الإرهاب العائلي

البديل الأحدث للجماعات الأصولية... قراءة في الأسباب والدوافع

تأهب امني عقب هجوم إرهابي نفذته عائلة على كنيسة في مدينة سورابايا الإندونيسية الأسبوع الماضي (أ.ب)
تأهب امني عقب هجوم إرهابي نفذته عائلة على كنيسة في مدينة سورابايا الإندونيسية الأسبوع الماضي (أ.ب)
TT

الإرهاب العائلي

تأهب امني عقب هجوم إرهابي نفذته عائلة على كنيسة في مدينة سورابايا الإندونيسية الأسبوع الماضي (أ.ب)
تأهب امني عقب هجوم إرهابي نفذته عائلة على كنيسة في مدينة سورابايا الإندونيسية الأسبوع الماضي (أ.ب)

أحد أهم وأخطر الأسئلة التي طرحت على موائد النقاش البحثية خلال الأيام القليلة الماضية ذاك المتصل ومن جديد بالإرهاب، لكن في نسق مغاير لم نألفه من قبل بالمرة، إنه إرهاب العائلة مكتملة، ذلك أنه وإن كنا قد شهدنا من قبل إرهاب بعض الأخوة معاً، ومشاركتهما في عمليات إرهابية، كما الحال في بعض عمليات فرنسا على سبيل المثال، إلا أن ما جرى في إندونيسيا يستدعي رؤية تحليلية من علماء النفس، والاجتماع، الأمن والإرهاب معاً، فحين تقدم العائلة بأكملها الأب والأم والأبناء على ارتكاب جريمة إرهابية فهذا يعني أن الإرهاب لم يعد فقط قناعات فردية تأتي من وعي مزيف أو تأثيرات آيديولوجية تهب من خارج البيت، بل يضحى إيمان يدخل في قلب الأسرة ذات التركيبة الأبوية التسلطية.
يكاد ما جري في مدينة «سورابايا» الإندونيسية يشبه فيلماً من أفلام الحركة على شاشات هوليوود، فبحسب تصريحات المتحدث باسم شرطة «جاوة الشرقية» بارونغ مانغيرا للصحافيين، فقد قاد رب الأسرة سيارة من طراز أفانزا تحمل متفجرات واقتحم بوابة الكنيسة فيما زوجة الرجل وابنتيه هاجمن كنيسة ثانية، بينما هاجم طفلاه كنيسة ثالثة، وكانا يستقلان دراجة نارية ووضعا قنبلة بينهما.
ولعل ما استدعي الانتباه بشكل كبير هو أنه وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة على الحادث الأول كانت أسرة أخرى من المتشددين تهاجم مركزاً للشرطة في المدينة عينها، مما يعني أن الفكر الإرهابي قد استطاع اختراق الأسرة الإندونيسية ليصل إلى هذا المستوى غير المتصور ذهنياً، فكيف لأب أن يضحي بأبنائه وبناته وزوجه على هذا النحو؟
يبدو أن «داعش» قد اخترق إندونيسيا المهيأة بالفعل في جزء كبير منها لمثل هذا التطرف، سيما وأن وكالة المخابرات الإندونيسية، أكدت في تصريحات لاحقة لها أن جماعة أنصار الدولة التي تستوحي أفكارها من تنظيم داعش الإرهابي هي المسؤولة عن سلسلة الهجمات الأخيرة.
عدة أسئلة جذرية تواجه الباحث في شأن الإرهاب العائلي الإندونيسي ولماذا عاد الإرهاب يضرب هناك من جديد على هذا النحو الأسري سيما بعد أن كانت إندونيسيا قد حققت نجاحات كبيرة في التصدي للمتشددين منذ عام 2001؟
يمكننا بداية الإشارة إلى أمرين:
الأول يتمثل في وجود التربة الأصولية الحاضنة للأفكار المتطرفة في البلاد، والثاني التأثير الذي تركته أفكار «داعش» في شرق آسيا، وفي إندونيسيا تحديداً، وقد قدر لها كما تقول الشرطة الإندونيسية النجاح في اختراق مئات الأسر، كانت قد صدرت أبناءها إلى «داعش» في العراق وسوريا، ومؤخراً عاد منها نحو خمسمائة عنصر، بعضهم ظاهر للعيان، والبعض الآخر يقف وراء تلك العمليات الأخيرة.
هل وجد «داعش» طريقه إلى إندونيسيا انطلاقاً من أن عقليات كثيرة كانت مبطنة بجدار الأفكار المخترقة والمغلوطة منذ وقت مبكر جداً؟
من المقطوع به أن هناك ما يعرف بمدارس «بسانترن» التي تقوم على تدريس الأطفال منذ الصغر وتلقينهم مبادئ التطرف والتشدد، وهذه تاريخها يعود إلى مئات السنين في هذا البلد الآسيوي، الذي يضم أكبر عدد من المسلمين في العالم، وهناك صلة وثيقة بين تلك المدارس، والتي تشابه بدرجة أو أخرى طالبان في أفغانستان، وبين كثير من العمليات الإرهابية التي عرفتها البلاد في العقود الأخيرة، لا سيما تفجيرات بالي عام 2000 والتي قتلت أكثر من مائتي شخص.
والمثير أيضاً في شأن إندونيسيا أن الاختراق لا يقف عند مثل هذه النوعية من المدارس والتي عادة ما يذهب إليها أبناء الأسرة الواحدة في سن الطفولة، مما يعزز لاحقاً الطريق إلى الإرهاب العائلي، ذلك أنه هناك مصدر آخر يعمل كحاضنة أخرى للإرهاب، والأكثر غرابة أنه ينتشر في السياقات التعليمية العلمانية لا الدينية، فعلى سبيل المثال فإن مجموعة الدراسة القرآنية الراديكالية السرية، المعروفة بـ«بينجاجيان ترتوتوب» تنتشر بشكل كبير في الجامعات والمدارس ذات الطابع التعليمي المدني، لا الديني بخلاف مدارس «بسانترن».
أما إشكالية تلك الكيانات التعليمية والمؤسسات التربوية التي يطلق عليها العلمانية، فإن مرتاديها لا صلة جذرية لهم بدقائق العلوم التقليدية الإسلامية، الأمر الذي يجعلهم عرضة بسهولة للتفاعل مع الدعاية الأصولية التي تقدمها تلك المجموعات، نظراً لكونهم مسلمين في نهاية المطاف.
من أي رحم جاءت «العائلة الإرهابية» الإندونيسية... هل من رحم مدارس التشدد أم من الأطر المغايرة لها كالجامعات وبقية المعاهد التعليمية ذات الطبيعة المدنية؟
مؤكد أن كلاهما أسوأ من صاحبة، فمدارس الـ«بسانترن» تؤجج نيران الأصولية عبر الالتحام العائلي، ذلك أن خريجيها، عادة ما تجدهم أكثر التصاقاً بالبيئة التي يعيشون فيها، ويتواصلون بشكل إنساني وثيق للغاية، ومن هنا تبدو قناعاتهم واحدة ومتشابهة، ويكون ساعتها لديهم التوافق على أي فعل إرهابي يسير ولا يحتاج إلى مجهود كبير لإقناع الآخرين به.
بينما قاطنو المجال المدني - الحضري، تكون روابطهم أقل، ومدى انتظامهم في سلك اجتماعي يصون من الانحراف والتطرف قصير جداً، ولذلك يضحون لقمة سائغة ينجذبون بسهولة ويسر لأي خطاب آيديولوجي متمركز حول الهوية، ويسهل للدواعش وغيرهم تجنيدهم، ففي أجواء العزلة والشعور بالغربة التي يعيشون فيها يضحي الإحساس - ولو زائفاً - بالجماعة قوي وجاذب ومن هنا تبدأ دوائر الشر تدور.
إحدى علامات الاستفهام التي تشغل تفكير القائمين على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية في شرق آسيا والتي ينظر إليها اليوم بوصفها المعين البشري الأكبر لـ«داعش»: «هل ظاهرة الأسرة الإرهابية هي البديل المتاح في ظل تكثيف القوى الأمنية جهودها في دول المنطقة عامة وإندونيسيا خاصة، مما يمنع ظهور جماعات منظمة ذات تراتبية هيراركية، أو نظام عنقودي؟
قد يكون ذلك صحيحا، سيما وأن هناك عدة خبرات سابقة في هذا المجال، فأمام التضييق الأوروبي على أصحاب الفكر المتشدد، ولأن الإرهابيين لا يثقون في الغرباء، فقد شهدنا حالة الشقيقين بكري الانتحاريين البلجيكيين اللذين نفذا هجوماً زلزل قلب بروكسل وقتل ما لا يقل عن 34 شخصاً.
وكان هناك كذلك الشقيقان عبد السلام اللذان نفذا مجزرة باريس، وكذا الشقيقان مراح اللذان قاما بعملية «ميدي بيرنية» في فرنسا عام 2012.
في قراءة معمقة له عبر مجلة «الفورين أفيرز» الأميركية ذائعة الصيت في عدد فبراير (شباط) 2016، يقدم لنا البروفسور «جوزيف شينيوليو» عميد كلية «إس راجاراتنام» للدراسات الدولية بجامعة نانيانج التكنولوجية في سنغافورة رؤية قد تتيح لنا فهم ظاهرة العائلة الإرهابية في إندونيسيا، إذ يشير إلى أن «داعش» في جنوب شرقي آسيا وإن وجد مناصرين له، إلا أن القليل منهم مستعد لإنشاء فرع حقيقي للتنظيم، ورغم أن «داعش» قد قطع بالفعل شوطاً طويلاً في طريق اجتذاب المتطوعين عبر الإنترنت، فقد عمل المسؤولون الأمنيون الإقليميون، ومنظمات المجتمع المدني بشكل فعال لاستباق وصد الخطاب الداعشي، من هنا يمكن للمرء أن يتفهم لماذا تزداد فرص الإرهاب العائلي في الظهور».
إحدى الدراسات الأميركية التي أجريت على بضع مئات من المقاتلين الأجانب، أكدت مؤخراً على أنهم وإن كانوا ينتمون إلى نحو خمسة وعشرين دولة مختلفة، إلا أن ثلثهم تقريباً لديه صلات عائلية مع أحد الإرهابيين سواء كان هؤلاء يقاتلون الآن إلى جانب التنظيمات الإرهابية في سوريا والعراق، أو من خلال الزواج، أو من خلال مشاركة أحد أقاربهم في عمليات جهادية في مناطق صراعية خلال فترات سابقة.
أما البيانات فنأخذ منها على سبيل المثال ما أوردته تقارير صادرة عن الاستخبارات الألمانية والتي تشير إلى أن 69 من أصل 378 من المقاتلين الألمان الذين سافروا إلى سوريا للانضمام للجماعات الإرهابية، كانوا بصحبة أحد أقاربهم، وهو ما يعادل نسبة 18 في المائة.
هل وجدت «داعش» في ظاهرة الإرهاب العائلي طريقها المؤكد والمضمون للولوج إلى الداخل الإندونيسي وبقوة؟
الجواب يقودنا بداية للاعتراف الإيجابي بأن الشعب الإندونيسي في إسلامه متدين بالفطرة، مستمسك بروح الدين ومفاهيمه بشكل متسامح ومتصالح مع الآخر، الأمر الذي اعتبره الدواعش مفتاحاً يسمح لهم بالترويج لنموذجهم الصدامي الإحلالي، وتوظيف تعلق الناس بالدين وانشغالهم بقضايا أمتهم، بزعم أنه الأكثر قدرة على نصرة تلك القضايا من الأنظمة القائمة.
ولعله من نافلة القول إن دور الأسرة كبير وضروري في تعزيز الأمن الفكري كما يؤكد متخصصون في العلوم الاجتماعية والنفسية، فكلما زاد وعي الأبناء وحماية عقولهم من الانحرافات الفكرية، تقلصت المسافات المتاحة لشغل الأدمغة بأفكار الإرهاب الأسود، والعكس بالعكس بمعنى أنه حال أفسحت الأسرة مساحة للأفكار المنحرفة، كان من اليسير لاحقاً تجنيد لا بعض أفراد الأسرة، بل كلها، وهذا ما حدث في جرائم إرهاب إندونيسيا الأخيرة.
ويبقى السؤال الجوهري... لماذا تحرص «داعش» وكل الجماعات الأصولية على نشوء وارتقاء ظاهرة الإرهاب الأصولي العائلي؟
يمكن أن تذهب الآراء في الإجابة مذاهب شتى، في المقدمة منها أن فكرة تجنيد عائلات بكامل أفرادها تأتي لضمان ولاء العدد الأكبر من هذه العائلات، ثم تفاضل بينهم عند تنفيذ العمليات الإرهابية أو تتخذ قرارها بـ«تفخيخ العائلة» بأكملها كما فعلت في إندونيسيا.
يتبدى لنا من خلال تحليل ظاهرة الإرهاب العائلي أن القائمين على تجنيد عناصر جديدة على دراية كبيرة بعلم الاجتماع، ذلك أنهم يعمدون إلى فكرة التمسك بالهوية التي تنسجها تلك الجماعات لهم، سيما وأن الإرهاب يعتبر كأي نشاط أمراً اجتماعياً للغاية وإن كانت عواقبه كارثية استثنائية، فبمجرد اهتمام أشخاص بالأفكار والآيديولوجيات الإرهابية يمكن أن يقود ذلك أشخاصا آخرين إلى الاهتمام بهذه الأفكار عينها، وحال راجت تلك الأفكار في سياق العائلة، فإن ذلك يضمن للتنظيم الأم سهولة التجنيد هذا في بداية الأمر، وثانياً وهو الأهم والأكثر هولاً يوفر الإرهاب العائلي فسحة واسعة للفرار من المتابعات والقيود الأمنية، فحين يكون التنظيم لعملية إرهابية لا يتجاوز أفراد العائلة، فإن فرص رصده ومتابعته، وصولاً إلى إبطال العملية الإرهابية قليل جداً، وعلى العكس حال وجود عناصر مختلفة، يمكن لها أن تختلف لأسباب ونوازع إنسانية أو مادية، مما يفشل الأمر بالكلية. في دراسة حديثة أجرتها جامعة بنسلفانيا، جاءت النتيجة لتؤكد على أن 64 في المائة من العائلات أو الأصدقاء يدركون ما كان ينوي عليه أفرادهم من المزاولين لنشاط يتعلق بالإرهاب، وأكدوا أن الفاعل قال لهم «حرفياً» ما كان سيقدم عليه، وعليه توضح الدراسة أن العلاقات العائلية هي الطريقة المثلى لتجنيد هؤلاء وتطرفهم.
على أنه في متابعتنا لقضية الإرهاب العائلي تتبقي جزئية مهمة وفاعلة وهي قضية العائدين من «داعش»، والتي تختلف بصورة مؤكدة عن العائدين من أفغانستان، فالأولون أكثر أدلجة إرهابية إن صح التعبير، هؤلاء يراهن عليهم «داعش» التي لحقت بها الجراح العميقة في سوريا والعراق، كي يضحوا عناصر فاعلة في تجنيد أطراف وأطياف أخرى في مجتمعاتهم، تبدأ من عند الأسر التي يعيشون في أكنافها مما يجعلهم قنابل موقوتة جاهزة للانفجار في كل لحظة وأي لحظة.
يفيد تحليل ظاهرة «الإرهاب العائلي» في التوصل إلى نتيجة قطعية، مفادها أن داعش بدأ يفقد قدراته البشرية بشكل كبير نتيجة للضربات الكثيرة التي وجهت إلى قياداته وكوادره في الفترة الماضية، وعليه فإنه يعمد إلى هذا النمط الإرهابي الجديد، لضمان «التعويض الآمن»، حتى وإن كلف ذلك اللجوء إلى الأطفال الأبرياء لاستخدامهم في الإرهاب الأعمى.
ويبقى أبداً ودوماً سؤال النهاية... كيف للجميع مواجهة هذا الإرهاب الأحدث؟ الجواب بالمطلق هذه المرة يتصل بفكر الوقاية، فيما هامش القمع يتضاءل إلى حد الاختباء والاختفاء، الوقاية داخل الأسرة، والتي هي نواة المجتمع، وقاية فكرية عبر وسائل عدة تعليمية وإعلامية، دينية واجتماعية، لمواجهة طروحات الإرهاب خوفاً من الأسوأ الذي لم يأت بعد.



فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
TT

فرنسا في مواجهة الإرهاب بالساحل الأفريقي

تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)
تشييع جثامين الجنود الفرنسيين الذين لقوا حتفهم في تصادم بطائرتي هليكوبتر أثناء ملاحقة متشددين بمالي بداية الشهر (أ.ف.ب)

غداة إعلان باريس مصرع 13 جندياً من مواطنيها، في حادث تحطم مروحيتين عسكريتين في جمهورية مالي الأفريقية، كان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن في مؤتمر صحافي أن بلاده تدرس جميع الخيارات الاستراتيجية المتعلقة بوجودها العسكري في منطقة الساحل الأفريقي.
في تصريحاته، أكد ماكرون أنه أمر الجيش الفرنسي بتقييم عملياته ضد المسلحين في غرب أفريقيا، مشيراً إلى أن جميع الخيارات متاحة، وموضحاً أن بلاده «ترغب في مشاركة أكبر من قبل حلفائها في المنطقة من أجل مكافحة الإرهاب».

هل يمكن عد تصريحات ماكرون بداية لمرحلة فرنسية جديدة في مكافحة الإرهاب على أراضي القارة السمراء، لا سيما في منطقة دول الساحل التي تضم بنوع خاص «بوركينا فاسو، ومالي، وموريتانيا، والنيجر، وتشاد»؟
يتطلب منا الجواب بلورة رؤية واسعة للإشكالية الأفريقية في تقاطعاتها مع الإرهاب بشكل عام من جهة، ولجهة دول الساحل من ناحية ثانية.
بداية، يمكن القطع بأن كثيراً من التحديات الحياتية اليومية تطفو على السطح في تلك الدول، لا سيما في ظل التغيرات المناخية التي تجعل الحياة صعبة للغاية وسط الجفاف، الأمر الذي يولد هجرات غير نظامية من دولة إلى أخرى. وفي الوسط، تنشأ عصابات الجريمة المنظمة والعشوائية معاً، مما يقود في نهاية المشهد إلى حالة من الانفلات الأمني، وعدم مقدرة الحكومات على ضبط الأوضاع الأمنية، وربما لهذا السبب أنشأ رؤساء دول المنطقة ما يعرف بـ«المجموعة الخماسية»، التي تدعمها فرنسا وتخطط لها مجابهتها مع الإرهاب، والهدف من وراء هذا التجمع هو تنسيق أنشطتهم، وتولي زمام الأمور، وضمان أمنهم، من أجل الحد من تغلغل الإرهاب الأعمى في دروبهم.
على أنه وفي زمن ما يمكن أن نسميه «الإرهاب المعولم»، كانت ارتدادات ما جرى لتنظيم داعش الإرهابي في العراق وسوريا، من اندحارات وهزائم عسكرية العامين الماضيين، تسمع في القارة الأفريقية بشكل عام، وفي منطقة الساحل بنوع خاص، ولم يكن غريباً أو عجيباً أن تعلن جماعات إرهابية متعددة، مثل «بوكو حرام» وحركة الشباب وغيرهما، ولاءها لـ«داعش»، وزعيمها المغدور أبي بكر البغدادي.
وتبدو فرنسا، فعلاً وقولاً، عازمة على التصدي للإرهاب القائم والآتي في القارة السمراء، وقد يرجع البعض السبب إلى أن فرنسا تحاول أن تحافظ على مكاسبها التاريخية السياسية أو الاقتصادية في القارة التي تتكالب عليها اليوم الأقطاب الكبرى، من واشنطن إلى موسكو، مروراً ببكين، ولا تود باريس أن تخرج خالية الوفاض من قسمة الغرماء الأفريقية، أي أنه تموضع عسكري بهدف سياسي أو اقتصادي، وفي كل الأحوال لا يهم التوجه، إنما المهم حساب الحصاد، وما تخططه الجمهورية الفرنسية لمواجهة طاعون القرن الحادي والعشرين.
في حديثها المطول مع صحيفة «لوجورنال دو ديمانش» الفرنسية، كانت وزيرة الجيوش الفرنسية، فلورانس بارلي، تشير إلى أن فرنسا تقود جهوداً أوروبية لتشكيل قوة عسكرية لمحاربة تنظيمي «داعش» و«القاعدة» في منطقة الساحل الأفريقي، وأن هناك خطوات جديدة في الطريق تهدف إلى تعزيز المعركة ضد العناصر الإرهابية هناك، وإن طال زمن الصراع أو المواجهة.
ما الذي يجعل فرنسا تتحرك على هذا النحو الجاد الحازم في توجهها نحو الساحل الأفريقي؟
المؤكد أن تدهور الأوضاع في الساحل الأفريقي، وبنوع خاص المثلث الحدودي بين النيجر ومالي وبوركينا فاسو، قد أزعج الأوروبيين أيما إزعاج، لا سيما أن هذا التدهور يفتح الأبواب لهجرات غير شرعية لسواحل أوروبا، حكماً سوف يتسرب في الوسط منها عناصر إرهابية تنوي إلحاق الأذى بالقارة الأوروبية ومواطنيها.
يكاد المتابع للشأن الإرهابي في الساحل الأفريقي يقطع بأن فرنسا تقود عملية «برخان 2»، وقد بدأت «برخان 1» منذ اندلاع أولى شرارات الأزمة الأمنية في منطقة الساحل، فقد التزمت فرنسا التزاماً حاراً من أجل كبح جماح التهديد الإرهابي.
بدأت العملية في يناير (كانون الثاني) 2013، حين تدخلت فرنسا في شمال مالي، عبر عملية «سيرفال»، بغية منع الجماعات الإرهابية التابعة لتنظيم القاعدة من السيطرة على البلاد.
والثابت أنه منذ ذلك الحين، توحدت العمليات الفرنسية التي تضم زهاء 4500 جندي تحت اسم عملية «برخان». وتعمل القوات الفرنسية في هذا الإطار على نحو وثيق مع القوات المسلحة في منطقة الساحل.
ويمكن للمرء توقع «برخان 2»، من خلال تحليل وتفكيك تصريحات وزيرة الجيوش الفرنسية بارلي التي عدت أن دول الساحل الأفريقي تقع على أبواب أوروبا. وعليه، فإن المرحلة المقبلة من المواجهة لن تكون فرنسية فقط، بل الهدف منها إشراك بقية دول أوروبا في مالي بقيادة عملية «برخان 2»، في إطار وحدة مشتركة تدعى «تاكوبا»، بغية مواكبة القوات المسلحة المالية.
ولعل المتابع لتصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون العام الحالي يرى أن الرجل يكاد ينزع إلى ما مضي في طريقه جنرال فرنسا الأشهر شارل ديغول، ذاك الذي اهتم كثيراً بوحدة أوروبا والأوروبيين بأكثر من التحالف مع الأميركيين أو الآسيويين.
ماكرون الذي أطلق صيحة تكوين جيش أوروبي مستقل هو نفسه الذي تحدث مؤخراً عما أطلق عليه «الموت السريري» لحلف الناتو. وعليه، يبقى من الطبيعي أن تكون خطط فرنسا هادفة إلى جمع شمل الأوروبيين للدفاع عن القارة، وعدم انتظار القوة الأميركية الأفريقية (أفريكوم) للدفاع عن القارة الأوروبية.
هذه الرؤية تؤكدها تصريحات الوزيرة بارلي التي أشارت إلى أن فرنسا تبذل الجهود الكبيرة من أجل أن يكون هناك أوروبيون أكثر في الصفوف الأولى مع فرنسا ودول الساحل. وقد أعلنت الوزيرة الفرنسية بالفعل أن «التشيكيين والبلجيكيين والإستونيين قد استجابوا أولاً، كما أن آخرين حكماً سينضمون إلى عملية (تاكوبا) عندما تصادق برلمانات بلادهم على انتشارهم مع القوات الفرنسية».
لا تبدو مسألة قيادة فرنسا لتحالف أوروبي ضد الإرهاب مسألة مرحباً بها بالمطلق في الداخل الفرنسي، لا سيما أن الخسائر التي تكمن دونها عاماً بعد الآخر في منطقة الساحل قد فتحت باب النقاش واسعاً في الداخل الفرنسي، فقد قتل هناك العشرات من الجنود منذ عام 2013، مما جعل بعض الأصوات تتساءل عن نجاعة تلك العملية، وفرصها في الحد من خطورة التنظيمات الإرهابية، وقد وصل النقاش إلى وسائل الإعلام الفرنسية المختلفة.
غير أنه، على الجانب الآخر، ترتفع أصوات المسؤولين الفرنسيين، لا سيما من الجنرالات والعسكريين، الذين يقارنون بين الأكلاف والخسائر من باب المواجهة، وما يمكن أن يصيب فرنسا وبقية دول أوروبا حال صمت الأوروبيين وجلوسهم مستكينين لا يفعلون شيئاً. فساعتها، ستكون الأراضي الأوروبية من أدناها إلى أقصاها أراضي شاسعة متروكة من الدول، وستصبح ملاجئ لمجموعات إرهابية تابعة لـ«داعش» و«القاعدة».
ما حظوظ نجاحات مثل هذا التحالف الأوروبي الجديد؟
يمكن القول إن هناك فرصة جيدة لأن يفعل التحالف الفرنسي الأوروبي الجديد حضوره، في مواجهة الإرهاب المتغلغل في أفريقيا، لا سيما أن الهدف يخدم عموم الأوروبيين، فتوفير الأمن والاستقرار في الجانب الآخر من الأطلسي ينعكس حتماً برداً وسلاماً على بقية عموم أوروبا.
ولم يكن الإعلان الفرنسي الأخير هو نقطة البداية في عملية «برخان 2» أو «تاكوبا»، فقد سبق أن أعلن رئيس الجمهورية الفرنسية، والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، بمعية رئيس بوركينا فاسو السيد روش كابوريه، وهو الرئيس الحالي للمجموعة الخماسية لمنطقة الساحل، إبان مؤتمر قمة مجموعة الدول السبع في بياريتز، إنشاء الشراكة من أجل الأمن والاستقرار في منطقة الساحل.
وترمي هذه الشراكة مع بلدان المنطقة إلى تعزيز فعالية الجهود المبذولة في مجالي الدفاع والأمن الداخلي، وإلى تحسين سبل تنسيق دعم الإصلاحات الضرورية في هذين المجالين، وتمثل ضرورة المساءلة مقوماً من مقومات هذه الشراكة.
ولا يخلو المشهد الفرنسي من براغماتية مستنيرة، إن جاز التعبير، فالفرنسيون لن يقبلوا أن يستنزفوا طويلاً في دفاعهم عن الأمن الأوروبي، في حين تبقى بقية دول أوروبا في مقاعد المتفرجين ليس أكثر، وربما لمح الفرنسيون مؤخراً من طرف خفي إلى فكرة الانسحاب الكامل الشامل، إن لم تسارع بقية دول القارة الأوروبية في إظهار رغبة حقيقية في تفعيل شراكة استراتيجية تستنقذ دول الساحل الأفريقي من الوقوع لقمة سائغة في فم الجماعات الإرهابية، في منطقة باتت الأنسب ليتخذها الإرهابيون مخزناً استراتيجياً ومنطقة حشد لهم، وفي مقدمة تلك الجماعات مجموعات إرهابية تابعة لتنظيم القاعدة تجتمع تحت راية جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين»، وأخرى تابعة لتنظيم داعش على غرار التنظيم الإرهابي في الصحراء الكبرى، التي تقوم بتنفيذ كثير من الهجمات ضد القوات المسلحة في منطقة الساحل، والقوات الدولية التي تدعمها، والتي تضم بعثة الأمم المتحدة المتكاملة المتعددة الإبعاد لتحقيق الاستقرار في مالي، المكلفة بدعم تنفيذ اتفاق السلام المنبثق عن عملية الجزائر العاصمة، ودعم جهود إرساء الاستقرار التي تبذلها السلطات المالية في وسط البلاد.
ولعل كارثة ما يجري في منطقة الساحل الأفريقي، ودول المجموعة الخماسية بنوع خاص، غير موصولة فقط بالجماعات الراديكالية على اختلاف تسمياتها وانتماءاتها، فهناك مجموعات أخرى مهددة للأمن والسلام الأوروبيين، جماعات من قبيل تجار المخدرات والأسلحة، وكذا مهربو البشر، وتهريب المهاجرين غير الشرعيين، وهذا هاجس رهيب بدوره بالنسبة لعموم الأوروبيين.
على أن علامة استفهام تبقى قلقه محيرة بالنسبة لباريس وقصر الإليزيه اليوم، وهي تلك المرتبطة بالإرادة الأوروبية التي تعاني من حالة تفسخ وتباعد غير مسبوقة، تبدت في خلافات ألمانية فرنسية بنوع خاص تجاه فكرة استمرار الناتو، وطرح الجيش الأوروبي الموحد.
باختصار غير مخل: هل دعم الأوروبيين كافة لعملية «برخان 2» أمر مقطوع به أم أن هناك دولاً أوروبية أخرى سوف تبدي تحفظات على فكرة المساهمة في تلك العمليات، خوفاً من أن تستعلن فرنسا القوة الضاربة الأوروبية في القارة الأفريقية من جديد، مما يعني عودة سطوتها التي كانت لها قديماً في زمن الاحتلال العسكري لتلك الدول، الأمر الذي ربما ينتقص من نفوذ دول أخرى بعينها تصارع اليوم لتقود دفة أوروبا، في ظل حالة الانسحاب من الاتحاد التي تمثلها بريطانيا، والمخاوف من أن تلحقها دول أخرى؟
مهما يكن من أمر الجواب، فإن تصاعد العمليات الإرهابية في الفترة الأخيرة، أو حدوث عمليات جديدة ضد أهداف أوروبية في القارة الأفريقية، وجريان المقدرات بأي أعمال إرهابية على تراب الدول الأوروبية، ربما يؤكدان الحاجة الحتمية لتعزيز توجهات فرنسا، وشراكة بقية دول أوروبا، ويبدو واضحاً أيضاً أن بعضاً من دول أفريقيا استشرفت مخاوف جمة من تعاظم الإرهاب في منطقة الساحل الأفريقي، مثل تشاد التي وافقت على تعبئة مزيد من الجيوش في المثلث الحدودي الهش مع النيجر وبوركينا فاسو.