«القوى الناعمة» في مواجهة العائدين من «داعش»

المعتقلون السعوديون العائدون من غوانتانامو استفادوا من برامج المناصحة

مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية ساعد على تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة للمتطرفين («الشرق الأوسط»)
مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية ساعد على تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة للمتطرفين («الشرق الأوسط»)
TT

«القوى الناعمة» في مواجهة العائدين من «داعش»

مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية ساعد على تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة للمتطرفين («الشرق الأوسط»)
مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية ساعد على تصحيح بعض المفاهيم الخاطئة للمتطرفين («الشرق الأوسط»)

«إذا كان لا مفر من أذية أحد فلتؤذه بقسوة تجعلك لا تخاف من انتقامه». مقولة للمفكر نيكولو مكيافيللي قد تكون فعلياً استراتيجية يحتذى بها في أساليب الحرب والتعامل مع المتطرفين مثل «عدم التفاوض مع الإرهابيين»، إلا أن مرحلة ما بعد الإرهاب وكيفية التعامل مع المقاتلين الأجانب تستلزم تعاملاً مغايراً لذلك، أشبه بالقوى الناعمة وأسلوب احتضان الأشخاص والاهتمام بهم عن كثب من أجل منعهم من الالتفات إلى الجماعات المتطرفة ومعاودة ممارسة الإرهاب.
استعادت السعودية مؤخراً المتطرف السعودي أحمد الدربي من معتقل خليج غوانتانامو الذي نقل إليه في عام 2003، بعد اتهامه بمساعدة تنظيم القاعدة في تفجير سفن في بحر العرب. وقد صرح اللواء بسام عطية المتحدث الرسمي برئاسة أمن الدولة أن المواطن سيخضع للأنظمة المرعية بالسعودية التي تشمل استفادته من برامج مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية. وذلك ليس بالأمر الجديد، إذ إن عدداً كبيراً من المعتقلين في غوانتانامو في السابق ممن شاركوا في القتال في أفغانستان قد تم نقله إلى هذا المركز لتتم إعادة تأهيله. كذلك أصدرت المحكمة الجزائية المتخصصة في الرياض حكماً ابتدائياً بسجن عشرة متهمين سعوديي الجنسية لتأييدهم تنظيم «اعش» المتطرف بتهم تتراوح ما بين التواصل مع منتهجي الفكر الداعشي وما بين سفر أحدهم إلى سوريا ومشاركته في القتال، بمدد تتفاوت ما بين أربع إلى أربعة عشر عاماً.

عودة المقاتلين
عودة مثل هؤلاء المقاتلين تثير قضية أزمة مواجهة العالم أجمع باختلاف قاراته، أزمة عودة المقاتلين المتطرفين من مناطق الصراع مثل العراق وسوريا. وهو أمر ليس بجديد، بل من الممكن العودة إلى حقبات مختلفة في التاريخ واستلهام تجارب عودة مقاتلين تشربوا العنف الفكري واكتسبوا خبرة في حمل السلاح، إبان الثورة الأميركية والفرنسية والحرب الإسبانية الأهلية حرب الاستقلال اليونانية. تبع ذلك فيما بعد موجة أخرى من المقاتلين المؤدلجين بتطرف أصولي مثل ما حدث في الشيشان وأفغانستان وحالياً في كل من العراق وسوريا، إضافة بالطبع إلى مناطق أخرى تحمل هماً أمنياً وسياسياً مثل اليمن وليبيا وباكستان ونيجيريا. وإن أصبح الوضع أكثر خطورة حالياً، لا سيما أن العالم أصبح أكثر عولمة وانسيابية مما جعل من المتطرفين أشبه «بمتعولمين» لا دولة لهم، حتى يتم القبض عليهم وإعادتهم إلى أوطانهم، حيث تبدأ كل دولة بمعالجة مقاتليها بطرقها الخاصة.
إذ يشيع مؤخراً توجه يأتي من منطلق عدم وجود أي إرهابي ولد متطرفاً، وإنما وجدت مسببات وظروف قادته إلى مثل هذا الانتماء. إلا أن هناك نظرة براغماتية مغايرة من حكومات بعض الدول تتلخص حول فكرة القضاء على المتطرفين والتخلص من أزمة وجودهم. على سبيل المثال أكد وزير التطوير الدولي البريطاني السابق روري ستيوارت أن الطريقة المثلى للتخلص من المقاتلين البريطانيين الذين قاتلوا كجزء من تنظيم داعش في سوريا هي إبادتهم، وذلك نظراً لتمسكهم بخطاب وعقيدة الكراهية إلى الحد الذي لا يمانعون فيه بقتل أنفسهم في سبيل تحقيق مبتغى التنظيم. ويؤيده في ذلك وزير الدفاع البريطاني غافين ويليامسون، إذ يؤكد ضرورة قتلهم للتأكد من عدم عودتهم إلى بريطانيا.
ويخالف تلك النظرة عدد من المفكرين في علم الإرهاب، حسب دراسة قام بها الخبير المختص بالإرهاب البروفسور بروس هوفمان المختص بالتطرف، فإن أبرز أسباب الانتماء لجماعة إرهابية، من وجهة نظره، يكمن في الشعور بالنبذ في المجتمع، إضافة إلى مسببات نفسية اجتماعية واقتصادية وسياسية.
وقد يتطور ذلك من مظاهرات ليصبح جرائم إرهابية. وبناء على دراسات أقيمت على سجناء في كل من إيطاليا وألمانيا وتركيا فإن عامل الصدفة هو ما يحدد انتماء هؤلاء المتطرفين إلى جماعات يمينية أو يسارية. مما يؤكد وجود توجه نحو القدرة على تغييرهم، بالأخص وأن الفكر المتطرف لا ينشأ من الميلاد وإنما تتم صناعتهم وأدلجتهم. وإن لا تزال هناك بقاع محددة في العالم تعد بيئة خصبة لإنشاء المتطرفين، مثل ما حدث مع أبناء المتطرفين في «القاعدة» و«داعش» ممن ترعرعوا على أساس أن التطرف هو أمر حتمي وما يخالف ذلك يعد فكراً معادياً لهم.

ريادة تجربة المناصحة السعودية
الأمر الذي يسلط الضوء على برنامج المناصحة السعودي من خلال مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، والقدرة على إعادة تأهيل المتطرفين بشكلٍ عام، إذ تتفاوت طرق التعامل مع المتطرفين ما بين دول تسعى إلى إدماجهم في المجتمع بإيمان بقدرتهم على نبذ التطرف، وأخرى ترى أن أفضل السبل تكمن في التخلص من المتطرفين بشكلٍ عام.
وحيث إن المركز يعد من الرواد في هذا المجال، وقد واجه في بداياته تشكيكاً في القدرة على إعادة تأهيل المتطرفين، إلا أنه أصبح أنموذجاً يحتذى به ويتلقى طلبات استشارات دولية. بمبدأ يتمحور حول السعي نحو القضاء على كل ارتباط مع التنظيم الإرهابي، فإذا ما كانت العوامل اجتماعية مثل الدعم المعنوي والمجتمعاتي من جهة، من أجل التخلص من الشعور بالنبذ أو العزلة. فيما تعالج كذلك النواحي اللوجيستية مثل بناء القدرات والتعليم والتدرب الوظيفي، إضافة إلى الدعم المالي. وبالطبع معالجة التطرف الفكري.
فيما فشلت مثل هذه التجارب في إعادة تأهيل المتطرفين في دول أخرى تعاني اقتصادياً مثل إندونيسيا واليمن، بالأخص نتيجة لعدم قدرتها على تقديم رعاية والتفات لمن أطلق سراحه من أجل تقويض محاولات استقطابه من جهات متطرفة مرة أخرى.
ونجحت تجارب أخرى في منطقة جنوب شرقي آسيا، تمتلك قدرات اقتصادية أفضل مثل تجربة سنغافورة وماليزيا في إعادة تأهيل المتطرفين، وغالباً ما ينتمون للجماعة الإسلامية في تلك المنطقة.
وتتأتى فكرة المناصحة التي تعالج أزمة التطرف الفكري للإرهابيين من خلال عدة برامج، يعقب ذلك مرحلة التأهيل من خلال مقابلة أخصائيين نفسيين والخضوع لجلسات علاج نفسي والأنشطة الأخرى مثل العلاج من خلال الفن والأنشطة الرياضية والتدرب الوظيفي. ومن ثم مرحلة الرعاية ومساعدة المتطرفين في الحصول على وظيفة وسيارة وحتى الزواج. من أجل تمكينهم من الخوض في حياة طبيعية في المجتمع.
وحسب إحصائيات نشرت من مركز محمد بن نايف للمناصحة والرعاية، فقد وصل عدد المتطرفين الذين استفادوا من برنامج المناصحة في السعودية 3002 إرهابي، وقد تمت إعادة تأهيل 2597 منهم بما يصل إلى 85.8 في المائة، فيما عاد ما وصل إلى 14.2 في المائة من إجمالي المستفيدين إلى التطرف مرة أخرى. ويعد البرنامج الذي أنشئ في عام 2004، بمثابة إعادة تأهيل شامل سواء على الصعيد النفسي أو الشرعي، من أجل إعادة دمجهم في المجتمع بصورة طبيعية لا تؤدي بهم إلى العودة مرة أخرى إلى التطرف، وهو الاحتمال الأكبر لمن لم تتم إعادة تأهيله. من أجل التخلص من احتمال وجود «الستيجما» الاجتماعية، وهو إلى حد ما أقرب إلى طريقة معالجة المجرمين، إذ إن من الأسهل لهم مزاولة الأعمال الإجرامية مرة أخرى وإيجاد مجرمين آخرين يتقبلونهم في الوقت الذي يواجهون فيه استنكار المجتمع لهم ودحضهم.

التجربة الأوروبية في مكافحة الجماعات اليمينية المتطرفة
تضمن تقرير لمركز الولايات المتحدة للسلام كتب كل من جورجيا هولمر وأدريان شتني ما يصف التجربة الأوروبية في معالجة المقاتلين الأجانب خلال العقدين الماضيين، وشمل ذلك كلا من ألمانيا وهولندا وبريطانيا والدول الاسكندنافية التي طورت «برامج خروج» للأعضاء المنتمين للعصابات والجماعات اليمينية المتطرفة مثل النازيين الجدد ممن شكلوا هويات قوية وأواصر مجتمعاتية قوية.
وقد تمت الاستفادة من هذه التجارب وصهرها في قالب يلائم الجماعات المتطرفة دينياً في الآونة الأخيرة، وذلك من خلال فكر منبثق من مبادئ حقوق الإنسان والرعاية الاجتماعية وإعطاء الفرص للمتطرفين أو المجرمين السابقين في الحصول على حياة جديدة وتقديم الرعاية النفسية والاستمرار في رعايتهم فيما بعد. وفي حال وجود أي خطر فعلي أو تهديد من الجماعة الإرهابية التي كان ينتمي لها سابقاً يتم نقله إلى مكان آخر أكثر أماناً. وإن كانت التجربة الأوروبية مختلفة، لا سيما وأن المتطرفين غالبيتهم ينتمون إلى أقليات تشعر بالتهميش والنبذ المجتمعاتي. فيما لا تعد هذه البرامج الأوروبية مركزية وإنما خيارية نابعة من المبادئ الأوروبية وهي بالتأكيد بحاجة إلى تفعيل أكثر من الحكومات من أجل معالجة مشكلة فعلية.

تجربة أممية في إعادة التأهيل
تجربة منظمة الأمم المتحدة أطلق عليها مسمى (DDR) بمعنى شل الحركة ونزع السلاح والدمج، وقد تم تطبيقها في عدة دول من خلال عمليات حفظ السلام للأمم المتحدة في أفريقيا والنيبال وكوسوفو وتيمور الشرقية وكولومبيا، وتسعى نحو إبعاد هؤلاء المقاتلين السابقين من العودة إلى التنظيمات السابقة ودمجهم في مجتمعاتهم. فالتنظيمات المتطرفة بشكلٍ أو بآخر تنطلق طرق استقطابها للآخرين من مبدأ كسب القلوب والعقول، فإذا ما رفض مجتمع بأكمله هذا الفكر المتطرف صعب التغلغل فيه. الأمر الذي يعكس مدى أهمية إعداد برامج مجتمعاتية تحتضن هؤلاء المتطرفين وتظهر لهم الجانب الآخر من المبادئ الراديكالية التي سعت تلك التنظيمات لغلغلتها في أعماقهم.

ليس كل متشدد قابل للتأهيل
من أجل إعادة التأهيل لا بد من النظر في مسببات انتماء المتطرفين للتنظيم. إذ إن هناك من يتصف بالجهل الديني ويسهل انسياقه لأي شخص قادر على إقناعه، فيما ينضم آخرون للتنظيم نتيجة شعورهم بالنبذ في مجتمعهم مثلما يحدث لدى المتطرفين في أوروبا من أقليات مسلمة تشعر بالاختلاف وبالحاجة للانتماء إلى من يمثلهم بطريقة أو بأخرى. لا سيما، أولئك المتصفون بالسطحية الثقافية وعدم الإلمام أو الفهم لطبيعة الدين مما يجعلهم أكثر انقياداً لمن يتظاهر بفهمه أكثر منهم ويدعونهم للانضمام إلى دائرته التي ما هي إلا طريقة لاستقطاب متعاطفين بالإمكان تحويلهم إلى أعضاء للتنظيم. إضافة إلى أسباب أخرى اقتصادية أو قسرية مثلما حدث في سوريا والعراق، حين أجبر تنظيم داعش عدداً من الأهالي هناك الانضمام إليهم وإن كانوا غير راغبين في ذلك بعد أن تقلص أعداد مقاتليهم. وتزداد صعوبة إعادة التأهيل كلما زادت راديكالية وقناعة المتطرف في الفكر الإرهابي. فيما يلعب دور مرتبة المتطرف والدور الذي يلعبه في التنظيم عاملاً أساسياً، إذ كلما يصبح الإرهابي قائداً يستحيل إعادة تأهيله، فقد وصل إلى مرحلة تمسك بالرأي وقدرة على التأثير على اآخرين، مما يصعب تراجعه، الأمر الذي يفضي إلى إيثاره القتال حتى الممات. فيما يستحيل إعادة تأهيله، ووجوده في مقر يجمع متطرفين آخرين قد يقوده إلى تشكيل خلية جديدة.



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.