ارتباط اللغة بالمكان والهُوية في شعر محمود درويش

بصفته فعلاً مضاداً للمشروع الاستيطاني

محمود درويش
محمود درويش
TT

ارتباط اللغة بالمكان والهُوية في شعر محمود درويش

محمود درويش
محمود درويش

كثيرة هي الدراسات التي تناولت شعر محمود درويش منذ بداياته الأولى، مروراً بتحولاته اللاحقة، والتي جعلت من إنتاجه الشعري عنواناً جمالياً وفكرياً وروحياً للفلسطينيين، سواء في أماكن الشتات أو على أرض الوطن. ولكن نادراً ما يجمع الدارس لتجليات درويش الشعرية بين الرصد العلمي المنهجي الموثق من جانب، وروح المبدع المتأججة وراء الكتابة من جانب ثانٍ، تلك الروح تلتقط نبض الإبداع الحي، وترى ما لا يراه العقل الأكاديمي المحايد. الجمع بين القراءتين هو ما نجده في كتاب «تغريدة الشاعر - أثر المكان على الهُوية في أعمال محمود درويش» تأليف الروائية الفلسطينية ليانة بدر.
الكتاب مأخوذ عن رسالة ماجستير قدمتها ليانة بدر لقسم الدراسات العربية المعاصرة في «جامعة بيرزيت» عام 2012، أي أنها تصدر في قراءة المكان من موقعها الفلسطيني، وصداقتها للشاعر - كما يظهر في إهداء الكتاب - مضافاً إلى ذلك خلفيتها الإبداعية، وحسها النقدي المرهف، وانضباطها العلمي.
يتناول الجانب النظري في الكتاب العلاقة بين المكان والهُوية، ويُبرز أهمية التركيز على دراسة علاقة الهُوية في تفاعلاتها مع المكان المفقود - المستحضر في شعر محمود درويش، وتتبع إمكانية الوصول إلى صياغات معرفية حول الهُوية والمكان في نتاجات الشاعر، بما يجاوز النظرة السائدة التي فرضتها معظم الدراسات التي عالجت الشعر الفلسطيني على أنه شعر «سياسي» و«نضالي» في المقام الأول والأخير، والتي قامت بعرضه بالتالي عبر سياق سياسي وتاريخي مباشر، منقطع عن أرضياته الجمالية والفكرية. لهذا السبب تولي الباحثة أهمية كبرى لمسألة الجانبين الجمالي والمعرفي في ظل النظر إلى تغييرات الأمكنة عبر حقب متعددة من حياة درويش، وحياة الفلسطينيين في أشعاره. كذلك تهتم بدر برصد سمات الهُوية في تغيراتها، بالنظر إلى علاقتها بمفهوم المكان عبر نتاجات الشاعر التي رسمت أشكالاً متعددة للهُوية الفلسطينية، بأبعادها الجمالية والتعددية، بعيداً عن القراءات السياسية المتعجلة، ذات البعد الواحد.
إن تتبع شعر محمود درويش من خلال رحلة الشاعر مع المكان (داخل الوطن - خارج الوطن - الرجوع - داخل الوطن وخارجه) سيكشف تعريفاً للمكان- الأمكنة من وجهة نظر أهله وأصحابه تعبر عن معاناة الفلسطينيين وإصرارهم على صياغة ذاكرتهم وصونها؛ وهو ما أدى بدوره إلى صياغة هُوية متعددة الأبعاد، تمثلها درويش وعبّر عنها باقتدار في أشعاره، خصوصاً في قصائده الأخيرة، وصولاً إلى الهُوية الكونية الأعم والأشمل. وفي هذه المرحلة استطاع درويش الوصول إلى محاورة تجربتي الوجود والعدم الإنسانيتين على المستوى الشخصي، لكي يصل إلى الانفتاح الدلالي الأشمل بمعناه الكوني.
وفي فصل بعنوان «تحولات الهُوية بالتوازي مع المكان عند الشاعر داخل الوطن» تُبرز الكاتبة ارتباط اللغة بالمكان والهُوية، فقد عمل درويش على بناء المكان الفلسطيني داخل النص عن طريق الاحتفاء باللغة العربية التي أراد الاحتلال محوها؛ لأنها تمثل قلب الهُوية النابض.
لقد شحذ هذا الشاعر طاقته الإبداعية كلها من أجل امتلاك المكان باللغة، وذلك بصفته فعلاً مضاداً للمشروع الاستيطاني، حتى تصبح الذات الشاعرة مقيمة في اللغة، وداخل جغرافيا المدن المسلوبة في آن معاً. لهذا السبب تمثل قصائد درويش الأولى جزءاً من الذاكرة الجماعية، وتقترن بالمكان الأول الذي توحد به في دواوينه المبكرة مثل: «أوراق الزيتون»، «عاشق من فلسطين»، «آخر الليل»، «العصافير تموت في الجليل»، «حبيبتي تنهض من نومها»، «محاولة رقم 7»، ففي هذه الأعمال لا نكاد نبصر الفرق بين الشاعر والمكان؛ إذ يلجأ الشاعر إلى المكان ويتوحد به لبناء ما تهدم من أشكال الحياة الفلسطينية الأولى.
وقد مثلت المرحلة البيروتية - حتى عام 1982 وما بعده بقليل - استمراراً للتركيز على الهُوية البطولية للفدائي على نحو ما يظهر في قصيدة «مديح الظل العالي» وغيرها، بينما تَبرز أيضاً الهُوية الفلسطينية المتحدية التي لا تذعن للجوء، وإنما تحاور الأمكنة الغائبة وتفاصيلها، وهي تفيض حياة في حضورها الشعري. ويَعتبر بعض النقاد أن بيروت مكان ثانٍ لولادة القصيدة الدرويشية، فقد كانت بيروت - في تلك الآونة - عاصمة للثقافة العربية التي حملت الثورة مع نشيد الحداثة، وتفاعل معها الشاعر، فأنجب حينها بعضاً من أعظم الملاحم في تاريخ الشعر العربي خلال سنوات السبعينات ومطالع الثمانينات من القرن الماضي، مثل: «أحمد الزعتر»، «قصيدة الأرض»، «قصيدة بيروت»، «مديح الظل العالي».
كما تُعتبر مرحلة الإقامة في باريس مكاناً ثالثاً لتطور القصيدة الدرويشية؛ فقد ساعد تفرد المدينة الحضاري – بصفتها عاصمةً للكتابة والأدب والفنون - على الاندماج في سوية الحياة الموجودة هناك، بما أعطى أشعاره خلال تلك المرحلة عبقاً وجمالية وتميزاً له خصوصيته، بينما واصل فيها ملحمته الغنائية التي وظّف فيها أفقاً عريضاً لاستكشاف تجارب إنسانية متعددة، بدءاً من تكثيف استخدام رموز الأساطير اليونانية التي استخدمها سابقاً أو التركيز على الرموز المتعلقة بالتاريخ العربي أو مزجها معاً كما شاء، وكما شاءت له موهبته اللامعة.
أما الإقامة بين رام الله وعمان، فتمثل مكان القصيدة الرابع، غير أن درويش لم يكن ينتظر عودة منقوصة إلى الوطن؛ إذ رفضت السلطات الإسرائيلية إقامته في فلسطين 1948، لذلك أصبح كأنه عاد ولم يعد. وذلك بالإضافة إلى إدراكه أن كل لاجئ يكتشف بقلبه أنه من المستحيل أن يعود، وحتى لو استطاع العودة جسدياً؛ فهو قد تغيّر بعمق خلال منفاه.
وتشير أشعار درويش التي كتبت في المنفى بعد الخروج من بيروت إلى ذائقة جمالية مغايرة، حافلة بالتفاصيل الدقيقة التي تُظهر أن المنفى أثّر في تأسيس هوية مختلفة لأصحابه، تبعدهم عن تقشف الموضوع النضالي الخالص. ويظهر هذا بوضوح في أعماله الصادرة بين الخروج من بيروت وإلى ما قبل العودة إلى فلسطين. أما في أعماله الأخيرة، إثر عودته إلى فلسطين، فقد سجلت تغيُّر صورة المقاتل الفدائي الذي عاد إلى وطنه ليصير إنساناً عادياً، يتحكم القدر في مصيره، فهو ليس سوى «لاعب النرد» مثله في ذلك مثل الآخرين. كذلك برزت في قصائده خلال تلك المرحلة خيارات السيرة التي هي جزء من الجدل المعقد بين خيارات ثقافية وفكرية وجمالية كبرى، لم تنفصل عن بداياتها، بل أعادته إلى أغوار أعمق من تاريخه الشخصي، وتاريخ فلسطين المكان والعناصر، لكي يضيف إليها قدرات أكبر على النفاذ إلى الواقع الفلسطيني في تجلياته العربية والعالمية. هكذا اقترن سؤال الهُوية بالسيرة الذاتية، وظل في تغيّر دائم بعد ما خرج من المكان الأول.
ويعبّر الشاعر بشكل دقيق عن سؤال الهُوية المتغيرة خلال مقابلة أجريت معه حول كتاباته الشعرية بقوله:
«هذه فعلاً رحلة بحث عن الأنا المنقسمة والموزعة. البحث عن المكان أسهل؛ لأن المكان تغيّر بوضوح، وليس هناك سؤال فلسفي كبير عند البحث عن مكان مفقود أو لدى التغيّر في شكل المكان، هناك صورة بصرّية (على الأقل) لا تحتاج إلى استقراء استشرافي، ولا إلى بصيرة، فالمكان تغيّر عياناً. الصعب هو علاقة تغيُّر المكان بتغيُّر الأنا أو تغيُّر الأنا وعلاقتها بتغيُّر المكان. من الذي غيَّر الآخر؟ هذا إشكال لم أجد له حلاً».
ويبدو هذا السؤال نفسه حاضراً في قصائد درويش، ولا سيما في آخر أشعاره في ديوانه الأخير «لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي» (2009) خصوصاً في قصيدة بعنوان «على محطة قطار سقط عن الخريطة». والجواب عند الشاعر يتكرر في إعادة للسؤال الوجودي عن كيفية تشكيل المكان الضائع، ومعناه، وانعكاسه على هُوية الإنسان. فالوقوف على المحطة لا يرتبط بانتظار القادم، ولا البحث عن جماليات ما، بل هو محاولة لإدراك موضع الذات في الكون، ومحاولة لتقصي أسباب النفي والإبعاد:
«وقفت على المحطة... لا لأنتظر القطار- ولا عواطفي الخبيثة في جماليات شيء ما بعيد- بل لأعرف كيف جُنّ البحر وانكسر المكان- كجرة خزفية، ومتى ولدت وأين عشت...».
يتمركز السؤال الحيوي في القصيدة حول فعل الولادة، أي الوجود، مترافقاً مع فعل تموضع الإنسان في حياة المكان، أي تحديد المكان الشخصي داخل المكان العام من أجل قراءة الهُوية. يحدد الشاعر علاقته بالمكان مجيباً عن سؤاله الأول في القصيدة نفسها بإعادة اكتشاف انتمائه إلى تفاصيل أرضه الأولى، محافظاً على علاقته الجسدية، وعلى أسمائه المتعددة التي تحيلنا إلى هويات متعددة، لا تكف عن التواجد في المكان الأصلي؛ ذلك أن الوجود الإنساني لأصحاب الأرض داخل المكان لا ينمحي، وهو وجود عضوي لا بديل له:
«أرى مكاني كله حولي - أراني في المكان بكل أعضائي وأسمائي».
تلك هي الهُوية- الهُويات المتعددة التي لم يتوقف عن تأكيدها في أشعاره كلها، حيث لا يمكن للاحتلال أن ينتزع منه علاقته بالأرض الأولى، حتى لو تشظت الأمكنة وانبثقت منها الهُويات المتحولة التي تجعله لاجئاً طريداً.
وفي هذا السياق، يُثْنِي درويش على إدوارد سعيد، لأنه ظل مخلصاً لصوته الأساسي بوصفه ضحيةً تقاوم الاستعمار الاستيطاني بحيث توحي قصيدته «طباق»- المهداة لسعيد - وكأنه يحاور توأمه الروحي حول أسئلة البقاء والوجود، هو الأليف الذي لا يألف المنفى، ويمتلك الحنين إلى حياة عادية مستقبلية، لها بساطة الاعتيادي، على الرغم من الرؤية المركبة. يقول درويش في هذه القصيدة:
«والهوية؟ قلتُ- فقال: دفاع عن الذات...- إن الهوية بنتُ الولادة، لكنها- في النهاية إبداعُ صاحبها، لا- وراثة ماضٍ. أنا المتعدّد. في- داخلي خارجي المتجدّدُ... لكنني- أنتمي لسؤال الضحيّة».
لقد نجح درويش في بناء منظومة جمالية كاملة، وامتلك القدرة المعرفية والموهبة الشعرية على فرض نماذج من اللغة والرؤيا والخيال على الساحة الشعرية العربية، والعالمية أيضاً من خلال الترجمة. وباختصار، ابتكر منظومة من القيم هي في وقت واحد جمالية وأخلاقية وضرورية، مثّلت برهة تاريخية وأدبية استثنائية، عاشها درويش، وهو يعلم أنه مكلف بمهمة كبرى، تمثلت في التقاط الوجدان الجمعي للأمة، وتحويل الشعر إلى قوة وطنية وثقافية، روحية ومادية، جمالية ومعرفية. وقد فعل.
* كاتبة وناقدة مصرية



كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
TT

كيف رفض أبناء «نغوغي واثيونغو» تحرير العقل من الاستعمار؟

الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته
الكاتب الكيني نغوغي واثيونغو في حفل توقيع كتابين لابنه وبنته

الروائي والمُنَظِّر الما بعد كولونيالي، الكيني نغوغي واثيونغو، (يتوسط الصورة). يقف مائلاً بجذعه إلى الأمام، ميلاً يكاد لا يُدرك، باسطاً كفيه على كتفي ابنته وانجيكو وا نغوغي (يمين الصورة)، وابنه موكوما وا نغوغي (يسار الصورة)، كأنما ليحتضنهما أو ليتأكد من وجودهما وبقائهما أمامه، أو يتوكأ عليهما بدلاً من التوكؤ على العصا التي ربما أسندها إلى الجدار خلفه، أو في أي بقعة من المكان.

الصورة لقطة لاجتماع عائلي صغير، اجتماع ربما لا يتكرر كثيراً ودائماً ولوقت طويل بين أب يعيش وحيداً إلّا من رفقة كلبه في مدينة «إرفاين» في كاليفورنيا، وابن يقيم في مدينة «إثاكا»، حيث يعمل أستاذاً للأدب في جامعة كورنيل، وابنة استقر بها المقام في مدينة أتلانتا، حيث تعمل أستاذاً للكتابة الإبداعية في كلية الفنون الجميلة في ولاية جورجيا. شتات أسري صغير، نموذج من الشتات الأفريقي (الما بعد كولونيالي) الكبير، تتخلله لحظات مثل لحظة التقائهم في الصورة لحدث يظهر خلاله الشبه بينهم، الشبه العصي على الشتات تبديده ومحوه.

الحدث فعالية توقيع موكوما لروايته الرابعة «انبشوا موتانا بالغناء»، شخصياً أفضل «انبشوا قبور موتانا بالغناء»، وتوقيع وانجيكو لروايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر» أو «فصول في بلاد فرس النهر». لا يحتاج إلى تأكيد أن عنواني الروايتين قابلان لأكثر من ترجمة. وبقدر ما تبرز الصورة، أو الحدث في الصورة، من تشابه بين الثلاثة، تقوم بوظيفة المعادل الموضوعي البصري لهذه المقالة التي تجمعهم.

النضال باللغة الأم

لكن هنالك ما لا تظهره الصورة، ولا توحي به. أقصد المفارقة التي يشكلها حضور نغوغي واثيونغو حفل توقيع روايتين مكتوبتين باللغة الإنجليزية لاثنين من أبنائه، اللغة التي توقف عن الكتابة الإبداعية بها في أواخر سبعينات القرن الماضي؛ وكان مثابراً في الدعوة إلى التوقف عن الكتابة بها.

كان قرار نغوغي التوقف عن الكتابة بالإنجليزية والتحول إلى الكتابة بلغته الأم سبباً مباشراً من أسباب اعتقاله والزج به في سجن الحراسة المشددة، عشية السنة الجديدة في عام 1977. كان ابنه موكوما في السابعة من عمره عندما ألقت السلطات الكينية القبض عليه بعد ستة أسابيع من النجاح الشعبي المدوي الذي حققه عرض مسرحيته المكتوبة بلغة «جيكويو»: «سأتزوج عندما أريد»، مسرحية أدّاها ممثلون غير محترفين من الفلاحين، واستهدفت بالانتقاد النخبة الحاكمة الكينية، مما دفع الحكومة إلى اعتقاله تحت ذريعة تشكيله خطراً على البلاد.

في زنزانته التي تحَوَّل فيها إلى مجرد رقم (K677)، وكفعل تحدٍ للسلطة أولاً، وكأداة للمقاومة والنضال من أجل تحرير العقل من الاستعمار ثانياً، بدأ نغوغي، وعلى ورق التواليت، في كتابة روايته الأولى بلغته الأم «شيطان على الصليب». يروي أن ورق التواليت كان مكدساً رصاتٍ تصل سقف الزنزانة، ورق قاس وخشن كأنما أُرِيد أن يكون استخدامه عقاباً للسجناء.

إن توقف نغوغي عن الكتابة بالإنجليزية بعد مرور ما يزيد على عشر سنوات من انعقاد «مؤتمر ماكيريري للكُتّاب الأفارقة الذين يكتبون باللغة الإنجليزية»، وضعه على مفترق طرق في علاقته مع «الماكيريريين»، الذين آمنوا بحتمية وأهمية الكتابة باللغة الإنجليزية، وفي مقدمتهم صديقه الروائي النيجيري تشينوا أتشيبي. ورغم تعكر صفو العلاقة بينهما ظل نغوغي يكنّ الاحترام لأتشيبي ومعترفاً بفضله عليه. فأتشيبي أول شخص قرأ روايته الأولى «لا تبكِ أيها الطفل» حتى قبل أن يكمل كتابتها، عندما حملها مخطوطة مطبوعة إلى مؤتمر ماكيريري أثناء انعقاده في جامعة ماكيريري في العاصمة الأوغندية كامبالا، في يونيو (حزيران) 1962. وكان له الفضل في نشرها ضمن سلسلة هاينمان للكُتّاب الأفارقة.

يقول نغوغي واثيونغو لمواطنه الكاتب كيري بركه في حوار نشر في صحيفة «ذا غارديان» (2023-6-13): «قال أتشيبي إن اللغة الإنجليزية كانت هدية. لم أوافق... لكنني لم أهاجمه بطريقة شخصية، لأنني كنت معجباً به كشخص وككاتب». أتوقع لو أن أتشيبي على قيد الحياة الآن، لعاد للعلاقة بين عملاقي الرواية في أفريقيا بعض صفائها، أو كله. فموقف نغوغي الرافض للاستمرار بالكتابة بلغة المستعمر، فَقَدَ (أو) أفقدته الأيام بعض صلابته، ويبدو متفهماً، أو مقتنعاً، وإن على مضض، بأسباب ومبررات الكتابة الإبداعية بالإنجليزية. فجلاء الاستعمار من أفريقيا، لم يضع - كما كان مأمولاً ومتوقعاً - نهاية للغات المستعمر، كأدوات هيمنة وإخضاع وسيطرة، فاستمرت لغاتٍ للنخب الحاكمة، وفي التعليم.

قرار نغوغي واثيونغو الكتابة باللغة التي تقرأها وتفهمها أمة «وانجيكو» قسم حياته إلى قسمين، ما قبل وما بعد. قِسْمٌ شهد كتاباته باللغة الإنجليزية الممهورة باسم «جيمس نغوغي»، وكتاباته بلغة «جيكويو» باسم نغوغي واثيونغو، تماماً كما قسّم مؤتمر ماكيريري تاريخ الأدب الأفريقي والرواية الأفريقية إلى ما قبل وما بعد - الموضوع الرئيس في كتاب ابنه موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية».

في نهضة الراوية الأفريقية

من البداية إلى النهاية، يرافق «مؤتمر ماكيريري» قارئَ كتاب موكوما وا نغوغي «نهضة الرواية الأفريقية... طرائق اللغة والهوية والنفوذ» (الصادر في مارس (آذار) 2024) ضمن سلسلة «عالم المعرفة» للمجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب (الكويت). وترجمه إلى العربية الأكاديمي والناقد والمترجم البروفسور صديق محمد جوهر. لم يكن كتاب نغوغي الابن الباعث على كتابة المقالة فحسب، وإنما المحفز أيضاً، حتى قبل البدء في قراءته، على قراءة رواية شقيقته وانجيكو وا نغوغي «مواسم في بلاد أفراس النهر»، وكانت ترقد على الرفّ لبعض الوقت في انتظار قراءة تهرب إلى الأمام باستمرار. فكان أن قرأت الكتابين في الوقت نفسه، منتقلاً من أحدهما إلى الآخر، بينما صورة نغوغي الأب، أو طيفه يحوم في أفق القراءة، ما جعلني أُسَلِّمُ بأن لا مفرَّ من جمع الثلاثة في مقالة واحدة، وقد وهبتِ الصورة نفسَها معادلاً موضوعياً بصرياً لها.

مؤتمر ماكيريري بآثاره وانعكاساته على الأدب الأفريقي هو الموضوع الرئيس في «نهضة الرواية الأفريقية». كانت المهمة الأولى على أجندة المجتمعين في كمبالا، الذين استثنوا من الحضور كل الذين يكتبون بغير الإنجليزية، تطويق الأدب الأفريقي بحدود التعريف. ولأنه لا توجد حدود دون نشوء لثنائية الداخل - الخارج، فإنهم لم يقصوا الآداب الأفريقية بلغات المستعمر الأخرى فحسب، بل أبقوا خارج الحدود كل الأعمال الأدبية المنشورة باللغات المحلية التي نشرت قبل 1962. على اعتبار أن كل ما سبق ماكيريرى من ثمانينات القرن التاسع عشر كان خطابة.

ينتقد موكوما أدباء ماكيريري على تعريفهم الضيق والإقصائي للأدب الأفريقي، ويدعو إلى أدب أفريقي بلا حدود، يشمل الكتابات المبكرة، وآداب الشتات الأفريقي، والقص الشعبي «popular fiction»، وإلى تقويض التسلسل الهرمي الذي فرضته «الإمبراطورية الميتافيزيقية الإنجليزية»، التي امتد تأثيرها إلى ما بعدَ جلاء الاستعمار، ولم يسلم موكوما نفسه ومجايلوه من ذلك التأثير، فقد نشأ في بيئة معادية للغات الأفريقية. من الأسئلة التي قد تبزغ في ذهن القارئ: ألم يمارس موكوما الإقصاء أيضاً؟ فقد انتقد «أصحاب ماكيريري»، ولم ينتبه إلى أن كتابه «نهضة الرواية الأفريقية» لم يتسع للرواية الأفريقية باللغة العربية وبلغات الاستعمار الغربي الأخرى في أفريقيا.

الأشياء لم تتغير في «فيكتوريانا»

بإزميل حاد نحتت وانجيكو وا نغوغي عالم القصة في روايتها «مواسم في بلاد أفراس النهر»، فجاءت لغتها سهلة وسلسلة، توهم بأن القارئ لن يواجه أي صعوبة في قراءتها. في هذا العالم تتمدد دولة «فيكتوريانا» على مساحة مناطقها الثلاث: ويستفيل ولندنشاير وهيبولاند، ويتربع فيها على عرشه «إمبراطور مدى الحياة». تقدم الرواية «فيكتوريانا» كصورة للدول الأفريقية، التي شهدت فساد وإخفاقات النخب الحاكمة وإحباط آمال الجماهير بعد الاستقلال.

الحكاية في «مواسم في بلاد أفراس النهر»، ترويها بضمير المتكلم الشخصية الرئيسة (مومبي). تبدأ السرد من سن الثالثة عشرة، من حدث له تأثير كبير في حياتها. فبعد افتضاح تدخينها السجائر مع زميلاتها في المدرسة قبل نهاية العام الدراسي بأيام، يعاقبها والداها بإرسالها برفقة شقيقها من «ويستفيل» إلى «هيبولاند» حيث تعيش عمتها سارة.

العمة سارة حكواتية انخرطت في شبابها في حركة النضال ضد المستعمرين، وبعد الاستقلال، وظفت قصصها لبث الأمل والشجاعة وتحريك الجماهير ضد الإمبراطور. الحكاية التي ترويها مومبي هي قصة نموها وتطورها إلى «حكواتية» ترث عن سارة رواية القصص، والتدخل في شؤون الإمبراطورية، لينتهي بها المطاف في زنزانة في سجن الحراسة المشددة. هنا تتسلل خيوط من سيرة نغوغي واثيونغو إلى نسيج الخطاب السردي. إن السرد كقوة وعامل تأثير وتحريض على التمرد والتغيير هو الثيمة الرئيسة في الرواية. ولدرء خطره على عرشه، يحاول الإمبراطور قمع كل أنواعه وأشكاله.

* ناقد وكاتب سعودي