شواخص العراق الفنية والتاريخية.. من المنصور إلى أبي تمام

أول من يدفع فاتورة اي تغيير في النظام السياسي

تمثال أبي تمام في الموصل قبل هدمه (يمين) و تمثال أبي جعفر المنصور في بغداد
تمثال أبي تمام في الموصل قبل هدمه (يمين) و تمثال أبي جعفر المنصور في بغداد
TT

شواخص العراق الفنية والتاريخية.. من المنصور إلى أبي تمام

تمثال أبي تمام في الموصل قبل هدمه (يمين) و تمثال أبي جعفر المنصور في بغداد
تمثال أبي تمام في الموصل قبل هدمه (يمين) و تمثال أبي جعفر المنصور في بغداد

ربما الشيء الوحيد الذي يتفق عليه الظلاميون سواء كانوا دواعش أم ميليشيات هو تمسكهم بأكثر زوايا التاريخ قتامة ورفضهم لمعاني الجمال فيه التي تعبر عنها التماثيل والنصب بأشكالها الفنية المختلفة، والتي تولى إبداعها كبار الفنانين والنحاتين العراقيين خلال العقود الستة الأخيرة من الزمن. وبذلك فإنه ليس العراقيون الأحياء وحدهم من يدفعون ثمن الحروب والأزمات التي تمر بها بلادهم منذ أكثر من عقدين من الزمن. بل التماثيل والنصب والأضرحة والمراقد والكنائس باتت هدفا «مقدسا» للمسلحين بصرف النظر عن الجهة التي ينتمون إليها.
معاول الهدم التي يحسن استخدامها الظلاميون تنظر للتمثال بوصفه خصما تاريخيا حان وقت تصفية الحساب معه مهما طال الزمن، مثل الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور مؤسس مدينة بغداد، الذي جرى تحطيم تمثاله بعد عام 2003 عند احتلال العراق من قبل الولايات المتحدة الأميركية، أو بوصفه خصما عقائديا بوصفه «شكلا من أشكال الشرك والعبودية» مثلما يحصل الآن في الموصل على يد «داعش» التي هدمت تمثال الشاعر العباسي الشهير أبي تمام والموسيقي أبي عثمان الموصلي، وتمثال «فتاة الربيع»، ونبشت قبر المؤرخ ابن الأثير، صاحب كتاب «الكامل». مسلسل هدم الرموز والشواخص التاريخية والفنية وإزالتها بات يتكرر مع تغير الأنظمة السياسية في العراق. بعد سقوط النظام الملكي في 14 يوليو (تموز) 1958 هجمت الجماهير الغاضبة على تماثيل الحكم الملكي وعلاماته في الأماكن العامة، لتضع مكانها نصبا للزعيم عبد الكريم قاسم وثورته. ومع أن الأمر بقي عند حدود المتغيرات السياسية ولم يتعدَّها إلى البعدين التاريخي والعقائدي، لكنه يبقى في كل الأحوال يمثل مفارقة لافتة للنظر في بيئة اجتماعية قابلة لكل التحولات. لكن ما حصل بعد تهديم شواخص الملكية لم يصمد هو الآخر طويلا. فقد أزيلت تلك الشواخص والرموز على يد الأنظمة التي تعاقبت على حكم البلاد، وكان آخرها ما حصل بعد عام 2003؛ إذ جرت محاولات كثيرة لأجل إزالة كل ما له علاقة بتلك الحقبة الزمنية من حياة العراقيين، رغم اعتراضات النخب المثقفة باعتبارها تشكل تاريخا يجب الحفاظ عليه وكونها تمثل جزءا من ذاكرة الوطن. ولم يزل الجدل قائما بين من يجد تبريرا لإزالة كل ما له علاقة بالماضي باعتباره نصرا وفتحا يضاف إلى احتلاله الأرض وفرض الهيمنة وإزالة الوجود السياسي، وبين من يجده انتهاكا ونسفا لذاكرة مدن كاملة، وحملة مسعورة لإزالة معالم الجمال والتأريخ في البلاد.
في هذا السياق، يقول الفنان التشكيلي والنحات خالد المبارك: «لعل أهم ما تتميز به بغداد هو ساحاتها وميادينها ونصبها التي تحكي تاريخا وحقبا مهمة عاشها العراقيون، ولا بد من المحافظة عليها باعتبارها شاهدا مهمًّا على أحداث المكان وذاكرته، وموروث البلد وأهم الأحداث السياسية فيه، وعلاقتها بالأشخاص وحكاياتهم وقصصهم». ويدعو المبارك الجهات ذات العلاقة إلى «فهم مغزى الاحتفاظ بالنصب والتماثيل ورعايتها وتقديمها للأجيال مثلما تحفظ لهم كتب التاريخ الورقية». بدوره يرى المهندس المعماري بلال عصام أن إزالة بعض النصب التذكارية والتعرض لها بالتخريب لم يكونا منهجا حكوميا دائما، فقد وقع الاعتداء من قبل بعض الجهات المجهولة على عدد من النصب والتماثيل الفنية، التي لا تشير إلى البعث وثقافته بشيء. فقد سرق تمثال عبد المحسن السعدون (رئيس وزراء عراقي في الحكم الملكي) من منصته الخاصة في وسط الشارع الذي يحمل اسمه ببغداد (شارع السعدون). ولم تجرِ إعادته أبدا، الأمر الذي دعا أحد الفنانين إلى إنجاز نسخة بديلة لهذا التمثال.
ويخشى العراقيون أن تطال يد التخريب نصبا فنية رائعة ومهمة تشكل رموزا فنية ووطنية وتاريخية، مثل نصب الحرية للنحات جواد سليم الذي يعد علامة فارقة لبغداد، وهو يقوم وسط ساحة التحرير في قلب العاصمة العراقية، ونصب «الشهيد» للنحات إسماعيل فتاح الترك الذي فاز بجوائز عالمية، ونصب «الجندي المجهول» للنحات خالد الرحال.
أما التدريسي ساجت فاضل (مدرس تاريخ معاصر)، فيقول: «النصب والتماثيل التي تمثل جزءا من تاريخ العراق يجب الإبقاء عليها من أجل تذكير الأجيال القادمة ببعض ملامح الأنظمة السابقة لأنها جزء من الذاكرة العراقية الحية»، مضيفا: «في فرنسا مثلا هناك قوس النصر الذي أقيم منذ عهد نابليون بونابرت وما يزال شاخصا إلى الآن، علما بأن نابليون قد ساق فرنسا إلى الهلاك، وفي ألمانيا فإن مطار برلين الدولي هو بالأصل المقر الرئاسي لهتلر الذي كان شديد التحصين في تلك الفترة وهو في الوقت نفسه كانت تقام فيه الاستعراضات العسكرية». وتتفق معه الفنانة التشكيلية العراقية ذكرى سرسم بقولها: «واقع البلاد اليوم صار يفتقر لأي وثائق تحكي ما حصل، لأن كل حقبة تحاول محو ما قبلها، وأصبح الشك يساورنا إزاء أحداثها، في حين أن كل دول العالم تحمي أعمالها الفنية ووثائقها وتحاول لأنها شاهد حي على الأحداث الماضية.. إن هويتنا تختفي تماما بسبب تلك الهجمة المتكررة على النصب والتماثيل».
ومن محافظة بابل، وصف الفنان فاخر محمد عملية هدم الرموز والنصب والتماثيل وإزالتها بالهجمة الظلامية والمتخلفة والمظلمة، وهي ظاهرة ليست بالجديدة، فأهم المعالم التراثية في حضارات بابل وآشور وسومر جرى الاعتداء عليها بالطريقة نفسها من قبل المعتدين. وأشار إلى «أن تلك الهجمات تأتي من تصورات عقلية متخلفة بأن تلك الرموز تمثل جزءا أساسيا من الوجود السياسي لعهد ما، وعملية إزالتها هي جزء من إزالة ذلك الوجود».
وتشير المصادر الصحافية إلى أن مرحلة ما بعد صدام شهدت هي الأخرى حملة حكومية لإزالة نصب بارزة في العراق مثل نصب «بلاط الشهداء» و«الأسير العراقي» في ساحة المستنصرية، ونصب «المقاتل العراقي» في ساحة باب المعظم، ونصب «المسيرة» في ساحة المتحف، وجدارية التأميم عند مدخل وزارة التجارة، ونصب «اللقاء في وسط العاصمة»، إضافة إلى تسريبات من احتمالية إزالة التمثال الكبير الذي يتحدث عن الحرب العراقية الإيرانية، في ساحة الاحتفالات (مقر للقيادات الحاكمة في البلاد اليوم) وسط العاصمة بغداد، الذي يتكون من سيفين ضخمين يرسمان في الفضاء قوسا شاسعا تمسكهما قبضتان، وتحت السيفين خمسة آلاف خوذة لجنود إيرانيين، وهي خوذات حقيقية جمعت من ساحات المعارك التي دارت بين الطرفين، وكان صدام قد اشترط في وقتها على جامعيها أن تكون تلك الخوذات قد ثقبها رصاص الحرب وخلفت قتلى. وكانت الساحة الواسعة تحت السيفين قد سميت «ساحة الاحتفالات».
مختصون في وزارة السياحة والآثار العراقية عبروا عن مخاوفهم من هجمة تخريب الآثار الأخيرة في المحافظات التي تشهد نزاعات مسلحة وطلبت من المنظمات الدولية الراعية للآثار التدخل الفوري واتخاذ كل ما يلزم من أجل توفير الحماية الكافية ومراقبة المواقع الأثرية، مشيرة إلى أن «نحو خمسة آلاف موقع أثري تتوزع في محافظات الموصل وديالى وكركوك والأنبار وصلاح الدين تتعرض لعمليات التخريب والسرقة والتهريب المنظم من قبل عصابات الآثار الدولية والإقليمية وحتى المحلية، بالإضافة إلى الأضرار الناجمة جرّاء العمليات العسكرية».



إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر
TT

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

إعلان القائمة الطويلة لجائزة بوكر

أعلنت لجنة الجائزة العالمية للرواية العربية (المعروفة بـ«البوكر العربية») صباح اليوم القائمة الطويلة لدورة عام 2026. وتم اختيار الـ16 المرشحة من بين 137 رواية، ضمن 4 روايات من مصر، و3 من الجزائر، و2 من لبنان، ورواية واحدة من السعودية، والعراق، والمغرب، وسوريا، واليمن، وتونس، وعمان. وتنوعت الموضوعات والرؤى التي عالجتها هذه الروايات كما جاء في بيان اللجنة، وهي:

«ماء العروس» للسوري خليل صويلح، و«خمس منازل لله وغرفة لجدتي» لليمني مروان الغفوري، و«الاختباء في عجلة الهامستر» للمصري عصام الزيات، و«منام القيلولة» للجزائري أمين الزاوي، و«عمة آل مشرق» لأميمة الخميس من السعودية، و«عزلة الكنجرو» لعبد السلام إبراهيم من مصر، و«أيام الفاطمي المقتول» للتونسي نزار شقرون، و«البيرق» للعُمانية شريفة التوبي، و«فوق رأسي سحابة» للكاتبة المصرية دعاء إبراهيم، و«في متاهات الأستاذ ف. ن.» للمغربي عبد المجيد سباطة، و«الرائي: رحلة دامو السومري» للعراقي ضياء جبيلي، و«غيبة مي» للبنانية نجوى بركات، و«أصل الأنواع» للمصري أحمد عبد اللطيف، و«حبل الجدة طوما» للجزائري عبد الوهاب عيساوي، و«الحياة ليست رواية» للبناني عبده وازن، و«أُغالب مجرى النهر» للجزائري سعيد خطيبي.

وستُعلَن القائمةُ القصيرة للجائزة في فبراير (شباط) المقبل، والرواية الفائزة في التاسع من أبريل (نيسان) 2026 في احتفالية تُقام في العاصمة الإماراتية أبوظبي.


متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال
TT

متى ينتهي زمن الوصاية على الفنان العربي؟

من أعمال الفنان ثائر هلال
من أعمال الفنان ثائر هلال

كان للسوري خالد سماوي مشروع رؤيوي مهم عبر، من خلال قاعته «أيام»، عن سعته في احتواء التجارب الفنية العربية، السورية منها بشكل خاص. ولقد سعدت حين رأيت ذات مرة معرضاً للفنان ثائر هلال في قاعة «أيام بلندن». ما فعله سماوي كان ريادياً من جهة أنه كان جديداً من نوعه. فلأول مرة هناك قاعة عربية تعرض لفنانين عرب وسط لندن. وفي دبي كانت له قاعة أيضاً. ولكن سماوي كان قبل ذلك قد فشل في فرض فكرته عن الاحتكار الفني المعمول به عالمياً يوم أصدر فنانون سوريون بياناً يتخلون من خلاله عن العلاقة بقاعته.

أتذكر منهم عيد الله مراد ويوسف عبد لكي وفادي يازجي وياسر صافي. السوريون يعرفون بضاعتهم أكثر منا. من جهتي كنت أتمنى أن ينجح خالد سماوي في مشروعه. فهو رجل طموح، ما كان لشغفه بالفن أن ينطفئ لولا جرثومة الوصاية التي تصيب أصحاب القاعات الفنية الناجحين في العالم العربي. في العالم هناك وصاية يمارسها صاحب قاعة على عدد من الرسامين الذين يتعامل معهم وهو ما يُسمى الاحتكار المحدود، غير أن ما يحدث في العالم العربي أن تلك الوصاية تتحول إلى وصاية وطنية شاملة. كأن يمارس شخص بعينه وصاية على الفن التشكيلي في العراق ويمارس آخر وصاية على الفن في لبنان وهكذا.

الخوف على المال

حين بدأ اهتمام المزادات العالمية بعد أن أقامت فروعاً لها في دبي بالنتاج الفني العربي، حرصت على أن تقدم ذلك النتاج بوصفه جزءاً من بضاعتها القادمة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وليس من العالم العربي. ومن الطبيعي أن يكون لتلك المزادات خبراؤها الذين حتى وإن لم تكن لهم دراية فنية أو معرفة تاريخية بتحولات الحداثة الفنية في العالم العربي فإنهم كانوا على استعداد لصناعة تاريخ مجاور من أجل الترويج للبضاعة المعروضة. وبذلك صنعت المزادات إحداثيات زائفة، ذهب ضحيتها الكثير من رجال الأعمال العرب الذين لم يسمعوا بشيء اسمه النقد الفني، وهم لذلك لم يعدّوا ما يقوله نقاد الفن العرب مرجعاً يُعتد به. كانت كتيبات ومنشورات المزادات هي مرجعهم الوحيد الموثوق به. وإذا ما قلنا لهم اليوم «لا تصدقوا ما يقوله خبراء المزادات» فسيسخر الكثير من مقتني الأعمال الفنية منا، لا لشيء إلا لأن ذلك يؤثر على القيمة المادية للأعمال الفنية التي اقتنوها.

الأسوأ من ذلك أن الكثير من أصحاب القاعات الفنية في مختلف أنحاء العالم العربي صاروا يتحينون الفرص من أجل أن يتم عرض ما تكدس لديهم من أعمال فنية في تلك المزادات بسبب معرفتهم بحقيقة أن خبراءها لا خبرة لهم بالفن في العالم العربي وأن وصايتهم عليه مستلهمة من قوة المال لا من قوة الثقافة.

غياب سلطة النقد

لقد انتهى النقد الفني في العالم حين انتصر عليه المال. عبر أكثر من عشر سنوات لم تُعقد ندوات نقدية عن الفن في العالم العربي إلا بطريقة فقيرة بعيداً عن المراكز الحيوية التي كانت سوق الفن تحقق فيها نجاحاتها وأرباحها. لم يكن ذلك إلا انتصاراً لإرادة الخبراء الأجانب الذين نجحوا في العمل بعيداً عما يسببه نقاد الفن من صداع وإزعاج. في ذلك الفراغ تم تمرير الكثير من الأعمال المزورة كما تم إسباغ أهمية فنية على فنانين لا قيمة تاريخية أو فنية لأعمالهم.

قبل سنوات اتصلت بي سيدة نمساوية وطلبت اللقاء بي في أحد مقاهي لندن. حين التقيتها عرفت أنها اشترت مجموعة من الأعمال الورقية بنصف مليون درهم إماراتي رغبة منها في الاستثمار. حين رأيت تلك الأعمال اتضح لي أن تلك المرأة كانت ضحية لعملية استغفال، وأنها لن تتمكن من إعادة بيع ورقياتها لأنها لا قيمة لها. فجعت المرأة برأيي وكان واضحاً عليها أنها لم تصدقني. ذلك ما يفعله كل مقتني الأعمال الفنية العرب فهم لا يرغبون في أن يصدقوا أنهم كانوا ضحايا عمليات احتيال متقنة. في ظل غياب سلطة النقد الفني واختفاء النقاد أو اكتفاء بعضهم بالمتابعات الصحافية بعد أن أجبرتهم لقمة العيش على التحول إلى صحافيين، تستمر المزادات في تكريس سلطتها معتمدة على أموال المقتنين العرب.

محاولة لكسر الوصاية الأجنبية

وإذا ما تركنا المزادات وما يجري في كواليسها جانباً واتجهنا إلى أسواق الفن التي صارت تُقام سنوياً في مدن بعينها، فسنكتشف أن تلك الأسواق تُدار من قبل خبيرات أوروبيات. أصحاب القاعات الفنية العربية الذين شاركوا في العرض في تلك الأسواق يعرفون حقائق أكثر من الحقائق التي نعرفها ولكنهم لا يصرحون بها خشية على مصالحهم. ذلك لأن هناك شبكة من المنتفعين من تلك الأسواق في إمكانها أن تضر بهم أو هو ما يتوهمونه. ليس لأن المال جبان كما يُقال، بل لأن الإرادة ضعيفة. قيام سوق فنية عربية للفن هو الحل. ولكن ذلك الحل لن يكون ممكناً إلا بتضافر جهود أصحاب القاعات الفنية في العالم العربي. حقيقة أنا معجب بتجربة التعاون الحيوي والخلاق والنزيه بين غاليري مصر في القاهرة وغاليري إرم في الرياض. وفق معلوماتي، هذه هي المرة التي يتم فيها اختراق الحدود العربية بنتاج فني عربي. أجمل ما في الموضوع أن ذلك لا يتم من خلال فرض وصاية لا على الفن ولا على الفنانين. ليست الفكرة مدهشة فحسب، بل مفردات تنفيذها أيضاً. ذلك لأنها لا تقوم على تبادل ثقافي بين بلدين عربيين بقدر ما هي مساحة لعرض أعمال فنانين عرب بغض النظر عن هوياتهم الوطنية. ذلك التعاون مهم، كما أنه لا ينهي الوصاية الأجنبية على الفن في العالم العربي فحسب، بل أيضاً لأنه يمهد لولادة سوق نزيهة ومنصفة للفن.

حين حُول الفنانون إلى أجراء

في ظل غياب الملتقيات الفنية العربية نشط البعض في إقامة لقاءات فنية، غالباً ما تكون الجهات الراعية لها لا علاقة لها بالثقافة. فهي إما فنادق تسعى إلى الاستفادة من أوقات الكساد السياحي أو مصارف تقتطع الأموال التي تنفقها على النشاط الفني من الضرائب التي تدفعها. وهكذا ولدت ظاهرة اصطلح على تسميتها «السمبوزيوم». ذلك تعبير إغريقي يعني مأدبة الشرب من أجل المتعة مصحوباً بالموسيقى والرقص أو الحفلات أو المحادثة. ومن تجربتي الشخصية - وقد حضرت عدداً من تلك اللقاءات - فإن الأمر لا يخرج عن ذلك التوصيف إلا في منطقة واحدة، وهي أن القائمين على الـ«سمبوزيوم» كانوا يمارسون على الفنانين وصاية تجعلهم أشبه بالأجراء. لقد رأيت الرسامين والنحاتين يذهبون في ساعة محددة إلى العمل الذي لا ينتهون منه إلا في ساعة محددة. كان حدثاً فجائعياً أن يُطلب من الرسام أن يرسم ومن النحات أن ينحت.

كنت أشعر باليأس كلما رأيت تلك المشاهد. من الإنصاف القول هنا إن هناك مَن رفض أن ينضم إلى تلك الظاهرة حفظاً لكرامته. لذلك صار القيمون على تلك اللقاءات يتداولون فيما بينهم قوائم الفنانين الصالحين للوصاية. يشهد العالم لقاءات فنية شبيهة كل يوم. غير أنها لقاءات حرة فيها الكثير من البذخ، لا يشعر الفنان فيها بأن كرامته قد خُدشت وأنه صار أجيراً.


الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس
TT

الإسباني لبينيتو بيريز غالدوس... البيروقراطي في متاهته

غالدوس
غالدوس

رواية «مياو» لبينيتو بيريز غالدوس، التي صدرت في منتصف مسيرته المهنية، بترجمة مارغريت جول كوستا من الإسبانية، 302 صفحة، تصوّر معاناة موظف حكومي بيروقراطي مُسرّح من عمله.

كنت تعرّفتُ على روايات القرن التاسع عشر عندما كنتُ في الحادية عشرة من عمري، وأعيش مع عائلتي في مدريد. لكن القرن التاسع عشر الذي تعرّفتُ عليه لم يكن إسبانياً. وإذا كانت المكتبة الصغيرة للمدرسة البريطانية التي التحقتُ بها قد تضمّنت أعمالاً مترجمة لبينيتو بيريز غالدوس، فأنا لا أتذكرها، مع أن مدريد هي المدينة التي تدور فيها معظم رواياته. بدلاً من ذلك، كان هناك رفّ من روايات ديكنز، قرأتها بنهمٍ، وإن كان عشوائياً، ناسية حبكاتها وأنا أقرأها. كان غالدوس، الذي يصغر ديكنز بثلاثين عاماً قارئاً نهماً لأعمال الروائي الإنجليزي في شبابه، ويمكن ملاحظة تأثير ديكنز في شخصياته المتنوعة، وأنماطه المرسومة بشكل واسع، ومشاهده لقذارة المدن. ويشترك الكاتبان أيضاً في حماسة الإصلاح، مع أن شخصيات ديكنز في إنجلترا تُكافح التصنيع السريع، بينما في إسبانيا تُواجه شخصيات غالدوس عجز الحكومة وقوى رجعية راسخة.

غالدوس غير معروف في العالم الناطق باللغة الإنجليزية، وإن لم يكن ذلك بسبب قلة جهد المترجمين والناشرين.

عندما شرعت في كتابة هذه المراجعة، تخيلت أن عدداً قليلاً فقط من كتبه قد تُرجم، ولكن في الواقع، ظهرت نحو ثلاثين رواية باللغة الإنجليزية على مدار المائة وخمسين عاماً الماضية، نُشر العديد منها أكثر من مرة. هذه الروايات لم يبقَ منها إلا القليل، ومن المرجح أن يكون القراء المعاصرون الذين سبق لهم الاطلاع على أعمال جالدوس قد قرأوا إحدى الروايتين: «فورتوناتا وجاسينتا» (1887) أو «تريستانا» (1892)، اللتين تجذبان قراء مختلفين. «فورتوناتا وجاسينتا» رواية واقعية طموحة تُصعّد من حدة الأحداث، وتُعتبر عموماً أعظم رواية إسبانية في القرن التاسع عشر. وهي تروي قصة امرأتين على علاقة برجل واحد (غير جدير بالثقة)، بالإضافة إلى قصة مدينة مدريد، من مركزها النابض بالحياة إلى ضواحيها المتوسعة. أما «تريستانا»؛ فهي رواية أقصر وأكثر غرابة، وتدور حول فتاة يتيمة في التاسعة عشرة من عمرها يتبناها صديق لوالدها ويستغلها ببراعة. وكان لويس بونويل قد حوَّلها إلى فيلم سينمائي، وأصبحت من كلاسيكيات السينما. (قام بونويل أيضاً بتكييف روايتي غالدوس «نازارين» و«هالما»، والأخيرة بعنوان «فيريديانا»).

لم تُترجم روايتا «فورتوناتا» و«جاسينتا» إلى الإنجليزية حتى عام 1973، أي بعد نحو قرن من نشرها الأصلي. ربما يُعزى ذلك جزئياً إلى حجمها الضخم، لكن هذا التأخير يُشير إلى تدني مكانة إسبانيا في أدب القرن التاسع عشر - ففي نهاية المطاف، يُعتبر طول رواية مثل: «الحرب والسلام» أو «البؤساء» وسام فخر.

وقد يُشار أيضاً إلى ميل القراء المترجمين إلى توقع أن تُناسب الأدبيات الوطنية نمطاً مُعيناً - رومانسياً وتقليدياً في حالة إسبانيا القرن التاسع عشر. عند الأجيال السابقة، كانت رواية «دونيا بيرفكتا» أشهر رواية غالدوس بالإنجليزية، وهي عمل مبكر عن أم ريفية مُسيطرة تُحبط زواج ابنتها من ابن عمها الحضري. لغتها وحبكتها ميلودرامية، وأجواء قريتها أبسط من مدريد فورتوناتا وجاسينتا متعددة الطبقات. لكن موضوعها الأساسي - إسبانيا الحديثة الليبرالية في حرب مع قوى التقاليد المفسدة - حاضر في جميع أعماله الروائية.

تحت تأثير الكوميديا الإنسانية لبلزاك، شرع غالدوس في سبعينات القرن التاسع عشر في أولى روايتين ضخمتين، إحداهما تاريخية والأخرى اجتماعية. وفي هذه الأيام، تحول الاهتمام في إسبانيا إلى روايته التاريخية: «الحلقات الوطنية»، وهي غير متوفرة في الغالب باللغة الإنجليزية. كان هذا مشروعاً ضخماً: ست وأربعون رواية، نُشرت في خمس سلاسل على مدار مسيرته المهنية، تناول فيها تاريخ الصراع المستمر بين الملكيين الإسبان والليبراليين خلال القرن التاسع عشر.

* خدمة «نيويورك تايمز»