ابن إياس... حِكم وحكايات مأثورة

TT

ابن إياس... حِكم وحكايات مأثورة

شاءت الظروف أن أعاود مرة أخرى الاطلاع على كتاب «بدائع الزهور في وقائع الدهور» للمؤرخ ابن إياس، وحقيقة الأمر أنني دائماً ما أواجه مشكلة عندما أقرأ هذا الكتاب، فالجزء الأول يستهويني بشدة إلى الحد الذي وجدت نفسي أقرأه للمرة السابعة أو الثامنة، وعندما قررت أن أقف مع نفسي لأعرف السبب وراء هذا التكرار فقد أدركت أنه مرتبط بخليط جامع يربط بين السياسة والثقافة وسلوكيات البشر ونكهة من الشعر تعبر عن كل هذا، بل حتى الكوميديا في بعض المناسبات والتي يصعب أن نجمعها بسهولة، وهذه المرة لم تختلف عن المرات السابقة، فقد وجدت نفسي أعيد قراءة الجزء الأول مرة أخرى ولكنني هنا قررت أن أشرك القارئ العزيز في عدد من الوقفات التي استوقفتني خلال قراءتي مرة أخرى للجزء الأول لما تحتويه من حِكم أو طرائف أو أبيات شعر، وهي على النحو التالي:
أولاً: قامت الدولة الإخشيدية على أيدي الخصي الحبشي كافور الإخشيدي في أعقاب الدولة الطولونية والتي لم تدم طويلاً، وكعادة الأمراء فقد التف حولهم الشعراء من كل اتجاه يسعون للمال مقابل القصائد التي ينشدونها، وكان المتنبي أحد هؤلاء فقصد مصر وكان معروفاً عنه سفره وسط أعداد كبيرة من الغلمان والخدم ولا يسعى لتغذيتهم بشكل مناسب من شدة بخله، فلما اختلف مع كافور أنشده قصيدته الشهيرة ((لا تشتر العبد إلا والعصا معه إن العبيد لأنجاس مناكيد))، وقد رد عليه ابن لنكك بقصيدة هجاء قال فيها:

ما أوقح المتنبي
فيما حكى وادعاه
أبيح مالاً عظيما
لما أباح قفاه
يا سائلي عن غناه
من ذاك كان غناه
ثانياً: وصل المعز لدين الله الفاطمي إلى مصر ساعياً لإقامة أول خلافة شيعية في أرض الكنانة، وكان شديد البأس يخشاه الجميع، وكان قائده جوهر الصقلي قد هزم قوات الإخشيديين وبنى القاهرة لتكون عاصمة للدولة الفاطمية الجديدة، فمهد لقدوم الخليفة الذي نزل الإسكندرية فكان في استقباله شيخ القضاة القاضي أبو الطاهر، وكان رجلا فطنا، ولكنه فوجئ بالمعز يسأله عما إذا كان قد حج بيت الله الحرام، فأمن القاضي على ذلك السؤال المفاجئ ولكنه فوجئ بالرجل يسأله عما إذا كان قد زار قبر الرسول عليه الصلاة والسلام، فأمن على ذلك، ففوجئ بالمعز يسأله إذا ما كان قد زار قبري الخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وهنا أدرك الرجل خطورة السؤال فالخليفة إسماعيلي من الرافضين لخلافتهما رضي الله عنهما، ولكن ذكاء الرجل سعفه، فقال للمعز: «شغلني عنهما زيارة رسول الله صلى الله عليه وسلم كما شغلني أمير المؤمنين عن السلام على ولي العهد له الأمير نزار»، ثم قام وقبل ولي العهد، وواقع الأمر أن سرعة البداهة خدمته حيث إن الجميع يعرف أنهما رضي الله عنهما مدفونان بجوار الرسول عليه الصلاة والسلام.
ثالثا: تظل خلافة الحاكم بأمر الله تمثل أياماً سوداء في تاريخ مصر، ليس فقط لسلوكه الشاذ بين أغلبية من حكموا المحروسة، ولكن لتطرفه الفكري والديني إلى الحد الذي دفع الشيخ شمس الدين الذهبي أن يقول عنه: «إنه ادعى الربوبية من دون الله سبحانه وتعالى»، حتى إنه بدأ يؤكد للناس أنه قادر على استشفاف الغيب وهو ما دفع البعض لإلصاق بيتين من الشعر يقول فيهما:

بالجور والظلم قد رضينا
وليس بالكفر والحماقة
إن كنت أوتيت علم غيب
بين لنا كاتب البطاقة
وهو ما اضطره للتوقف عن ادعاء علم الغيب بعد ذلك لأنه لم يعرف بطبيعة الحال كاتب البطاقة.
رابعاً: عقب وفاة نجم الدين أيوب آخر ملوك الدولة الأيوبية تولى ابنه توران شاه الحكم وكان سكيراً عربيداً غير قادر على تحمل المسؤولية خلال فترة كانت مصر مهددة بالاحتلال من قبل الحملات الصليبية، وهو ما أدى إلى اغتياله في نهاية المطاف ولكن ليس قبل أن تخرج هذه الأبيات لتعبر عن مدى ضيق المصريين به وهي تقول:

يا جامعا لخصال
قبيحة ليس تحصى
نقصت من كل فضل
فقد تكاملت نقصا
لو أن للجهل شخصاً
لكنت للجهل شخصاً
خامسا: لا خلاف على أن الجزء الأول من الكتاب مليء بالحكم والمواعظ على مدار صفحاته، وقد ورد كثير منها في شكل أبيات شعر قصيرة تضمن بعضها ما يلي:

لو شئت قابلت المسيء بفعله
ولكنني أبقيت للصلح موضعا

وفي أبيات أخرى:
إذا المرء أفشى سره بلسانه
ولام عليه غيره فهو أحمق
إذا ضاق صدر المرء من سر نفسه
فصدر الذي يستودع السر أضيق

وفي أبيات أخرى:
لا تحتقر كيد الصغير فربما
تموت الأفاعي من سموم العقارب
إذا كان رأس المال عمرك فاحترس
عليه من التضييع في غير واجب



أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر
TT

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر

أربعة أيام في محبة الشعر، شارك فيها نحو 40 شاعراً ومجموعة من النقاد والباحثين، في الدورة التاسعة لمهرجان الشعر العربي، الذي يقيمه بيت الشعر بالأقصر، تحت رعاية الشيح سلطان القاسمي، حاكم الشارقة، وبالتعاون بين وزارة الثقافة المصرية ودائرة الثقافة بالشارقة، وبحضور رئيسها الشاعر عبد الله العويس، ومحمد القصير مدير إدارة الشئون الثقافية بالدائرة.

نجح المؤتمر في أن يصنع فضاء شعرياً متنوعاً وحميمياً، على طاولته التقت أشكال وأصوات شعرية مختلفة، فكان لافتاً أن يتجاور في الأمسيات الشعرية الشعر العمودي التقليدي مع شعر التفعيلة وقصيدة النثر وشعر العامية، وأن يتبارى الجميع بصيغ جمالية عدة، وتنويع تدفقها وطرائق تشكلها على مستويي الشكل والمضمون؛ إعلاء من قيمة الشعر بوصفه فن الحياة الأول وحارس ذاكرتها وروحها.

لقد ارتفع الشعر فوق التضاد، وحفظ لكل شكلٍ ما يميزه ويخصه، فتآلف المتلقي مع الإيقاع الصاخب والنبرة الخطابية المباشرة التي سادت أغلب قصائد الشعر العمودي، وفي الوقت نفسه كان ثمة تآلف مع حالة التوتر والقلق الوجودي التي سادت أيضاً أغلب قصائد شعر التفعيلة والنثر، وهو قلق مفتوح على الذات الشعرية، والتي تبدو بمثابة مرآة تنعكس عليها مشاعرها وانفعالاتها بالأشياء، ورؤيتها للعالم والواقع المعيش.

وحرص المهرجان على تقديم مجموعة من الشاعرات والشعراء الشباب، وأعطاهم مساحة رحبة في الحضور والمشاركة بجوار الشعراء المخضرمين، وكشف معظمهم عن موهبة مبشّرة وهمٍّ حقيقي بالشعر. وهو الهدف الذي أشار إليه رئيس المهرجان ومدير بيت الشعر بالأقصر، الشاعر حسين القباحي، في حفل الافتتاح، مؤكداً أن اكتشاف هؤلاء الشعراء يمثل أملاً وحلماً جميلاً، يأتي في صدارة استراتيجية بيت الشعر، وأن تقديمهم في المهرجان بمثابة تتويج لهذا الاكتشاف.

واستعرض القباحي حصاد الدورات الثماني السابقة للمهرجان، ما حققته وما واجهها من عثرات، وتحدّث عن الموقع الإلكتروني الجديد للبيت، مشيراً إلى أن الموقع جرى تحديثه وتطويره بشكل عملي، وأصبح من السهولة مطالعة كثير من الفعاليات والأنشطة المستمرة على مدار العام، مؤكداً أن الموقع في طرحه الحديث يُسهّل على المستخدمين الحصول على المعلومة المراد البحث عنها، ولا سيما فيما يتعلق بالأمسيات والنصوص الشعرية. وناشد القباحي الشعراء المشاركين في المهرجان بضرورة إرسال نصوصهم لتحميلها على الموقع، مشدداً على أن حضورهم سيثري الموقع ويشكل عتبة مهمة للحوار البنّاء.

وتحت عنوان «تلاقي الأجناس الأدبية في القصيدة العربية المعاصرة»، جاءت الجلسة النقدية المصاحبة للمهرجان بمثابة مباراة شيقة في الدرس المنهجي للشعر والإطلالة عليه من زوايا ورؤى جمالية وفكرية متنوعة، بمشاركة أربعة من النقاد الأكاديميين هم: الدكتور حسين حمودة، والدكتورة كاميليا عبد الفتاح، والدكتور محمد سليم شوشة، والدكتورة نانسي إبراهيم، وأدارها الدكتور محمد النوبي. شهدت الجلسة تفاعلاً حياً من الحضور، برز في بعض التعليقات حول فكرة التلاقي نفسها، وشكل العلاقة التي تنتجها، وهل هي علاقة طارئة عابرة أم حوار ممتد، يلعب على جدلية (الاتصال / الانفصال) بمعناها الأدبي؛ اتصال السرد والمسرح والدراما وارتباطها بالشعر من جانب، كذلك الفن التشكيلي والسينما وإيقاع المشهد واللقطة، والموسيقي، وخاصة مع كثرة وسائط التعبير والمستجدّات المعاصرة التي طرأت على الكتابة الشعرية، ولا سيما في ظل التطور التكنولوجي الهائل، والذي أصبح يعزز قوة الذكاء الاصطناعي، ويهدد ذاتية الإبداع الأدبي والشعري من جانب آخر.

وأشارت الدكتورة نانسي إبراهيم إلى أن الدراما الشعرية تتعدى فكرة الحكاية التقليدية البسيطة، وأصبحت تتجه نحو الدراما المسرحية بكل عناصرها المستحدثة لتخاطب القارئ على مستويين بمزج جنسين أدبيين الشعر والمسرح، حيث تتخطى فكرة «المكان» بوصفه خلفية للأحداث، ليصبح جزءاً من الفعل الشعري، مضيفاً بُعداً وظيفياً ديناميكياً للنص الشعري.

وطرح الدكتور محمد شوشة، من خلال التفاعل مع نص للشاعر صلاح اللقاني، تصوراً حول الدوافع والمنابع الأولى لامتزاج الفنون الأدبية وتداخلها، محاولاً مقاربة سؤال مركزي عن تشكّل هذه الظاهرة ودوافعها ومحركاتها العميقة، مؤكداً أنها ترتبط بمراحل اللاوعي الأدبي، والعقل الباطن أكثر من كونها اختياراً أو قصداً لأسلوب فني، وحاول، من خلال الورقة التي أَعدَّها، مقاربة هذه الظاهرة في أبعادها النفسية وجذورها الذهنية، في إطار طرح المدرسة الإدراكية في النقد الأدبي، وتصوراتها عن جذور اللغة عند الإنسان وطريقة عمل الذهن، كما حاول الباحث أن يقدم استبصاراً أعمق بما يحدث في عملية الإبداع الشعري وما وراءها من إجراءات كامنة في الذهن البشري.

وركز الدكتور حسين حمودة، في مداخلته، على التمثيل بتجربة الشاعر الفلسطيني محمود درويش، ومن خلال هذا التمثيل، في قصائد درويش رأى أنها تعبّر عن ثلاثة أطوار مرّ بها شعره، مشيراً إلى أن ظاهرة «الأنواع الأدبية في الشعر» يمكن أن تتنوع على مستوى درجة حضورها، وعلى مستوى ملامحها الجمالية، عند شاعر واحد، عبر مراحل المسيرة التي قطعها، موضحاً: «مما يعني، ضِمناً، أن هذه الظاهرة قابلة لأن تتنوع وتتباين معالمها من شاعر لآخر، وربما من قصيدة لأخرى».

ورصدت الدكتورة كاميليا عبد الفتاح فكرة تلاقي الأجناس الأدبية تاريخياً، وأشارت، من خلال الاستعانة بسِجلّ تاريخ الأدب العربي، إلى أن حدوث ظاهرة التداخل بين الشعر وجنس القصة وقع منذ العصر الجاهلي، بما تشهد به المعلقات التي تميزت بثرائها الأسلوبي «في مجال السردية الشعرية». ولفتت إلى أن هذا التداخل طال القصيدة العربية المعاصرة في اتجاهيها الواقعي والحداثي، مبررة ذلك «بأن الشعراء وجدوا في البنية القصصية المساحة الكافية لاستيعاب خبراتهم الإنسانية». واستندت الدكتورة كاميليا، في مجال التطبيق، إلى إحدى قصائد الشاعر أمل دنقل، القائمة على تعدد الأصوات بين الذات الشعرية والجوقة، ما يشي بسردية الحكاية في بناء الحدث وتناميه شعرياً على مستويي المكان والزمان.

شهد المهرجان حفل توقيع ستة دواوين شعرية من إصدارات دائرة الثقافة في الشارقة للشعراء: أحمد عايد، ومصطفى جوهر، وشمس المولى، ومصطفى أبو هلال، وطارق محمود، ومحمد طايل، ولعب تنوع أمكنة انعقاد الندوات الشعرية دوراً مهماً في جذب الجمهور للشعر وإكسابه أرضاً جديدة، فعُقدت الندوات بكلية الفنون الجميلة في الأقصر، مصاحبة لافتتاح معرض تشكيلي حاشد بعنوان «خيوط الظل»، شارك فيه خمسون طالباً وطالبة. وكشف المعرض عن مواهب واعدة لكثيرين منهم، وكان لافتاً أيضاً اسم «الأصبوحة الشعرية» الذي أطلقه المهرجان على الندوات الشعرية التي تقام في الفترة الصباحية، ومنها ندوة بمزرعة ريفية شديدة البساطة والجمال، وجاءت أمسية حفل ختام المهرجان في أحضان معبد الأقصر وحضارة الأجداد، والتي امتزج فيها الشعر بالأغنيات الوطنية الراسخة، أداها بعذوبة وحماس كوكبة من المطربين والمطربات الشباب؛ تتويجاً لعرس شعري امتزجت فيه، على مدار أربعة أيام، محبة الشعر بمحبة الحياة.