وصفة أوروبية لأدب أطفال عربي

وصفة أوروبية لأدب أطفال عربي
TT

وصفة أوروبية لأدب أطفال عربي

وصفة أوروبية لأدب أطفال عربي

هل عندنا أدب أطفال، بالمعنى الدقيق للكلمة؟ لا يمكن الزعم بذلك. عندنا كتابات للأطفال، بغض النظر عن عدم امتلاك الكثير منها الشروط الفنية اللازمة والعلمية، وكان عندنا مجلات رسمية قومية لعبت دوراً رائداً منذ فترة مبكرة، وتراجعت للأسف أو رحلت مع الأنظمة التي رعتها، وما تزال هناك إصدارات تكافح، ولكن ذلك كله لا يشكل نوعا أدبيا قائما بذاته. والسبب الرئيسي لا يتعلق بندرة الكتاب العرب المتسلحين بالمعرفة التربوية والسيكولوجية والفنية واللغوية اللازمة لفهم عالم الطفل ومخاطبته بالوسائل التي تحبب الكتاب إليه، وتجذبه للقراءة، وهو ليس متعلقاً أيضاً بعدم وجود دور نشر متخصصة بهذا الأدب، فهذه الدور هي تجارية بالدرجة الأولى، ولا يمكن أن تنشأ وتستمر إذا لم يكن هناك سوق تصريف لمنتجاتها، إذا لم نتحدث عن لجوء هذه الدور غالباً للكتب المترجمة مما يرفع تكلفة الكتاب، المرتفع السعر أساساً.
التجربة الأوروبية المبكرة في أدب الطفل لم تكن تختلف كثيراً عن ذلك في بداياتها المبكرة. ومن المعروف، أن النصف الأول من القرن الثامن عشر شهد ولادة أول كتاب للأطفال على يد جون نيوبري، الذي سمي بـ«أبي أدب الطفل»، والذي استلهم في كتاباته الأفكار التعليمية للفيلسوف جون لوك، الداعية إلى استخدام التسلية في العملية التعليمية. بعد ذلك، صدرت كتب كثيرة، اعتمدت على الحكايات الشعبية، والخرافات، والألغاز، ولم يبق منها شيء إلا للتاريخ. لكن في النصف الثاني من ذلك القرن، عرف أدب الطفل اهتماما واسعا من قبل القراء ودور النشر، وصدرت إضافة إلى القصص، مجموعات شعرية عرفت انتشارا واسعا، ومنها على سبيل المثال قصيدة «جسر لندن يتهاوى»، التي استلهمها تي. إس. أليوت في قصيدته الشهيرة «الأرض اليباب». وبالطبع، لم يكن هذا الأدب معزولاً عن تطور الأنواع والأشكال الأدبية الأخرى وازدهارها في مجتمع بدأ يتغير اجتماعيا واقتصاديا، تغيراً أفقياً وليس عمودياً مع صعود الطبقة البرجوازية المتنورة، التي كانت تدرك بغريزتها الطبقية أن من شروط بقائها وتطورها أن تزدهر كل مناحي المجتمع حيث تعمل وتحصد الربح.
ولكن هذا النوع الأدبي الصعب، الذي يعتمد على عوامل فنية أخرى بجانب الكتابة، لم يتكرس إلا مع الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر، وتأثيرها البالغ على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، سواء في أوروبا أو خارجها، فأصبح أدب الطفل صناعة بحد ذاته، بمعنى وجود كتاب مختصين، يعيشون من كتاباتهم للأطفال، ورسامين ومصممين محترفين، ودور نشر مختصة منذ «مغامرات أليس في بلاد العجائب» للويس كارول بعد النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى «هاري بورتر» البريطانية ج. ك. رولينغ في نهاية القرن العشرين.
ولكن هذه الصناعة لم تكن لتنجح، رغم ارتفاع المستوى التعليمي والتربوي في البلدان الأوروبية، ونوعية كتب الأطفال الراقية المضمون والشكل، لولا الترويج الهائل الذي تقوم به دور النشر من خلال علاقاتها مع أجهزة الإعلام والمؤسسات التربوية والأدبية المهتمة، والمقابلات الشخصية مع الكتّاب، التي تنشر في الصحف قبل أن تطرح إصداراتهم في الأسواق، وعقد الندوات، ومنح الجوائز..إلخ، بالإضافة إلى عقد مؤتمرات سنوية يدعى إليها كتاب أدب الطفل من مختلف أنحاء العالم، كما يحصل في بريطانيا على سبيل المثال. بسبب كل هذه العوامل، أصبح كتاب أدب الأطفال في البلدان الأوروبية نجوماً لا يقلون نجومية عن أبرز الروائيين والشعراء. وكانت كاتبة الأطفال السويدية أستريد لندغرين مرشحة دائمة لجائزة نوبل للآداب.
لا نظرة دونية في الغرب لأدب الأطفال كما يحصل عندنا للأسف، حتى إن نقادنا نادراً ما «يتنازلون» ليكتبوا عن قصة أو رواية للأطفال.
علينا، كما في كل مجالات حياتنا الأخرى، أن نبحث عن الأسباب العميقة وراء ذلك، وهي المتعلقة أساساً بدرجة تطورنا الاجتماعي والثقافي والحضاري.



رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة
TT

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

رحلة مع الشعر عبر الأزمنة والأمكنة

ليس أكثر من قصائد الشعر بمختلف اللغات وفي شتى العصور، ولكن ما عسى الشعر أن يكون؟ يقول جون كاري (John Carey) أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة أوكسفورد في كتابه «الشعر: تاريخ وجيز» (A Little History of Poetry)، (مطبعة جامعة ييل، نيوهفن ولندن، 2020) إن «صلة الشعر باللغة كصلة الموسيقى بالضوضاء. فالشعر لغة مستخدمة على نحوٍ خاص، يجعلنا نتذكر كلماته ونثمنها». وكتاب كاري الذي نعرضه هنا موضوعه أشعار عاشت على الزمن منذ ملحمة جلجامش البابلية في الألفية الثالثة ق.م وملحمتي هوميروس «الإلياذة» و«الأوديسة» في القرن الثامن ق.م حتى شعراء عصرنا مثل الشاعر الآيرلندي شيمس هيني (تُوفي في 2013) والشاعرة الأفرو - أميركية مايا أنجيلو (توفيت في 2014) والشاعر الأسترالي لس مري (توفي في 2019).

ليس الشعر كما يظن كثيرون خيالاً منقطع الصلة بالواقع أو تهويماً في عالم أثيري عديم الجذور. إنه كما يوضح كاري مشتبك بالأسطورة والحرب والحب والعلم والدين والثورة والسياسة والأسفار. فالشعر ساحة لقاء بين الشرق والغرب، ومجال للبوح الاعترافي، ومراوحة بين قطبي الكلاسية والرومانسية، وأداة للنقد الاجتماعي، ومعالجة لقضايا الجنس والعرق والطبقة. إنه كلمات يختارها الشاعر من محيط اللغة الواسع ويرتبها في نسق معين يخاطب العقل والوجدان والحواس. فالشعراء كما تقول الشاعرة الأميركية ميريان مور يقدمون «حدائق خيالية بها ضفادع حقيقية».

وتعتبر الشاعرة اليونانية سافو (630 ق.م-570 ق.م) من جزيرة لسبوس أول شاعرة امرأة وصلت إلينا أشعارها في هيئة شذرات (القصيدة الوحيدة التي وصلت إلينا منها كاملة عنوانها «أنشودة إلى أفروديتي» ربة الحب). المحبوبة في قصائدها تفاحة حمراء ناضجة في شجرة عالية بعيدة المنال. أو هي زهرة جبلية يطأها الرعاة الأجلاف بأقدامهم فتترك أثراً أرجوانياً على الأرض. وفى قصيدتها المعروفة باسم «الشذرة 31» ترى صديقة لها تتحدث مع رجل وتضاحكه فتتولاها الغيرة ويثب قلبها في صدرها وتشعر كأن ناراً ترعى في بدنها فتعجز عن الكلام وتغيم عيناها وترتعد فرائصها (للدكتور عبد الغفار مكاوي كتاب صغير جميل عن «سافو شاعرة الحب والجمال عند اليونان»، دار المعارف، القاهرة).

والشعر مشتبك بالدين كما هو الحال في غزليات الشاعر الفارسي حافظ الشيرازي (من القرن الرابع عشر الميلادي) الذي لا نعرف الكثير عن حياته. نعرف فقط أنه حفظ القرآن الكريم في طفولته واشتغل خبازاً قبل أن يغدو من شعراء البلاط ودرس الصوفية على يدي أحد أقطابها. وهو يستخدم صور الحب والخمر كما يفعل المتصوفة رمزاً إلى الحب الإلهي والوجد الصوفي والنشوة الروحية المجاوزة للحواس. وقد غدت قصائده من كنوز اللغة الفارسية، ودخلت بعض أبياته الأمثال الشعبية والأقوال الحكمية، ولا يكاد بيت إيراني يخلو من ديوانه.

كذلك نجد أن الشعر يشتبك بكيمياء اللغة وقدرتها على الإيحاء ومجاوزة الواقع دون فقدان للصلة به. يتجلى هذا على أوضح الأنحاء في عمل الشاعر الرمزي الفرنسي أرتور رامبو من القرن التاسع عشر. فعن طريق تشويش الحواس والخلط بين معطياتها يغدو الشاعر رائياً يرى ما لا يراه غيره وسيتكشف آفاق المجهول. فعل رامبو هذا قبل أن يبلغ التاسعة عشرة من العمر، وذلك في قصائده «السفينة النشوى» (بترجمة ماهر البطوطي) و«فصل في الجحيم» (ترجمها الفنان التشكيلي رمسيس يونان) و«اللوحات الملونة» أو «الإشراقات» (ترجمها رفعت سلام). وبهذه القصائد غدا رامبو - ومعه لوتريامون صاحب ديوان «أغاني مالدورور» - أباً للسريالية في العقود الأولى من القرن العشرين.

والشعر مشتبك بالسياسة خاصة في عصرنا الذي شهد حربين عالميتين وحروباً محلية وصراعات آيديولوجية ما بين نازية وفاشية وشيوعية وليبرالية وديمقراطية وأصولية دينية، كما شهد المحرقة النازية وإلقاء أول قنبلتين ذريتين على هيروشيما وناجازاكي. وممن عاشوا أزمات هذا العصر الشاعر التشيكي ياروسلاف سيفرت (1986-1901) الحائز جائزة نوبل للأدب في 1984. إنه في ديوانه المسمى «إكليل من السوناتات» (1956) يخاطب مدينته براغ التي أحالتها الحرب العالمية الثانية إلى ركام معبراً عن حبه لها وولائه لوطنه. وشعر سيفرت يقوم على استخدام المجاز. وقد جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل أن شعره الذي يمتاز بالوضوح والموسيقية والصور الحسية يجسد تماهيه العميق مع بلده وشعبه.

ومن خلال الترجمة يتمكن الشعر من عبور المسافات وإقامة الجسور وإلغاء البعد الزمني، وذلك متى توافر له المترجم الموهوب القادر على نقل روح القصيدة ونصها. هذا ما فعله المترجم الإنجليزي آرثر ويلي (توفي في 1966) الذي نقل إلى الإنجليزية كثيراً من الآثار الشعرية والروائية والمسرحية الصينية واليابانية.

ومن أمثلة ترجماته هذه القصيدة القصيرة من تأليف الإمبراطور الصيني وو-تي (القرن الأول ق.م) وفيها يرثي حبيبته الراحلة:

لقد توقف حفيف تنورتها الحريرية.

وعلى الرصيف الرخامي ينمو التراب.

غرفتها الخالية باردة ساكنة.

وأوراق الشجر الساقطة قد تكوّمت عند الأبواب.

وإذ أتوق إلى تلك السيدة الحلوة

كيف يتسنى لي أن أحمل قلبي المتوجع على السكينة؟

ويختم جون كاري هذه السياحة في آفاق الشعر العالمي، قديماً وحديثاً، شرقاً وغرباً، بقوله إن الإنسان هو الكائن الوحيد القادر على طرح الأسئلة على الكون، بغية إدراك معنى الوجود، أسئلة لا تجد إجابة في الغالب، ولكن هذا التساؤل - من جانب الفيلسوف والعالم والشاعر - يمثل مجد الإنسان ومأساته معاً.