الأدب الإسرائيلي مناقضاً السرديّة الرسميّة لحرب 1948

سميلانسكي كان أول من كتب عن مأساة طرد الفلسطينيين من بلادهم

النزوح الفلسطيني الكبير
النزوح الفلسطيني الكبير
TT

الأدب الإسرائيلي مناقضاً السرديّة الرسميّة لحرب 1948

النزوح الفلسطيني الكبير
النزوح الفلسطيني الكبير

لم تكُ قد مضت أعوام قليلة على نشره نصّه التأسيسي عن «دولة اليهود» عام 1896، حتى كان ثيودور هيرتزل – وقد صار حينها كما نبي جديد لبني إسرائيل في أجواء الدبلوماسيّة الأوروبيّة - يجد الوقت لينشر رواية أدبيّة تحكي قصة عودة حاج يهودي تاه عن رفاق السّفر في الرّحلة إلى الأرض المقدّسة، فيأخذه الحنين إليها مسافراً على معجزة صنعها ميعاد الإيمان مع القدر: قطعة من قماش عَبَر عليها الماء إلى أرض الآباء والأجداد. هيرتزل الذي كان صحافياً وروائياً مغموراً قبل لمعان بريقه في ساحة السياسة، والممسوس برؤية يوتوبيّة لدولة عبريّة يُرحب بها العرب بينهم، لم يكن موهوباً لا في الأدب ولا في التنظير السياسي - وإن نجح بإطلاق حركة سياسيّة استيطانيّة شوهت وجه الشّرق الأوسط لمائة عام تالية وما زالت - لكن روايته تلك على سذاجتها وهُزالها الظّاهر كانت إشارة مبكرة إلى عمق تشابك السياسي بالأدبي في المشروع الصهيوني منذ بداياته الأولى، ونموذجا أوليا بليغا لفكر العنجهيّة الذي سيطبع سياسات «الدّولة» العنصريّة، ويحتكر في الوقت ذاته سرديتها لفضاء الحكاية عن تلك السياسات بآيات ملؤها الأساطير والتلفيقات.
إسرائيل التي تحتفل الشهر الحالي بسبعينية تأسيسها، لم تَحِد ولو ليوم واحد عن تعاليم عرّافها العبراني المتنقل بين السّياسة والأدب، فاقتلعت الفلسطينيين أصحاب الأرض الأصليين بلا رحمة، وأسكنت بدلاً منهم مهاجرين لا يُعرف أجدادهم، وأحكمت في الآن ذاته السيطرة على قصة هذا الاقتلاع عبر ترويج نسيج محكم من الأكاذيب والصور الخياليّة التي تلّمع صورة القاتل وتزيل صورة المقتول حتى كادت تسلب الألق من القصص القديم المنحول في كتبهم المقدّسة. ولعل أحداث حرب فلسطين عام 1948 تحديداً - وأكثر من غيرها من حروب إسرائيل الكثيرة - تعرضت لجهد السلطات الممنهج بغرض الاحتفاظ بسيطرة حديديّة على السرديّة التاريخيّة عنها. وغلّفت تلك الحرب المؤلمة، التي كانت الحدث المفصلي الأهم في الشرق الأوسط ربما طوال القرن العشرين كلّه وأثّرت على مصائر أنظمته وشعوبه دون استثناء، بعناية فائقة بقماشات توراتيّة ومبالغات مؤدلجة لتكرس انتصار الدولة العبريّة العسكري الحاسم احتلالاً للأذهان يُتوّج الإسرائيليين أبطالاً مؤلهين والفلسطينيين أوغاداً باهتين، مع إلقاء ظلال كثيفة على كل العنف المقّدس وسياسات التطهير الممنهج والتهجير والعزل الذي أوقعته الدولة الوليدة بأصحاب الأرض، حتى إن وزيراً للتربية (يوري تامير) كاد يفقد منصبه الحكومي عندما سمح في لحظة سهو بتضمين كتاب مدرسي عن التاريخ موجه لفلسطينيي 1948، الذين فُرضت عليهم الجنسيّة الإسرائيليّة، فقرة واحدة تذكر كلمة «النكبة» لتصف رؤية العرب لهزيمتهم القاسية في الحرب.
نجحت السلطات الإسرائيليّة بامتلاك السرديّة التاريخيّة عن حرب 1948 مستفيدة من أن الوثائق الرسميّة محميّة لثلاثين سنة مقبلة على الأقل، وأن المؤرخين والإعلاميين والمثقفين والأكاديميين الإسرائيليين عموماً انخرطوا في مؤامرة ترويج أفيون الكذب عن معجزة الانتصار والبراءة من دماء الضحايا، بينما تشظى الفلسطينيون بين المنافي والاحتلال دون قدرة فعليّة على مناهضة تاريخ المنتصرين - أقلّه على الساحة الدّوليّة -. والأهم من ذلك كلّه أن الدّول العربيّة المجاورة للكيان الجديد اعتمدت سرديّات مفتعلة محليّة لها عن مجريات تلك الحرب ألقت فيها - ودون الكشف عن وثائق أو إسنادات - بلائمة الهزيمة على العرب الآخرين، والعالم المناهض، وثمنت عالياً جهوداً مزعومة أو حقيقية لجيوشها في معارك فرعيّة مختارة، وهو الأمر الذي سهل على السلطات الإسرائيليّة مسألة طمس الوقائع وبيع الأساطير. لكن سُتر الظلام المتقاطع هذه، ما لبثت أن خُرقت من حيث لم يتوقع السياسيون المهيمنون على الكيان: بوابة الأدب الإسرائيلي تحديداً.
كانت تجربة تحققِ استقلال إسرائيل وبناء الدّولة على أنقاض فلسطين تجربة مؤلمة للضحايا كما للمجرمين أنفسهم، وهي تمكنت من مخاطبة إنسانيّة بعض الأفراد ثاقبي الرؤية فحررتهم من وهج جدار الخزعبلات الأسطوريّة التي أنتجها تلامذة العرّاف الممسوس هيرتزل، فسجّل بعضهم متسربلاً بنصوص روائيّة لوحات من ألم مخنوق شاهدوه في عيون الضحايا أو في ضمير القاتلين. ربما كان أول هؤلاء يزهار سميلانسكي (1916 - 2006) رائد الأدب الإسرائيلي في روايته القصيرة «خربة خزعة» التي سجّل فيها حادثة تهجير متعمد لأهل قرية فلسطينيّة كتبها أثناء حرب فلسطين عام 1948 (التي استمرت فعلياً لعشرين شهرا من إلغاء الانتداب إلى توقيع اتفاق لوقف النار من آخر دولة عربيّة شاركت في الحرب) وصوّر فيها تمسك الفلسطينيين بكرامتهم بينما هم يطردون من بلادهم على يد الجنود الإسرائيليين قساة القلوب. يَخفض الراوي - الإسرائيلي - في الحكاية عينيه خجلاً من حزن صارم عميق لمحه في عيون سيّدة عربيّة كانت تترك بيتها مهزومة غير مكسورة، ليغرق بعده في لجة أحزان حملها وجدان الشعب اليهودي في منافيه الأوروبيّة الكثيرة: لقد كان شعباً خبر النفي والتهجير ينقلب اليوم من ضحيّة إلى قاتل يتماثل مع من قتله وهجره. تشد خناقها الغُربة على بطل الرواية في «خربة خزعة» فيقول: «كأني لا يقبلني المكان نفسه». بعدها كتب سميلانسكي قصة قصيرة شهيرة نشرها عام 1948 بعنوان «السّجين» وفيها يخاطب جندي إسرائيلي نفسه في مونولوج داخلي عن الفظائع التي ارتكبها الإسرائيليون خلال أعمال تهجير الفلسطينيين عام 1948 فيقول: «إذا كان لا بدّ من تلك الممارسات القذرة فليقم بها الآخرون. وإذا كان لا بدّ من التلّوث بالبشاعة فليمد آخرون غيري بأيديهم؛ أنا شخصياً لا أستطيع»، ثم يتألم وهو يروي الأحداث التي عايشها: «لقد كرهت وجودي كلّه». كانت «السجين» كما حكاية عن ألم سرد الحكايا.
لحق روائيون إسرائيليون آخرون كبارٌ بسميلانسكي، وتجرأوا على البوح في فضاء الرواية حصراً. عاموس عوز وديفيد غروسمان و«إيه. بي. يوشع» وغيرهم مجالاً لعاقل لأن يصدّق أوهام المعجزة والبراءة التي كانت تروجها المؤسسة الرسميّة. كما ساهمت روايات كتبها أدباء فلسطينيون أُسْرِلُوا وكتبوا بالعبرية أو ترجمت نصوصهم لها، مثل «المتشائل» لإميل حبيبي و«أرابيسك» لأنطون شمّاس، في تصوير ملامح أخرى من عذابات الخاسرين في الحرب.
هذه الإشارات الخاطفة عن سرديّة مناقضة للديماغوجيّة الرسميّة ربما لم تصل إلى الجمهور الإسرائيلي العريض، رغم أن أعمال سميلانسكي تدرّس في المدارس العامة؛ فإنها قدّمت دائماً على أنها تجارب نفسيّة لأفراد بعيداً تماماً عن سيّاق الزمان - المكان الذي حاكته -، ومع ذلك، فإنها بتكرار حضورها خرقت جدار الوهم العازل في ذهن جيل جديد من المؤرخين الشباب الذين استفزتهم خبرة حرب لبنان 1982 والتضليل الذي وسم السردية الرسمية عنها، ودفعتهم للتجرؤ؛ ربما ليس على نقض المشروع الصهيوني برمته، لكن أقله على إعادة النظر في جزئيّات مختلفة من سّردية السلطات عن حرب 1948 وطرح تساؤلات نقديّة الطابع عن حقيقة الفظائع التي ارتكبت بحق أصحاب الأرض، والتي تندي جبين أي إنسان؛ ناهيك بشعبٍ أقام دولة من رغوة الخزعبلات بحجة الهولوكوست التي تعرض لها على أيدي الأوروبيين قبل سنين قليلة من 1948.
ليس كل الروائيين الإسرائيليين متوثبين للخروج من شرنقة المعرفة المقوننة في ذلك الصندوق الخانق المسمى إسرائيل. وليس كل المؤرخين الإسرائيليين - الجدد كما أصبحوا يعرفون – أنبياء حقيقة ليواجهوا أسس المشروع الصهيوني كلّها والتبرؤ منها، لكن الأدب أمطرنا دائما بالأمل بأن للكلمات أجنحة للتحليق في فضاء الحقيقة ولن تقبع حكراً في أقفاص تجار الأساطير.



إعلان القائمة الطويلة لـ«بوكر» العربية

أغلفة روايات القائمة الطويلة
أغلفة روايات القائمة الطويلة
TT

إعلان القائمة الطويلة لـ«بوكر» العربية

أغلفة روايات القائمة الطويلة
أغلفة روايات القائمة الطويلة

أعلنت الجائزة العالمية للرواية العربية الروايات المرشّحة للقائمة الطويلة بدورتها عام 2025؛ إذ تتضمّن القائمة 16 رواية. وكانت قد ترشحت للجائزة في هذه الدورة 124 رواية، وجرى اختيار القائمة الطويلة من قِبل لجنة تحكيم مكوّنة من خمسة أعضاء، برئاسة الأكاديمية المصرية منى بيكر، وعضوية كل من بلال الأرفه لي أكاديمي وباحث لبناني، وسامبسا بلتونن مترجم فنلندي، وسعيد بنكراد أكاديمي وناقد مغربي، ومريم الهاشمي ناقدة وأكاديمية إماراتية.

وشهدت الدورة المذكورة وصول كتّاب للمرّة الأولى إلى القائمة الطويلة، عن رواياتهم: «دانشمند» لأحمد فال الدين من موريتانيا، و«أحلام سعيدة» لأحمد الملواني من مصر، و«المشعلجي» لأيمن رجب طاهر من مصر، و«هوّارية» لإنعام بيوض من الجزائر، و«أُغنيات للعتمة» لإيمان حميدان من لبنان، و«الأسير الفرنسي» لجان دوست من سوريا، و«الرواية المسروقة» لحسن كمال من مصر، و«ميثاق النساء» لحنين الصايغ من لبنان، و«الآن بدأت حياتي» لسومر شحادة من سوريا، و«البكّاؤون» لعقيل الموسوي من البحرين، و«صلاة القلق» لمحمد سمير ندا من مصر، و«ملمس الضوء» لنادية النجار من الإمارات.

كما شهدت ترشيح كتّاب إلى القائمة الطويلة وصلوا إلى المراحل الأخيرة للجائزة سابقاً، وهم: «المسيح الأندلسي» لتيسير خلف (القائمة الطويلة في 2017)، و«وارثة المفاتيح» لسوسن جميل حسن (القائمة الطويلة في 2023)، و«ما رأت زينة وما لم ترَ» لرشيد الضعيف (القائمة الطويلة في 2012 و2024)، و«وادي الفراشات» لأزهر جرجيس (القائمة الطويلة في 2020، والقائمة القصيرة في 2023).

في إطار تعليقها على القائمة الطويلة، قالت رئيسة لجنة التحكيم، منى بيكر: «تتميّز الروايات الستّ عشرة التي اختيرت ضمن القائمة الطويلة هذا العام بتنوّع موضوعاتها وقوالبها الأدبية التي عُولجت بها. هناك روايات تعالج كفاح المرأة لتحقيق شيءٍ من أحلامها في مجتمع ذكوريّ يحرمها بدرجات متفاوتة من ممارسة حياتها، وأخرى تُدخلنا إلى عوالم دينيّة وطائفيّة يتقاطع فيها التطرّف والتعنّت المُغالى به مع جوانب إنسانيّة جميلة ومؤثّرة».

وأضافت: «كما تناولت الكثير من الروايات موضوع السلطة الغاشمة وقدرتها على تحطيم آمال الناس وحيواتهم، وقد استطاع بعض الروائيين معالجة هذا الموضوع بنفَسٍ مأساوي مغرقٍ في السوداوية، وتناوله آخرون بسخرية وفكاهة تَحُدّان من قسوة الواقع وتمكّنان القارئ من التفاعل معه بشكل فاعل».

وتابعت: «أمّا من ناحية القوالب الأدبيّة فتضمّنت القائمة عدّة روايات تاريخيّة، تناول بعضها التاريخ الحديث، في حين عاد بنا البعض الآخر إلى العهد العبّاسيّ أو إلى فترة محاكم التفتيش واضطهاد المسلمين في الأندلس. كما تضمّنت القائمة أعمالاً أقرب إلى السيرة الذاتيّة، وأخرى تشابه القصص البوليسيّة إلى حدّ كبير».

من جانبه، قال رئيس مجلس الأمناء، ياسر سليمان: «يواصل بعض روايات القائمة الطويلة لهذه الدورة توجّهاً عهدناه في الدورات السابقة، يتمثّل بالعودة إلى الماضي للغوص في أعماق الحاضر. لهذا التوجّه دلالاته السوسيولوجية، فهو يحكي عن قساوة الحاضر الذي يدفع الروائي إلى قراءة العالم الذي يحيط به من زاوية تبدو عالمة معرفياً، أو زاوية ترى أن التطور الاجتماعي ليس إلّا مُسمّى لحالة تنضبط بقانون (مكانك سر). ومع ذلك فإنّ الكشف أمل وتفاؤل، على الرغم من الميل الذي يرافقهما أحياناً في النبش عن الهشاشة وعن ضراوة العيش في أزمان تسيطر فيها قوى البشر على البشر غير آبهة بنتائج أفعالها. إن مشاركة أصوات جديدة في فيالق الرواية العربية من خلفيات علمية مختلفة، منها الطبيب والمهندس وغير ذلك، دليل على قوّة الجذب التي تستقطب أهل الثقافة إلى هذا النوع الأدبي، على تباين خلفياتهم العمرية والجندرية والقطرية والإثنية والشتاتية». وسيتم اختيار القائمة القصيرة من قِبل لجنة التحكيم من بين الروايات المدرجة في القائمة الطويلة، وإعلانها من مكتبة الإسكندرية في مصر، وذلك في 19 فبراير (شباط) 2025، وفي 24 أبريل (نيسان) 2025 سيتم إعلان الرواية الفائزة.

ويشهد هذا العام إطلاق ورشة للمحررين الأدبيين تنظّمها الجائزة لأول مرة. تهدف الورشة إلى تطوير مهارات المحررين المحترفين ورفع مستوى تحرير الروايات العربية، وتُعقد في الفترة بين 18 و22 من هذا الشهر في مؤسسة «عبد الحميد شومان» بالأردن.