مفهوم الإرهاب في عصر الميليشيات المسلحة

قراءة في العلاقات الشائكة بين إيران والمجموعات المتطرفة

متطرفون في كانو بشمال نيجيريا يرفعون صوراً لخامئني والخميني ونصر الله في مظاهرة عام 2014  (أ.ف.ب)
متطرفون في كانو بشمال نيجيريا يرفعون صوراً لخامئني والخميني ونصر الله في مظاهرة عام 2014 (أ.ف.ب)
TT

مفهوم الإرهاب في عصر الميليشيات المسلحة

متطرفون في كانو بشمال نيجيريا يرفعون صوراً لخامئني والخميني ونصر الله في مظاهرة عام 2014  (أ.ف.ب)
متطرفون في كانو بشمال نيجيريا يرفعون صوراً لخامئني والخميني ونصر الله في مظاهرة عام 2014 (أ.ف.ب)

وسّعت إيران في السنوات الأخيرة من علاقاتها العسكرية مع الميليشيات والمجموعات المسلحة. ويأتي إعلان وزارة الخارجية المغربية عن تزويد طهران لجبهة البوليساريو الانفصالية بالصواريخ المضادة للطائرات؛ ليعيد إلى الواجهة الدولية طبيعة العلاقات، بين الدول والميليشيات، وبخاصة أن المملكة المغربية، تتحدث عن أدلة دامغة تضم أسماء لشخصيات فريق تقني من «حزب الله»، وصل إلى مدينة تندوف الجزائرية، لتدريب مقاتلي الانفصاليين على حرب الشوارع، واستعمال الأنفاق. ويبدو أن الاتهامات المغربية تؤكد السياسة الإيرانية الثابتة المعتمدة على الميليشيات لخلق واقع دولي جديد.
يبدو أن هذه العلاقة الملتبسة بين إيران والميليشيات وانتشار الإرهاب في حاجة إلى مزيد من تسليط الضوء عليها، وبخاصة أن كل المجموعات الميليشياوية لا يتم التعامل معها دولياً باعتبارها حركات إرهابية. ذلك أن الفعل الإرهابي المعاصر لا يتخذ طابعاً سكونياً من حيث التنظيم والفكرة والآليات المستعملة؛ مما يجعل الباحث في الظاهرة الإرهابية أمام واقع متطور، ومتفاعل مع محيطه ومستجدات الواقع الدولي.
ومن التحديات المرتبطة بمفهوم العنف السياسي والإرهاب، ما يطرحه البروز القوي للميليشيات المسلحة في الجغرافية الإقليمية العربية، بعد سنة 2011، والدور «الدولتي» الذي تتقمصه هذه المجموعات المسلحة، من خلال سيطرتها الفعلية على الدولة، كما هو الشأن بالنسبة لـ«حزب الله» في لبنان وميليشيا الحوثي في اليمن؛ أو من خلال مطالبتها بالانفصال، كما هو الشأن بالنسبة لجهة البوليساريو؛ وكذلك الدور المركزي الذي تلعبه فصائل الحشد الشعبي في سوريا والعراق، من الناحية الأمنية والعسكرية والسياسية.
وتبعاً لهذا التطور اللافت، الذي جاء في سياق حراك عربي شبابي سنة 2011، يتبين أن طبيعة التحولات الشعبية المحلية، في تشابك مع ما هو إقليمي وعالمي؛ فرضت تشكيل آليات تنظيمية، وتحيزات ثقافية طائفية مسلحة، وسّعت من دائرة الممارسة الإرهابية، دون أن يعني ذلك أنها مدرجة بالضرورة في المفهوم الكلاسيكي لمصطلح الإرهاب.
صحيح أن هذا الوضع دفع بالكثير من الدول إلى إصدار قوانين وقوائم خاصة بمحاصرة ومحاربة الإرهاب؛ غير أن هذا التطور سواء في القانون المحلي للدول الكبرى، كما هو الشأن بالقانون الجديد للإرهاب البريطاني لسنة 2015، أو المبادرات العربية، مثل القانون الاتحادي رقم 7 لسنة 2014 في شأن مكافحة الجرائم الإرهابية في الإمارات العربية المتحدة، وقانون مكافحة الإرهاب للمملكة العربية السعودية سنة 2017، الذي عوّض القانون القديم الصادر سنة 2014. فرغم جدية المحاولات القانونية العربية والدولة، الخاصة بتوفير ترسانة قانونية كفيلة بمحاصرة والحد من الإرهاب؛ فإن هذه الجهود لم تستطع لحد الآن توحيد المفهوم، ولا التوصل لآليات مُجمع عليها، تكون محددة وصارمة بخصوص، الحدود الفاصلة بين التطرف كحالة نظرية، والتحريض على ممارسة العنف، بغرض إرهاب الأفراد أو الدولة، وإلحاق بالغ الضرر بهم، لتحقيق أهداف سياسية وآيديولوجية.
وعليه؛ لا بد من إعادة تعريف للظاهرة الإرهابية، في تصور الأمم المتحدة؛ وبالتالي تجاوز المفهوم القديم للإرهاب الذي تطرحه «اتفاقية جنيف» لسنة 1937، التي تتحدث عن السلوك الفردي للظاهرة الإرهابية، وتعرف الإرهاب بكونه مجموعة من «الأعمال الإجرامية الموجهة ضد دولة، والتي يكون من شأنها إثارة الفزع والرعب لدى شخصيات معينة أو جماعات من الناس أو لدى الجمهور».
في هذا الإطار، أصبح من اللازم اليوم الاستناد إلى تلك الجهود التي بذلتها الأمم المتحدة، والجمعية العامة للأمم المتحدة، والتي تحولت إلى مسودة جاهزة للمصادقة منذ عام 2000؛ بهدف التوصل إلى مفهوم عالمي شامل ومتوافق عليه حول الإرهاب. ويبدو أن سياسة الأمم المتحدة شهدت نوعاً من التغيير في التعامل مع الظاهرة الإرهابية، حيث نجد أن مكتب الأمم المتحدة لمحاربة الإرهاب مكلف خمس مهام لمكافحة الإرهاب، دون أن يضع له تعريفاً محدداً، غير أنه اكتفى بالإحالة للمرجعية المعتمدة بالنص التالي:
«اعتمدت الجمعية العامة القرار 71-291 والمؤرخ في 15 يونيه عام 2017 بإنشاء مكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب. وقد تم تعيين السيد فلاديمير إيفانوفيتش فورونكوف وكيلاً للأمين العام لمكتب الأمم المتحدة لمكافحة الإرهاب في 21 يونيه 2017.
وكما اقترح الأمين العام أنطونيو غوتيريس في تقريره «A - 71-858» بشأن قدرة الأمم المتحدة على مساعدة الدول الأعضاء في تنفيذ استراتيجية الأمم المتحدة العالمية لمكافحة الإرهاب، وفرقة العمل المعنية بالتنفيذ في مجال مكافحة الإرهاب ومركز مكافحة الإرهاب، والتي أنشئت في البداية من قبل إدارة الشؤون السياسية، وتم نقلها إلى مكتب جديد لمكافحة الإرهاب برئاسة وكيل للأمين العام».
صحيح أن هذه الجهود الأممية استطاعت تحفيز المجموعة الدولية على خلق تحالفات موسعة ضد الإرهاب في الشرق الأوسط؛ إلا أنه يجب الأخذ بعين الاعتبار، أن الدينامية والسياق الدولي الحالي، أنتجا نمطاً جديداً من الممارسة الميليشياوية التي تر
وتبعاً لتلك الرعاية، تحدِث الميليشيات نمطاً جديداً من الممارسة الإرهابية؛ حيث تُجبر المجتمع والدولة (عادة ما تكون الدولة ضعيفة)، على اختصار الطائفة الدينية في حزب سياسي يمتلك أسلحة، «وجيشاً» موازياً للجيش الدولة، كما هو الشأن في لبنان، واليمن. وقد تتخذ الميليشيات المسلحة الإرهابية الجديدة طابعا، انفصاليا وانقساميا وإثنيا وطائفيا، كما هو الشأن بالنسبة لـ«حزب الله النيجيري»، والذي يخوض معركة تشيع قسري وسط مسلمي نيجيريا.
وهكذا نجد أن الممارسة الميليشياوية للإرهاب لا تكتفي بالصراع مع الدولة الأم، وجماعاتها المجتمعية المتحدة تاريخياً؛ بل إن التطور والفاعلية الجديدة التي اكتسبتها الممارسة الإرهابية في عصر الميليشيات، يجعل من هذه الأخيرة «دولاً» داخل دولة معترف بها في الأمم المتحدة. وفي الوقت نفسه لا تجد مؤسسات الأمم المتحدة في نفسها، حرجاً في الدخول مع الميليشيات المسلحة، في حوارات رسمية؛ رغم أن الميليشيات هي تنظيمات مسلحة غير منظمة بقانون، ولا يخضع نشاطها المسلح لأي مراقبة حقيقة من الدولة.
وإذا كانت بعض النماذج تسهل لنا التصنيف، كما هو الشأن بالنسبة لمجمل ميليشيات الطوارق بدولة مالي؛ والتي تتشابك مع الجماعات الإرهابية الدينية؛ مما يجعلها في قائمة المنظمات الإرهابية. فإن عشرات الميليشيات المنتشرة حاليا بليبياً (على سبيل المثال)، تستعصي عن التصنيف؛ ذلك أن العرف واجتهادات القانون الدولي في هذا السياق تركز على طبيعة الحرب الأهلية، والممارسة الفعلية للقتال والدفاع عن النفس. ورغم أن المنظمات الدولية، ومنها تلك التابعة للأمم المتحدة، تدين بعض الجهات المسلحة بارتكابها أعمالاً وحشية وإبادة جماعية؛ فإن ذلك لا يعني من الناحية القانونية أن تلك الميليشيات والجهات المسلحة تعتبر بالضرورة حركات إرهابية.
وهذا الواقع، يطرح أكثر من سؤال حول كيفية التعامل مع الميليشيات الإرهابية؛ من حيث التصنيف، والاعتراف الدولي بها والتعامل معها سلماً وحرباً؛ وهل يمكن التعامل معها وفقاً لقواعد القانون الدولي، باعتبارها حركات سياسية مسلحة؟ أم وجب تصنيفها باعتبارها منظمات إرهابية، أسوة بـ«القاعدة» و«داعش»، و«طالبان باكستان»؛ و«كتائب حزب الله العراقي» و«حركة النجباء» بزعامة أكرم الكعبي، وغيرها من الميليشيات المسلحة؟
إن هذا «الفراغ القانوني» يشجع إيران لتفريخ ودعم الميليشيات والجماعات المسلحة، على مستوى الشرق الأوسط وأفريقيا؛ وفي هذا السياق يمكن فهم إعلان المغرب أن طهران دعمت جبهة البوليساريو بالأسلحة (منها صواريخ مضادة للطائرات). وكذا وصول عناصر من «حزب الله» إلى مخيمات الصحراويين بمدينة تندوف الجزائرية، لتدريب مقاتلي البوليساريو على حرب العصابات، واستعمال الأنفاق لأغراض قتالية. ويمكن القول، إن مثل هذه التصرفات الإيرانية، تتماشى مع رؤية الحرس الثوري لطبيعة الصراع الجيوبوليتيكي الدولي. حيث يتم استعمال الميليشيات الشيعية العقدية الموالية لولاية الفقيه، لفرض وضع أمني وعسكري جديد؛ بما يخدم المصالح الاستراتيجية الإيرانية في جغرافية سياسية معينة، ويوسع من دائرات تحالفاتها.
ومن أجل هذا الهدف المركزي، لا تتوقف إيران عن اتباعها استراتيجية التوسع والهجوم، وخلق مزيد من مناطق التوتر داخل الدول المناهضة لسياستها الدولية؛ أو تلك المتحالفة مع ما تعتبره إيران «محور الاستكبار العالمي». كما تنهج سياسة إعلامية ودبلوماسية مصحوبة بحمولة عسكرية، تلعب فيها الميليشيات المتعددة التابعة لطهران دوراً محورياً، في إشعال الحروب؛ مما يمكن الحرس الثوري من تثبيت الوجود الإيراني في منطقة معينة، عبر «عسكرة» العلاقات الدولية، القائمة بين طهران ودول معينة.
غير أن الخطوة الإيرانية الجديدة بدعم جبهة البوليساريو الانفصالية، لا يجب فصلها عن الدور الذي تقوم به الميليشيات التابعة لطهران في نيجيريا المتمثلة في «حزب الله النيجيري». ذلك أن السياسة الإيرانية في غرب أفريقيا لم تعد تكتفي بنشر التشيع في الوسط السني؛ بل انتقلت لمرحلة خطرة من التعاون العسكري بين إيران والتنظيم الشيعي النيجيري، المرتبط بعلاقة ولاء بولاية الفقيه والمذهب الجعفري. وهذا بدوره مكّن إيران عبر ميليشيات مسلحة، من خلق جيب عقدي وطائفي مسلح مرتبط بالرؤية الإيرانية الجديدة، القائمة على الدخول إلى مناطق الصراع الدولي عبر وكلاء – أو عملاء – ترتبط مصالحهم الوجودية بالسياسة الخارجية وبالمصالح الاستراتيجية الإيرانية.
على المستوى الأفريقي دائماً، وصلت محاولات إيران لزعزعة الاستقرار لدولة كينيا التي تربطها بطهران علاقات مهمة اقتصاديا؛ حيث ألقت قوات الأمن الكينية سنة 2014 القبض على رجلين إيرانيين دخلا البلد بجوازات سفر مزورة، وقيل يومها إنهما ينويان تنفيذ عمليات إرهابية داخل البلد. كما تكرر الأمر نفسه في البلد نفسه سنة 2015، عندما اعتقلت السلطات الكينية شخصين كينيين من أصول إيرانية.
أما في غرب القارة، فيمكن الإشارة إلى التهريب الذي قام به فريق من الحرس الثوري للسلاح إلى الداخل النيجيري. وقد اكتشفت قوات الأمن النيجيرية سنة 2010، شحنة من الأسلحة، قادمة من إيران تتضمن، صواريخ كاتيوشا من عيار 107 ملم، وقاذفات صواريخ إيرانية وقنابل يدوية. وقد أكدت الأمم المتحدة في تقرير لها، أن هذه الشحنة تمت بواسطة شركة تابعة للحرس الثوري تسمى شركة «بهينيه» للتجارة. ووفقاً لتقرير للأمم المتحدة، فإن شحنة الأسلحة الإيرانية، انتهت بإلقاء القبض على ثلاثة نيجيريين، واثنين من ضباط «فيلق القدس» وبحوزتهم أسلحة، بينما استطاع السيد «أكبر طبطبائي» الذي يعتقد أنه قائد «فيلق القدس» بأفريقيا، الاختباء في السفارة الإيرانية والهرب إلى طهران. أما في بداية 2013، فقد أوقفت السلطات النيجيرية ثلاثة مواطنين تدربوا على استعمال السلاح بإيران.
عموماً، جاء في تقرير نشره مركز بحوث تسليح الصراعات، أن الفترة الممتدة 2006 إلى 2012 شهدت نحو 14 حالة «دعم» إيراني للسلاح بأفريقيا، 4 حالات فقط مع الحكومات؛ و10 أخرى مع ميليشيات وجماعات انفصالية».
* أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس الرباط



تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
TT

تركيا وإحياء «داعش» في ليبيا

قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)
قوات ليبية تهاجم مواقع «داعش» خلال عملية «البنيان المرصوص» في مدينة سرت 2016 (غيتي)

غداة الزيارة المريبة التي قام بها الوالي العثماني المنحول إردوغان إلى تونس، علا صوت الكثير من الأحزاب التونسية والاتحادات العامة للشغل وغيرها من جماعات المجتمع المدني بالرفض لأن تكون تونس ممراً أو مستقراً لنقل «الدواعش» من سوريا إلى ليبيا بواسطة تركيا عبر بلادهم».
المطالب المتقدمة تعني أمراً واحداً، وهو يقين الشرفاء والنبلاء من الشعب التونسي بأن بعض من نوايا إردوغان الحقيقية بالنسبة لليبيا موصول بإعادة إنتاج التنظيم الإرهابي الأشرس في العقود الأخيرة (داعش)، وربما في طبعة جديدة أسوأ مما شهده العالم في العراق وسوريا خلال النصف الثاني من العقد الماضي.
أسئلة كثيرة تطل برأسها من نافذة الأحداث المتسارعة عن أحوال «داعش» وعن الفوضى والارتباك اللذين تتسبب فيهما تركيا في ليبيا، وفي الوسط تسعى لنقل معركتها إلى ساحل البحر الأبيض المتوسط، وإلى العمق الأفريقي لأهداف سنأتي على تفصيلها.
علامة الاستفهام الأولى في هذا الحديث: «ما هو وضع الدواعش في الوقت الحاضر في موطن النشوء الأول ومن حول بلاد الشام التاريخية؟».
الجواب نجده بالتفصيل والأرقام عند هارون ي زيلين، الباحث في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وعنده أنه في عام 2019 قدر البنتاغون أن ما بين 14 و18 ألف من مقاتلي تنظيم «داعش» لا يزالون في العراق وسوريا، والتساؤل ما الذي يفعلونه هناك؟
بلا شك مواصلة العمل كتنظيم إرهابي متمرد يكرس أعضاؤه جل وقتهم لمحاولة تهريب السجناء، وربما إعادة السيطرة على الأراضي، ومن خلال حرب استنزاف يعتقدون أنهم سيرهقون أعداءهم، كما أنهم يستفيدون من أي مساحات لا تسيطر عليها الحكومة المركزية أو يلعبون على وتر خطوط الصدع السياسية أو العرقية أو الدينية آملين في استغلالها لصالحهم.
> هل لدى التنظيم حتى الساعة مقدرة مالية على إدارة شؤونه بنفسه والإنفاق على عملياته الإرهابية؟
ــــ من الواضح أن الدواعش لا يزالون قابضين على ثروة تقدر بنحو 300 مليون دولار، ووفقاً لتقرير صادر عن الأمم المتحدة في يوليو (تموز) 2019، فإن «داعش» استثمر مجدداً أمواله في أعمال مشروعة، وربما بأسماء وهمية لا علاقة لها بأعضائه الإرهابين، أي من خلال عناصر نائمة، وذلك عبر العقارات، ووكلاء السيارات، ويوجد عدد منها في تركيا وفقاً لوزارة الخزانة الأميركية التي صنفت أفراداً من تنظيم «داعش» وشركات تحويل وصرافة على لائحة الإرهاب.
> ماذا تعني تلك البيانات المتقدمة؟
ــــ باختصار غير مخل، تشير إلى أن التنظيم لا يزال باقياً وفاعلاً، وأن الأيادي التركية السوداء تقف وراءه في أقصى الشرق، وها هي تجد فرصة غير مسبوقة ليعبر المتوسط جهة الغرب ويحل برحاله في ليبيا.
لم ينس إردوغان للحظة واحدة أنه في الشرق من ليبيا، توجد مصر الكنانة التي أسقطت مشروعه في عام 2013؛ فقد خيل له أنه قد أضحى الخليفة الجديدة بعد سنوات الربيع المغشوش؛ ولهذا فإن ملامح وعلامات الانتقام من مصر لا تغيب عن ناظريه، وقد حاول كثيراً استخدام الطابور الخامس من الإخوان المسلمين في مصر في زعزعة استقرار المحروسة وأخفق؛ ولهذا فقد بدا واضحاً أن الرجل المقهور يود نقل معركته إلى الداخل المصري بالاقتراب الكبير والمؤثر والفاعل؛ الأمر الذي لا يغيب عن أعين صقور المؤسسة العسكرية المصرية التي تقف له بالمرصاد.
وجد إردوغان ضالته المنشودة في جماعة الوفاق المنحلة، التي هي مزيج من الإخوان المسلمين والدواعش و«القاعدة» والجماعات الإرهابية كافة الشاردة والواردة، ومن خلال عمليات لوجيستية تتضح ساعة بعد أخرى، يمضي في إحياء التنظيم القاتل وله في ذلك أيضاً مأربان، أحدهما جهة الشمال والآخر ناحية الجنوب...ماذا عن ذلك؟
أما الشمال، فالمقصود به أوروبا، حيث العداء التاريخي المستحكم من تركيا تجاه أوروبا، وإردوغان يشعر بالغدر والخيانة من جراء رفض الاتحاد الأوروبي قبوله تحت سقفه؛ ولهذا أطلق تصريحات ذات طبيعة دوجمائية أكثر من مرة، حاول بها تفعيل مشاعر ديماجوجية في وسط الأتراك ليكتسب شعبية، رغم أن الأمر ارتد عليه مؤخراً بالسلب.
يسعى إردوغان من تأصيل وجود «الدواعش» على الشاطئ المتوسطي المواجه لأوروبا إلى استخدام الإرهاب الأصولي كأحدى أوراق نفوذه ضد ألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، والبرتغال، وقبلهما اليونان وقبرص، وهو أمر ليس بجديد عليه، فقد صرح قبل فترة بأنه قادر على فتح بوابات الوصول إلى أوروبا أمام اللاجئين والدواعش لإغراق أوروبا، وربما إحراقها بنيران الدواعش ومن لفّ لفّهم.
إردوغان أيضاً له مأرب آخر يتصل بعمق القارة الأفريقية، وهو يدرك أن ما فقده من أوهام الخلافة في الشرق الأوسط، ربما يجد له صدى في وسط أفريقيا، حيث يغيب الأمن كثيراً عن بعض الدول من جهة، ولا سيما المفككة اجتماعياً، وحيث تنتشر جماعات الإرهاب المشابهة من «حركة الشباب» و«بوكو حرام» وما شابه، وغالبيتها قد أعلنت ولاءها وانضواءها تحت راية تنظيم «داعش» الإرهابية وليس الإسلامية قبل نحو عامين.
والشاهد، أن إردوغان لا ينشئ فرعاً جديداً لـ«داعش» في ليبيا، وإنما يسعى لإيقاظ المؤتلفة قلوبهم، إن جاز التعبير، أولئك الذين هم دواعش في الباطن وإن أبدوا خلاف ذلك في العلن، والمعروف أن الأرضية الأصولية الإخوانية في ليبيا كانت قد انتهزت فرصة الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011، حيث أقام المقاتلون مثل سوريا والعراق حكماً دينياً، غير أنه وفي عام 2016 استطاعت قوات الحكومة ومقاتلون من مصراتة بدعم من القوات الأميركية الخاصة وطائرات «إف 16» إخراج مقاتلي التنظيم من سرت في ديسمبر (كانون الأول) 2016.
في ذلك الهجوم قُتلت أعداد كبيرة من المتشددين، في حين هرب البقية إلى الجنوب بحثاً عن ملاجئ آمنة، وأقاموا معسكرات تدريب استخدموها للسطو على شاحنات النفط، وحصلوا على موارد من خلال التهريب، وهرب بعضهم إلى النيجر، حيث انضموا إلى فرع التنظيم هناك. ورغم عددهم القليل فإنهم استمروا في هجماتهم السريعة.
مؤخراً، وحتى قبل التدخل الإردوغاني المسموم، بدأ القلق يتزايد في سرت مرة أخرى، حيث تم اعتقال عشرة أشخاص يشتبه بتعاطفهم مع التنظيم، منهم مهندسة عثر على جهاز لاسلكي في بيتها، كما قبض على رجل قابل أعضاء في «خلية نائمة»، وأقاموا حاجز تفتيش خارج المدينة لإظهار أنهم لا يزالون فيها.
> هل بدأت مرحلة إحياء «داعش» ليبيا بشكل رسمي الأيام الأخيرة وبدعم علني من تركيا لا يواري ولا يداري أهدافه الآثمة؟
ــــ من الواضح أن ذلك كذلك، ولا سيما في ضوء ما رصده «المرصد السوري لحقوق الإنسان» في سوريا، والذي أشار قبل أيام إلى أن الفصائل السورية الموالية لتركيا قد افتتحت هناك مراكز تسجيل أسماء الأشخاص الراغبين بالذهاب للقتال في ليبيا.
> هل بدأ الحشد «الداعشي» التركي طريقه إلى ليبيا بالفعل؟
ــــ الشاهد، أنه، ومن أسف، قد بدأ عشرات الأشخاص يقصدون تلك المراكز للالتحاق بالمعارك في ليبيا للعمل تحت الحماية التركية هناك، كما نقلت مصادر محلية قولها إن الفصائل الموالية لتركيا تشجع الشباب على الالتحاق بالحرب الليبية، وتقدم مغريات ورواتب مجزية تراوح بين 1800 و2000 دولار أميركي لكل مسلح شهرياً، علاوة عل تقديم خدمات إضافية تتكفل بها الدولة المضيفة.
ولعل الذين تابعوا الأسبوع الماضي تصريحات المتحدث باسم الجيش الوطني الليبي اللواء أحمد المسماري قد وقر لديهم أن عجلة إحياء تنظيم «داعش» في ليبيا قد دارت بالفعل، وذلك من خلال الأصابع المشبوهة للمخابرات التركية التي تقوم بنقل عناصر التنظيم، عطفاً على القادمين والمنتمين الجدد والذين هم في غالبيتهم مرتزقة ومؤدلجون أصوليون، والنوعان معاً، ولا سيما من أعضاء «جبهة النصرة» من سوريا إلى ليبيا عبر مطار جربة في تونس، الأمر الذي يعود بنا إلى الحديث عن تونس مرة جديدة، ويربط بينها وبين ما يجري في ليبيا.
> هل تعرّض التونسيون إلى خدعة كبرى في اختيارهم الأخير؟
ــــ مهما يكن من أمر ساكن القصر الرئاسي، إلا أن المؤكد أن حزب «النهضة التونسي» ليس إلا وجهاً آخر من أوجه الإخوان المسلمين في تونس، وهو أحد فروع التنظيم الدولي لـ«الإخوان» المسلمين المنتشر حول العالم، يأتمر بأمرهم، ويتوجه كيفما يعنّ لبوصلتهم.
هنا يصبح من الحقيقي التسليم بالمعلومات التي رصدها الجيش الليبي من استخدام مطارات تونس لغرض إنشاء «داعش» جديدة على الأراضي الليبية، ومنها مطار جربة، حيث تم إنزال مجموعات إرهابية في تونس، وتم نقلهم إلى ليبيا عن طريق الجبل الغربي، ومطار مصراتة وزواره، ومعتيقة تحديداً التي استقبلت أعداداً كبيرة من «جبهة النصرة» وتنظيم «داعش».
في هذا السياق، يبقى من الطبيعي أن تنهض آمال «الدواعش» في تونس في الفترة المقبلة، أولئك الذين سيصبحون الجسر الواصل بين تونس وليبيا؛ الأمر الذي حذر منه البرلمان التونسي السابق قبل عودة النهضة الكارثية مرة أخرى، لكن في ظل السيطرة الإخوانية التونسية الأخيرة يكاد يكون الأمل سراباً في إعادة ضبط وتموضع «الدواعش» التونسيين.
حين نشير إلى أن دواعش ليبيا قد بدأوا مرحلة مغاير آخذة في التصاعد الإرهابي المؤلم، فإننا لا نرجم بالغيب، بل من خلال أدلة ليس آخرها الفيديو الذي أذاعوه نهار الخامس من ديسمبر 2019، وفيه ذبح لمواطنين ليبيين بينهم موظفون حكوميون سقطوا أسرى في أيدي التنظيم، ومشاهد بشعة لعمليات إعدام جماعية بالرصاص، في منطقة الفقهاء جنوب ليبيا.
الفيديو بثته وكالة «أعماق» التابعة لتنظيم «داعش» حمل اسم «وأخرجوهم من حيث أخرجوكم»، استمر نحو 31 دقيقة وأظهر معاملة مشينة من عناصر التنظيم للأسرى الذين وقع اختطافهم، أو المواطنين الذين تم اعتقالهم خلال عملياته الإرهابية على بلدة الفقهاء، حيث وثقت مقاطع عملية إعدام جماعية لأشخاص مكبلين رمياً بالرصاص على رؤوسهم.
الأسئلة الجوهرية في هذا السياق، هل ستبقى أوروبا مكتوفة الأيدي أمام تركيا وهي تعيد سيرة حروب القرون الوسطى من جديد، وهل ستكتفي بدور المشاهد بعد أن أسقطت نظام القذافي ولم يكن لها خطة لليوم التالي؟
ثم فيما يخص أميركا، لماذا يتسم موقفها بالميوعة السياسية، وهل يخشى إردوغان من التورط في الأزمة الليبية عسكرياً وهو في عام الانتخابات ولديه من الإشكاليات الداخلية ما يكفي؟
ألا تعد خطط إردوغان نوعاً من تهديد السلم العالمي، الأمر الذي يستوجب التنادي إلى البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالاتحاد من أجل السلم قبل أن يستفحل الضرر ويتحول المشهد إلى حرب إقليمية؟
ثم ما هو الدور الروسي في ليبيا وهي التي تسعى لاستعادة نفوذها هناك، وهل سيقدر لها قطع الطريق على الآغا العثمانلي بطريق مشابهة لما فعلته مع الدواعش في سوريا؟