إيطاليا تتنفس الصعداء مع قرب انتهاء حالة الجمود السياسي

رئيس الوزراء المكلف كمن «يسير على حبل مشدود» في التشكيلة الائتلافية

صحافيون يعرضون أمس صورة رئيس الوزراء جوزيبي كونتي في أول إطلالة له في مكتبه بعد تكليفه تشكيل حكومة ائتلافية (رويترز)
صحافيون يعرضون أمس صورة رئيس الوزراء جوزيبي كونتي في أول إطلالة له في مكتبه بعد تكليفه تشكيل حكومة ائتلافية (رويترز)
TT

إيطاليا تتنفس الصعداء مع قرب انتهاء حالة الجمود السياسي

صحافيون يعرضون أمس صورة رئيس الوزراء جوزيبي كونتي في أول إطلالة له في مكتبه بعد تكليفه تشكيل حكومة ائتلافية (رويترز)
صحافيون يعرضون أمس صورة رئيس الوزراء جوزيبي كونتي في أول إطلالة له في مكتبه بعد تكليفه تشكيل حكومة ائتلافية (رويترز)

جوزيبي كونتي: «السائر على حبل مشدود». هكذا وصفته إحدى الصحف الرئيسية، بعدما أسند إليه الرئيس الإيطالي سيرجيو ماتاريلا مهمة تشكيل حكومة ائتلافية تنقذ حالة الشلل السياسي التي تعصف في ثالث أكبر اقتصاد في منطقة اليورو منذ الانتخابات التشريعية التي نظمت في مارس (آذار) الماضي ولم تأت نتيجتها حاسمة. محاولة كونتي الحفاظ على توازن مقبول في تشكيلة حكومته لن تكون سهلة، إلا أن هذه الخطوة، التي قد تجنب البلاد العودة إلى صناديق الاقتراع، أعطت الإيطاليين متنفسا وعبروا عن ارتياحهم لها. وبدا أن معظم الإيطاليين يرغبون في منح الحكومة الجديدة فرصة لكن العناوين الرئيسية للصحف أجمعت في شكوكها حول هذا التحالف الدقيق. وقال محللون سياسيون لوكالة رويترز إن كونتي يواجه مهمة شاقة لا سيما أن حكومته تفتقر إلى الخبرة وقد تواجه الكثير من ضغوط السوق.
وقال كونتي، وهو أستاذ قانون من فلورنسا وغير معروف على الساحة السياسية، إنه سيحتاج إلى بضعة أيام لإعداد التشكيل الوزاري لحكومته التي ستدعمها حركة (5-نجوم) الشعبوية وحزب «رابطة الشمال» اليميني. وقال كونتي المنتمي لحركة خمس نجوم، إنه سيعرض تشكيلته الحكومية في غضون «الأيام القليلة القادمة». وذكرت وسائل إعلام إيطالية إن زعيم حزب الرابطة ماتيو سالفيني سيتولى حقيبة وزارة الداخلية، فيما ستسند إلى زعيم حركة خمس نجوم لويجي دي مايو (أيار) وزارة التنمية الاقتصادية. وتحتاج التشكيلة الحكومية لموافقة ماتاريلا قبل طرحها في البرلمان.
الرئيس الإيطالي ماتاريلا منح الأربعاء كونتي تفويضا لتولي أول حكومة في إيطاليا تتألف من أحزاب مناهضة للمؤسسات ومن اليمين المتطرف تعهدت بتغيير الاتحاد الأوروبي. وقال كونتي للصحافيين مساء الأربعاء بعد اجتماع استمر ساعتين تقريبا مع الرئيس ماتاريلا «كلفني رئيس الجمهورية مهمة تشكيل حكومة». موقف أحزاب التشكيلة الائتلافية المشكك بالمعاهدات الأوروبية والمعادي للهجرة أثار قلق مسؤولين أوروبيين كبار.
وقال المفوض الأوروبي للشؤون الخارجية بيار موسكوفيسي الخميس أن دعوة كونتي للتحاور «مؤشر جيد». وأوضح في حديث لإذاعة فرانس انفو «حقيقة أن يقول رئيس الحكومة أريد التحاور مع المؤسسات ينبغي أن تعتبر مؤشرا جيدا إلى حد ما».
وكانت حركة (5 - نجوم) وحزب الرابطة أبلغتا ماتاريلا يوم الاثنين (21 مايو/ أيار) برغبتهما في أن يصبح كونتي رئيسا للوزراء. ولم يقبل الرئيس بهذه التوصية على الفور وقرر أن يأخذ الوقت المناسب وسط مخاوف بشأن افتقار كونتي للخبرة وأقاويل بأنه ضخّم من مؤهلاته الأكاديمية في مسعى لتعزيز وضعه على الساحة الدولية.
وسعى كونتي البالغ 53 عاما إلى تبني لهجة تصالحية تجاه أوروبا في حديثه للصحافيين في قصر كويرينالي الرئاسي. وقال المحامي الذي يصف نفسه بـ«محامي الشعب» بأنني «أدرك ضرورة تأكيد موقع إيطاليا في أوروبا والعالم». وتابع: «أنوي تشكيل حكومة تكون إلى جانب المواطنين وتضمن مصالحهم. أستعد الآن للدفاع عن مصالح جميع الإيطاليين أمام كل الهيئات الأوروبية والدولية عبر التحاور مع المؤسسات الأوروبية وممثلي الدول الأخرى. أريد أن أكون المحامي الذي يدافع عن الشعب الإيطالي». وكانت تقارير قد ذكرت بأن ماتاريلا قلق إزاء خطط للحزبين اختيار باولو سافونا، المشكك بالاتحاد الأوروبي وزيرا للاقتصاد. ويقول دي مايو وسالفيني إن تلك الإجراءات ستحفز النمو الاقتصادي.
وكان مسؤولون في الاتحاد الأوروبي قد أعربوا عن القلق من أن تتسبب إيطاليا بأزمة جديدة في منطقة اليورو برفضها الالتزام بأهداف الدين والأنفاق العام التي حددتها بروكسل. وقال موسكوفيسي الأربعاء أنه على إيطاليا أن تقدم حلولا «ذات مصداقية» بشأن دينها العام، الثاني في منطقة اليورو بعد اليونان. ويتضمن برنامج الحكومة أيضا خططا لتسريع عمليات طرد مهاجرين غير شرعيين والتصدي للتهريب.
ووصل نحو 700 ألف شخص إلى إيطاليا منذ تفجر أزمة الهجرة في 2013. وقال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر للصحافيين في بروكسل «نحكم على الحكومات كحكومات، ليس على أساس ما تعلنه بل ما ستفعله. لكننا نبقى متيقظين لضمان حقوق الأفارقة الموجودين في إيطاليا.
فور إعلان الحزبين عن اختيار كونتي لمنصب رئاسة الحكومة الاثنين، واجه كونتي فضيحة بسبب نشر سيرة ذاتية أشار فيها إلى متابعته دراسات في بعض أعرق الجامعات في العالم. ويقول كونتي في سيرة ذاتية نشرت على موقع لنقابة محامين إنه «أجرى أبحاثا قانونية» في جامعة ييل ونيويورك ودوكين والسوربون وكامبريدج.
لكن جامعة نيويورك قالت لوكالة الصحافة الفرنسية إن سجلاتها «لا تشير إلى وجود جوزيبي كونتي في الجامعة كطالب أو في هيئة التدريس». وقالت الجامعة إنها حصلت على الإذن لتفتيش السجلات القانونية للمؤسسة بين 2008 و2014.
ومن جهتها قالت جامعة دوكين في بيتسبرغ لوكالة الصحافة الفرنسية إنها استقبلت كونتي في إطار برنامج تبادل مع جامعته في روما، فيا نازاريت، وأنه أجرى أبحاثا قانونية «لكنه لم يسجل كطالب». ولم يعلق كونتي علنا على الموضوع، لكنه تلقى دعما قويا من سالفيني ودي مايو بشكل خاص. وقال دي مايو «نتمنى التوفيق لجوزيبي كونتي» مضيفا: «لم يكن التغيير أقرب مما هو عليه الآن».



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟