«داعش» واستغلال البريق الدعائي

«ولايات» إرهابية متناثرة يتم التحكم فيها عن بُعد

آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
TT

«داعش» واستغلال البريق الدعائي

آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)
آثار طلقات الرصاص على زجاج مقهى في باريس عقب هجوم الأسبوع الماضي (أ.ف.ب)

كل الحيثيات التي تحاك حول تنظيم داعش لا تعكس إلا مدى براغماتيته، واستغلاله لكل ما حوله من أجل إثبات استمرارية وجوده ومدى قوته، وإن أثبت ذلك مدى تناقض توجهاته الأخيرة مع الرسالة المحورية أو الأهداف الرئيسة التي بُني عليها التنظيم. إذ إن تكثيف الهجمات الإرهابية في دول أخرى بعيداً عن مناطق الصراع التي بات استهداف التنظيم فيها علنياً من قبل القوات الدولية، والانتقال إلى ما سمّاه التنظيم «ولايات» تتضمن ولاية خراسان التي تشمل أفغانستان والمناطق الحدودية في باكستان وآسيا الوسطى، إضافة إلى مناطق أخرى مثل ولاية سيناء وليبيا والقوقاز والجزائر، يعد هدفاً من أجل الابتعاد عن المركزية والمخطط الأوّلي لتأسيس ما يسمى دولة الخلافة، ومحاولة لتعويض الخسائر التي تكبّدها تنظيم داعش، لا سيما من خلال استهداف دول تحوي أقليات ممن يشتكون من تهميشهم واختلافهم عن بقية المجتمع، الأمر الذي يؤدي إلى سهولة تجييشهم وحثهم على الانضمام للتنظيم، والاستفادة من تسترهم خلف جنسياتهم الأوروبية كما يحدث في الآونة الأخيرة في كل من فرنسا وبريطانيا ودول أخرى. الأمر الذي يظل كما هو دون تغيير هو تحوُّل تنظيم داعش الجديد من خلافته الواقعية في سوريا والعراق إلى ما سماه التنظيم «ولايات» متناثرة يتم التحكم فيها عن بُعد.

استمرارية «المد الداعشي»
يظل الأمر الأدهى والأصعب في معالجته من قبل المجتمع الدولي هو محاولة إيقاف المد الداعشي ومدى تأثيرهم على الآخرين من خلال استحواذهم على العالم الإلكتروني واستمرارهم في بث رسائلهم ليس فقط المشفَّرة منها وإنما كذلك عبر برامج مثل «يوتيوب» و«تويتر» وكذلك موقع «غوغل»، حيث لا يزال أعضاء التنظيم يتواصلون مع الآخرين ويسهمون في استقطاب الذئاب المنفردة أو الجماعات الإرهابية في المناطق التي يسهل التغلغل فيها مما ينعدم فيها الأمن أو يضعف. ويبقى الهم الإرهابي الأعمق هو كيفية إثارة الرأي العام وتخويف الآخرين سواء عبر حملات تهديدية مثل ما يحدث مؤخراً من تهديد للاعبي كرة القدم مثل الصور الدموية التي انتشرت في المواقع الإلكترونية والتي يظهر فيها كل من اللاعبين ميسي ورونالدو، أو حتى تهديد تنظيم داعش لمقر كأس العالم القادم في روسيا واختصارهم لتهديداتهم بمقولتهم المتداولة في الآونة الأخيرة: «نحن في روسيا». وصورة الاستاد الرياضي «لوجنيكي» في روسيا مع عبارة: «ستمتلئ الأرض بدمائكم». مثل هذه الحملات الدعائية التي بات التنظيم الداعشي ينثرها في أرجاء العالم السيبراني ليست فحسب بدافع إثارة الرعب وإنما استغلال عامل الإثارة والتشويق من أجل دفع من تمده مثل هذه الرسائل الإعلامية المتطرفة للانضمام إليهم والقيام بهجمات إرهابية وإن كانت من خلال ذئاب منفردة أو عبر الحصول على دعم معنوي أو لوجيستي عن بُعد، وهو ما يرتكز عليه التنظيم في الآونة الأخيرة من استعراض مسرحي يبحث عن المتهافتين عليه.
وتستمر هذه الحملات في الازدهار على الرغم من تضافر الجهود الدولية من أجل التخلص منها، على سبيل المثال جهدت السلطات البريطانية في هجماتها على وكالة «الأعماق» الداعشية، إضافة إلى اكتشافها أماكن وجود بعض المتطرفين من خلال أنشطتهم الإلكترونية مثل ما حدث في كل من بلغاريا وفرنسا ورومانيا. وفي الوقت ذاته يظهر استغلال المناسبات الدينية مثل شهر رمضان الذي يشن فيه تنظيم داعش حملات مكثفة من أجل تحريض الآخرين على القيام بهجمات إرهابية، وإن كانت عشوائية دون تقنين مثل التحريض على طعن الآخرين في أماكن اكتظاظ الناس، بما انحرف عن المسار التقليدي للتنظيمات الإرهابية ليستحيل بشكلٍ أو بآخر إلى ما هو أشبه بعصابات إجرامية بفروع متناثرة.

استغلال توقيت رمضان
ويأتي توقيت الهجمات التي تكثفت مؤخراً متزامناً مع شهر رمضان، كعادة التنظيم في تركيزه على الهجمات في هذا التوقيت واستغلاله له من أجل تجييش مشاعر المتعاطفين معهم من التخريبيين ممن يؤمنون بزيادة مكاسبهم الدينية في حال قتلهم «الكفار» في مثل هذا التوقيت، وتأليب الآخرين وحثهم على اقتراف المزيد من الهجمات الإرهابية. من جهة أخرى يظهر سعي تنظيم داعش لإثبات وجودهم في القارة الأوروبية، من خلال الهجمات التي تم اقترافها عبر «الذئاب المنفردة» أو الخلايا الصغيرة، ويتجلى ذلك من خلال حادثة الطعن في باريس مؤخراً، والتي ارتكبها الفرنسي من أصل شيشاني حمزة عظيموف فأسفر عن قتل شخص وإصابة أربعة آخرين، الأمر الذي يجسد زيادة نشاط التنظيم في القارة الأوروبية. وقد كشفت السلطات الفرنسية عن 416 متبرعاً شاركوا في تمويل تنظيم داعش من خلال مبالغ زهيدة تظهر أشبه بتبرعات خيرية وإن كانت بغرض تمويل التنظيم الإرهابي. الأمر الذي يثبت استمرارية وجود أرض خصبة متقبلة للتطرف في أماكن عديدة من العالم.

توجه عشوائي نحو قارّة آسيا
لم يكن من قبل هناك أي دلائل تشير إلى توجه تنظيم داعش إلى توسعة نطاق دائرته إلى منطقة جنوب شرقي آسيا. إلا أنه مؤخراً يمعن في استغلال المناطق التي تتسع لتلقِّي التنظير وأدلجة تنظيم داعش مثل ما حدث مؤخراً في إندونيسيا التي يصعب التحكم بالأعداد المفاجئة من المتطرفين فيها مؤخراً، بالأخص وأن ذلك لم يقتصر على شبان أو رجال شرسين، وإنما تضمن أسراً انتحارية بأكملها. فما حدث في سورابايا من هجمات انتحارية استهدفت عدة كنائس بالإضافة إلى مركز شرطة شنتها عدة أسر تضمنت أطفالاً تتراوح أعمارهم ما بين التاسعة والثامنة عشرة. إحدى هذه الأسر مكونة من 5 أشخاص نفّذت هجوماً انتحارياً في سورابايا على مركز للشرطة، وقد قام رب الأسرة ديتا أوبريارتو وهو زعيم في إندونيسيا لجماعة أنصار الدولة، بإنزال زوجته وابنتيه في عمر 9 و12 عاماً، قرب كنيسة لتفجرن أنفسهن بأحزمة ناسفة. الأمر الذي يعكس استغلال التنظيم أي شخص حي يمكنهم الاستفادة منه، بما في ذلك أطفال ونساء كتوجُّه جديد، قد لا يدل إلا على مبلغ إفلاس التنظيم وبحثه عن أي شخص يمكنه القيام بالهجوم الانتحاري أو أعمال العنف. مثل ما حدث من استغلال لأسر إندونيسية انضمت إلى تنظيم داعش وتجييش أطفال بأعمار مختلفة فيما يثير التعجب والدهشة في مدى أدلجتهم إلى الأمر الذي يعطي عائلة كاملة القناعة بالانتحار وقتل الآخرين.
مثل هذا الالتفات إلى منطقة جنوب شرقي آسيا لا يبدو من استراتيجيات تنظيم داعش الأولوية، وقد يعود ذلك إلى صعوبة التغلغل إلى دول مثل سنغافورة وماليزيا. تظل إندونيسيا من الدول الأكثر سهولة في التأثر، وحسب السلطات الإندونيسية فإن ما يزيد على 930 إندونيسياً قد توجه إلى جبهات القتال مع تنظيم داعش في كل من العراق وسوريا. ويصعب نسيان ما تعرضت له بالي في عام 2002 من تفجيرات أودت بحياة ما وصل إلى مئتي سائح. التفجيرات الأخيرة التي استهدفت كنائس في إندونيسيا تبعتها حملة دعائية قوية من قبل تنظيم داعش محملة بصور الهجمات من أجل حث المتطرفين فيها على القيام بالمزيد من الهجمات وذلك عبر منشورات بلغة البهاسا الإندونيسية «اقتلوا عابدي الأصنام أينما كانوا». الأمر الذي يؤكد انغماس تنظيم داعش في براغماتية مستفحلة، وأخذه منحًى متطرفاً في تحقيق أسرع وأعظم النتائج أينما كان الموقع الجغرافي، بغض النظر عن إن كانت منطقة جنوب شرقي آسيا ليست ضمن التخطيط الأولي لتنظيم داعش.

وجود «داعشي» في خراسان
من جهة أخرى يظهر انتقال تنظيم داعش إلى منطقة خراسان والتي تشمل كلاً من أفغانستان وباكستان وآسيا الوسطى منذ عام 2014، والتي يسعى فيها لمد نفوذه وإقامة خلافة في منطقة أخرى قد يسهل إرساء قواعده فيها نتيجة وعورة تضاريسها وضعف الأمن فيها، وذلك بعد أن استحال على التنظيم أن يقيم «الخلافة الداعشية» في كل من سوريا والعراق، وإن كان ذلك في معقل تنظيم القاعدة، بالأخص بعد انسحاب قوات حلف الشمال الأطلسي من أفغانستان. وكشف الرئيس الأفغاني أشرف غني أن عدد مسلحي تنظيم داعش في أفغانستان يصل إلى ألفي مسلح. فيما سعى التنظيم لإثبات وجوده ومدى قوته من خلال استهداف الأقليات مثل الشيعة إضافة إلى القوات الأفغانية سعياً في إبادتهم. إضافة إلى الاحتذاء باستراتيجية «القاعدة» في أفغانستان من حيث التحريض على مهاجمة القوات الأميركية الدخيلة على المنطقة والانتقام منهم نتيجة تهجمهم على الأفغان. ولا يظهر تخوف التنظيم من استحواذ حكومة «طالبان» على السلطة في أفغانستان، وإن ظهر العديد من المواجهات العنيفة بين الجهتين تكررت مراراً. وقد شن تنظيم داعش حملة إعلامية من أجل استقطاب مؤيدين والمزيد من المنضمين إليهم في منطقة خراسان. مثل التسجيل المرئي في مارس (آذار) 2018 بعنوان: «أرض الله الواسعة»، والذي وجه التنظيم من خلاله رسالة إلى مؤيديه للانضمام إليه في معاقله في أفغانستان سواء في شمالها في ولاية جوزجان وفي شرقها في ولاية ننغرهار، وقد ظهر في التسجيل المرئي مقاتلون داعشيون في جبال تورا بورا، أيْ معقل أسامة بن لادن وأتباعه، فيما شدد التسجيل على استنكار الوعيد الذي قام به الرئيس الأميركي تجاه التنظيم المتطرف. وعلى الرغم من مدى سيطرة حركة طالبان في منطقة أفغانستان فإن التسجيل المرئي أشار إلى مدى استبداد «طالبان» في فرضها الضرائب على الأفغان وتجارة الهيروين هناك، وذلك في سعي لتأليب المواطنين الأفغان على حكومة طالبان. كل ذلك لا يدل إلا على استمرارية وجود التنظيم في الساحة الدولية على الرغم من تضافر الجهود الدولية للتخلص منه عسكرياً واستخباراتياً. ويظل مأزق التغلغل الإلكتروني وتأليب المستضعفين اجتماعياً ونفسياً من أجل تحويلهم إلى أشخاص تدميريين لا يكترثون إن أدى حقدهم وغضبهم إلى انتحارهم وحصد أرواح الآخرين معهم.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».