«مناورات عكسية» لـ«داعش» بعد فقد الأرض

دعوة العدناني «رمضان شهر الجهاد» تلقى طريقاً

«داعش» تبنى سلسلة اعتداءات انتحارية على ثلاث كنائس في إندونيسيا (رويترز)
«داعش» تبنى سلسلة اعتداءات انتحارية على ثلاث كنائس في إندونيسيا (رويترز)
TT

«مناورات عكسية» لـ«داعش» بعد فقد الأرض

«داعش» تبنى سلسلة اعتداءات انتحارية على ثلاث كنائس في إندونيسيا (رويترز)
«داعش» تبنى سلسلة اعتداءات انتحارية على ثلاث كنائس في إندونيسيا (رويترز)

بهجمات انتحارية فردية وأسرية كانت تفاصيلها في فرنسا وإندونيسيا وأفغانستان وليبيا أخيراً، ظهر تنظيم «داعش» الإرهابي بقوة من جديد على المشهد، بعد أشهر من «الخفوت» عقب الهزائم التي مُني بها في الأراضي التي كانت تحت سيطرته في سوريا والعراق. الهجمات الداعشية تؤكد أن التنظيم يحاول لفت النظر إليه عقب فرار كثير من عناصره وفقدانه القدرة على السيطرة بعد سنوات من تصدر المشهد الدموي.

قال مختصون في الحركات الأصولية، وخبراء أمنيون، إن التنظيم نشط بقوة الأيام الماضية وقام بـ«مناورات عكسية» لتهديد دول العالم، بعد أن فقد أرض «الخلافة المزعومة». وأضاف الخبراء لـ«الشرق الأوسط»، إن استهداف «داعش» لعدد من الدول قبل شهر رمضان محاولة منه لإحياء دعوة عمرها 3 سنوات بأن رمضان «شهر الجهاد»... والتنظيم يعمل الآن من خلال ثلاثة مستويات: «الخلايا النائمة»، و«الذئاب المنفردة»، و«الأسرة الإرهابية الكاملة».
وشهدت الأشهر الماضية نجاحاً كبيراً في محاربة التطرف على المستوى العسكري، حيث نجح التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية في السيطرة على الأراضي التي كان يسيطر عليها «داعش»... وقد أسفر هذا عن تراجع كبير في قدرات التنظيم العسكرية والميدانية، ورغم أنه يحاول مواصلة نشاطه عبر شن هجمات خاطفة على بعض الدول، فإنه لم يحقق نتائج تذكر حتى الآن.
وتبنى «داعش» أخيراً اعتداءً إرهابيّاً بالسكين في ميدان «الأوبرا» بباريس أوقع قتيلاً و5 جرحى، وهو الحادث رقم 79 في مسلسل الهجمات الإرهابية التي ضربت العاصمة الفرنسية منذ وقوع حادث تولوز الذي عده خبراء نقطة الانطلاق لموجة الهجمات الإرهابية... ووفق معلومات من مصادر مقربة من التحقيقات، فإن «النيابة العامة في فرنسا كانت قد أدرجت منفذ الاعتداء الإرهابي من قبل على قائمة المتهمين بالتطرف».
وفي إندونيسيا، نفذت عائلة من 6 أفراد بينهم طفلتان سلسلة اعتداءات انتحارية استهدفت 3 كنائس في سورابايا ثاني أكبر المدن، ما أدى لمقتل 9 وإصابة 40 آخرين، وأعلن «داعش» مسؤوليته عن الاعتداءات... وتعد التفجيرات التي استهدفت الثلاث كنائس الأكثر دموية منذ سنوات.
وفي أفغانستان، تبنى تنظيم «داعش» قبل أيام الهجوم الذي استهدف مبنى حكوميّاً بمدينة جلال آباد شرق البلاد، وراح ضحيته 15 شخصاً، وخلّف عشرات الجرحى.
كما أعلن «داعش» مسؤوليته عن تفجيرين انتحاريين استهدفا مكاتب المفوضية العليا للانتخابات الليبية في طرابلس، وقتلا ما لا يقل عن 12 شخصاً عندما اقتحم مهاجمون المبنى وأضرموا فيه النار.
وقال أحمد بان، الخبير المتخصص في الحركات الأصولية بمصر، إن اعتداءات «داعش» الأخيرة على فرنسا وإندونيسيا وأفغانستان وليبيا عبارة عن «مناورات عكسية» نتيجة لتراجع سيطرة التنظيم في سوريا والعراق، فالتنظيم يسعى لمفهوم «الخلافة الافتراضية» على الإنترنت لجذب المزيد من الأتباع للقيام بأي عمليات في الدول دون الرجوع له، من خلال ثلاثة مستويات؛ الأول «الخلايا النائمة»، والثاني «الذئاب المنفردة»، والثالث هو مفهوم «الأسرة الإرهابية»، مثلما حدث في إندونيسيا، فضلاً عن تهديداته بتفجير كأس العالم واستهداف لاعبين بأسمائهم، وجميعها محاولة للظهور على المشهد من جديد بعد «خفوت» دام لأشهر.
ونشر «داعش» قبل 3 أيام صورة مرعبة تظهر «إرهابيين» وهم يقطعون رأسي نجمين كرويين ممددَيْن على أرضية ملعب كرة قدم، قبل أسابيع من انطلاق نهائيات كأس العالم في روسيا... وتعد هذه المرة الثانية التي يهدد «داعش» فيها بمهاجمة المونديال، بعد أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، حين نشر صورة لميسي، والنجم البرازيلي نيمار مقتولين من قبل «إرهابيين».
وقال مراقبون إنه قبل عامين اعتمد «داعش» من خلال منشوراته تطبيق فكرة «الذئاب المنفردة» التي يدعو من خلالها أتباعه في أي مكان بالعالم إلى تنفيذ عمليات إرهابية بأي شكل وبأي طريقة، دون الاعتماد على تخطيطات موسعة.
وأضاف المراقبون أن خطر «الذئاب المنفردة» بدأ يظهر الآن بعد سقوط التنظيم فعلياً، وذلك بسبب عوامل ثلاثة وهي: الأولى الخطورة الذاتية لفكرة «الذئاب المنفردة» نفسها. والثانية أنه مع سقوط التنظيم فإننا الآن أمام مشكلة «الفارين» من «داعش»، خصوصاً هؤلاء الذين خرجوا من بلدانهم دون أن تتمكن أجهزة الاستخبارات من التعرف عليهم وتحديد هوياتهم. والثالثة الوجود الإلكتروني الحقيقي للتنظيم، وقدرته على استقطاب أتباع جُدد.
وسبق أن حذر مسؤولون دوليون من أن تنظيم «داعش» سيعمل على إقامة «خلافة افتراضية» في الفضاء الإلكتروني يواصل من خلالها التواصل مع أنصاره وتجنيد الناشطين... ولم تتوقف وكالة «أعماق» ذراع التنظيم الإعلامية عن البث وتبني الاعتداءات والحض على تنفيذ هجمات، فيما لا يزال من الممكن الاطلاع بسهولة على نشرات التنظيم المتوافرة بلغات عدة، وهي تدعو مؤيدي «الخلافة»، أياً كانوا، وأكثر من أي وقت مضى إلى التحرك، وتمدهم بنصائح وشروح لتنفيذ اعتداءات قاتلة.
وقال الباحث عمرو عبد المنعم، الخبير في شؤون الحركات الأصولية، إن التنظيم يُجند عناصر جُدداً عبر الإنترنت، ويعرِّفهم طرق صناعة المتفجرات واستخدام الأسلحة وكيفية الهروب من مراقبة السلطات في الدول، وهؤلاء الأشخاص المجهولون هم «الذئاب المنفردة» أو «الخلايا النائمة»، ويتم التواصل مع هؤلاء المجندين الجُدد عبر حسابات وهمية وأسماء حركية وعبارات وألفاظ لا يعرفها إلا هم.
ويقول الخبراء إن الغرب واجه مأزقاً خطيراً تمثل في عودة مُقاتلي «داعش» إلى دولهم عقب خسائره في سوريا والعراق. وأكدوا أن «الخطورة الأكبر التي تُسبب لأوروبا فزعاً ليست في العمليات التي قد يقوم بها عناصر التنظيم، لكن في التمدد الداعشي والدعوة لمبادئ التنظيم واكتسابه أنصاراً ومتعاطفين جُدداً، حينها قد يكون من الصعب السيطرة على زحفهم وانتشارهم».
وعن هدف «داعش» من تنفيذ هذه الهجمات قبل أيام من حلول شهر رمضان، قال بان، إن «داعش» يُكثف من دعايته في شهر رمضان لأنه من وجهة نظره «هو شهر الجهاد»، وهذا ما يريد توصيله لعناصره المقاتلة للقيام بعمليات إرهابية خلال رمضان لنيل الثواب - على حد زعمهم - لافتاً إلى أن التنظيم يحاول أن يستغل أي ثغرة في أي دولة لينفذ من خلالها لتنفيذ أي من عملياته.
ودعا «داعش» في يونيو (حزيران) عام 2015 أن يكون رمضان هو شهر «الجهاد» و«التعرض للشهادة»، وذلك في تسجيل صوتي منسوب إلى المتحدث باسمه أبو محمد العدناني. وطالب العدناني في التسجيل الذي بثته مواقع وحسابات إلكترونية متطرفة حينها، عناصره بالحرص على «الغزو في هذا الشهر الفضيل والتعرض للشهادة فيه».
كما دعا «داعش» في تسجيل صوتي آخر في يونيو 2017 إلى شن هجمات في الولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وأستراليا والعراق وسوريا وإيران والفلبين وفرنسا خلال شهر رمضان، ونشر التسجيل الصوتي على قناة التنظيم بتطبيق «تليغرام» ونسب إلى أبو الحسن المهاجر.
وقال الأكاديمي المصري، الدكتور محمد أحمد الدش، إن «التطورات الأخيرة في المواجهة مع تنظيم (داعش) وهزائمه المتلاحقة كشفت عن ترك بعض جنوده مناطق النزاع المسلح في سوريا والعراق، والتوجه إلى دول غربية، تلك التي ينتمي إليها بعض هؤلاء الجنود، وأول ما يتبادر إلى الأذهان هو قيام العائدين إلى بلادهم بعمليات إرهابية داخل هذه الدول على غرار ما حدث قبل ذلك من عمليات تفجيرية منفردة»، مشيراً إلى أن الخطورة الأكبر التي تسبب للغرب فزعاً ورعباً ليست في تلك العمليات وحدها، لكن في التمدد الداعشي داخل بلدانهم نتيجة الدعوة إلى مبادئ التنظيم واكتسابه أعواناً وأنصاراً ومؤيدين ومتعاطفين، حينها قد يكون من العسير السيطرة على زحفهم وانتشارهم، فتصبح تلك البلاد في وقت من الأوقات منطقة نزاع مُسلح.
ويتوعد «داعش» الغربيين دائماً بهجمات «تنسيهم» - على حد زعمه - هجمات نيويورك في 11 سبتمبر (أيلول) عام 2001، كما توعَّد في تسجيلات الدول المُنضمة للتحالف الدولي ضده من بينهما أميركا وروسيا وبعض الدول العربية، بتنفيذ هجمات عنيفة، إذا لم يتوقفوا عن دعم أميركا في هجومها على التنظيم.
وقال مراقبون إن «داعش» بالفعل نفذ تهديداته في فرنسا، وهناك تهديدات كثيرة لم تتحقق بعد، قد تكون قيد التخطيط وقد تدخل فقط ضمن الحرب النفسية من التنظيم لتسهم في رسم الصورة التي يسعى من خلالها لإظهار قدرته على الوصول لجميع أنحاء العالم واكتساب صيت أو نفوذ عالمي.
وسبق أن بث العدناني تسجيلاً صوتيّاً عام 2014 وقال للمتعاطفين مع التنظيم: «إذا لم تنجح في إلقاء قنبلة، أو فشلت في فتح النار على مشرك (على حد قوله) فيمكنك طعنه بسكين أو ضربه بالحجر أو سحقه بسيارة»... وفي ديسمبر (كانون الأول) 2016 بث «داعش» إصداراً مرئياً، شرح خلاله طريقة استخدام السكاكين في القتل، والإصدار تناول طريقة استخدام السكاكين، والمواضع التي يجب تركيز الطعن فيها، وأفضل أنواع السكاكين ومواصفاتها.
من جانبه، قال اللواء عماد عبد المحسن، المستشار بأكاديمية ناصر العسكرية في مصر، إن الموقف على الأرض بالنسبة لتنظيم «داعش» الإرهابي صعب للغاية بسبب المقاومة العنيفة ضد التنظيم، لذا فهو يلجأ إلى استراتيجية التخويف بعمليات هنا وهناك عبر أشخاص غير معروفين، وهذه دلالة على الوضع الصعب وخسائره المتعددة، وانحسار نفوذه في المناطق التي يستولى عليها، وهروب الكثير من عناصره من أرض «الخلافة المزعومة».
وعن هجمات متوقعة أخرى لـ«داعش» في رمضان، قال أحمد بان، إن «التنظيم أصبح الآن أكثر حرية لأنه تخلص من أعباء القيادة في الأراضي التي كان يسيطر عليها في سوريا والعراق، وأصبح الآن شغله الشاغل تهديد العالم».


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.