لوركا يعود إلى غرناطة

لوركا
لوركا
TT

لوركا يعود إلى غرناطة

لوركا
لوركا

بعد أكثر من ثمانين عاماً على اغتياله في بداية الحرب الأهلية الإسبانية على يد رجال الحرس المدني بالقرب من غرناطة، «يعود» فيديريكو غارثيّا لوركا إلى المدينة التي شهد فيها النور، وكانت غربته وموطن مشاعره في آن معاً. يعود فيدريكو إلى الأرض التي كان منها ولم تكن منه، هو القائل «الميّت في إسبانيا حي كميّت أكثر من أي مكان آخر في العالم». يعود «الأندلسي الساحر» عبر دفاتره وكتبه ورسومه وأشيائه الصغيرة التي كان يحتفظ بها في غرفته بالمدينة الجامعية في مدريد، والتي وصلت إلى غرناطة لتستقرّ نهائياً في مركز لوركا الذي افتتح منذ ثلاث سنوات في المدينة التي ما زالت الجرح العربي الأعمق عبر التاريخ. «غرفة خاصة» هو عنوان المعرض الذي يضمّ مقتنيات الشاعر التي كانت محفوظة في «بيت الطلاب» الملحق بجامعة العاصمة، حيث أمضى لوركا أجمل سنوات حياته وأخصبها من 1919 إلى 1936، وأقام صداقات وطيدة مع رائد الفن السوريالي سلفادور دالي، والسينمائي لويس بونويل، وشعراء مثل آلبرتي وثرنودا وساليناس وخوان رامون خيمينيث ونيرودا.
كان فيديريكو سعيداً بالإقامة في «بيت الطلاب»، ويشعر أنه وجد المكان الذي يرتاح إليه بعيداً عن غرناطة التي كانت ضيّقة عليه، التي كان يقول إن فيها «أسوأ طبقة بورجوازية». وقد فتحت له مدريد أبواب العالم الخارجي عندما رافق السياسي والمفكّر فرناندو دي لوس ريّوس إلى نيويورك عام 1926 حيث أمضى فترة في جامعة كولومبيا وضع خلالها ديوانه الشهير «شاعر في نيويورك» الذي نشر بعد أربع سنوات. ومن هناك انتقل إلى كوبا لفترة قصيرة، ثم عاد إلى إسبانيا في عام 1931 متزامناً مع قيام الجمهورية الثانية التي كانت من أخصب الحقب الثقافية والفنية في التاريخ الإسباني الحديث.
لم تكن سهلة علاقة لوركا بالأمكنة، يتبرّم منها بسرعة ويشعر بالقلق كلما ضاق حوله المدى. ورغم ارتياحه إلى الإقامة في مدريد حيث كان يتواصل مع نخبة الشعراء والأدباء والفنانين في عزّ إبداعه وشهرته، كان حنينه إلى غرناطته الحمراء والغجرية يعتصر فؤاده باستمرار، ويشدّ أوتار شوقه إلى مراتع الطفولة وروائح البيت الأول. وقد كتب مرة إلى صديقه الشاعر لويس روساليس يقول: «أعتقد أن كوني من غرناطة هو الذي يجعلني أتعاطف مع المضطهدين... مع الغجري، والأسوَد... والمسلم الذي يسكن فينا جميعاً. في غرناطة عطر اللغز... عطر ما يكون رغم أنه ليس ممكناً... عطر ما لا وجود له، لكنه يترك فيك أعمق الأثر، لأنه ليس موجوداً».
عندما اندلعت الحرب الأهلية الإسبانية مطلع صيف العام 1936 كان فيديريكو في مدريد، وكان خائفاً كما أسرّ لأصدقائه وشقيقته مراراً. كان حائراً ومتردداً ماذا يفعل، ويلمس «الموت يتقدّم من كل الجهات»، إلى أن حزم أمره وقرر: «سأذهب إلى غرناطة، وليكن ما شاء الله». وفي غرناطة لم يتبدد خوفه، فلجأ إلى بيت صديقه الشاعر روساليس يختبئ عنده. لكن في صبيحة 16 أغسطس (آب) داهم رجال الحرس المدني الموالي للجنرال فرنكو المنزل، واقتادوا فيديريكو، وبعد يومين أعدموه رمياً بالرصاص بالقرب من شجرة زيتون عتيقة على قارعة طريق في إحدى ضواحي غرناطة.
كثيرة هي الأسرار التي ما زالت تحيط بملابسات مقتل لوركا والأسباب التي أدت إلى إعدامه. آخر المعلومات التي تكشّفت للباحثين من مصادر الأشخاص الذين شاركوا في الاعتقال والإعدام، وشهدوا تلك الأحداث وما زالوا على قيد الحياة، تفيد أن الهدف من القبض على الشاعر لم يكن قتله، بل الوصول إلى فرنانديس دي لوس ريّوس السياسي البارز الذي كان مناهضاً لفرنكو وصديقاً لفيديريكو الذي كان يعتبره كثيرون ابنه المدلّل.
رغم وجوده القصير لامس لوركا عند الشعراء والقرّاء وتراً لم يسبق لشاعر قبله أن لامسه. بعنف الوردة القانية والمتلاشية من شدّة الفوح لامسه، وبحرصه دائماً على السير حافياً فوق شفرة المقصلة، مأساوياً وباسماً، يائساً ومغرّداً، وخائفاً حتى النهاية. «... سوف لن نصل، لكننا ذاهبون» كان يقول، وراح يدفع بالقرّاء والشعراء إلى إعادة النظر في العلاقة بين الشعر والوجود، وبقي حتى اللحظات الأخيرة يغسل المأساة بالموسيقى، ويعجن الموت بالشعر. والرمزيّة التي كانت الخيط الحريري الأساس الرابط بين أعماله وحياته، أصبحت اليوم جزءاً من رمزية الشعر العالمية التي ينهل الكل من مُعينها.
منذ رحيل فيديريكو فجر ذلك اليوم الصيفي الحار كرّ خيطٌ رفيع من الدم حول غرناطة، يزنرّها بالسحر والجمال، ويخصّب مواسم البحث في إرثه المُبهر، ويدلّنا على الحياة التي وسعت كل الحيوات، وكان انطفاؤها هزيمة للإنسانية وجريمة تعود لزيارتنا كلما لمع ضوء القمر فوق حقول الزيتون، وبكت قيثارة بعيدة على ضفاف الليل.



قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية
TT

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

قانون الآثار الإسرائيلي الجديد «يهوّد» الضفة الغربية

كانت الأراضي الفلسطينية طوال آلاف السنين مقراً وممراً للعديد من الحضارات العريقة التي تركت وراءها آلاف المواقع الأثريّة ذات الأهميّة الفائقة، ليس في تاريخ المنطقة فحسب، بل ومُجمل التجربة البشرية. وقد أصبحت المواقع بمحض القوة بعد قيام الدولة العبرية عام 1948 خاضعة لسلطة دائرة الآثار الإسرائيلية، التي لا تدخر وسعاً في السعي لتلفيق تاريخ عبراني لهذه البلاد، وإخفاء ما من شأنه أن يتعارض مع سرديات الحركة الاستعماريّة الصهيونيّة عنها.

على أن أراضي الضفة الغربيّة التي احتُلَتْ عام 1967 وتحتوى على ما لا يَقِلُّ عن 6 آلاف موقع أثَري ظلّت قانونياً خارج اختصاص دائرة الآثار الإسرائيلية، بينما تمّ بعد اتفاق أوسلو بين الدولة العبريّة ومنظمة التحرير الفلسطينية في 1995 تقاسم المنطقة لناحية اللقى والحفريات بشكل عشوائيّ بين السلطة الفلسطينية ووحدة الآثار في الإدارة المدنية الإسرائيلية، وفق تقسيمات الأراضي الثلاث المعتمدة للحكم والأمن (أ- سلطة فلسطينية، باء: سيطرة مدنية فلسطينية وسيطرة أمنية مشتركة مع الجانب الإسرائيلي، ج: سيطرة إسرائيلية تامة).

ويبدو أن غلبة التيار اليميني المتطرّف على السلطة في الدّولة العبريّة تدفع الآن باتجاه تعديل قانون الآثار الإسرائيلي لعام 1978 وقانون سلطة الآثار لعام 1989 بغرض تمديد صلاحية سلطة الآثار لتشمل مجمل الأراضي الفلسطينية المحتلّة عام 1967، بينما سيكون، حال إقراره، انتهاكاً سافراً للقانون الدّولي الذي يحظر على سلطات الاحتلال القيام بأنشطة تتعلق بالآثار ما لم تتعلق بشكل مباشر باحتياجات السكان المحليين (في هذه الحالة السكان الفلسطينيين).

ولحظت مصادر في الأرض الفلسطينية المحتلّة بأن الأوضاع الأمنيّة في الضفة الغربيّة تدهورت بشكل ملحوظ منذ بدء الحرب على غزة في أكتوبر (تشرين الأول) من العام 2023، وكثّفت السلطات الإسرائيليّة من توسعها الاستيطاني بشكل غير مسبوق منذ ثلاثة عقود، ورفعت من وتيرة هجماتها على بؤر المقاومة، وأطلقت يد المستوطنين اليهود كي يعيثوا فساداً في القرى والبلدات العربيّة تسبب بهجرة آلاف الفلسطينيين من بيوتهم، مما يشير إلى تكامل الجهد العسكري والاستيطاني مع التعديلات القانونية المزمعة لتحضير الأرضية المناسبة لتنفيذ النيات المبيتة بتهويد مجمل أراضي فلسطين التاريخيّة.

ويأتي مشروع القانون الذي قدمه عضو الكنيست عن حزب الليكود اليميني أميت هاليفي، في أعقاب حملة استمرت خمس سنوات من قبل رؤساء المجالس الإقليمية للمستوطنين ومنظمات مثل «حراس الخلود» المتخصصة في الحفاظ على ما يزعم بأنه تراث يهودي من انتهاكات مزعومة على أيدي العرب الفلسطينيين. وتردد الحملة أكاذيب مفادها أن ثمة مواقع في الضفة الغربية لها أهمية أساسية بالنسبة إلى ما أسمته «التراث اليهودي»، وخلقت انطباعاً بوجود «حالة طوارئ أثرية» تستدعي تدخل الدّولة لمنع الفلسطينيين من «نهب وتدمير آثار المواقع اليهودية ومحاولاتهم المتعمدة لإنكار الجذور اليهودية في الأرض» – على حد تعبيرهم.

وكانت اللجنة التشريعية الحكوميّة قد وافقت على التعديل المقترح لقانون الآثار، وأرسلته للكنيست الإسرائيلي (البرلمان) لمراجعته من قبل لجنة التعليم والثقافة والرياضة التي عقدت اجتماعها في شهر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وذلك تحضيراً لعرضه بالقراءة الأولى و«التصويت» في الكنيست بكامل هيئته خلال وقت قريب.

وبينما اكتفت السلطة الفلسطينية والدول العربيّة بالصمت في مواجهة هذه الاندفاعة لتعديل القانون، حذرّت جهات إسرائيلية عدة من خطورة تسييس علم الآثار في سياق الصراع الصهيوني الفلسطيني، واعتبرت منظمة «إيميك شافيه» غير الحكومية على لسان رئيسها التنفيذي ألون عراد أن «تطبيق قانون إسرائيلي على أراضي الضفة الغربية المحتلة يرقى إلى مستوى الضم الرسمي»، وحذَّر في حديث صحافيّ من «عواقب، ومزيد من العزل لمجتمع علماء الآثار الإسرائيليين في حالة فرض عقوبات دوليّة عليهم بسبب تعديل القانون»، كما أكدت جمعيّة الآثار الإسرائيليّة أنها تعارض مشروع القانون «لأن غايته ليست النهوض بعلم الآثار، بل لتعزيز أجندة سياسية، وقد يتسبب ذلك في ضرر كبير لممارسة علم الآثار في إسرائيل بسبب التجاوز على القانون الدولي المتعلق بالأنشطة الأثرية في الضفة الغربية»، ولا سيّما قرار محكمة العدل الدولية في التاسع عشر من يوليو (تموز) الماضي، الذي جدَّد التأكيد على أن وجود إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة برمته غير قانوني، وطالب الدّولة العبريّة بـ«إزالة مستوطناتها في الضفة الغربية والقدس الشرقية في أقرب وقت ممكن»، وألزمت سلطة الاحتلال بتقديم تعويضات كاملة للفلسطينيين بما في ذلك إعادة «جميع الممتلكات الثقافية والأصول المأخوذة من الفلسطينيين ومؤسساتهم».

وتشير الخبرة التاريخيّة مع سلطة الآثار الإسرائيلية إلى أن الحكومة تقوم لدى إعلان السلطة منطقة ما موقعاً تاريخيّاً بفرض حماية عسكريّة عليها، مما قد يتطلّب إخلاء السكان أو فرض قيود على تحركاتهم وإقامة بنية تحتية أمنية لدعم الحفريات، وتمنع تالياً الفلسطينيين أصحاب الأرض من تطويرها لأي استخدام آخر، الأمر الذي يعني في النهاية منع التنمية عنها، وتهجير سكانها وتهويدها لمصلحة الكيان العبريّ، لا سيّما وأن الضفة الغربيّة تحديداً تضم آلاف المواقع المسجلة، مما يجعل كل تلك الأراضي بمثابة موقع أثري ضخم مستهدف.

وتبرر الحكومة الإسرائيلية الحاليّة دعمها مشروع القانون للجهات الأُممية عبر تبني ادعاءات منظمات ومجالس مستوطني الضفة الغربيّة بأن الفلسطينيين يضرون بالمواقع ويفتقرون إلى الوسائل التقنية والكوادر اللازمة للحفاظ عليها، هذا في وقت قامت به قوات الجيش الإسرائيلي بتدمير مئات المواقع الأثريّة في قطاع غزة الفلسطيني المحتل عبر استهدافها مباشرة، مما يعني فقدانها إلى الأبد.

لن يمكن بالطبع للفلسطينيين وحدهم التصدي لهذا التغوّل على الآثار في فلسطين، مما يفرض على وزارات الثقافة ودوائر الآثار والجامعات في العالم العربيّ وكل الجهات الأممية المعنية بالحفاظ على التراث الإنساني ضرورة التدخل وفرض الضغوط للحيلولة دون تعديل الوضع القانوني للأراضي المحتلة بأي شكل، ومنع تهويد تراث هذا البلد المغرِق في عراقته.