لماذا اختار كيم التصعيد بعد أسابيع من التهدئة؟

كوريون جنوبيون يتابعون أمس نشرة إخبارية في سيول حول التوتر بين ترمب وكيم (أ.ب)
كوريون جنوبيون يتابعون أمس نشرة إخبارية في سيول حول التوتر بين ترمب وكيم (أ.ب)
TT

لماذا اختار كيم التصعيد بعد أسابيع من التهدئة؟

كوريون جنوبيون يتابعون أمس نشرة إخبارية في سيول حول التوتر بين ترمب وكيم (أ.ب)
كوريون جنوبيون يتابعون أمس نشرة إخبارية في سيول حول التوتر بين ترمب وكيم (أ.ب)

جاء تغيّر لهجة النظام الكوري الشمالي مفاجئاً للإدارة الأميركية، التي دعمت جهود التهدئة في شبه الجزيرة الكورية وعملت لأسابيع على تنظيم قمة تاريخية بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب والزعيم الكوري الشمالي كيم جونغ أون.
وبعد سلسلة تعهدات بنزع السلاح النووي وتفكيك موقع تجارب بارز واستئناف المحادثات مع كوريا الجنوبية، اعتمدت كوريا الشمالية خطابا شديد اللهجة تجاه واشنطن في خطوة غير متوقّعة.
ويقول مدير المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، مارك فيتزباتريك، إن ما استفزَّ كوريا الشمالية ليست المناورات الأميركية - الكورية الجنوبية المنظمة بين 14 و25 مايو (أيار) في حد ذاتها، وإنما نوع الطائرات المستخدمة التي تشمل قاذفة القنابل الاستراتيجية «بي - 52»، والمقاتلات الشبح «إف - 22». ولطالما استنفرت كوريا الشمالية عند نشر هذا النوع من الطائرات في شبه الجزيرة الكورية، لقدرتها على حمل رؤوس نووية، وشن غارات شديدة الدقة قد تستخدم لتصفية قادة النظام الكوري. ويضيف فيتزباتريك أن هذه المقاتلات تذكر النظام الكوري الشمالي بكلمات الرئيس الأميركي في شهر أغسطس (آب) الماضي، عندما هدد بيونغ يانغ بـ«النار والغضب».
وزادت تصريحات مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون، من قلق النظام الكوري الشمالي، بعد أن تحدث عن «النموذج الليبي» لنزع السلاح النووي. واعتبر نائب وزير الخارجية كيم كي غوان، في بيان نقلته وكالة الأنباء الرسمية الكورية الشمالية، أنّ هذه «محاولة مغرضة لإخضاع (كوريا الشمالية) لمصير ليبيا والعراق»، مضيفاً: «لا يمكنني أن أكبت غضبي»، ومبدياً: «تشكيكا حيال صدق» الولايات المتحدة.
وفيما أربكت التصريحات الكورية الشمالية البيت الأبيض، اعتبرها الخبراء جزءاً متوقعاً من خطاب بيونغ يانغ السياسي ومناوراته التقليدية تجاه الغرب. فبعد أشهر من التصعيد الحاد بين واشنطن وبيونغ يانغ، فاجأ كيم العالم بمشاركة بلاده في دورة الأولمبياد الشتوية بكوريا الجنوبية، ومبادرات التهدئة التي بدأت بخط مباشر بين القيادتين الكوريتين، والقمة النادرة بين كيم ونظيره الجنوبي مون جاي إين، وصولاً إلى إطلاق سراح ثلاثة معتقلين حاملين للجنسية الأميركية بعد جولات دبلوماسية ناجحة قادها مايك بومبيو كمدير لوكالة الاستخبارات المركزية وحتى تقلده منصب وزير الخارجية. ورغم تعدد مبادرات حسن النية، شكك الخبراء في مدى التزام بيونغ يانغ بمطالب نزع السلاح النووي. وتقول جيني تاون، الباحثة التي تدير تحرير موقع «38 نورث» المتخصص في قضايا كوريا الشمالية، إن تعهد كيم بتفكيك موقع «بونغيي - ري» النووي «بادرة دبلوماسية سهلة بالنسبة لكوريا الشمالية، باعتبار أنها نجحت فيما يبدو في تطوير أسلحة نووية حرارية، خلال تجربتها النووية الأخيرة في سبتمبر (أيلول) الماضي». وتابعت تاون، في تصريحات لـ«الشرق الأوسط» أنه في الوقت الذي يبدو فيه تعهّد تفكيك الموقع (الذي بدأ بالفعل) ذا أهمية دبلوماسية، يستطيع النظام الكوري الشمالي تبريره داخلياً بأن الموقع لم يعد ضرورياً لإجراء تجارب إضافية.
وانضم توم بلانت، الباحث في المعهد الملكي للدراسات الاستراتيجية والأمن والدفاع البريطاني، إلى تاون في تأكيده أنه يسهل على كيم التراجع عن التنازلات التي قدمها حتى الآن، في إشارة إلى أن وعد كوريا الشمالية بعدم استخدام أو نقل أسلحتها النووية مشروط بغياب أي تهديد نووي على أراضيها. وأوضح بلانت، في رسالة إلكترونية لـ«الشرق الوسط»، أن بيونغ يانغ تعتبر مجرد حيازة واشنطن أسلحة نووية تهديداً مباشراً لأراضيها وأمنها.
أما فيما يتعلق بتفكيك موقع «بونغي - ري»، اعتبر بلانت أن كوريا الشمالية قادرة على نقل تجاربها النووية إلى موقع آخر بكل سهولة.
وأحيت تصريحات كيم جونغ أون، مطلع الشهر الحالي لدى لقائه مندوباً صينياً، حول التزام بلاده بنزع الأسلحة النووية أمل واشنطن ومعها المجتمع الدولي في تهدئة التوتر في شبه الجزيرة الكورية.
وأثار تراجع بيونغ يانغ عن موقفها، أول من أمس، تساؤلات حول انعقاد القمة بين الرئيس الأميركي دونالد ترمب وكيم، ومصداقية وعود بيونغ يانغ. واستبعدت تاون أن يوافق نظام كيم على الاستغناء عن برنامجه النووي بالكامل مقابل ضمانات أمنية مكتوبة فقط.
وقالت إنه فيما رحب العالم بقمة سنغافورة المرتقبة بين ترمب وكيم في 12 يونيو (حزيران) المقبل، إلا أنه لا توجد ثقة بين الأطراف الرئيسية. فقد شهدت كوريا الشمالية انهيار اتفاقيات أبرمت مع الولايات المتحدة، وكان آخرها خطة العمل المشتركة (JCPOA) مع إيران التي انسحب منها الرئيس الأميركي، ما أدى إلى التشكيك في مصداقية الولايات المتحدة». ورغم ذلك، رأت تاون أنه يمكن التوصل إلى اتفاق مع كوريا الشمالية يقود إلى نزع الأسلحة النووية، إلا أنه مرهون ببناء علاقة طويلة الأمد بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية، تقود في النهاية إلى ثقة متبادلة. وحتى تحقيق ذلك، تعتبر تاون أن «كوريا الشمالية ستواصل استعراض قدراتها، حتى لا تتحول إلى ليبيا أخرى».
من جهته، يرى بلانت أنه لا يمكن النظر بجدية لاستعداد كيم نزع الأسلحة النووية، إلا بعد تقديمه تنازلات حقيقية تشمل «الكشف عن جميع المنشآت النووية غير المعلنة»، لافتاً إلى أن الخبراء يعلمون بوجود منشأة أخرى على الأقل لتخصيب اليورانيوم، إلى جانب منشأة يونغبيون المعلنة.
إلى ذلك، ذكر بلانت أنه ينبغي على كوريا الشمالية وضع حدود وتخفيض أنظمة توجيه الأسلحة النووية، فضلاً عن تعطيل تام لمفاعلات يونغبون، وتسليم مخزونات الوقود النووي كاملة.



2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
TT

2025... عام ملء الفراغات؟

الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)
الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب (أرشيفية - رويترز)

لا يوجد فراغ مسموح به في الطبيعة. فالطبيعة لا تغيّر طبيعتها، لأنها تكره الفراغ. في الفراغ لا حياة، لا صراع ولا تاريخ. فالتاريخ يتنقّل بين الفوضى والنظام. يُفرض النظام بالإكراه، فتوضع القوانين لتُفرض بالقوّة والإكراه أيضاً. هكذا كتب ألبير كامو، الفيلسوف الفرنسي في كتابه «الإنسان المتمرّد»، (The Rebel): «في النظام، كما في الفوضى، هناك شيء من العبوديّة». تستهدف الثورة النظام القائم، فتخلق الفوضى. لكنها مُلزمة بإعادة تكوين نظام جديد. وبين الفوضى والنظام، يدفع الإنسان العاديّ الأثمان.

يقول السياسيّ الراحل هنري كيسنجر ما معناه: إن الفراغ يجلب الحرب والهجوم. فهل سيكون عام 2025 عام ملء الفراغات، أو خلق بعضها؟

دخان يتصاعد من شمال قطاع غزة خلال قصف الجيش الإسرائيلي (أرشيفية - أ.ف.ب)

بعد عملية 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، تغيّرت موازين القوى في المنطقة. سقطت «حماس». سقط «حزب الله». سقط النظام في سوريا... وبذلك انهارت وحدة الساحات، أو ما يُسمّى محور المقاومة. وبسبب ذلك، سقطت منظومات كانت قائمة. وتظهّرت الفراغات القاتلة. ها هي إسرائيل تدمّر قطاع غزّة، لتخلق فراغاً لا توجد فيه حركة «حماس»، ولتؤسّس لحالة معيّنة قد يُطلَق عليها «الاحتلال التغييريّ»، (Transformative). بكلام آخر، فُرض الاحتلال أمراً واقعاً خارج القانون الدوليّ، لكنه طويل، ومُكلف للمُحتلّ، الأمر الذي قد يخلق ثقافة جديدة، ومختلفة عما كانت قبلها، حتى ولو تطلّب الأمر جيلاً من الزمن.

دخلت إسرائيل لبنان خلال الحرب الأخيرة، فخلقت منطقة عازلة. وها هي اليوم تُحصّنها استباقاً للسيناريو السيّئ. خلقت إسرائيل هذا الفراغ على الحدود اللبنانيّة، كما في داخل قطاع غزّة بالقوّة العسكريّة المُفرطة. لكن البقاء في لبنان واحتلال المنطقة العازلة، هو أمر مختلف تماماً عن احتلال قطاع غزّة.

بعد سقوط النظام في سوريا، سارعت إسرائيل إلى احتلال مزيد من الأراضي السوريّة وتوسيع المنطقة العازلة. لكنه احتلال من دون استعمال للقوّة، حتى ولو دمّر الطيران الإسرائيليّ قدرات الجيش السوريّ المستقبليّ. إنه احتلال مؤقّت-طويل. لكن المفارقة هي إعلان إسرائيل أن الجولان لن يعود إلى سوريا، وهو احتلال كأمر واقع (De Facto). ولتحرير الجولان، لا بد من حرب أو تفاوض، وهذان أمران متعذّرَان حالياً لأسباب كثيرة. وعليه قد يمكن حالياً إعلان وفاة مقولة كسينجر: «لا حرب في الشرق الأوسط من دون مصر، ولا سلام من دون سوريا».

صورة نشرها الجيش الإسرائيلي وقال إنها لجولة رئيس الأركان هرتسي هاليفي الميدانية في جنوب لبنان (أرشيفية)

حال العالم

في أوكرانيا يستعين الرئيس بوتين في حربه بالتكنولوجيا الغربيّة لتصميم صواريخه، آخرها الصاروخ الفرط صوتيّ «أوريشنيك». كما يستعين بالمُسيّرات الإيرانيّة، والعسكر الكوري الشمالي لتحرير الأرض الروسية في كورسك. يريد بوتين الاحتلال التغييري للشرق الأوكرانيّ.

في منطقة نفوذ الصين، يسعى التنين إلى استرداد جزيرة تايوان على أنها جزء تاريخيّ من الصين الكبرى. فهي تحضّر البحريّة الصينيّة، كون الحرب، وفي حال حصولها، سيكون أغلبها في البحر. ورداً على ذلك، بدأ تشكُّل كثير من التحالفات ردّاً على السلوك الصينيّ.

وفي مكان آخر من العالم، يُحضّر الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب مأسسة الصراع مع التنين الصينيّ. فهو يريد استعادة السيطرة على قناة بنما، نظراً إلى أهمية هذه القناة على الأمن القومي الأميركيّ. فهي الشريان الحيويّ الذي يربط الشرق الأميركي بالغرب. وهي التي أوصى بها المفكّر الاستراتيجيّ الأميركي البحريّ ألفريد ماهان. وهي التي أشرفت على بنائها الولايات المتحدة الأميركيّة، وذلك بعد انفصال بنما عن كولومبيا وبمساعدة البحريّة الأميركيّة آنذاك، خلال فترة حكم الرئيس الأميركي الراحل تيودور روزفلت. وبذلك، تكون القناة قد مرّت بثلاث مراحل هي: 1906 البناء مع الرئيس روزفلت، و1977 مع الرئيس جيمي كارتر الذي أعادها إلى بنما، واليوم مع الرئيس ترمب الذي يريد استردادها.

صور الرئيس الأسبق حافظ الأسد ممزقة للمرة الأولى في تاريخ سوريا (الشرق الأوسط)

يرى البعض أن تصريحات الرئيس ترمب مجرّد كلام عاديّ بسبب شخصيّته الفريدة. لكن الأكيد أن تصريحاته تنمّ عن عمق جيوسياسيّ بعيد المدى. فما معنى طرحه موضوع شراء جزيرة غرينلاند من الدنمارك؟ ما أهميّة هذه الجزيرة؟

إن ثقافة دبلوماسيّة الدولار (Dollar Diplomacy) في التاريخ الأميركي ليست جديدة. فهي قد اشترت لويزيانا من فرنسا عام 1803 بـ15 مليون دولار. كما اشترت من روسيا ولاية ألاسكا الحاليّة بـ7.2 مليون دولار.

شكّلت لويزيانا الربط بين الشرق والغرب الأميركيّ، كما سيطرت على أهمّ مرفأ أميركيّ يطلّ على خليج المكسيك. وبالحدّ الأدنى أخرجت دولة أوروبيّة من الأرض الأميركيّة. أما شراء ألاسكا، فقد أعطى أميركا إطلالة على مضيق بيرينغ الذي يطلّ بدوره على الأرض الروسيّة.

التحّولات الجيوسياسيّة الحاليّ

مع صعود الصين، تبدّلت موازين القوى العالميّة عمَّا كانت عليه خلال الحرب الباردة. فللصين قدرات كونيّة وفي كل الأبعاد، خصوصاً الاقتصاديّة والعسكريّة، وهذه أبعاد افتقر إليها الاتحاد السوفياتيّ. تسعى الصين إلى التموضع في القارة الأميركيّة. يُضاف إلى هذا التحوّل، الكارثة البيئيّة والاحتباس الحراري، الأمر الذي قد يفتح طرقاً بحريّة جديدة، حول الشمال الأميركيّ. خصوصاً أن ذوبان المحيط المتجّمد الشمالي سوف يُغيّر جغرافيّة الصراع الجيوسياسيّ بالكامل. ونتيجة لذلك، ستصبح الولايات المتحدة الأميركيّة تطلّ على ثلاثة محيطات بعد أن كانت تطلّ على محيطين.

وحدة مدفعية أوكرانية في منطقة زابوريجيا تطلق النار باتجاه القوات الروسية على خط المواجهة (أرشيفية - رويترز)

تتميّز غرينلاند بمساحتها الكبيرة، نحو مليوني كيلومتر مربع، مع عديد لا يتجاوز 56 ألف نسمة، وثروات مهمّة قد تجعل أميركا تستغني عن استيراد كثير من الثروات الطبيعيّة من الصين. خلال الحرب الباردة حاول الرئيس هاري ترومان شراء الجزيرة، وهي لا تزال تضمّ قاعدة عسكريّة جويّة أميركيّة.

في الختام، إذا استطاع الرئيس ترمب استعادة السيطرة على قناة بنما، وسيطر بشكل ما على غرينلاند، سيتكوّن مثلثّ جيوسياسيّ دفاعيّ حول الولايات المتحدة الأميركيّة يرتكز على: غرينلاند، وألاسكا، وقناة بنما. كل ذلك، بانتظار الرئيس ترمب في البيت الأبيض، وكيف سيتعامل مع العالم خصوصاً الصين. فهل سيكون انعزاليّاً أم انخراطيّاً أم مزيجاً من المقاربتين؟