صافياً في الظاهر، إلا أنه لا يعدو أن يكون مثل لوحات القرون الوسطى، يبدو وكأنه يرقص مع الموت من دون أن يراه أحد، وهذه اللوحات التي تمثل كوميديا إنسانية هي مزيج يشبه رسومات الفنان الإسباني غويا، وقصص كافكا، التي يتحول فيها بعض الرجال إلى وحوش دون أن يشعرك بذلك.
فيلليني، الفنان المبدع الذي كان ولعاً على ما يبدو بالمشي ليلاً في شوارع روما، وكان دائماً يشعر بمحبة كبيرة إلى هذه المدينة العريقة الرائعة الجمال، تفرد بأسلوبه في السينما وفي الرسم، كان لا يخفي امتعاضه من وقائع حياته وحياة بلاده، حين يميل إلى تغليب العلامات الواضحة في لوحاته عبر الضربات السريعة العنيفة لخطوط تلك الأقلام الملونة، التي تحكى غضبها وعنفها، والتي تقول لنا إن هذا الرجل انهمك في حياة عابثة رائعة مكتنزة، لا تخلو من القساوة والفرح، ذلك أن الفن لديه يظل غير بعيد عن عملية انعكاس مباشرة كهذه، فثمة الفكرة، وبمعاونة الخبرة وتراكم التجربة، يمكنها أن تواصل فعلها في التحريض على مقارعة القبح والقسوة في عالمنا.
لقد خسرنا جميعاً فيلليني، ولكننا لحسن الحظ سنجلس مرات ومرات نشاهد أفلامه، ونتطلع إلى أعماله التشكيلية، لكي ننجز قراءات متجددة لفكر رجل فنان تحول إلى كائن أكبر من سيرته وفردانيته.



موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

TT

موزة مثبتة بشريط لاصق تباع بـ 6.2 مليون دولار في مزاد فني

رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)
رجل يشير إلى التكوين الفني «الكوميدي» في مزاد في ميامي بيتش الأميركية (رويترز)

بيعت لوحة تنتمي للفن التصوري تتكون من ثمرة موز مثبتة بشريط لاصق على الجدار، بنحو 6.2 مليون دولار في مزاد في نيويورك، يوم الأربعاء، حيث جاء العرض الأعلى من رجل أعمال بارز في مجال العملات الرقمية المشفرة.

تحول التكوين الذي يطلق عليه «الكوميدي»، من صناعة الفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان، إلى ظاهرة عندما ظهر لأول مرة في عام 2019 في معرض أرت بازل في ميامي بيتش، حيث حاول زوار المهرجان أن يفهموا ما إذا كانت الموزة الملصقة بجدار أبيض بشريط لاصق فضي هي مزحة أو تعليق مثير على المعايير المشكوك فيها بين جامعي الفنون. قبل أن ينتزع فنان آخر الموزة عن الجدار ويأكلها.

جذبت القطعة الانتباه بشكل كبير، وفقاً لموقع إذاعة «إن بي آر»، لدرجة أنه تم سحبها من العرض. لكن ثلاث نسخ منها بيعت بأسعار تتراوح بين 120 ألف و150 ألف دولار، وفقاً للمعرض الذي كان يتولى المبيعات في ذلك الوقت.

بعد خمس سنوات، دفع جاستن صن، مؤسس منصة العملات الرقمية «ترون»، الآن نحو 40 ضعف ذلك السعر في مزاد «سوذبي». أو بشكل أكثر دقة، اشترى سون شهادة تمنحه السلطة للصق موزة بشريط لاصق على الجدار وتسميتها «الكوميدي».

امرأة تنظر لموزة مثبتة للحائط بشريط لاصق للفنان الإيطالي موريزيو كاتيلان في دار مزادات سوذبي في نيويورك (أ.ف.ب)

جذب العمل انتباه رواد مزاد «سوذبي»، حيث كان الحضور في الغرفة المزدحمة يرفعون هواتفهم لالتقاط الصور بينما كان هناك موظفان يرتديان قفازات بيضاء يقفان على جانبي الموزة.

بدأت المزايدة من 800 ألف دولار وخلال دقائق قفزت إلى 2 مليون دولار، ثم 3 ملايين، ثم 4 ملايين، وأعلى، بينما كان مدير جلسة المزايدة أوليفر باركر يمزح قائلاً: «لا تدعوها تفلت من بين أيديكم».

وتابع: «لا تفوت هذه الفرصة. هذه كلمات لم أظن يوماً أنني سأقولها: خمسة ملايين دولار لموزة».

تم الإعلان عن السعر النهائي الذي وصل إلى 5.2 مليون دولار، بالإضافة إلى نحو مليون دولار هي رسوم دار المزاد، وقد دفعها المشتري.

قال صن، في بيان، إن العمل «يمثل ظاهرة ثقافية تربط عوالم الفن والميمز (الصور الساخرة) ومجتمع العملات المشفرة»، ولكنه أضاف أن النسخة الأحدث من «الكوميدي» لن تدوم طويلاً.

وأضح: «في الأيام القادمة، سآكل الموزة كجزء من هذه التجربة الفنية الفريدة، تقديراً لمكانتها في تاريخ الفن والثقافة الشعبية».

ووصفت دار مزادات سوذبي كاتيلان بأنه «واحد من أكثر المحرضين اللامعين في الفن المعاصر».

وأضافت دار المزادات في وصفها لتكوين «الكوميدي»: «لقد هز باستمرار الوضع الراهن في عالم الفن بطرق ذات معنى وساخرة وغالباً ما تكون جدلية».