التاريخ الثقافي لطائفة الصابئة المندائيين

من شعرائها زهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وأوس بن حجر

التاريخ الثقافي لطائفة الصابئة المندائيين
TT

التاريخ الثقافي لطائفة الصابئة المندائيين

التاريخ الثقافي لطائفة الصابئة المندائيين

يعترف الباحث العراقي فوزي صبار طلاب، في كتابه الصادر حديثاً (145 صفحة من القطع المتوسط) عن دار نشر «رورهه للآت» في مدينة أربيل بإقليم كردستان العراق، بصعوبة البحث في التاريخ الثقافي لطائفة الصابئة المندائيين خلال العصور القديمة التي سبقت انبثاق العصر الإسلامي والعصور التي تلته، بسبب شح المصادر التي تتناول هذا النوع من البحوث. فليس هناك مؤرخون من هذه الطائفة أزاحوا الجانب الثقافي المظلم عنها، إنما جرى التركيز، إلى حد ما، على الجانب الديني لهذه الطائفة التي تعد نفسها من أول الأديان التوحيدية. مثل هذه الدراسة وهي تبسط أمام القارئ التفصيلات في غزارتها، تحاول أن تتبع بدقة المشكلات التي حالت دون الإفصاح عن مبدعي هذه المجموعة البشرية في نشأتها وتكوينها، والكتاب محاولة في الأساس لمعالجة الهدف المنشود، وهو حثّ الدارسين والمهتمين على رصد هذه الظاهرة، فمشكلة المؤرخين والفقهاء الأوائل من وجهة نظر الكاتب أنهم «اعتمدوا على كتابات أعداء الديانة الصابئية من النسطوريين والسريان للإيقاع بأصحاب هذه الديانة، والمنطق يقول إنه لا يمكن اعتماد كتابات الأعداء حجة للأخذ بها والسير على هديها، فهو بالتأكيد (إيغال) وعداء ضمني في النفوس».
لا يمكن تحديد الفترة الزمنية التي ظهرت فيها الديانة الصابئية التي يعد أبناؤها في العراق أنهم أصحاب الأرض، بشكلها الناضج المتكامل، لكن فترة اتخاذها الشعائر الدينية وتطوافها حول (البيت) الكعبة بعد إنشائه من قبل النبي إبراهيم خليل الله، هي الفترة الأقرب إلى تأسيس هذا الدين بشكله الكامل وبطقوسه المعروفة. وترتبط الديانة المندائية بالفلسفة الغنوصية، التي تمتد جذور أفكارها إلى ما قبل الميلاد وتركز نشاطها في القرنين الأول والثاني منه، ونضجت واكتملت في نهاية القرن السابع الميلادي. وتختلف الغنوصية عن المندائية في أنها حركة فكرية ودينية متعددة الأوجه ليست لها طقوس خاصة ولا رجالات دين، وهذا ما يميزها عن المندائية. فلسفة الغنوصية تدعو إلى أن المعرفة تتم من خلال الرؤية المباشرة للحقيقة (من يمتلك قلبا طاهرا، ولم تدنسه الخطيئة ويشع بالنور، فإنه يبارك برؤية الله) ومهمة الغنوصية هو عملها على تحرير النفس البشرية (قبس من الجوهر المقدس من (إسار) الجسد الدنيوي، فهي رهينة لدى محبس الجسد والذي أوجدته قوى الظلام). والغنوصية تلتقي مع المندائية في مبدأ واحد من حيث الخلق، فالخلق عند المندائية معروف، وهو أن الخالق (الله) سبحانه وتعالى، يبعث بالنفس وهي مكرهة للهبوط لتستقر بجسد الإنسان الذي خلقته قوى الظلام، ثم لا تلبث تتحرر منه عند سكون هذا الجسد راجعة إلى خالقها. يقول الكاتب «الفلسفة التي تؤمن بها المندائية تجري كلها بلوحات وصور أدبية بلاغية غاية بالتصوير الجميل الخلاب، ولكنها محددة ومركزة، نصوصها لا لبس فيها أو ضبابية، وهذا ما جعل المندائية والغنوصية تتعارضان مع الأديان السماوية الثلاثة الأخرى اليهودية والمسيحية والإسلامية، في مبدأ الخلق».
وجود الصابئة المندائيين منذ ألفي عام «ق.م» في دست ميسان، والبحث فيما يربط بينهم وبين البابليين، يدفعان كثيرين إلى معرفة عراقة الدين المندائي «وهذه الحقيقة يعترف بها المؤرخون الشيعة والسنة من خلال مصادرهم الكثيرة».
يستعرض الكاتب مراحل النهوض الثقافي للحضارات القديمة في حوض وادي الرافدين ووادي النيل، ويشير إلى «قدم ديانة الصابئة المندائيين قبل التاريخ الميلادي، وهو الثابت، واستمرارها بعده وإلى اليوم، حيث إن أغلب مصادر التاريخ إضافة إلى كتب المندائيين الدينية نفسها وعلى رأسها كتابهم المقدس (الكنزا ربا)، (الكنز العظيم)، تتحدث عن وجود أعداد كثيرة من هؤلاء الأقوام قد تمركزت في مناطق مختلفة من شبه الجزيرة العربية، بداية من منشئهم في حوض وادي الرافدين جنوب العراق وانتشارهم وهجرتهم، وبقاء أعداد منهم يسكنون تلك المناطق، فقد هاجروا إلى مصر وفلسطين، ورجوعهم إلى مدينة حران في الشمال الغربي من العراق، ثم انحدروا ورجعوا إلى منشئهم الأصلي الجنوب العراقي حيث مدينة ميسان وجميع المدن والقصبات التي تلي مدينة ميسان التاريخية». ويتساءل الكاتب: «كل هذه المناطق الشاسعة التي سكنها الصابئة المندائيون، أيعقل أن هذه المجاميع السكانية، كانت تخلو من مثقفين وأدباء وشعراء وفنانين؟ فأين هم من كتب المؤرخين، خصوصا القدماء الذين دونوا التاريخ الثقافي في القرن الثالث وبداية الرابع الهجريين وبداية العاشر الميلادي؟». يجيب الكاتب عن مجمل هذه التساؤلات، بأنه من المنطق أن بعض أولئك الشعراء أو الكتاب الذين سبقوا ظهور العصر الإسلامي، كانوا على تلك الديانة التوحيدية، لكن ومع الأسف فإن المؤرخين ذكروا فقط سيرهم وأدبهم وأشعارهم تلك، دون ذكر الديانة التي كانوا ينتسبون إليها، رغم ذكرهم ديانات بعض الشعراء الآخرين. أما السبب من وجهة نظر الكاتب في غمط حقوق هؤلاء من حيث انتسابهم الديني، فهو «الديانة السماوية التي ينتسبون إليها، وقد يكون، وهذا وارد بسبب أولئك أنفسهم (الصابئة المندائيون)، لحرصهم على سرية تلك الديانة أو الخوف عليها أو عدم وضوح فلسفتها. ولكنهم وفي أغلب فصول حياتهم، وحتى في قصائدهم الشعرية، يكثرون من تلك المفاهيم، بل لقد دافعوا وهاجموا في سبيلها، ونموذج الشعراء هو زهير بن أبي سلمى».
يستشهد الكاتب بكثير من النصوص والقصائد الشعرية العربية التي دونت قبل ظهور الدين الإسلامي الحنيف، وهي تمجد العقيدة الصابئية المندائية وطقوسها، التي تؤكد وحدانية الله، فهو الموحد بين الناس، فهو يقول: «لا يمكن تحديد الفترة الزمنية التي ظهرت بها الديانة الصابئية بشكلها المتكامل، لكن اتخاذها الشعائر الدينية وتطوافها حول (البيت) الكعبة بعد إنشائه من قبل النبي إبراهيم خليل الله، تكون هي الفترة الأقرب إلى تأسيس هذا الدين بشكله الكامل وبطقوسه المعروفة». ويضيف أن جميع المصادر الإسلامية تؤكد أن تلك الأقوام؛ بدءا من إسماعيل وإبراهيم والجرهميين والأحناف والصابئة والخزاعيين، كانت جميعها تؤمن رغم تشتتها بوحدانية الله، وأن كثيرا من الشعراء الذين سبقوا العصر الإسلامي، أمثال زهير بن أبي سلمى والنابغة الذبياني وذي الأصبع العدواني وأوس بن حجر، وهم «صفوة عامة الناس وناطقهم ومتحسس بأحاسيسهم، يبرهن أن الناس كانوا يدينون بديانات متعددة ويؤمنون بها»، أظهروا إيمانهم بالبعث والحشر في الحياة الأخرى، وكل منهم متيقن من أن هناك الحياة الخالدة، وهو ما يؤكد بشعر كل واحد منهم وأن تمسكه بهذه القناعة إنما نابع من أفكار دينية بحتة، علّمته كيف يكون صالحا مؤمنا ينتقل بها إلى عالمه الخالد القادم؛ فالصابئي عندما ينتهي من أداء مراسم الحج يذهب لينحر الذبائح، وكان إبراهيم («بهرام» كما تروي الأقوام السالفة) يتقدم الناس ويرشدهم، وقد استمر القريشيون بشعائرهم، وجددوا بناء البيت (الكعبة)، والنبي محمد عليه السلام لم يكن أعلن دعوته بعدُ. فالصابئي وإلى يومنا هذا عندما يؤدي الصلاة «إنما يؤديها إيمانا منه ودليلا على تقواه، ولا تفرض عليه فرضا، إنما شروطها تنحصر في التطهر الجسدي، فمثلا هو لا يقترب من البيت إلا إذا كان طاهر الجسد، وبعد أن يغتسل من جنابته ويتطهر جيدا. والصابئي يؤدي طقوس الصلاة والصوم ويؤمن بشريعة المساواة بين البشر، وهو يزاوج بين الطهارة المادية والروحية، وهو يحرم القتل والسرقة».
ينتقل الكاتب إلى العصر العباسي، الذي شهد انفتاح الخلفاء والأمراء العباسيين على معظم مناحي الحياة، خصوصا الثقافية والعلمية، وهنا برزت على الساحة الثقافية أسماء لامعة شعرية؛ منها ونثرية وفنية. فقد أدى نزوح كثير من الأقوام إلى مدينة بغداد خصوصا من حرّان، التي شهدت الحياة فيها أجمل صورها، إلى بروز تلك الإعلام بعد أن خفت الروح الدينية المتشددة في العصر العباسي الثاني رغم وجودها في الخصوصيات وفي درجات السلطة والقضاء الرسمية. بل لم يسمح لغير المسلمين باعتلاء تلك المناصب، فأشير إليهم تارة بالترغيب وأخرى بالترهيب، إلا من استطاع بعلمه أو أدبه أن يشار إليه بالبنان، وأن يصل إلى درجة عليا يسمو بها عن الآخرين. هنا يقول الصابئي ثابت بن قرة في حديثه عن حرّان: «ليت شعري من عمّر المسكونة وابتنى المدن، أليس خيرة الصابئة وملوكهم؟ من أسس المرافئ والأنهار والقنوات؟ ومن شرح العلوم الغامضة؟ فلولا علوم الصابئة لأمست الدنيا قفراء فارغة متقلبة في العوز. ولو تم التوثق مما وصفت به هذه الدنيا بأنها مدينة إبراهيم ومدينة أخيه حاران ومدينة التنافس الآشوري والبابلي ومن ثم المسيحي والإسلامي، لما تم رميها بباطل. فليس من الصحيح أن تكون مدينة بهذه القيمة وهي على ضلالة وبطلان. إن قيمتها (حرّان) ليست بالقيمة الجغرافية أو وفرة مياهها، بل إن قيمتها فيما أسس الأوائل القاطنون فيها... هو ما كان وراء هذا الاعتبار الذي جعل من يحظى به كأنه قد ملك زمام الدين والحكمة».
ويستعرض الكتاب كثيرا من الأسماء الصابئية المندائية اللامعة في العصر العباس وما بعده، مثل أبي إسحاق الصابي، وغرس النعمة الصابي، وقاضي بغداد أبي سعد، وعمران الصابي نديم الخليفة المأمون... وعشرات غيرهم.



لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية
TT

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

لودفيغ فتجنشتاين... ثورة هادئة على الفلسفة التقليدية

ضمن سلسلة «الفلسفة» التي تصدر عن الهيئة المصرية العامة لقصور الثقافة، صدرت طبعة جديدة من كتاب «لودفيغ فتجنشتاين» للباحث المصري الراحل د. عزمي إسلام (1931- 1987) والذي يتناول التأثير اللافت لهذا المفكر النمساوي على الفلسفة المعاصرة.

وُلد فتجنشتاين في فيينا لأسرة صناعية ثرية ومثقفة، ثم اتجه إلى دراسة هندسة الطيران في مدينة «مانشستر» الإنجليزية، قبل أن يتخلى عن هذا الاتجاه ويتحول تماماً إلى المنطق والرياضيات في جامعة «كامبريدج» متأثراً بالمفكر البريطاني برتراند راسل الذي أشرف على دراسته للفلسفة. تطوع في جيش بلاده خلال الحرب العالمية الأولى وأمضى فترة معلماً في قرية نمساوية، ثم عاد لاحقاً إلى بريطانيا كأستاذ.

ويعد كتابه «رسالة فلسفية منطقية» أبرز مؤلفاته والذي نُشر لأول مرة عام 1921 ويذهب فيه إلى أن حدود اللغة هي حدود عالمنا، وما لا يمكن التعبير عنه بها يجب الصمت عنه، أما «تحقيقات فلسفية» فنشر بعد وفاته عام 1951 ويؤكد فيه على أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت، وهي الفكرة التي كان لها تأثير بالغ على مجلات أخرى كالأدب وعلم النفس.

ويشير المؤلف إلى أنه حصل على أطروحة الدكتوراه في فلسفة المفكر النمساوي لأن أفكاره كانت نقطة تحول حاسمة في تاريخ الفكر الفلسفي الحديث ويرجع ذلك إلى أهمية المنهج الذي تبناه، وهو المنهج التحليلي المنطقي، يتناول عبارات اللغة التي نصوغ فيها الأسئلة والمشكلات الفلسفية، حيث أثبت أن معظم هذه المشكلات ليست بمشكلات حقيقية وأنها لم تنتج إلا عن سوء استخدام اللغة.

أصبح إسهام فتجنشتاين أشبه ما يكون بالثورة الهادئة على الفلسفة التقليدية، وذلك لأنها غيرت من مفهومها ومجالها ووظيفتها فأصبحت الفلسفة لديه عبارة عن تحليل للغة وانتقل مجال البحث فيها من البحث في الأشياء في ذاتها كالوجود من حيث هو موجود أو العلة أو المطلق أو الجوهر أو اللامتناهي أو العدم إلى البحث في العبارات والألفاظ التي يقولها الفلاسفة وتحليلها لبيان ما له معنى منها وما لا معنى له، أو لبيان الصحيح منها والخاطئ بناء على اتفاقها أو اختلافها مع قواعد الاستخدام العادي المنطقي. ومن ثم تغيرت مهمة الفلسفة فأصبحت تنصب على تحليل مشكلات الفلسفة بدلاً من إقامة أنساق فكرية أو ميتافيزيقية جديدة. وتأثر بأفكاره بشدة عموم التيار الفكري الوضعي التحليلي.

واعتمد المؤلف في دراسته لفلسفة فتجنشتاين على مؤلفاته نفسها فضلاً عن بعض محاضراته بالجامعة، وكذلك محاضراته الخاصة التي نشرت في الكتابين «الأزرق» و«البني»، وأيضاً ملاحظاته عن المنطق والرياضيات كما رجع كذلك إلى ما نشر من رسائله إلى براترند راسل، ولم يكن ذلك بالمهمة اليسيرة نظراً لصعوبة كتاباته وتعقيداتها حتى إن كثيرين من تلامذته والباحثين عموماً كانوا يصفونه بـ«الفيلسوف المتعب للغاية».

ولد لودفيغ يوهان فتجنشتاين في السادس والعشرين من أبريل (نيسان) 1889 وكان والده مهندساً مرموقاً يشغل منصباً قيادياً في صناعة الحديد والصلب بالنمسا، كما كان لأم فتجنشتين أثر بالغ في خلق الميل الفني القوي في الأسرة، فقد كانت هي وزوجها موسيقيين من الدرجة الأولى حتى لقد أصبح المنزل في وقت ما مركزاً لحياة موسيقية جميلة وخاصة حينما كان يتردد عليهم صديق الأسرة الحميم يوهان برامز، الموسيقار العالمي الشهير.

اهتم فتجنشتاين أثناء دراسته في «كامبريدج» بالفلسفة وبأسس الرياضيات الحديثة اهتماماً كبيراً كما استفاد من النشاط الفكري الضخم الذي كان موجوداً في الجامعة قبيل الحرب العالمية الأولى، إذ كان راسل في أوج تفكيره الفلسفي والمنطقي وأخرج هو وألفريد نورث هوايتهد كتابهما «مبادئ الرياضيات» الذي يعد أحد العلامات المميزة في تاريخ المنطق.

على الرغم من اكتساب فتجنشتاين في إنجلترا للجنسية الإنجليزية، فإنه لم يكن معجباً بأساليب الإنجليز في الحياة كما كان يكره الجو الأكاديمي في كامبريدج في ذلك الوقت وحينما انتهت مدة زمالته في كلية ترينتي عام 1930 فكر في زيارة الاتحاد السوفياتي وزاره بالفعل مع أحد أصدقائه. وحين توفي في 29 أبريل 1951 في منزل الطبيب الذي كان يعالجه في بريطانيا، كانت آخر عبارة قالها لزوجة الطبيب: «قولي لهم إنني قد عشت حياة رائعة».

مال إلى البساطة في كل شيء وكان ذلك واضحاً من ملابسه ومن أثاث حجراته في الجامعة، فلم يكن يتمسك في ملابسه بالطريقة التقليدية مثل الأساتذة بل كان يرتدي دائماً بنطلوناً خفيفاً وقميصاً مفتوح الصدر بلا رباط عنق. وتكشف طريقته في إلقاء محاضراته عن أكثر من جانب من جوانب شخصيته، مثل البساطة والجدية والإخلاص للعمل والحب الشديد للحق وأحياناً الخشونة والجفاء والقسوة.

يؤكد فتجنشتاين أن المعنى الحقيقي للكلمات يكمن في سياقها الاجتماعي وليس في مدلولها الاصطلاحي البحت

لم تكن محاضراته تأخذ الطابع التقليدي، وإنما كانت أشبه باجتماعات برغم إصراره على تسميتها بالمحاضرات. كان يتكلم بلغة إنجليزية وبلهجة الرجل الإنجليزي المثقف وكان صوته رناناً عالي النبرة، وإن لم يكن منفراً، ولم تكن الكلمات تخرج من فمه متدفقة، بل بعد جهد كبير. وجهه كان سريع الحركة بطريقة ملحوظة كما كان معبراً جداً أثناء الحديث وكانت عيناه عميقتين، وغالباً ما كانتا تحملان شيئاً من القسوة في التعبير.

لم تكن مؤلفات فتجنشتاين كثيرة متعددة حتى إنه لم ينشر في حياته إلا كتاباً واحداً هو «رسالة منطقية فلسفية» ومقالاً له بعنوان «بعض ملاحظات على الصورة المنطقية» وبقية ما نشر عدا ذلك كان كله بعد وفاته.

وأهم ما يلاحظ في كتاباته خلوها تماماً من كل زخرفة أدبية أو رطانة في الأسلوب، فنجدها بسيطة قوية تعتمد على خصوبة الخيال، وهو ما تأثر بها كثير من الأدباء لاحقاً. استخدم التحليل كمنهج في الفلسفة لا كغاية، فهو لا يستهدف التحليل لمجرد تقسيم العالم إلى مجموعة من الوقائع أو رد اللغة إلى عدة قضايا أو رد المعنى إلى طريقة استخدامنا للألفاظ، إنما هو يستخدمه لكي يوصله إلى غاية أبعد من ذلك، وهي توضيح المشكلات الفلسفية التي إذا ما وضع معظمها تحت مجهر التحليل زال عنها كل غموض، واتضح أنها مشكلات زائفة أو أنها ليست بمشكلات أصلاً، على حد تعبيره.

وقد عبر عن هذا المعنى تعبيراً دقيقاً بقوله: «إن معظم القضايا والأسئلة التي كُتبت عن أمور فلسفية ليست كاذبة، بل هي خالية من المعنى، فلسنا نستطيع إذن أن نجيب عن أسئلة من هذا القبيل، وكل ما يسعنا هو أن نقرر عنها أنها خالية من المعنى، فمعظم الأسئلة والقضايا التي يقولها الفلاسفة إنما تنشأ عن حقيقة كوننا لا نفهم منطق لغتنا، فهي أسئلة من نوع السؤال الذي يبحث فيما إذا كان الخير هو نفسه الشيء الجميل على وجه التقريب، وإذن فلا عجب إذا عرفنا أن أعمق المشكلات ليست في حقيقتها مشكلات على الإطلاق».


«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية
TT

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

«وجوه لا تغيب»... بورتريهات ترسم ملامح رموز ثقافية وفنية

يقدم كتاب «وجوه لا تغيب: بورتريهات في محبة مبدعين» للناقد المصري الدكتور علاء الجابري حالة من القراءة التحليلية الممزوجة بالمعلومات وبالتأمل في حياة ومسيرة عدد من المبدعين والمفكرين والفنانين المؤثرين في مجالاتهم، مستخدماً الصورة القلمية في رسم ملامحهم الثقافية والشخصية، مازجاً المعلومة بالتأويل، ومطوفاً حول عدد من الرموز الثقافية منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهايات القرن العشرين، في مجالات معرفية مختلفة، كنوع من التحية لهم ولمنجزهم وتراثهم، الذي يمثل زاداً ثقافياً مهماً لمن جاء بعدهم من أجيال لاحقة، حتى لو اختلفوا مع تلك المنجزات.

الكتاب الصادر في القاهرة عن «دار المعارف» يبتعد فيه مؤلفه عن الكتابة الأكاديمية والنقدية التي يتوقعها القارئ من ناقد وأكاديمي، مفضلاً أن يقدم أسلافه عبر لغة رشيقة ومكثفة، لا تخلو من التقدير والإعجاب والتأثر بهؤلاء الرموز، لكن دون تقديس، يقول في المقدمة: «لم يتحمس الكتاب للشخصيات وإن لم ينكر محبتها، ولم يرتد ثوب الدفاع عنها، وإن اعترف بوجود مثالب فيها، وتعامل مع العيوب والنقائص بوصفها جزءاً من طبيعتها البشرية، وركز على أبعاد الإنجاز لديها، واعتبرها مكمن التميز وسط أمواج من العاديين»، فقد حاول الجابري رسم صور لشخصيات احتلت في قلوب الأجيال وعقولها مكانة رائقة، لاستكشاف مفتاح كل شخصية.

يقدم الكتاب بورتريهات عن 16 شخصية ثقافية شهيرة، هم: أمينة السعيد، مي زيادة، جمال الدين الأفغاني، رجاء النقاش، سهير القلماوي، عبد الحميد جودة السحار، عبد الرحمن شكري، لطيفة الزيات، أحمد أمين، يحيى حقي، محمد عبده، جورجي زيدان، أسامة أنور عكاشة، سعد الله ونوس، ميخائيل نعيمة، وعاطف الطيب.

يبدأ الكتاب ببورتريه عن الصحافية المصرية الرائدة، والناشطة النسوية، أمينة السعيد، التي كانت ضمن أول دفعة جامعية تضم فتيات، والتي ترأست دار الهلال العريقة، فكانت أول امرأة تترأس مؤسسة صحافية، وتولت رئاسة تحرير مجلة «حواء»، كما كانت وكيلة نقابة الصحافيين في سابقة لا تتكرر كثيراً. وبعيداً عن الصحافة، كتبت القصة القصيرة، وكانت في أعمالها الأدبية تركز على المثالب الاجتماعية ونقد المجتمع ومشكلاته ومناقشة عاداته المتجمدة وعيوبه الداخلية. ويركز المؤلف على علاقتها بأبيها الذي أصر على أن تكمل دراستها الجامعية ولا تتزوج قبل إنهائها، وكان هذا وعدها له، ثم علاقته بزوجها بعد ذلك، ويرى الجابري أنه بسبب هذه العوامل «لا تجد عند أمينة السعيد نزق النسويين الجدد، أو كراهية مخبوءة للرجل دون داع».

وينتقل الكتاب إلى مي زيادة، وأثرها في الحياة الثقافية العربية، رغم محاولة حبسها في الرسائل المتبادلة بينها وبين العديد من المثقفين، ويرى المؤلف أن مي «لم يجن عليها شيء مثل انفتاحها على الآخرين فتعددت صورها، حتى لم يبق إلا ظلال لا تعكس شيئاً قاطعاً، فمي التي رسمها العقاد تختلف عن التي رسمها شبلي شميل، عن صورتها لدى الأب أنستاس الكرملي، عنها لدى الرافعي وطه حسين وسلامة موسى ولطفي السيد وولي الدين يكن وأنطون الجميل وغيرهم. لقد اقتربوا جميعاً منها، وكل منهم رآها من وجهة نظره هو، فظن أن روايته هي الزاوية الفاصلة الحقيقية الوحيدة، حتى كأن الإنسانة ليس لها وجود، وإنما هناك وجود لظلالها، وانعكاسات لرسمها، وأشكال لسطورها على الورق».

ويبدأ بورتريه جمال الدين الأفغاني بمشهد شديد الجدة، وهو مشهد أحفاده وهم يتعلقون بالطائرة الأميركية هرباً مما يخشون منه في بلادهم، ورغبة في الهرب منها فوق طائرة المستعمر، في حين كان جدهم الأفغاني يحمل على عاتقه طوال مسيرته مناهضة الاستعمار، وانتقل بين مصر والهند وعدة دول أخرى منادياً بالتحرر من الاستعمار، ويعرج المؤلف على جهوده في الصحافة والفكر والتجديد، وعلاقته بتلاميذه مثل الإمام محمد عبده وغيره، وكراهية الحكام له، وطرده من أكثر من بلد، لأنه كان مصدر خطر لكثير منهم، ويرتابون في وجوده في بلادهم.

ينتقل الكتاب بعد ذلك للناقد والصحافي المصري رجاء النقاش، المعروف عنه أنه كان مكتشف الأصوات الإبداعية الجديدة، فقد كتب عن الطيب صالح ومحمود درويش في بداياتهما، وكانت كتابته النقدية نموذجاً للتوسط بين الأكاديمية الجافة والتغطية الصحافية السريعة، وكتب عن الشعر والقصة والرواية والمسرح، وقد ترأس مجلتي الهلال والكواكب في مصر، و«الراية» و«الدوحة» في قطر، وتنقل بين صحف ومجلات روزاليوسف والأخبار، وأحيا الصحافة الثقافية بعد ركودها لفترة.

وفي بورتريه عن الأكاديمية والناقدة سهير القلماوي، يرصد الجابري مواطن رياداتها المتعددة وقتالها على جبهات لا تنتهي، فقد كانت أول فتاة تحصل على الماجستير تحت إشراف طه حسين في جامعة القاهرة، فكانت تلميذته النجيبة، وسافرت إلى فرنسا لإعداد رسالتها للدكتوراه عن «ألف ليلة وليلة»، وقد كافحت للاعتراف بالأدب الشعبي إلى جوار الآداب الرسمية، كما كانت أول أستاذة في جامعة القاهرة وأول امرأة تتولى رئاسة قسم اللغة العربية، وأول رئيسة للهيئة العامة للكتاب، وهي التي أطلقت معرض القاهرة الدولي للكتاب عام 1969، كما كانت لها الريادة في أدب الأطفال، والكتابة فيه، والمطالبة بالاهتمام به، فضلاً عن حضورها الثقافي خارج جدران الجامعة، ومحاولة مواكبة أحدث المناهج النقدية التي كانت جديدة آنذاك.

ويرسم الكتاب صورة للكاتبة والمترجمة والمناضلة اليسارية الدكتورة لطيفة الزيات، التي «جسدت حياتها مرحلة من الجهد النسائي، حتى شكلت حضوراً طاغياً لوجوهها المتعددة؛ مناضلة سياسية أو مترجمة أو أستاذة جامعية أو مبدعة سرد من عيار فريد»، ويتوقف عند أهمية عدد من أعمالها الأدبية والسيرية مثل «الباب المفتوح» و«الشيخوخة» و«حملة تفتيش» و«أوراق شخصية» و«صاحبة البيت» و«الرجل الذي عرف تهمته»، وكذلك عند منهجها في النقد.

وعن يحيى حقي، الموظف ذي الأصول التركية والهوى الصعيدي، يقول إنه خرج من تجربة عمله في وزارة الخارجية برؤية أكثر اتساعاً، فزار تركيا وإيطاليا وفرنسا والسعودية، بما أتاح بعداً إنسانياً واضحاً لتجربته، تجاور فيها الغربي مع غيره من التأثيرات، هذا الخليط الذي جمع المتفرقات، فتعلم التركية والألمانية والإيطالية، مضيفاً إلى الموروث المصريٍ نظيره العربي، الذي يحل بالقوة داخل الوعي المصري وظواهره، وكلك أثر الثقافة العربية على سواها.

وتتوالى البورتريهات التي تحاول التقاط ما هو جوهري في كل شخصية من التي يتناولها الكتاب، بعناوين تحاول تلخيص روح كل شخصية، مثل «عبد الحميد جودة السحار... حتمية التقاء السينما بالأدب»، و«عبد الرحمن شكري... الرائد المنسي والمنسحب النبيل»، و«أحمد أمين يسدد الكثير من ديون التراث»، و«الإمام محمد عبده الإصلاحي الذي رحل سريعاً»، و«جورجي زيدان أو الناهض للتحيزات»، و«أسامة أنور عكاشة... سيناريست بدرجة مناضل»، و«سعد الله ونوس... أمواج مسرحية وموسيقار كبير»، و«ميخائيل نعيمة والتمرد على النمط»، و«عاطف الطيب... العزف بالكاميرا».


صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر
TT

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

صراع الإمبراطوريات والأفكار في القرن التاسع عشر

عن دار «صفصافة» للنشر في القاهرة، صدرت حديثاً رواية «الروزنامجي» للروائي المصري هشام البواردي، وتطرح تساؤلات جذرية عن الأرض والمرض، عن الغياب والبحث عن الحكايات التي تقال، وتلك التي تظل مدفونة في الحجر والجسد والخرائط القديمة، عبر سرد يمتزج فيه التاريخ بالأسطورة، والسياسة بالروح، والقرية بالميناء، في نسيج سردي نابض بالحياة، ويلامس أسئلة الإنسان الكبرى: عن العدالة والخلاص والمعنى.

في مصر أثناء القرن التاسع عشر، بين انتشار الطاعون، والصراع الخفي بين الإمبراطوريات، يصل الطبيب الإنجليزي كامبل إلى الإسكندرية، باحثاً عن رائحة الأرض الحقيقية، وحقيقة نفسه الممزقة بين الحنين والخسارة، إذ تلاحقه ذكرى ابنته «ليزا» التي اختفت مع أمها، ويقوده قدره إلى أعماق مجتمع مكلوم، تتشابك فيه خرافات الخلاص مع يقين العلم، وتلتبس فيه المعجزة بالداء. وفي قلب هذا العالم، يقف الروزنامجي، كاتب الضرائب الذي يعرف كيف تباع القرى وتوزع الأحلام، ليسجل بأمانة زائفة تقسيم البلاد والعباد.

الرواية حافلة بالشخصيات مختلفة المرجعيات الثقافية والاجتماعية والعرقية والدينية، بما يجعلها ساحة للحوار والجدل الثقافي والسياسي، خصوصاً في لحظات سياسية مأزومة، ووباء يطارد الجميع، فضلاً عن الأزمات الشخصية والوجودية لكل منهم، وتساؤلاته الروحية العميقة، وتتوزع الأحداث على خمسة فصول رئيسة، كل منها له عنوان، وهي: كامبل الإنجليزي، حياة النفوس، دلال الحبشية، المتصاحبون، الروزنامجي. وعلى مدار هذ الفصول يتنامى الصراع على السلطة والوجود والأفكار والمكتسبات، بل على الحياة، إذ تفتتح الرواية أحداثها على الوباء وانتشاره، واحتجاز الناس في محجر صحي انتظاراً للموت الذي يفتك بهم، دون العثور على دواء مناسب يعطي بعضاً من الأمل، وفي ظل هذه الأجواء يتصارع الوعي الخرافي والعقل العلمي.

يذكر أن هشام البواردي روائي مصري، من مواليد 1977 بمحافظة المنصورة، شمال القاهرة، وحاصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الأزهر عام 2000، وحصل على المركز الأول في مسابقة إحسان عبد القدوس الأدبية عن روايته «الحياة عند عتبات الموت»، كما وصلت روايته «الرجل النملة» للقائمة القصيرة لجائزة ساويرس الأدبية عام 2017.

من أجواء الرواية: «تحولت الأمتعة والملابس إلى كتلة من رماد أسود، يعبث به الهواء ويطير، أمرهم كامبل ألا يدخلوا الدير مرة أخرى، وألا يقربوه، وألا يقيموا حتى صلواتهم على عتباته، وأن يتفرقوا في الأرض لو أحبوا. فزعوا من طلبه، وجُنُّوا حين طالبهم بإحضار الجير والتحاريق حتى يطهر الدير. فتح حقيبته وبحث عن قلم، عن دهان، عن لون يرسم به العلامة النكدة على بابه، وأخبرهم أن المكان موبوء، ويجب فعل هذا حفاظاً على الإنسان والحياة. اندفع الرهبان، جميعهم، ناحية كامبل، وحملوه، وقذفوا به بعيداً عن باب الدير. وتسلح كل واحد منهم بكل ما استطاع من أسلحة للاعتداء عليه لو نهاهم، وقالوا في نفس واحد: من أنت حتى تحظر بيت الرب وتمنع الخراف من دخوله؟! لم تقدر على فعل شيء للخادم أيها العاجز، فلتفعل شيئاً يُذهب الطاعون، لو تقدر».