قراءة في تجديد الخطاب الديني وتفكيك الخطاب الأصولي

حتى لا تتكرر ظاهرة «داعش»

عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
TT

قراءة في تجديد الخطاب الديني وتفكيك الخطاب الأصولي

عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)

مع الاندحار والهزائم اللوجيستية التي تعرض لها «داعش» في العراق وسوريا، بدا التنظيم كأنه إلى زوال مرة أخيرة وإلى الأبد، غير أن الحقيقة تخبرنا بأن المشهد على هذا النحو لا يتجاوز أمنية عقلية، ذلك أن «داعش»، ومن قبله «القاعدة»، كان ولا يزال فكرة، أي أن حاضنته الأساسية هي الأفكار، والروئ والكلمات، والسياقات الذهنية، والخطابات الدينية.
المعروف أن للأفكار أجنحة تطير بها، كما أنها لا تموت، ولهذا فإن إعلان الحرب على الإرهاب عبر الوسائل المسلحة، وبالقوة الخشنة فقط، أمر يشبه «هش الذباب بالمطرقة»، ولهذا يبقى السؤال عن أكثر الطرق فاعلية لمواجهة الخطاب الأصولي، وهل هناك على الأرض ما يجب السعي في طريقه قبل المواجهات الأمنية؟
الشاهد أن التطرف مرض فكري، والمتطرف مريض، مصاب بحالة من الغلوّ، تسربت إلى نفسه عبر وسائل عديدة منها ما هو ديني ومنها ما هو إعلامي، فيها العنصر الثقافي وفيها الجانبان الاجتماعي والاقتصادي دفعة واحدة. ولهذا يبقى القضاء على الإرهاب، وبالضرورة، في حاجة إلى صراع العقول والألسنة، وعبر تغيير الأنماط الذهنية التي سادت عالمنا العربي والإسلامي من جهة، وبقية العوالم والعواصم الغربية من جهة ثانية، سيما وأن هناك معطيات فكرية دينية غير إسلامية عرفت طريقها إلى أوروبا وأميركا، أفرزت أصوليات يمينية خطرها لا يقل عن خطر الجماعات والمنظمات التي وُلدت ونشأت في الشرق الأوسط، وفي أجواء إسلامية الهوية والهوى.
في قراءة أخيرة للخبير الكندي «أيلوي غان» نشرتها مجلة «ميلتري جورنال» الكندية، هناك حديث عن الخطاب الديني الأصولي الذي يأخذ وقتاً طويلاً، وفي غفلة من القائمين على الأمر، حكومةً أو مجتمعاً مدنياً، قبل أن يؤثر على الأفراد أو المجموعات كي يجذبهم إلى التطرف، والفرد المتطرف، حسب باحثي العلوم الإنسانية «هو الفرد الذي يستخدم الدين لإبعاد نفسه عن المجتمع، أو لاستبعاد الآخرين».
تبدأ مسيرة التطرف من عند الخطاب الديني الذي يدخل من الآذان ليبلغ القلب. وقبل بضعة عقود لم تكن هناك من وسيلة سوى المنابر التقليدية، سواء تمثلت في الهيئات والمؤسسات التعليمية أو المساجد، والقليل جداً من المطبوعات، حيث كانت الرقابة قادرة على فرض سيطرتها على المثلث المتقدم.
غير أن التحدي والتصدي للتطرف في زمن العولمة بات قضية صعبة، سيما مع انفجار وسائط التواصل الاجتماعي، تلك التي وصفناها غير مرة بأنها قادرة على أن تضع صيفاً أو شتاء.

«الأصولية» صناعة شبة يسيرة
باتت صناعة الأصولية في حاضرات أيامنا عملية شبة يسيرة، إذ سهّلت «الإنترنت» والفضائيات صعوبات التواصل الجغرافي، فأصبح من يمتلك موقعاً على الشبكة العنكبوتية، أو موضعاً أمام كاميرا في أقصى الأرض، قادراً وفاعلاً، بل ومؤثراً سلبياً أو إيجابياً على جماهير تبعد عنه آلاف الكيلومترات، وبهذا استطاع الخطاب الأصولي الجهادي العنيف اختراق والتحايل على أشكال المواجهة التقليدية، ما يدعو إلى التفكير الهادئ والمعمق في طرق وآليات جديدة لمكافحة طاعون القرن الحادي العشرين، أي العنف الفكري والأصولية الذهنية، التي تُنتج للعالم أبناء الإرهاب غير الشرعيين.
تشخيص ظاهرة التطرف والأصولية في حقيقة الحال يحتاج إلى كتب قائمة بذاتها، وكذا أنواع وأساليب العلاج والمواجهة. غير أن نقاطاً بعينها يمكن أن تساعدنا في الطريق، وفي المقدمة منها قضية تجديد الخطاب الديني، والتي كثر الحديث عنها في شرقنا الأوسط خلال العقدين الماضيين، وبنوع خاص منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) من عام 2001 وبعد ما أطلق عليه «القاعدة»، «غزوتي واشنطن ونيويورك».
وللرد على الجماعات المتطرفة بدايةً، نشير إلى أن التجديد الذي نتحدث عنه لا يقترب من ثوابت الدين، سيما القسم الثابت من الأحكام الشرعية، التي لا تتغير ولا تتبدل، بينما المراد هو القسم الثاني المتغير الذي يبني على حسب تغير الزمان والمكان والشخص والحادثة، وهذا النوع من الأحكام المرجع فيه إلى الفقهاء في كل عصر ومصر، يجتهدون في اختيار ما يناسب حال الناس وظروفهم، وبيئتهم، مثلما فعل الإمام الشافعي عندما غيّر مذهبه القديم بالعراق إلى الجديد بمصر، بسبب تغيُّر أعراف الناس وعوائدهم، ولهذا يقول الشاعر: «والعرف في الشرع له اعتبار، لذا عليه الحكم قد يُدار».
على أن اللبنة الأولى في تقدير الكثيرين من علماء الاجتماع والنفس، عطفاً على الخبراء الأمنيين في ما خص مراجعة الخطاب الأصولي، تتصل بمؤسسات التنشئة وما يمكن أن نطلق عليه عملية «الضبط الاجتماعي»، فقد ولَّد الانفجار العشوائي للعملية التلقينية أجيالاً تراجعت كثيراً جداً عن إعمال العقل في النقل، وتوقفت عند تفسير النصوص منذ أزمنة غابرة، دون مواءمة أو ملاءمة للتنزيل مع الأزمنة المعاصرة.
الخطوة الأولى لإعادة الاعتبار لعملية المواجهة للخطاب الأصولي المتجمد تبدأ من عند النظام التعليمي؛ من دور الحضانة، وما يُعرف بـ«الكتاتيب»، ثم المدارس والجامعات، مروراً بالأندية والنقابات والتجمعات المهنية والجمعيات الأهلية.
والشاهد أن الرؤى الدينية تبقى شرقاً وغرباً المشكل الرئيس للقاعدة الثقافية، وعليه فإن أي خلل في تقديم تلك المنظومة حكماً سيصيب القيم المشتقة من الروحانيات الإيمانية ومن الفهم الواسع المرن للأديان في مقتل، ما يُنتِج لنا لاحقاً روايات يعتنقها البعض تنظر إلى المجتمعات المعاصرة على كونها فاسدة ومخترَقة من قبل تيارات تحمل عداءً تقليدياً للإسلام والمسلمين، بما في الأمر من هواجس وتزيد، وإن كانت هناك بالفعل صراعات ثقافية وفكرية طبيعية تدخل في باب «التدافع» الإنسان الطبيعي.
والثابت كذلك أن اختلال العملية التعليمية الدينية يقود إلى خطاب ديني قلق ومضطرب الملامح والمعالم، وبنوع خاص تجاه التراث الثقافي المتدفق من الماضي وقيمه، فبينما ينظر المجددون إلى أن الماضي لا ينبغي بالضرورة أن يكون كله نافعاً أو ضاراً، أيْ رفض حالة الأحادية الفكرية في الاختيار، تنزع التيارات الأصولية إلى تقديس الموروث دون مقدرة حقيقية على مساءلة الأيقونات، أو قدرة على الفرز والتمييز بين ما هو قديم يصلح لأن يكون عصرانياً، وجديد تمتد جذوره إلى ما هو خارج الأطر الثقافية المحلية والإقليمية ولا يخدم طرحاً إنسانياً أو تعايشاً إيجابياً، بل يولّد فتناً ويقود إلى كوارث مجتمعية.
يمكن القطع هنا بأن الأديان هي الركيزة الأولى لعناصر الهوية والثقافة المجتمعية، ومن هنا تتجلى أهمية أن يكون الخطاب الديني عاملاً فاعلاً في تماسك المجتمع واستقراره. وبناءً عليه فإنه لا مناص من أن تضطلع مؤسسات الضبط الاجتماعي والتي تبدأ من عند الأسرة ومنظومة التعليم وكذا منظومة الإعلام والثقافة بقضية إعادة ضبط هذا الخطاب.
في هذا الإطار الساعي لمحاربة الخطاب الأصولي، يحق لنا أن نتساءل عن الدور الخطير للمعلم، والواعظ، والإعلامي، المؤدلج بالآيديولوجيا الأصولية على اختلاف هوياتها، وعن حتمية التحقق من هويته الفكرية والحركية، وعلاقته بالمجاميع البشرية، تلاميذ وطلاباً ومريدين ومتابعين وراء الشاشات، فجميع هؤلاء يتلقون شفاهة ما يرسخ في عقولهم ولا يبرح أو يغادر أذهانهم إلى نهاية العمر، سيما أنه ليس لهم دالة من قريب أو بعيد على القراءة الواعية الناقدة، والقادرة على تخليص الثمين من الغث.
كارثة العقدين أو العقود الثلاثة الماضية لم تكن متصلة بكتاب أو موسوعة، حتى وإن كان ينتمي إلى الفكر المتشدد والمتعصب، وإنما وضحت من خلال قيادات تعليمية وإعلامية مخترَقة بالأصوليات القاتلة، وبأصوات إعلامية درجت على تقديم السم في العسل كما يقال، ما خرّج أجيالاً لا تعرف غير الاتِّباع ولا تجيد فنون الإبداع، وجماعات شعبوية بالملايين تمضي وراء «دعاة» يجيدون فنون «التجييش والحشد»، التي تجري عبر وسائل الإعلام المتلفزة، والتي يتعاملون معها بعواطفهم لا بعقولهم.
على أن هناك قضية موصولة بنوع خاص بما يمكن أن نطلق عليه «فقه النوازل أو المستجدات» تلك المتصلة بالخطاب الأصولي الواصل إلى الناس عبر وسائط التواصل الاجتماعي، تلك التي عرف «داعش» بنوع خاص تسخيرها لخدمة عملياته الإرهابية حول العالم. وعليه تبقى علامة الاستفهام الحصرية: كيف الطريق إلى التعاطي معها حتى نقطع حبل الوصل مع «داعش» جديد يُولد من رحم القديم؟
هنا وباختصار غير مخلٍّ يمكننا القول إنه إذا كان أصحاب الفكر الأصولي من مستخدمي تلك الوسائط الحديثة يحملون لأشياعهم وأتباعهم ديناً وفكراً، ثقافةً ومنهجاً للحياة، وإن كانت ثقافة موت لا حياة، تعبّر عن أفكارهم وشهوتهم للنار والدمار، فإن أضعف الإيمان أن يقابَل هذا الفكر بفكر، وأن تُقارَع الحجة بالحجة. وهنا يبقى على التربويين في عالمنا العربي دور كبير في مجال حماية الشباب وتربيتهم بطريقة حديثة تتوافق مع المستحدثات وكذا التحديات.
ولعله من نافلة القول: إن المطالبة بتجديد الخطاب الديني، دون تفكيك للخطاب الأصولي المتطرف، أمر يترك فجوات وثغرات واسعة، تجعل مجابهة الطروحات والشروحات الإرهابية أمراً لا فائدة منه ولا طائل من ورائه.
ارتبط الخطاب الأصولي عضوياً بظاهرة الإرهاب، وكلاهما خرج من أحشاء ثقافة كراهية الآخر، وهذه بدورها لم تكن نبتاً شيطانياً ظهر على حين غفلة، بل أسهمت عوامل عدة في تخليقها، وفي أولها وآخرها إشكالية الخطاب غير الإنساني وغير الحضاري الذي يحتكر الحق والصواب، وينصّب من نفسه حَكماً وقاضياً على سلوك الآخرين، أولئك الذين يمتلكون أبواب الجنة وربما مفاتيحها أيضاً.
هذا الخطاب، ومن أسف شديد، كائن وقائم في الكثير من التراث الفكري الذي يحتاج إلى مراجعة، ولا نغالي إنْ قلنا «غربلة»، ومراجعة جريئة وشاملة.
وإذا كان الحديد لا يفلّه إلا الحديد، فإن الخطاب الأصولي المتطرف ربما لا ينفع معه إلا خطاب إنساني إيجابي خلّاق، يعمل على نشر قيم التسامح والتعايش بين بني البشر، وبحيث تُعطى الفرصة الجيدة لإحياء خطاب القيم الحقيقية الحاكمة للعلاقات بين بني البشر، عبر الأخوة الإنسانية الجامعة لهم، دون أدني التفاتة أو اعتبار للفروقات الطبيعية في ما بينهم مثل اختلاف الدين أو العرق أو الثقافة أو اللغة.
أفضل مَن قدّم رؤية علمية للخطاب الأصولي مؤخراً كان البروفسور الفرنسي «برنار شوفييه» الأستاذ في معهد علم النفس المرضي في جامعة ليون الفرنسية، وذلك عبر صفحات كتابه المفيد للغاية «المتعصبون... جنون الإيمان».
وعنده أن هناك أجواء بعينها تخلق فرصاً تشجع على بروز جماعة أو جماعات من الساخطين المتعصبين والمتشددين، بقدر ما يمكن للمجتمعات من تضييق نوافذ تلك الفرص، بقدر المقدرة على الانتصار في مواجهة العنف والإرهاب، حتى وإن كان المتعصبون موجودين منذ عتمة الزمان.
ونلاحظ أن البروفسور الفرنسي يضع الوقاية قبل القمع، من منطلق الوقاية خير من العلاج، سيما وأن القمع من دون الوقاية يعزز التعصب لأنه يخلق في المقابل تعصباً أسوأ بكثير –كما بيّن لنا التاريخ– من حيث شراسته واتساعه، من العنف الذي كان ينبغي علينا القضاء عليه في البداية... على أنه تتبقى هناك ملاحظة أخيرة تتصل بحتمية وجود إرادة دولية لمحاربة الأصولية، إرادة صادقة، لا تتلاعب على الأصوليين واستخدامهم من ثمّ كخناجر في خواصر يراد بها أهداف سياسية، تخدم الاستراتيجيات الكبرى للأقطاب الدولية.
الخلاصة... التطرف لا يفيد، وأمام الخطاب الكاره للآخر لا بد من خطاب إيجابي بملامح ومعالم تعيد أنسنة الحياة البشرية.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
TT

«المراجعات»... فكرة غائبة يراهن عليها شباب «الإخوان»

جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)
جانب من اعتصام «الإخوان» في ميدان «رابعة» بالقاهرة عام 2013 عقب عزل مرسي (الشرق الأوسط)

بين الحين والآخر، تتجدد فكرة «مراجعات الإخوان»، الجماعة التي تصنفها السلطات المصرية «إرهابية»، فتثير ضجيجاً على الساحة السياسية في مصر؛ لكن دون أي أثر يُذكر على الأرض. وقال خبراء في الحركات الأصولية، عن إثارة فكرة «المراجعة»، خصوصاً من شباب الجماعة خلال الفترة الماضية، إنها «تعكس حالة الحيرة لدى شباب (الإخوان) وشعورهم بالإحباط، وهي (فكرة غائبة) عن قيادات الجماعة، ومُجرد محاولات فردية لم تسفر عن نتائج».
ففكرة «مراجعات إخوان مصر» تُثار حولها تساؤلات عديدة، تتعلق بتوقيتات خروجها للمشهد السياسي، وملامحها حال البدء فيها... وهل الجماعة تفكر بجدية في هذا الأمر؟ وما هو رد الشارع المصري حال طرحها؟
خبراء الحركات الأصولية أكدوا أن «الجماعة ليست لديها نية للمراجعات». وقال الخبراء لـ«الشرق الأوسط»: «لم تعرف (الإخوان) عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى الأهداف»، لافتين إلى أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (محنة) للبقاء، وجميع قيادات الخارج مُستفيدين من الوضع الحالي للجماعة». في المقابل لا يزال شباب «الإخوان» يتوعدون بـ«مواصلة إطلاق الرسائل والمبادرات في محاولة لإنهاء مُعاناتهم».

مبادرات شبابية
مبادرات أو رسائل شباب «الإخوان»، مجرد محاولات فردية لـ«المراجعة أو المصالحة»، عبارة عن تسريبات، تتنوع بين مطالب الإفراج عنهم من السجون، ونقد تصرفات قيادات الخارج... المبادرات تعددت خلال الأشهر الماضية، وكان من بينها، مبادرة أو رسالة اعترف فيها الشباب «بشعورهم بالصدمة من تخلي قادة جماعتهم، وتركهم فريسة للمصاعب التي يواجهونها هم وأسرهم - على حد قولهم -، بسبب دفاعهم عن أفكار الجماعة، التي ثبت أنها بعيدة عن الواقع»... وقبلها رسالة أخرى من عناصر الجماعة، تردد أنها «خرجت من أحد السجون المصرية - بحسب من أطلقها -»، أُعلن فيها عن «رغبة هذه العناصر في مراجعة أفكارهم، التي اعتنقوها خلال انضمامهم للجماعة». وأعربوا عن «استعدادهم التام للتخلي عنها، وعن العنف، وعن الولاء للجماعة وقياداتها».
وعقب «تسريبات المراجعات»، كان رد الجماعة قاسياً ونهائياً على لسان بعض قيادات الخارج، من بينهم إبراهيم منير، نائب المرشد العام للجماعة، الذي قال إن «الجماعة لم تطلب من هؤلاء الشباب الانضمام لصفوفها، ولم تزج بهم في السجون، ومن أراد أن يتبرأ (أي عبر المراجعات) فليفعل».
يشار إلى أنه كانت هناك محاولات لـ«المراجعات» عام 2017 بواسطة 5 من شباب الجماعة المنشقين، وما زال بعضهم داخل السجون، بسبب اتهامات تتعلق بـ«تورطهم في عمليات عنف».
من جهته، أكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «(المراجعات) أو (فضيلة المراجعات) فكرة غائبة في تاريخ (الإخوان)، وربما لم تعرف الجماعة عبر تاريخها (مراجعات) يُمكن التعويل عليها، سواء على مستوى الأفكار، أو على مستوى السلوك السياسي التنظيمي، أو على مستوى أهداف الجماعة ومشروعها»، مضيفاً: «وحتى الآن ما خرج من (مراجعات) لم تتجاوز ربما محاكمة السلوك السياسي للجماعة، أو السلوك الإداري أو التنظيمي؛ لكن لم تطل (المراجعات) حتى الآن جملة الأفكار الرئيسية للجماعة، ومقولتها الرئيسية، وأهدافها، وأدبياتها الأساسية، وإن كانت هناك محاولات من بعض شباب الجماعة للحديث عن هذه المقولات الرئيسية».

محاولات فردية
وقال أحمد بان إن «الحديث عن (مراجعة) كما يبدو، لم تنخرط فيها القيادات الكبيرة، فالجماعة ليس بها مُفكرون، أو عناصر قادرة على أن تمارس هذا الشكل من أشكال (المراجعة)، كما أن الجماعة لم تتفاعل مع أي محاولات بحثية بهذا الصدد، وعلى كثرة ما أنفقته من أموال، لم تخصص أموالاً للبحث في جملة أفكارها أو مشروعها، أو الانخراط في حالة من حالات (المراجعة)... وبالتالي لا يمكننا الحديث عن تقييم لـ(مراجعة) على غرار ما جرى في تجربة (الجماعة الإسلامية)»، مضيفاً أن «(مراجعة) بها الحجم، وبهذا الشكل، مرهونة بأكثر من عامل؛ منها تبني الدولة المصرية لها، وتبني قيادات الجماعة لها أيضاً»، لافتاً إلى أنه «ما لم تتبنَ قيادات مُهمة في الجماعة هذه (المراجعات)، لن تنجح في تسويقها لدى القواعد في الجماعة، خصوصاً أن دور السلطة أو القيادة في جماعة (الإخوان) مهم جداً... وبالتالي الدولة المصرية لو كانت جادة في التعاطي مع فكرة (المراجعة) باعتبارها إحدى وسائل مناهضة مشروع الجماعة السياسي، أو مشروع جماعات الإسلام السياسي، عليها أن تشجع مثل هذه المحاولات، وأن تهيئ لها ربما عوامل النجاح، سواء عبر التبني، أو على مستوى تجهيز قيادات من الأزهر، للتعاطي مع هذه المحاولات وتعميقها».
وأكد أحمد زغلول، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أن «الجماعة لم تصل لأي شيء في موضوع (المراجعات)، ولا توجد أي نية من جانبها لعمل أي (مراجعات)»، مضيفاً: «هناك محاولات فردية لـ(المراجعات) من بعض شباب الجماعة الناقم على القيادات، تتسرب من وقت لآخر، آخرها تلك التي تردد أنها خرجت من داخل أحد السجون جنوب القاهرة - على حد قوله -، ومن أطلقها صادر بحقهم أحكام بالسجن من 10 إلى 15 سنة، ولهم مواقف مضادة من الجماعة، ويريدون إجراء (مراجعات)، ولهم تحفظات على أداء الجماعة، خصوصاً في السنوات التي أعقبت عزل محمد مرسي عن السلطة عام 2013... وتطرقوا في انتقاداتهم للجوانب الفكرية للجماعة، لكن هذه المحاولات لم تكن في ثقل (مراجعات الجماعة الإسلامية)... وعملياً، كانت عبارة عن قناعات فردية، وليس فيها أي توجه بمشروع جدي».
وأكد زغلول، أن «هؤلاء الشباب فكروا في (المراجعات أو المصالحات)، وذلك لطول فترة سجنهم، وتخلي الجماعة عنهم، وانخداعهم في أفكار الجماعة»، مضيفاً: «بشكل عام ليست هناك نية من الجماعة لـ(المراجعات)، بسبب (من وجهة نظر القيادات) (عدم وجود بوادر من الدولة المصرية نحو ذلك، خصوصاً أن السلطات في مصر لا ترحب بفكرة المراجعات)، بالإضافة إلى أن الشعب المصري لن يوافق على أي (مراجعات)، خصوصاً بعد (مظاهرات سبتمبر/ أيلول الماضي) المحدودة؛ حيث شعرت قيادات الجماعة في الخارج، بثقل مواصلة المشوار، وعدم المصالحة».
وفي يناير (كانون الثاني) عام 2015، شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي، على أن «المصالحة مع من مارسوا العنف (في إشارة ضمنية لجماعة الإخوان)، قرار الشعب المصري، وليس قراره شخصياً».
وأوضح زغلول في هذا الصدد، أن «الجماعة تتبنى دائماً فكرة وجود (أزمة أو محنة) لبقائها، وجميع القيادات مستفيدة من الوضع الحالي للجماعة، وتعيش في (رغد) بالخارج، وتتمتع بالدعم المالي على حساب أسر السجناء في مصر، وهو ما كشفت عنه تسريبات أخيرة، طالت قيادات هاربة بالخارج، متهمة بالتورط في فساد مالي».

جس نبض
وعن ظهور فكرة «المراجعات» على السطح من وقت لآخر من شباب الجماعة. أكد الخبير الأصولي أحمد بان، أن «إثارة فكرة (المراجعة) من آن لآخر، تعكس حالة الحيرة لدى الشباب، وشعورهم بالإحباط من هذا (المسار المغلق وفشل الجماعة)، وإحساسهم بالألم، نتيجة أعمارهم التي قدموها للجماعة، التي لم تصل بهم؛ إلا إلى مزيد من المعاناة»، موضحاً أن «(المراجعة أو المصالحة) فكرة طبيعية وإنسانية، وفكرة يقبلها العقل والنقل؛ لكن تخشاها قيادات (الإخوان)، لأنها سوف تفضح ضحالة عقولهم وقدراتهم ومستواهم، وستكشف الفكرة أمام قطاعات أوسع».
برلمانياً، قال النائب أحمد سعد، عضو مجلس النواب المصري (البرلمان)، إن «الحديث عن تصالح مع (الإخوان) يُطلق من حين لآخر؛ لكن دون أثر على الأرض، لأنه لا تصالح مع كل من خرج عن القانون، وتورط في أعمال إرهابية - على حد قوله -».
وحال وجود «مراجعات» فما هي بنودها؟ أكد زغلول: «ستكون عبارة عن (مراجعات) سياسية، و(مراجعة) للأفكار، ففي (المراجعات) السياسية أول خطوة هي الاعتراف بالنظام المصري الحالي، والاعتراف بالخلط بين الدعوة والسياسة، والاعتراف بعمل أزمات خلال فترة حكم محمد مرسي... أما الجانب الفكري، فيكون بالاعتراف بأن الجماعة لديها أفكار عنف وتكفير، وأنه من خلال هذه الأفكار، تم اختراق التنظيم... وعلى الجماعة أن تعلن أنها سوف تبتعد عن هذه الأفكار».
وعن فكرة قبول «المراجعات» من قبل المصريين، قال أحمد بان: «أعتقد أنه يجب أن نفصل بين من تورط في ارتكاب جريمة من الجماعة، ومن لم يتورط في جريمة، وكان ربما جزءاً فقط من الجماعة أو مؤمناً فكرياً بها، فيجب الفصل بين مستويات العضوية، ومستويات الانخراط في العنف».
بينما أوضح زغلول: «قد يقبل الشعب المصري حال تهيئة الرأي العام لذلك، وأمامنا تجربة (الجماعة الإسلامية)، التي استمرت في عنفها ما يقرب من 20 عاماً، وتسببت في قتل الرئيس الأسبق أنور السادات، وتم عمل (مراجعات) لها، وبالمقارنة مع (الإخوان)، فعنفها لم يتعدَ 6 سنوات منذ عام 2013. لكن (المراجعات) مشروطة بتهيئة الرأي العام المصري لذلك، وحينها سيكون قبولها أيسر».
يُشار إلى أنه في نهاية السبعينات، وحتى منتصف تسعينات القرن الماضي، اُتهمت «الجماعة الإسلامية» بالتورط في عمليات إرهابية، واستهدفت بشكل أساسي قوات الشرطة والأقباط والأجانب. وقال مراقبون إن «(مجلس شورى الجماعة) أعلن منتصف يوليو (تموز) عام 1997 إطلاق ما سمى بمبادرة (وقف العنف أو مراجعات تصحيح المفاهيم)، التي أسفرت بالتنسيق مع الأجهزة الأمنية وقتها، على إعلان الجماعة (نبذ العنف)... في المقابل تم الإفراج عن معظم المسجونين من كوادر وأعضاء (الجماعة الإسلامية)».
وذكر زغلول، أنه «من خلال التسريبات خلال الفترة الماضية، ألمحت بعض قيادات بـ(الإخوان) أنه ليس هناك مانع من قبل النظام المصري - على حد قولهم، في عمل (مراجعات)، بشرط اعتراف (الإخوان) بالنظام المصري الحالي، وحل الجماعة نهائياً».
لكن النائب سعد قال: «لا مجال لأي مصالحة مع (مرتكبي جرائم عنف ضد الدولة المصرية ومؤسساتها) - على حد قوله -، ولن يرضى الشعب بمصالحة مع الجماعة».