طهران... مدينة الازدواجية

كتاب يخترق المجتمع الإيراني من الداخل

جانب من السوق القديم (بازار) في العاصمة الإيرانية
جانب من السوق القديم (بازار) في العاصمة الإيرانية
TT

طهران... مدينة الازدواجية

جانب من السوق القديم (بازار) في العاصمة الإيرانية
جانب من السوق القديم (بازار) في العاصمة الإيرانية

«من يرغب بالعيش في طهران فهو مضطر للكذب، فلا مكان هناك للأخلاق، لأنها خارج إطار الحسابات»... هذا هو مضمون الرسالة التي خلصت إليها الكاتبة والصحافية الإيرانية البريطانية راميتا نافي «Ramita Navai» في كتابها السردي «العيش والكذب في طهران»، الصادر مؤخراً عن دار النشر الفرنسية «LITT. ETRANGERE».
تسعى الكاتبة عبر صفحات كتابها البالغة 384 صفحة من القطع المتوسط، إلى كشف أسرار مدينة طهران، لافتة إلى أنها مدينة مزدوجة النهج والحياة، ومن ثم فنحن أمام ازدواجية تنعكس على السكان أيضا؛ مثلما الحال في شارع «فالي عصر» وهو الشارع الرئيسي في طهران الممتد من الشمال للجنوب بطول 16.8 كلم؛ حيث يمثل نموذجا صارخا للازدواجية.
وبحسب الكتاب، يضم الشارع بين جنباته الدراويش والإرهابيين التائبين وتجار السلاح؛ مما يجعلنا أمام صورة بانورامية للحياة التقليدية اليومية في طهران، وهى صورة تعتمد أبعادها الرئيسية على أفراد يحيون حياة غير طبيعية في ظل واحد من أكثر النظم قمعاً في العالم، الأمر الذي يضفي على المدينة نوعا من الازدواجية في جوانبها كافة.
«العيش والكذب في طهران» رواية تضم قصصاً واقعية دون التطرق لهوية البطل الحقيقية خوفا عليه وعلى أقاربه من بطش النظام القمعي، وهو ما دفع المؤلفة لأن تلجأ إلى حيل كثيرة لتوصيل المعلومة والرسالة الأساسية عن طريق الشخصية بعيدا عن التطرق إلى هويته الأصلية، أو مجرد التلميح بها، وهى معادلة صعبة للغاية، إلا أنها نجحت في تحقيقها إلى حد كبير.
هناك ثماني قصص لثماني أحداث مختلفة، لكنها تتفق في عنصر المكان وهو شارع «فالي عصر»؛ ذلك الشريان الرئيسي والأهم الذي يخترق قلب العاصمة الإيرانية طهران ليشهد جميع الأحداث الرئيسية في العاصمة بين مظاهرات واحتفالات، هذا بالإضافة إلى لمساته الجميلة الرائعة ونسماته الطيبة لما يتمتع به الشارع من أشجار فريدة على جانبيه تحمي المارة من حرارة الشمس.
من القصص المثيرة في الكتاب، قصة الفتاة العلمانية «فريدة» التي تنتمي إلى الطبقة البورجوازية وتسعى للتعايش في ظل هذا النظام القمعي بسعادة على الرغم من معارضتها الشرسة له ورفضها مغادرة البلاد، ومن ثم فنحن أمام حالة استثنائية للغاية في مجتمع ديكتاتوري لتمثل بذلك قمة الازدواجية التي تمثل بدورها أحد الأمراض التي يعاني منها قاطنو المدينة.
يكتسب هذا العمل أهمية خاصة ليس فقط لأنه يجسد الواقع الداخلي لطهران، ولكن أيضا لأن الكاتبة تعرف المجتمع الإيراني جيدا ومعروفة بتقاريرها الميدانية الواقعية. بالإضافة إلى ذلك، فهي تتمتع بمهنية من طراز رفيع، فسبق أن عملت بالأمم المتحدة في إيران وباكستان والعراق، هذا بالإضافة إلى عملها مراسلة لصحيفة «التايمز» لدى طهران في الفترة من 2003 حتى 2006. لقد لعبت هذه الخبرة دورا مهما في تصوير المجتمع الإيراني، عن قرب ومن الداخل، مع تصوير الأحداث والشخوص، مستخدمة آلية الإسقاط الفني بمهارة لافتة، الأمر الذي أدى إلى حصول هذا العمل على عدد كبير من الجوائز الدولية؛ تأتي على رأسها جائزة «جيرود الملكية الأدبية».
تتنوع الشخصيات في الكتاب، وتبدو انعكاساً حياً لحياة العاصمة الإيرانية طهران وقاطنيها، كما تلتصق رمزية شارع «فالي عصر» بوصفه نموذجا صارخا للتناقضات داخل العاصمة الإيرانية والمجتمع الإيراني بشكل عام، برمزية الكذب، التي تمثل طبيعة الشخوص من الداخل.
فالكذب ضرورة؛ حسبما يوضح الكتاب، مؤكدا على أهمية التحلي بهذه الصفة لكي تحيا في طهران، في أمن وسلام وهدوء وتجنب أي إزعاج وتصادم مع النظام.. أي إننا أمام مجتمع تسوده الرقابة الصارمة في كل شيء، وهو أمر يتطلب الحذر الشديد والحيطة البالغة في كل التصرفات.
في ظلال هذه الصورة، يقدم الكتاب رسالة مهمة وقوية حول ثمن الحرية المستحيلة في طهران في ظل حياة معقدة للغاية، هذا بالإضافة إلى الخطر الدائم القائم هناك، وهو وضع جعل البشر من قاطني المدينة سجناء في فلك حياة ملؤها الكذب من أجل أن يعيشوا بعيدا عن بطش النظام وقمعه.
أيضا سعت الكاتبة من خلال هذا العمل إلى تشريح المجتمع داخل العاصمة الإيرانية طهران من خلال قصصها وأبطالها المختلفين في مصائرهم ونظرتهم المضطربة للحياة، واستخلاص بعض الصفات السائدة داخل المجتمع، بل على العكس نجحت إلى حد كبير في إحداث حالة من التوازن على الرغم من حساسيتها المفرطة في تناول الشخوص حفاظاً على سير الأبطال الحقيقيين وذويهم من بطش وقمع النظام.
كما قدمت الكاتبة على مدار عشرات الصفحات، صورة فريدة للشباب الإيراني الذي ينتهك جميع القواعد والقوانين الموضوعة، بالإضافة إلى التأكيد على حالة القمع السياسي التي يتعرض لها قاطنو المدينة، خصوصا الشباب.
وتوضح المؤلفة أن هناك أسبابا كثيرة دفعتها نحو تقديم هذا العمل، أهمها يكمن في رغبتها ومسعاها إلى تقديم صورة إيران الحقيقية للغرب، لتخلص إلى أن إيران بلد خطر للغاية لما به من مجانين يسعون لامتلاك سلاح نووي ويمارسون سياسات خطرة في محيطهم الإقليمي.
وفي الختام، يبقى تصوير المجتمع الإيراني من الداخل على الرغم من حالة الانغلاق التي يحياها، حالة من حالات الاختراق، تحسب للكاتبة، التي نجحت في توضيح الصورة الذهنية للمجتمع الإيراني المغلق لدى الغرب الذي لا يزال يعاني بدوره من فقر شديد في المعلومات حيال هذا المجتمع.


مقالات ذات صلة

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي
كتب سيمون سكاما

قصة اليهود... من وادي النيل حتى النفي من إسبانيا

يروي الكاتب البريطاني اليهودي «سيمون سكاما»، في كتابه «قصة اليهود»، تفاصيل حياة اليهود ابتداءً من استقرارهم في منطقة الألفنتين

سولافة الماغوط (لندن)
ثقافة وفنون العالم الجغرافي والمحقق اللغوي الكويتي د. عبد الله الغنيم شخصية معرض الكتاب لهذا العام

معرض الكويت الدولي للكتاب ينطلق غداً... وعبد الله الغنيم «شخصية العام»

ينطلق غداً (الأربعاء) معرض الكويت الدولي للكتاب في دورته الـ47، بمشاركة 544 دار نشر، من 31 دولة، منها 19 دولة عربية و12 أجنبية.

«الشرق الأوسط» (الكويت)
كتب بوريس جونسون والرئيس الأميركي المنتخب ترامب

«مطلق العنان»... مذّكرات بوريس جونسون في السلطة

تفترض بالطبع عندما تقدم على شراء نسخة من مذكرات رئيس الوزراء البريطاني السابق بوريس جونسون الصادرة حديثاً فيما يقرب من 800 صفحة

ندى حطيط

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
TT

الشبحُ في الآلة

سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"
سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية. الموضوعات التأصيلية الأكثر إشغالاً للتفكير البشري منذ العصر الإغريقي ثلاثة: أصل الكون، أصل الحياة، أصل الوعي.

الوعي بين هذه الموضوعات الثلاثة ظلّ اللغز الأكثر إثارة ورهبة واستجلاباً للأسطرة والمقاربات غير العلمية، وربما تكون عبارة «الشبح في الآلة The Ghost in the Machine» التي شاعت منذ أيام الفلسفة الديكارتية تمثيلاً للوعي تتفق مع ثنائية العقل-الجسد The Mind-Body Duality. بمقتضى هذه الثنائية الديكارتية يكون الوعي كينونة غير مادية (الشبح) وقد استوطن في كينونة مادية (الآلة أو الجسد البشري).

فضلاً عن الأهمية الفلسفية لدراسة الوعي فقد صارت المقاربات العلمية في هذه الدراسة تتعاظم يوماً بعد آخر بسبب ارتباطها العضوي مع موضوعات عظيمة الأهمية في مقدّمتها مباحث الذكاء الاصطناعي بكلّ تفريعاته (الذكاء الاصطناعي العام، تعلّم الآلة، الشبكات العصبية...)، بعبارة أخرى: صار الوعي موضوعاً يقع في صميم الجهد البحثي الذي تتأسّس عليه القيمة الجيوستراتيجية للدولة المعاصرة. أمرٌ آخر تتوجّب الإشارة إليه: الوعي بطبيعته جهد بحثي عابر للتخصصات؛ لذا فهو يتناغم مع طبيعة المباحث العلمية المميزة لعصرنا.

لكن، بعيداً عن الأسباب البحثية والاستراتيجية، لماذا يتوجّبُ على كلٍّ منّا أن يهتمّ بأمر الوعي على مستوى شخصي بمقدار قد يزيد أو ينقص بين الأفراد؟ أوّلاً يتوجّبُ علينا الانخراط في هذا المسعى لأنّ الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم، أو هو بوّابته إلى العالم، وأعني بهذه البوّابة: التجارب الحسية Sensory Experiences، ومن الطبيعي أنّ كلاً منّا يتوق لأن يفهم -بكيفية علمية منسّقة ومنضبطة وليس بتفكّرات شخصية متناثرة- لماذا يعدّ الوعي البوّابة الأساسية لتجاربنا في العالم. يحبّ كلّ منّا هذا المسعى ولا يرغب في جعله اختصاصاً حصرياً للفلاسفة وعلماء الأعصاب ومطوّري الذكاء الاصطناعي بكلّ متفرّعاته. ثانياً: دراسة الوعي في غاية الأهمية أيضاً في جوانب الغاية Purpose والمعنى Meaning في حياتنا البشرية. ليس في قوانين الفيزياء ما يشيرُ إلى المعنى، وليس مِنْ معادلة لحساب المعنى في تلك المعادلات. لا أظنّ -وسيتشارك معي كثيرون كما أحسب- أنّ الاكتفاء بالتطلّع في كوننا يمنحنا معنى لحياتنا هو ما يحقّقُ فعلاً هذا الأمر؛ لأننا نحن من يخلعُ المعنى على كوننا. يحصل هذا الأمر لأننا نمتلك الوعي الذي يتيحُ لنا اختبار الأشياء والتعامل معها. لدينا هنالك بعيداً في تخوم الكون البعيدة مجرّات كثيرة العدد وجميلة بما يفوق التصوّر. لماذا هي جميلة؟ لأنّنا واعون بها. هي صارت جميلة لأننا نمتلك وعياً يخبرنا أنها جميلة. أعيد القول ثانية: الوعي هو ما يخلعُ معنى وغاية على الحياة.

الدراسات الخاصة بالوعي

يُنظرُ في الأوساط الأكاديمية العالمية إلى سوزان بلاكمور Susan Blackmore على أنّها مؤلفة الكتاب المرجعي في دراسة الوعي، وأقصدُ بهذا كتابها الشائع بين دارسي علم النفس والعلوم العصبية والإدراكية وفلسفة العقل والذكاء الاصطناعي، وأشيرُ بهذا إلى كتابها الموسوم «الوعي: مقدّمة Consciousness: An Introduction» الذي صدرت طبعته الرابعة عن دار نشر «راوتليدج Routledge» قبل بضعة شهور. سوزان بلاكمور عالمة نفس وكاتبة حرة ومحاضرة جامعية بريطانية، ألّفت الكثير من المقالات العلمية وأسهمت في تأليف عددٍ من الكتب. تكتب في مجلات وصحف كثيرة، وكثيراً ما تشارك في برامج إذاعية وتلفازية في المملكة المتحدة أو خارجها. قدّمت الكثير من البرامج التلفازية التي نالت شهرة واسعة بما في ذلك برنامجٌ وثائقيٌ حول ذكاء القردة. من بين كتبها الأخرى سيرة ذاتية بعنوان: «بحثاً عن النور» 1996، و«حوارات عن الوعي» 2005.

ما يميّزُ كتاب بلاكمور هو جمعها بين الخبرة الأكاديمية وتقنيات التعامل مع النطاق العام، فهي معروفة باهتمامها بموضوعات التأمّل والامتلاء الروحي والذهني والباراسايكولوجيا، وقد أفردت كتاباً كاملاً للحديث عن تجربة شخصية خاصة بها شهدت فيها ما تُدعى تجربة مغادرة الجسد Out of Body Experience، وقد حكت عن هذه التجربة في سيرتها الذاتية.

الخصيصة الثانية في كتابها هو مشاركة ابنتها لها في تأليف الكتاب، وتلك علاقة نادرة للغاية بين المؤلفين. لن نتغافل بالتأكيد عن النكهة الفلسفية الأنيقة التي طبعت لغة الكتاب (مثل تناول الإرادة الحرّة وعلاقتها بالوعي)، وهذا أمرٌ متوقّعٌ فيمن يكتب عن موضوع الوعي.

ثمّة موضوعان علينا الانتباه إليهما عند دراسة الوعي: هل سنبلغُ يوماً مرحلة الفهم العلمي الكامل للوعي؟ تؤكّد بلاكمور: لا أظنّ ذلك. الفرق بين حيوان حيّ وآخر ميّت ليس محض فرق نوعي يكمنُ في أنّ الحيوان الحيّ (الإنسان على سبيل المثال) يمتلك نوعاً من مصدر للحياة السرية فيه (بكلمة أخرى: الوعي). الحيوانات الحيّة ميكانيزمات فعّالة دينامية دائمة التغيّر؛ في حين أنّ انكساراً أصاب ميكانيزمات الحركة والتغيّر في الحيوانات الميتة.

تكمن صعوبة وتعقيد دراسة الوعي في حتمية اقتران دراسة الشيء مع موضوع الدراسة؛ بمعنى آخر: استخدام الوعي في دراسة الوعي ذاته! يحضرني هنا مثالاً عبارةٌ قالها جون ناش في الفيلم السينمائي الرائع الذي يحكي سيرته الذاتية «عقل جميل». أخبر ناش طبيبه أنّه سيستخدم عقله في علاج اضطرابه الذهاني، فأجابه طبيبه: ولكن كيف تعالجُ نفسك بما هو المتسبّبُ في مرضك؟ لن تستطيع هذا. في السياق ذاته تصف بلاكمور صعوبة دراسة الوعي وتعريفه فتقول:

«يبدو أنه يَلزمنا إما أن نستخدم الوعي لدراسته هو نفسه، وهي فكرة غريبة نوعاً ما، وإما أن نحرِّرَ أنفسَنا من الوعي الذي نودُّ دراستَه. ولا عجب أن الفلاسفة والعلماء قد بذلوا جهوداً مضنيةً على مدى قرنين من الزمان من أجل الوصول إلى مفهوم الوعي، ولا عجب أيضاً أن العلماء رفضوا الفكرةَ برمَّتها لفترات طويلة؛ بل رفضوا أيضاً دراستَها. الانعطافة الإيجابية أنّ «الدراسات الخاصة بالوعي» أخذَتْ في الازدهار بدءاً من القرن الحادي والعشرين. وصل علم النفس وعلم الأحياء وعلم الأعصاب إلى نقطةٍ يمكن عندها مواجَهةُ بعضِ الأسئلة المحيِّرة على غرار: ما الذي يفعله الوعيُ؟ وهل كان لنا أن نتطوَّر من دونه؟ وهل يمكن أن يكون الوعي وَهْماً؟ وما الوعي على أي حال؟».

تؤكّدُ بلاكمور منذ البدء أنّ ازدهار الجهد البحثي للوعي في القرن الحادي والعشرين لا يعني أنّ الغموض الذي يكتنفه قد اختفى تماماً؛ فالواقع أنه لا يزال متغلغِلاً في هذا الأمر كما كان دائماً. الفرق الآن أننا نعرف عن الدماغ ما يكفينا للاستعداد لمواجَهةِ المشكلة البحثية التالية على نحوٍ مباشِرٍ: كيف يمكن لإطلاق النبضات الكهربائية من ملايين الخلايا العصبية الدماغية أن يُنتج تجربةً واعية ذاتية شخصية؟ إذا أردنا إحرازَ أيِّ تقدُّم فيما يتعلَّق بفهم مسألة الوعي فعلينا التعامُل مع هذا الأمر بجدية تامة. هناك كثير من الأشخاص الذين يدَّعُون أنهم قد وجدوا حلًّاً للغز الوعي؛ فهم يقترحون نظرياتٍ موحِّدةً عظمى، ونظرياتٍ ميكانيكيةً كموميَّة، ونظرياتٍ روحانيةً حول «قوة الوعي»، وغيرها الكثير؛ لكنّ أغلبهم يتجاهلون الفجوةَ العميقة بين العالمين المادي والعقلي.

بعد مقدّمة وتمهيد ابتدائي لموضوع الكتاب (الوعي) اختارت المؤلفّة جعل كتابها موزّعاً في خمسة أقسام، كلّ قسم منها يضمُّ ثلاثة فصول: تناول القسم الأوّل معضلة الوعي تعريفاً ومناظرةً مع مفاهيم أخرى، ثمّ تناولت الوهم الكبير The Grand Illusion في التعامل مع ظاهرة الوعي. في القسم الثاني تناولت موضوع الدماغ بوصفه الحاضنة الطبيعية (مسرح العمليات بلغة المؤلفة) للوعي، وقد أفاضت في شرح العلاقة الوثقى بين دراسة العلوم العصبية وظاهرة الوعي. خصّصت المؤلفة القسم الثالث لتناول موضوع العقل والفعل، وتناولت في القسم الرابع موضوع التطوّر ومنعكساته المهمّة على ظاهرة الوعي، ثمّ تناولت في القسم الخامس الحدود التخمية Borderlands بين الوعي وظواهر أخرى على شاكلة: أشكال الوعي المعدّلة، الواقع والخيال، والأحلام وما بعدها. أما القسم السادس والأخير فتناولت فيه المؤلّفة موضوع «الذات والآخر»؛ فكانت النكهة الفلسفية بيّنة فيه. ألحقت المؤلفة كتابها بسلسلة مصادر مرجعية ضخمة ومتعدّدة امتدّت على عشرات الصفحات من الكتاب.

كتاب بلاكمور هذا قراءة شيّقة رغم رصانته الأكاديمية ومشقّة موضوعه؛ لكنّ من يرغب في قراءة أقلّ تطلباً للجهد والوقت والتفاصيل الصغيرة فيمكنه الرجوع إلى كتاب المؤلفة ذاتها والصادر عن جامعة أوكسفورد بعنوان «الوعي: مقدّمة قصيرة جداً»، وتوجد له ترجمة عربية متاحة بالمجّان على شبكة التواصل العالمية (الإنترنت).

Consciousness: An Introduction

الوعي: مقدمة

المؤلّفتان: Susan Blackmore & Emily Troscianko

سوزان بلاكمور وأميلي تروسيانكو

سنة النشر: 2024

دار النشر: Routledge ) Taylor & Francis Group )

عدد الصفحات: 766 الوعي بصورة جوهرية هو الشيء الأساسي الذي يعرفه كلٌّ منّا بشأن العالَم... أو هو بوّابته إلى العالم