قراءة في تجديد الخطاب الديني وتفكيك الخطاب الأصولي

حتى لا تتكرر ظاهرة «داعش»

عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
TT

قراءة في تجديد الخطاب الديني وتفكيك الخطاب الأصولي

عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)
عناصر من «داعش» في الرقة قبل هزيمة التنظيم الإرهابي (أ.ف.ب)

مع الاندحار والهزائم اللوجيستية التي تعرض لها «داعش» في العراق وسوريا، بدا التنظيم كأنه إلى زوال مرة أخيرة وإلى الأبد، غير أن الحقيقة تخبرنا بأن المشهد على هذا النحو لا يتجاوز أمنية عقلية، ذلك أن «داعش»، ومن قبله «القاعدة»، كان ولا يزال فكرة، أي أن حاضنته الأساسية هي الأفكار، والروئ والكلمات، والسياقات الذهنية، والخطابات الدينية.
المعروف أن للأفكار أجنحة تطير بها، كما أنها لا تموت، ولهذا فإن إعلان الحرب على الإرهاب عبر الوسائل المسلحة، وبالقوة الخشنة فقط، أمر يشبه «هش الذباب بالمطرقة»، ولهذا يبقى السؤال عن أكثر الطرق فاعلية لمواجهة الخطاب الأصولي، وهل هناك على الأرض ما يجب السعي في طريقه قبل المواجهات الأمنية؟
الشاهد أن التطرف مرض فكري، والمتطرف مريض، مصاب بحالة من الغلوّ، تسربت إلى نفسه عبر وسائل عديدة منها ما هو ديني ومنها ما هو إعلامي، فيها العنصر الثقافي وفيها الجانبان الاجتماعي والاقتصادي دفعة واحدة. ولهذا يبقى القضاء على الإرهاب، وبالضرورة، في حاجة إلى صراع العقول والألسنة، وعبر تغيير الأنماط الذهنية التي سادت عالمنا العربي والإسلامي من جهة، وبقية العوالم والعواصم الغربية من جهة ثانية، سيما وأن هناك معطيات فكرية دينية غير إسلامية عرفت طريقها إلى أوروبا وأميركا، أفرزت أصوليات يمينية خطرها لا يقل عن خطر الجماعات والمنظمات التي وُلدت ونشأت في الشرق الأوسط، وفي أجواء إسلامية الهوية والهوى.
في قراءة أخيرة للخبير الكندي «أيلوي غان» نشرتها مجلة «ميلتري جورنال» الكندية، هناك حديث عن الخطاب الديني الأصولي الذي يأخذ وقتاً طويلاً، وفي غفلة من القائمين على الأمر، حكومةً أو مجتمعاً مدنياً، قبل أن يؤثر على الأفراد أو المجموعات كي يجذبهم إلى التطرف، والفرد المتطرف، حسب باحثي العلوم الإنسانية «هو الفرد الذي يستخدم الدين لإبعاد نفسه عن المجتمع، أو لاستبعاد الآخرين».
تبدأ مسيرة التطرف من عند الخطاب الديني الذي يدخل من الآذان ليبلغ القلب. وقبل بضعة عقود لم تكن هناك من وسيلة سوى المنابر التقليدية، سواء تمثلت في الهيئات والمؤسسات التعليمية أو المساجد، والقليل جداً من المطبوعات، حيث كانت الرقابة قادرة على فرض سيطرتها على المثلث المتقدم.
غير أن التحدي والتصدي للتطرف في زمن العولمة بات قضية صعبة، سيما مع انفجار وسائط التواصل الاجتماعي، تلك التي وصفناها غير مرة بأنها قادرة على أن تضع صيفاً أو شتاء.

«الأصولية» صناعة شبة يسيرة
باتت صناعة الأصولية في حاضرات أيامنا عملية شبة يسيرة، إذ سهّلت «الإنترنت» والفضائيات صعوبات التواصل الجغرافي، فأصبح من يمتلك موقعاً على الشبكة العنكبوتية، أو موضعاً أمام كاميرا في أقصى الأرض، قادراً وفاعلاً، بل ومؤثراً سلبياً أو إيجابياً على جماهير تبعد عنه آلاف الكيلومترات، وبهذا استطاع الخطاب الأصولي الجهادي العنيف اختراق والتحايل على أشكال المواجهة التقليدية، ما يدعو إلى التفكير الهادئ والمعمق في طرق وآليات جديدة لمكافحة طاعون القرن الحادي العشرين، أي العنف الفكري والأصولية الذهنية، التي تُنتج للعالم أبناء الإرهاب غير الشرعيين.
تشخيص ظاهرة التطرف والأصولية في حقيقة الحال يحتاج إلى كتب قائمة بذاتها، وكذا أنواع وأساليب العلاج والمواجهة. غير أن نقاطاً بعينها يمكن أن تساعدنا في الطريق، وفي المقدمة منها قضية تجديد الخطاب الديني، والتي كثر الحديث عنها في شرقنا الأوسط خلال العقدين الماضيين، وبنوع خاص منذ الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) من عام 2001 وبعد ما أطلق عليه «القاعدة»، «غزوتي واشنطن ونيويورك».
وللرد على الجماعات المتطرفة بدايةً، نشير إلى أن التجديد الذي نتحدث عنه لا يقترب من ثوابت الدين، سيما القسم الثابت من الأحكام الشرعية، التي لا تتغير ولا تتبدل، بينما المراد هو القسم الثاني المتغير الذي يبني على حسب تغير الزمان والمكان والشخص والحادثة، وهذا النوع من الأحكام المرجع فيه إلى الفقهاء في كل عصر ومصر، يجتهدون في اختيار ما يناسب حال الناس وظروفهم، وبيئتهم، مثلما فعل الإمام الشافعي عندما غيّر مذهبه القديم بالعراق إلى الجديد بمصر، بسبب تغيُّر أعراف الناس وعوائدهم، ولهذا يقول الشاعر: «والعرف في الشرع له اعتبار، لذا عليه الحكم قد يُدار».
على أن اللبنة الأولى في تقدير الكثيرين من علماء الاجتماع والنفس، عطفاً على الخبراء الأمنيين في ما خص مراجعة الخطاب الأصولي، تتصل بمؤسسات التنشئة وما يمكن أن نطلق عليه عملية «الضبط الاجتماعي»، فقد ولَّد الانفجار العشوائي للعملية التلقينية أجيالاً تراجعت كثيراً جداً عن إعمال العقل في النقل، وتوقفت عند تفسير النصوص منذ أزمنة غابرة، دون مواءمة أو ملاءمة للتنزيل مع الأزمنة المعاصرة.
الخطوة الأولى لإعادة الاعتبار لعملية المواجهة للخطاب الأصولي المتجمد تبدأ من عند النظام التعليمي؛ من دور الحضانة، وما يُعرف بـ«الكتاتيب»، ثم المدارس والجامعات، مروراً بالأندية والنقابات والتجمعات المهنية والجمعيات الأهلية.
والشاهد أن الرؤى الدينية تبقى شرقاً وغرباً المشكل الرئيس للقاعدة الثقافية، وعليه فإن أي خلل في تقديم تلك المنظومة حكماً سيصيب القيم المشتقة من الروحانيات الإيمانية ومن الفهم الواسع المرن للأديان في مقتل، ما يُنتِج لنا لاحقاً روايات يعتنقها البعض تنظر إلى المجتمعات المعاصرة على كونها فاسدة ومخترَقة من قبل تيارات تحمل عداءً تقليدياً للإسلام والمسلمين، بما في الأمر من هواجس وتزيد، وإن كانت هناك بالفعل صراعات ثقافية وفكرية طبيعية تدخل في باب «التدافع» الإنسان الطبيعي.
والثابت كذلك أن اختلال العملية التعليمية الدينية يقود إلى خطاب ديني قلق ومضطرب الملامح والمعالم، وبنوع خاص تجاه التراث الثقافي المتدفق من الماضي وقيمه، فبينما ينظر المجددون إلى أن الماضي لا ينبغي بالضرورة أن يكون كله نافعاً أو ضاراً، أيْ رفض حالة الأحادية الفكرية في الاختيار، تنزع التيارات الأصولية إلى تقديس الموروث دون مقدرة حقيقية على مساءلة الأيقونات، أو قدرة على الفرز والتمييز بين ما هو قديم يصلح لأن يكون عصرانياً، وجديد تمتد جذوره إلى ما هو خارج الأطر الثقافية المحلية والإقليمية ولا يخدم طرحاً إنسانياً أو تعايشاً إيجابياً، بل يولّد فتناً ويقود إلى كوارث مجتمعية.
يمكن القطع هنا بأن الأديان هي الركيزة الأولى لعناصر الهوية والثقافة المجتمعية، ومن هنا تتجلى أهمية أن يكون الخطاب الديني عاملاً فاعلاً في تماسك المجتمع واستقراره. وبناءً عليه فإنه لا مناص من أن تضطلع مؤسسات الضبط الاجتماعي والتي تبدأ من عند الأسرة ومنظومة التعليم وكذا منظومة الإعلام والثقافة بقضية إعادة ضبط هذا الخطاب.
في هذا الإطار الساعي لمحاربة الخطاب الأصولي، يحق لنا أن نتساءل عن الدور الخطير للمعلم، والواعظ، والإعلامي، المؤدلج بالآيديولوجيا الأصولية على اختلاف هوياتها، وعن حتمية التحقق من هويته الفكرية والحركية، وعلاقته بالمجاميع البشرية، تلاميذ وطلاباً ومريدين ومتابعين وراء الشاشات، فجميع هؤلاء يتلقون شفاهة ما يرسخ في عقولهم ولا يبرح أو يغادر أذهانهم إلى نهاية العمر، سيما أنه ليس لهم دالة من قريب أو بعيد على القراءة الواعية الناقدة، والقادرة على تخليص الثمين من الغث.
كارثة العقدين أو العقود الثلاثة الماضية لم تكن متصلة بكتاب أو موسوعة، حتى وإن كان ينتمي إلى الفكر المتشدد والمتعصب، وإنما وضحت من خلال قيادات تعليمية وإعلامية مخترَقة بالأصوليات القاتلة، وبأصوات إعلامية درجت على تقديم السم في العسل كما يقال، ما خرّج أجيالاً لا تعرف غير الاتِّباع ولا تجيد فنون الإبداع، وجماعات شعبوية بالملايين تمضي وراء «دعاة» يجيدون فنون «التجييش والحشد»، التي تجري عبر وسائل الإعلام المتلفزة، والتي يتعاملون معها بعواطفهم لا بعقولهم.
على أن هناك قضية موصولة بنوع خاص بما يمكن أن نطلق عليه «فقه النوازل أو المستجدات» تلك المتصلة بالخطاب الأصولي الواصل إلى الناس عبر وسائط التواصل الاجتماعي، تلك التي عرف «داعش» بنوع خاص تسخيرها لخدمة عملياته الإرهابية حول العالم. وعليه تبقى علامة الاستفهام الحصرية: كيف الطريق إلى التعاطي معها حتى نقطع حبل الوصل مع «داعش» جديد يُولد من رحم القديم؟
هنا وباختصار غير مخلٍّ يمكننا القول إنه إذا كان أصحاب الفكر الأصولي من مستخدمي تلك الوسائط الحديثة يحملون لأشياعهم وأتباعهم ديناً وفكراً، ثقافةً ومنهجاً للحياة، وإن كانت ثقافة موت لا حياة، تعبّر عن أفكارهم وشهوتهم للنار والدمار، فإن أضعف الإيمان أن يقابَل هذا الفكر بفكر، وأن تُقارَع الحجة بالحجة. وهنا يبقى على التربويين في عالمنا العربي دور كبير في مجال حماية الشباب وتربيتهم بطريقة حديثة تتوافق مع المستحدثات وكذا التحديات.
ولعله من نافلة القول: إن المطالبة بتجديد الخطاب الديني، دون تفكيك للخطاب الأصولي المتطرف، أمر يترك فجوات وثغرات واسعة، تجعل مجابهة الطروحات والشروحات الإرهابية أمراً لا فائدة منه ولا طائل من ورائه.
ارتبط الخطاب الأصولي عضوياً بظاهرة الإرهاب، وكلاهما خرج من أحشاء ثقافة كراهية الآخر، وهذه بدورها لم تكن نبتاً شيطانياً ظهر على حين غفلة، بل أسهمت عوامل عدة في تخليقها، وفي أولها وآخرها إشكالية الخطاب غير الإنساني وغير الحضاري الذي يحتكر الحق والصواب، وينصّب من نفسه حَكماً وقاضياً على سلوك الآخرين، أولئك الذين يمتلكون أبواب الجنة وربما مفاتيحها أيضاً.
هذا الخطاب، ومن أسف شديد، كائن وقائم في الكثير من التراث الفكري الذي يحتاج إلى مراجعة، ولا نغالي إنْ قلنا «غربلة»، ومراجعة جريئة وشاملة.
وإذا كان الحديد لا يفلّه إلا الحديد، فإن الخطاب الأصولي المتطرف ربما لا ينفع معه إلا خطاب إنساني إيجابي خلّاق، يعمل على نشر قيم التسامح والتعايش بين بني البشر، وبحيث تُعطى الفرصة الجيدة لإحياء خطاب القيم الحقيقية الحاكمة للعلاقات بين بني البشر، عبر الأخوة الإنسانية الجامعة لهم، دون أدني التفاتة أو اعتبار للفروقات الطبيعية في ما بينهم مثل اختلاف الدين أو العرق أو الثقافة أو اللغة.
أفضل مَن قدّم رؤية علمية للخطاب الأصولي مؤخراً كان البروفسور الفرنسي «برنار شوفييه» الأستاذ في معهد علم النفس المرضي في جامعة ليون الفرنسية، وذلك عبر صفحات كتابه المفيد للغاية «المتعصبون... جنون الإيمان».
وعنده أن هناك أجواء بعينها تخلق فرصاً تشجع على بروز جماعة أو جماعات من الساخطين المتعصبين والمتشددين، بقدر ما يمكن للمجتمعات من تضييق نوافذ تلك الفرص، بقدر المقدرة على الانتصار في مواجهة العنف والإرهاب، حتى وإن كان المتعصبون موجودين منذ عتمة الزمان.
ونلاحظ أن البروفسور الفرنسي يضع الوقاية قبل القمع، من منطلق الوقاية خير من العلاج، سيما وأن القمع من دون الوقاية يعزز التعصب لأنه يخلق في المقابل تعصباً أسوأ بكثير –كما بيّن لنا التاريخ– من حيث شراسته واتساعه، من العنف الذي كان ينبغي علينا القضاء عليه في البداية... على أنه تتبقى هناك ملاحظة أخيرة تتصل بحتمية وجود إرادة دولية لمحاربة الأصولية، إرادة صادقة، لا تتلاعب على الأصوليين واستخدامهم من ثمّ كخناجر في خواصر يراد بها أهداف سياسية، تخدم الاستراتيجيات الكبرى للأقطاب الدولية.
الخلاصة... التطرف لا يفيد، وأمام الخطاب الكاره للآخر لا بد من خطاب إيجابي بملامح ومعالم تعيد أنسنة الحياة البشرية.


مقالات ذات صلة

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

العالم العربي جندي عراقي يقود دبابة (أرشيفية - رويترز)

العراق: إحباط مخطط لـ«داعش» ضد شخصيات أمنية ومواقع حكومية في كركوك

أفادت «وكالة الأنباء العراقية»، اليوم (السبت)، بأن جهاز الأمن الوطني أعلن إحباط مخطط «إرهابي خطير» في محافظة كركوك كان يستهدف شخصيات أمنية ومواقع حكومية.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي نازحون في مخيم حسن شام على بعد نحو 40 كيلومتراً غرب أربيل (أ.ف.ب)

في شمال العراق... تحديات كثيرة تواجه النازحين العائدين إلى ديارهم

تعلن السلطات العراقية بانتظام عن عمليات مغادرة جماعية لمئات النازحين من المخيمات بعدما خصصت مبالغ مالية لكلّ عائلة عائدة إلى قريتها.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
العالم العربي تنظيم «داعش» يتبنّى عملية استهداف حاجز لـ«قسد» في ريف دير الزور الشرقي (مواقع تواصل)

حملات التمشيط العسكري لم تمنع انتعاش «داعش» في سوريا

على رغم أن القوات الحكومية السورية تشن حملات تمشيط متكررة في البادية السورية لملاحقة خلايا تنظيم «داعش» فإن ذلك لم يمنع انتعاش التنظيم.

المشرق العربي قوة مشتركة من الجيش العراقي و«الحشد الشعبي» بحثاً عن عناصر من تنظيم «داعش» في محافظة نينوى (أ.ف.ب)

«داعش» يعلن مسؤوليته عن هجوم أدى لمقتل 3 جنود في العراق

قالت مصادر أمنية وطبية في العراق إن قنبلة زرعت على جانب طريق استهدفت مركبة للجيش العراقي أسفرت عن مقتل 3 جنود في شمال العراق.

«الشرق الأوسط» (بغداد)
المشرق العربي «قوات سوريا الديمقراطية» خلال عرض عسكري في ريف دير الزور (الشرق الأوسط)

أكراد سوريا يتحسبون لتمدد الحرب نحو «إدارتهم الذاتية»

ألقت نتائج الانتخابات الأميركية بظلالها على أكراد سوريا ومصير «إدارتهم الذاتية» بعدما جدد الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، التهديد بشن عملية عسكرية.

كمال شيخو (القامشلي)

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
TT

تساؤلات حول قيادة «داعش»

فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)
فيديو يُظهر {داعشي} يطلق النار خلال اشتباكات مع «قوات سوريا الديمقراطية» في بلدة الباغوز مارس الماضي (أ.ب)

من يقود تنظيم داعش الإرهابي الآن؟ وما سر عدم ظهور إبراهيم الهاشمي القرشي، زعيم «داعش» الجديد، حتى اللحظة؟ ولماذا تعمد التنظيم إخفاء هوية «القرشي» منذ تنصيبه قبل شهرين؟ وهل هناك تغير في شكل التنظيم خلال الفترة المقبلة، عبر استراتيجية إخفاء هوية قادته، خوفاً عليهم من الرصد الأمني بعد مقتل أبو بكر البغدادي؟ تساؤلات كثيرة تشغل الخبراء والمختصين، بعدما خيم الغموض على شخصية زعيم «داعش» الجديد طوال الفترة الماضية. خبراء في الحركات الأصولية أكدوا لـ«الشرق الأوسط» أن «التنظيم يعاني الآن من غياب المركزية في صناعة القرار».
ويرجح خبراء التنظيمات المتطرفة أن «يكون (داعش) قد قرر إخفاء هوية (القرشي) تماماً، في محاولة لحمايته، وأن إعلان (القرشي) زعيماً من قبل كان شكلاً من أشكال التمويه فقط، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم». كما شكك الخبراء في «وجود شخصية (القرشي) من الأساس».
وأعلن «داعش»، في تسجيل صوتي بثه موقع «الفرقان»، الذراع الإعلامية للتنظيم، في نهاية أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، تنصيب «القرشي» خلفاً للبغدادي الذي قتل في أعقاب غارة أميركية، وتعيين أبو حمزة القرشي متحدثاً باسم التنظيم، خلفاً لأبو الحسن المهاجر الذي قتل مع البغدادي. وكان الرئيس الأميركي دونالد ترمب قد أعلن «مقتل البغدادي في عملية عسكرية أميركية شمال غربي سوريا».
ورغم أن مراقبين أكدوا أن «(القرشي) هو القاضي الأول في التنظيم، وكان يرأس اللجنة الشرعية»، فإن مصادر أميركية ذكرت في وقت سابق أن «(القرشي) عُرف بلقب الحاج عبد الله، وعُرف أيضاً باسم محمد سعيد عبد الرحمن المولى، وكان أحد قادة تنظيم القاعدة في العراق، وقاتل ضد الأميركيين». لكن عمرو عبد المنعم، الباحث في شؤون الحركات الأصولية بمصر «شكك في وجود (القرشي) من الأساس»، قائلاً: إن «(القرشي) شخصية غير حقيقية، وهناك أكثر من إدارة تدير (داعش) الآن».
وأكد أحمد بان، الخبير في شؤون الحركات الأصولية بمصر، أنه «بطبيعة الحال، لا يمكن أن نحدد من يقود (داعش) الآن، حتى هذا الإعلان (أي تنصيب القرشي) قد يكون شكلاً من أشكال التمويه، لإخفاء حقيقة الخلاف الدائر داخل التنظيم»، مضيفاً: «نحن أمام عدد من الاحتمالات: الاحتمال الأول هو أن تكون شخصية (القرشي) حقيقية لكن يتم إخفاءها، وعدم ظهوره إلى الآن هو من أجل تأمين حياته، وعدم مطاردته من قبل أجهزة الدول. والاحتمال الثاني أننا أمام شخصية (وهمية)، والتنظيم لا يزال منقسماً حول فكرة اختيار خليفة للبغدادي. أما الاحتمال الثالث فأننا أمام صراع حقيقي داخل التنظيم حول خلافة (البغدادي)».
وتحدث المراقبون عن سبب آخر لإخفاء «داعش» هوية «القرشي»، وهو «الخوف من الانشقاقات التي تضرب التنظيم من قبل مقتل البغدادي، بسبب الهزائم التي مُني بها في سوريا والعراق، خاصة أن نهج إخفاء المعلومات والتفاصيل التي تتعلق بقادة (داعش) استخدمه التنظيم من قبل، حين تم تعيين أبو حمزة المهاجر وزيراً للحرب (على حد تعبير التنظيم) في عهد البغدادي، وتم الكشف عن اسمه في وقت لاحق».
وكان البغدادي قد استغل فرصة الاضطرابات التي حدثت في سوريا، وأسس فرعاً لتنظيمه هناك، كما استغل بعض الأحداث السياسية في العراق، وقدم نفسه وتنظيمه على أنهم المدافعون عن الإسلام (على حد زعمه)، فاكتسب في البداية بيئة حاضنة ساعدته على احتلال المزيد من الأراضي العراقية التي أسس عليها «دولته المزعومة». وفي عام 2014، أعلن البغدادي نفسه «خليفة مزعوماً» من على منبر مسجد النوري الكبير، في مدينة الموصل، ثم اختفى بعدها لمدة 5 سنوات، ولم يظهر إلا في أبريل (نيسان) الماضي، في مقطع فيديو مصور مدته 18 دقيقة، ليعلن «انتهاء السيطرة المكانية لـ(دولته المزعومة)، وسقوط آخر معاقلها في الباغوز السورية». وقال المراقبون إنه «رغم أن ظهور البغدادي كان قليلاً في السنوات الأخيرة قبل مقتله، فإن أخباره كانت دائمة الانتشار، كما عمد مع بداية الإعلان عن (دولته المزعومة) إلى الظهور المتكرر، وهو ما لم يفعله (القرشي)».
وأكد عبد المنعم أن «هوية (القرشي) كانت لا بد أن تختفي تماماً لحمايته»، مدللاً على ذلك بأنه «في ثمانينات القرن الماضي، كانت التنظيمات الإرهابية تعلن عن أكثر من اسم للقيادة، حتى تحميه من التتبع الأمني»، موضحاً: «يبدو أن هوية (القرشي) الحقيقة بالنسبة لعناصر التنظيم ليست بالأهمية ذاتها، لأن ما يهمهم هو وجود الزعيم على هرم التنظيم، ضمن إطار وإرث ديني... وهذا أهم بكثير للعناصر من الإعلان عن هوية الرجل (أي القرشي)»، مدللاً على ذلك بأنه «في الأيام التي أعقبت إعلان تعيين (القرشي)، تساءلت مجموعة صغيرة من عناصر التنظيم على موقع التواصل (تليغرام) عن هوية الزعيم الجديد. وبعد أيام من تساؤلاتهم، وعندما طلب منهم مبايعة (القرشي)، قلت التساؤلات. ولهذا، من الواضح أن هوية الرجل بدت غير مهمة لهم، بل المهم هو أنه زعيم (داعش)، ويحتاج إلى دعمهم».
وحث أبو حمزة القرشي، متحدث «داعش» الجديد، أتباعه في رسالته الصوتية الأخيرة على «الالتزام بما أصدره البغدادي في رسالته في سبتمبر (أيلول) الماضي، التي طالب فيها بتحرير أنصار التنظيم من السجون، وتجنيد أتباع جدد لاستكمال المهمة، وتأكيد مواصلة التنظيم تمدده في الشرق الأوسط وخارجه».
ومن جهته، أضاف عبد المنعم أن «التنظيم دشن قبل أيام كتيبة أطلق عليها (الثأر للبغدادي والمهاجر)، بهدف الانتقام لمقتل البغدادي والمهاجر، كما جرى سجن عدد من قيادات التنظيم، مُرجح أنها تورطت في تسريب معلومات بطريقة غير مباشرة لعناصر في تنظيم (حراس الدين)»، موضحاً أن «المركز الإعلامي للتنظيم يعاني حالياً من عدم وجود اتصال مع باقي المراكز التابعة للتنظيم، ويعاني من حالة ارتباك شديدة».
وهدد المتحدث باسم التنظيم الجديد الولايات المتحدة، قائلاً: «لا تفرحوا بمقتل الشيخ البغدادي». وقال عبد المنعم: «يبدو أن (داعش) قرر عدم التعامل بالشكل التقليدي في التسجيلات والظهور المباشر لـ(القرشي)، مثلما كان يحدث مع البغدادي»، لافتاً إلى أن «عمليات (داعش) منذ تولي (القرشي) لم تشهد أي حراك، على عكس شهري أبريل وسبتمبر الماضيين، اللذين شهدا حراكاً، عقب بث تسجيلين: واحد مصور والآخر صوتي للبغدادي».
وكان أبو بكر البغدادي قد ذكر في سبتمبر (أيلول) الماضي أن «تنظيمه لا يزال موجوداً، رغم توسعه في البداية، ومن ثم الانكماش»، وأن ذلك يعد (اختباراً من الله)»، على حد زعمه.
وقال عمرو عبد المنعم إن «قنوات (داعش) واصلت بث أخبارها كالمعتاد، وأبرز ما نقلته هذه القنوات أخيراً إصدار مرئي جديد على شاكلة (صليل الصوارم)، بعنوان (لن يضروكم إلا أذى)، مدته 11 دقيقة، وفيه متحدث رئيسي مُقنع يتوعد بالثأر من عملية (التراب الأسود) التي أطلقتها القوات العراقية ضد (داعش) في سبتمبر (أيلول) الماضي. وفي نهاية الإصدار، ظهر مقاتلون ملثمون يبايعون الخليفة الجديد».
وبايع فرع «داعش» في الصومال «القرشي» في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، حيث نشر فرع التنظيم صوراً على موقع التواصل الاجتماعي «إنستغرام» لنحو 12 عنصراً يقفون بين الأشجار، وعليها تعليق يقول: «إنهم يعلنون مبايعة (القرشي)». كما بايع «ولاية سيناء»، الموالي لـ«داعش» في مصر، «القرشي»، ونشر في إصدار مرئي صوراً لمجموعة قال إنهم من العناصر التي بايعت «القرشي». ويشار إلى أنه ما زالت بعض أفرع تنظيم داعش حول العالم لم تعلن مبايعتها لـ«القرشي» حتى الآن، وفي مقدمتها «ولاية خراسان» في أفغانستان، و«ولاية غرب أفريقيا» (بوكو حرام سابقاً) في نيجيريا.
وحول وجود تغير في استراتيجية «داعش» في الفترة المقبلة، بالاعتماد على إخفاء شخصيات قادته، أكد الخبير الأصولي أحمد بان أن «هذه المرحلة ليست مرحلة الإمساك بالأرض من جديد، والسيطرة عليها، أو ما يسمى (الخلافة)، لكن مرحلة ترميم مجموعات التنظيم، وإعادة التموضع في ساحات جديدة، ومحاولة كسب ولاءات جماعات أخرى، قبل أن نصل إلى عنوان جديد، ربما يعكس ظهور تنظيم جديد، قد يكون أخطر من تنظيم (داعش). لكن في كل الأحوال، هيكلية (داعش) تغيرت، من مرحلة الدولة (المزعومة) إلى مرحلة (حروب النكاية) إلى مرحلة إعادة التنظيم والتموضع؛ وكل مرحلة تطرح الشكل المناسب لها. وفي هذه المرحلة (أي الآن)، أتصور أن التنظيم قد تشظى إلى مجموعات صغيرة، وأن هناك محاولة لكسب ولاء مجموعات جديدة في دول متعددة».
أما عمرو عبد المنعم، فقد لفت إلى أن «(داعش) فقد مركزية صناعة القرار الآن، وهناك عملية (انشطار) في المرحلة المقبلة للتنظيم، ولن يكرر التنظيم فكرة القيادة المركزية من جديد، لذلك لم يظهر (القرشي) على الإطلاق حتى الآن، لو كان له وجود حقيقي، وهذا على عكس ما كان يظهر به البغدادي، ويحث العناصر دائماً على الثبات والصبر»، محذراً في الوقت ذاته من «خطوة (حرب العصابات) التي قد يشنها التنظيم، وقتال الشوارع واستنزاف القوى الكبرى، وهي الاستراتيجية القديمة نفسها للتنظيم، مع زيادة العنصر (الانفرادي) الذي يعرف بـ(الذئاب المنفردة)».
وقال المراقبون إن «التنظيم تحول منذ سقوط بلدة الباغوز في مارس (آذار) الماضي، ونهاية (الخلافة المزعومة) بعد عدة سنوات من إرسائها، نحو اعتماد (نهج العصابات). وقاد البغدادي (داعش) بعد استيلائه على مناطق شاسعة في العراق وسوريا، قبل أن يتهاوى التنظيم خلال الأشهر الماضية نتيجة خسائره، وفرار عدد كبير من عناصره».