محاولات بحثية لتجاوز الفقر المائي

تجارب عملية للاستفادة من «المياه الرمادية»

يمكن استخدام المياه الرمادية المصفاة  في ري النباتات المنزلية
يمكن استخدام المياه الرمادية المصفاة في ري النباتات المنزلية
TT

محاولات بحثية لتجاوز الفقر المائي

يمكن استخدام المياه الرمادية المصفاة  في ري النباتات المنزلية
يمكن استخدام المياه الرمادية المصفاة في ري النباتات المنزلية

«75% من سكان الوطن العربي يقعون تحت خط الفقر المائي المحدد بألف متر مكعب للفرد سنوياً»، بهذه الإحصائية الصادمة، حذّر الخبير في مجال المياه بلجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) محمد الحمدي، من تفاقم مشكلة الفقر المائي بفعل التغيرات المناخية.
وفي حين تتنامى مخاطر الفقر المائي، يهدر العرب كميات كبيرة من «المياه الرمادية» التي يمكن إعادة تدويرها، ويقصد بها المياه التي تأتي من أحواض الاستحمام والغسالات، ولكنها تضيع في أغلب الدول العربية لعدم وجود وسائل صرف خاص بها، فتختلط مع مياه الصرف الصحي السوداء، التي تحتوي على البراز البشري والبول.

المياه الرمادية

يركز كثير من الباحثين العرب على محاولات استغلال «المياه الرمادية» بهدف الاستفادة منها لسد الفجوة بين الاستهلاك والإنتاج في مجال المياه. وتمثل المياه الرمادية في مصر نحو 60% من التدفق اليومي بالمنازل، وفق دراسة نشرها موقع الرابطة الدولية لموارد المياه في شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
ودخل مشروع بحثي مصري في السباق نحول استغلال المياه الرمادية عبر نظام أكثر مرونة يصلح للتطبيق في أي مكان، لأنه عبارة عن وحدة يتم توصيلها بصرف الأحواض.
ويقول د. وائل عبد المعز، مدير مركز تطوير المشروعات وتكنولوجيا الأبحاث العلمية، الذي عمل على إنتاج هذه الوحدة بتمويل من أكاديمية البحث العلمي المصرية ومؤسسة خيرية، إن هذه الوحدة التي تشغل مساحة (100 سم × 70 سم)، تتكون من طلمبة لسحب المياه وخزان لتجميعها ومنظومة ترشيح فائق، وأخرى للترشيح: الرملي والمكروني، ووحدة للمعالجة بالأشعة فوق البنفسجية».
ويضف عبد المعز لـ«الشرق الأوسط» أن هذه الوحدة «يمكن تشغيلها بالطاقة الشمسية، وتبلغ تكلفة معالجة 18 متراً مكعباً من المياه باستخدامها نحو دولار واحد، في حين تتكلف المعالجة التقليدية لمياه الصرف للكمية نفسها ما بين 6 و8 دولارات».
وأجري تحليل لجودة المياه المنتجة عبر هذه الوحدة في مركز بحوث الصحراء، وجاءت النتيجة أن المياه تنتمي للفئة «أ» وفق الكود المصري لمياه الري، أي أنها تصلح لري كل المحاصيل.
واستعرضت الدكتورة إيمان سلامة الباحثة بمركز بحوث المياه بمصر، في دراستها نماذج عملية لاستغلال تلك المياه، ومن بينها تجربة نفّذها المركز الدولي لبحوث التنمية في دولة الأردن، حيث تم استخدام المياه الرمادية في ري حديقة المنزل لـ25 أسرة ذات دخل منخفض في قرية عين البيض، جنوب الأردن، مما أسهم في خفض فواتير المياه الخاصة بتلك الأسر بنحو 30%.
والمشروع الذي أشارت إليه الباحثة هو جزء من نشاط المركز الدولي لبحوث التنمية في أكثر من دول عربية بغية استغلال المياه الرمادية عبر نظامين هما الأكثر تداولاً إلى الآن، أحدهما يُعرف بـ«الأسطوانات الأربعة» والآخر بـ«الحفر المحصورة».
وتشرح الباحثة لـ«الشرق الأوسط» نظام الأسطوانات الأربع قائلة إن «وحدة التنقية تتكون من 4 براميل بلاستيكية متصل بعضها ببعض بواسطة أنابيب بلاستيكية قطرها 3 بوصات، وتبلغ سعة أول برميل 160 لتراً ويتلقى هذا البرميل المياه الرمادية القادمة من المنزل ويزيل الشحوم والزيوت والمواد الصلبة».
وتضيف: «بعد ذلك، يتم تسليم المياه المعالَجة نسبياً بواسطة الأنابيب إلى برميلين سعتهما 200 لتر، ويحتوي البرميلان على حصى وبكتيريا لاهوائية للقيام بدور تفكيك المواد العضوية بالمياه، وبعدها تنتقل المياه المعالجة إلى آخر برميل سعة 160 لتراً، والذي تم تزويده بمضخة صغيرة تدفع المياه المعالجة عبر شبكة ري بالتنقيط إلى حديقة المنزل».
أما نظام «الحفر المحصورة» ففيه تحل حفرة بمساحة 3 أمتار مربعة مكان البرميلين الأوسطين في نظام (الأسطوانات الأربع)، ويتم تبطين الحفرة بغطاء بلاستيكي وتُملأ بالحصى، ويوصَّل بها برميلان، حيث يعمل الأول كمصفاة للزيوت الطافية والجوامد المترسبة، ويعمل الآخر كحجرة تخزين تسحب منها المياه المعالجة بواسطة مضخة كهربائية.
نظم تصفية خليجية
وإذا كان النظامان السابقان هما الأنسب للمنازل التي توجد بها حدائق، فإن هناك أنظمة تم تصميمها لتلائم المساجد والمدارس، ومنها ذلك النظام الذي صممه باحثون من جامعة السلطان قابوس في عمان.
ووفق هذا النظام تمر مياه الوضوء على طبقة من الرمل لتصفية المواد الصلبة، ثم طبقة من الكربون النشط لإزالة الروائح، وبعدها تنتقل إلى مضخة كلور لإبادة الجراثيم، وتتجمع المياه المعالجة في خزان أرضي متصل بنظام لري حديقة المسجد.
ويستخدم هذا النظام –حالياً- في مسجد حمد بن حمود، بالقرب من العاصمة العُمانية مسقط، ويعالج ألف لتر من المياه يومياً، ويزيد هذا القدر في أيام الجمعة وخلال شهر رمضان.
ونقل الموقع الإلكتروني للجامعة عن المهندس سيف بن سالم العدوي، الذي شارك في الابتكار قوله إن تكلفة النظام لم تزد على 3900 دولار، وإن تكلفة الصيانة السنوية له لن تزيد على 200 دولار، وتشمل إزالة طبقة من حاجز الرمل بسُمك 5 سنتيمترات وتغيير الكربون النشط. وتبقى هذه النماذج رغم أهميتها مجرد محاولات لا يمكن أن تغيّر كثيراً على النطاق الوطني الأوسع، والذي يتطلب تعديلاً في شبكات الصرف الصحي وقوانين البناء، لكي يتم تخصيص صرف خاص بالمياه الرمادية للاستفادة من هذا الكنز المفقود على نطاق أوسع.
وأشار الباحث في هيئة الاستثمار الكويتية هاني سعود المير، إلى بعض الأرقام التي تؤكد أهمية هذه المياه، حيث ذهب في دراسة له إلى أن الكمية الناتجة عن الاستخدام اليومي في دولة الكويت لا تقل عن 200 مليون غالون يومياً تقريباً. وخرجت عن دولة الإمارات مؤخراً تجربة إيجابية نحو استغلال تلك المياه عبر تخصيص صرف خاص بها في مشروع المسكن الأخضر النموذجي الذي دشنته مؤسسة محمد بن راشد للإسكان. ويحتوي تصميم المساكن بالمشروع على خزان خرساني تحت الأرض في الحديقة الخلفية للمسكن لمعالجة المياه الرمادية كونها تشكل ما نسبته من 55 إلى 75% من إجمالي المياه الناتجة من المسكن، حسب المهندس عبد الله الشحي مدير إدارة المشاريع الهندسية بالمؤسسة.



«إعادة التحريج»... عوائد إيجابية للمجتمعات الأفريقية

دراسة تؤكد زيادة النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار بأفريقيا (رويترز)
دراسة تؤكد زيادة النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار بأفريقيا (رويترز)
TT

«إعادة التحريج»... عوائد إيجابية للمجتمعات الأفريقية

دراسة تؤكد زيادة النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار بأفريقيا (رويترز)
دراسة تؤكد زيادة النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار بأفريقيا (رويترز)

شهدت السنوات الأخيرة تصاعداً ملحوظاً في الاهتمام بمبادرات «إعادة التحريج» بصفتها استراتيجية فعّالة لمواجهة آثار تغيّر المناخ وتحسين سبل معيشة السكان المحليين.

«إعادة التحريج»

تعني «إعادة التحريج»، وفق الأمم المتحدة، استعادة الأراضي التي كانت مغطاة بالغابات من خلال زراعة أشجار جديدة لتعويض الغطاء الحرجي المفقود، بخلاف التشجير الذي يركّز على زراعة أشجار في مناطق لم تكن غابات أصلاً.

وتهدف هذه العملية إلى معالجة تحديات بيئية كبيرة، مثل: التغير المناخي وتآكل التربة، كما تعزّز التنوع البيولوجي، فضلاً عن فوائدها البيئية، مثل تحسين جودة الهواء. وتُسهم «إعادة التحريج» في خلق فرص عمل وتحسين الأمن الغذائي.

ومن أبرز هذه المبادرات «تحدي بون» (Bonn Challenge)، الذي أُطلق عام 2011 بوصفه حملة عالمية، تهدف إلى إعادة تأهيل 350 مليون هكتار من الأراضي المتدهورة والغابات بحلول عام 2030.

وتشمل هذه المبادرة أساليب متعددة؛ مثل: الزراعة المكثفة لتكوين غابات جديدة لأغراض بيئية أو إنتاجية، والزراعة المختلطة التي تدمج الأشجار مع المحاصيل، أو تربية الحيوانات لزيادة الإنتاجية، بالإضافة إلى التجدد الطبيعي حيث تترك الطبيعة لاستعادة الغابات ذاتياً دون تدخل بشري.

وفي دراسة أُجريت من قِبل فريق بحث دولي من الدنمارك وكندا والولايات المتحدة، تم تحليل تأثير «إعادة التحريج» في تحسين مستويات المعيشة لدى 18 دولة أفريقية، ونُشرت النتائج في عدد 20 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، من دورية «Communications Earth & Environment».

واعتمدت الدراسة على بيانات أكثر من 200 ألف أسرة بين عامي 2000 و2015. واستخدم الباحثون أساليب إحصائية دقيقة لتحديد العلاقة الإيجابية بين إعادة التحريج وتحسّن مستويات المعيشة.

واستندوا إلى مؤشرات متنوعة لقياس الفقر تشمل التعليم والصحة ومستويات المعيشة؛ حيث أظهرت النتائج أن زراعة الأشجار أسهمت بشكل مباشر في تحسين الدخل وتوفير فرص عمل، بالإضافة إلى آثار اقتصادية غير مباشرة. كما أظهرت أن مناطق زراعة الأشجار كان لها تأثير أكبر من مناطق استعادة الغابات الطبيعية في تخفيف حدة الفقر.

يقول الباحث الرئيس للدراسة في قسم علوم الأرض وإدارة الموارد الطبيعية بجامعة كوبنهاغن، الدكتور باوي دن برابر، إن الدراسة تطرح ثلاث آليات رئيسة قد تُسهم في تقليص الفقر، نتيجة لتوسع مزارع الأشجار أو استعادة الغابات.

وأضاف، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط»، أن الآليات تتمثّل في توفير الدخل من خلال بيع منتجات الغابات، مثل: المطاط أو زيت النخيل، ما يسمح للأسرة بزيادة مواردها المادية. كما أن زراعة الأشجار قد تؤدي إلى خلق فرص عمل للسكان المحليين، في حين يمكن أن تُسهم مناطق التجديد البيئي في تحسين الظروف البيئية، ما يفيد الأسر المحلية من خلال النباتات والحيوانات التي يمكن بيعها وتوفير دخل إضافي للسكان.

ووفقاً لنتائج الدراسة، هناك مؤشرات من بعض البلدان؛ مثل: أوغندا، وبنين، أظهرت زيادة في النشاط الاقتصادي في المناطق القريبة من مزارع الأشجار مقارنة بتلك التي لا تحتوي عليها.

تأثيرات الاستدامة

كما أشارت الدراسة إلى أن برامج التشجير في أفريقيا التي تهدف إلى استعادة أكثر من 120 مليون هكتار من الأراضي عبر مبادرات، مثل: «السور الأخضر العظيم»، و«الأجندة الأفريقية لاستعادة النظم البيئية»، تمثّل جهداً كبيراً لمكافحة الفقر وتدهور البيئة.

وتُسهم نتائج الدراسة، وفق برابر، في النقاش المستمر حول استدامة تأثيرات زراعة الأشجار في التنوع البيولوجي والمجتمعات المحلية، من خلال تسليط الضوء على الفوائد المحتملة لهذه المبادرات عندما يتمّ تنفيذها بشكل مدروس ومتوازن. كما أظهرت أن مبادرات زراعة الأشجار، مثل «تحدي بون»، يمكن أن تؤدي إلى نتائج إيجابية للمجتمعات المحلية، سواء من حيث تحسين مستوى المعيشة أو تعزيز التنوع البيولوجي.

وتوصي الدراسة بأهمية مشاركة المجتمعات المحلية في هذه المبادرات بصفتها شرطاً أساسياً لضمان استدامتها ونجاحها، فالتفاعل المباشر للمجتمعات مع المشروعات البيئية يزيد من تقبلها وفاعليتها، مما يعزّز فرص نجاحها على المدى الطويل.