«ماكبث»... قائد همجي في مجتمع بدائي

مسرحية شكسبير الشهيرة يقدمها المسرح القومي بلندن

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية
TT

«ماكبث»... قائد همجي في مجتمع بدائي

مشهد من المسرحية
مشهد من المسرحية

على مدى ساعتين ونصف الساعة على المسرح القومي بلندن، نكاد لا نتعرف على ملك شكسبير الشهير «ماكبث» في هذا العالم الخاوي الذي لا يعرِّفه إلا الموت المحتوم. فبديلاً عن القائد المهاب، يقابلنا «ماكبث» همجياً في مجتمع بدائي، بتفاصيل كاملة الاختلاف عن الأصل، بما فيها شعرية اللغة التي غابت تماماً عن أسماعنا، حتى إن المسرحية المعاصرة تصلح كنص جديد بمعزل عن ملحمة شكسبير التراجيدية.
ماكبث نفْسه يظْهر علينا مشوَّه النفس والذهن، لدرجة أن عقل هاملت - الشخصية الشكسبيرية الأكثر تشتتاً - يبدو بالمقارنة معه زينة العقول. وقد أجمع النقاد بلا استثناء أنه يستحضر شخصية «ماكس» في فيلم «ماكس المجنون»، وهو فيلم معاصر يحكي قصة انهيار مجتمعي وديستوبيا مستقبلية يطغى عليها العنف والجريمة. والحق أن «ماكس» المجنون قد يبدو هو الآخر متزناً، إن قارناه مع ماكبث في مسرحيتنا هذه.
ويُخرج البريطاني روفوس نوريس - وهو المدير الفني للمسرح القومي – تلك التراجيديا المرعبة عقب خمسة وعشرين عاماً من الانقطاع عن الإخراج، وعقب سلسلة من مسرحيات شكسبير المخفقة على خشبة المسرح القومي في السنوات الثلاث الأخيرة. ويلعب دور ماكبث باقتدار البريطاني روري كينير، الذي اقتنص الجوائز في الماضي عن دوري هاملت وعطيل. وقد نفث حياة وحيوية في دور عتيق أهلكه الفنانون تحليلاً وتمحيصاً، بينما انكمشت الممثلة آن - ماري داف في دور الليدي ماكبث، ولا سيما في المشاهد الأخيرة من المسرحية التي تتطلب تفاعلاً مع جانب العنف الذكوري في شخص ماكبث.
وفي حين يتناول النص دراما ملحمية عن رجل وزوجته في اتحادهما المشؤوم وهما يناضلان في استماتة للقبض على السلطة («لن تنم بعد اليوم» كلمات تتردد على خشبة المسرح)، نجد في صدارة أعظم ملاحم شكسبير حرباً أهلية تستعر عقوداً، وفي أذيالها تتعاقب عواقب وخيمة على البيئة والكائنات الحية. والعرض لا يمس بالضرورة كفاح ماكبث النفسي والسياسي في سبيل الهيمنة، وكيف تفرض نفسها على ذاته المتضخمة، بل ما يتبع طموحه العارم من دمار مظلم، يتخلله منعطفات متقلبة، تتلوى لتفضي إلى دماره الكامل. وفي حبائلها، يتضارب عالمه الخارجي - تلك البرية التي تتقاتل على اللقمة - مع عالمه الداخلي الواعي بفنائه الوشيك.
راح ضحية الحرب كل فلذات أكباد ماكبث وزوجته، وجميع أصدقائهما، وانتهى الجميع إلى العيش على كرة أرضية تقطعت أوصالها، وصار سكانها أشباحاً شاردة ذات قوى خارقة للطبيعة، أو خليطاً من بشر ومسوخ، أو ساحرات يهِمن على أطراف أصابعهن لينشرن الرعب في نفوس الأحياء.
وقد اتفق النقاد على أن العرض وُفق في استخدام الساحرات ككناية عن سقوط البشرية في قاع الهلاك البيئي. نراهن يركضن على جسر هائل، يتأرجح كحبل المشنقة، في صفوف فوضوية، ويطلقن الصفير مثلما تجري الحيوانات المجنونة صوب فريستها. والساحرات يقَدِّمن إغراء من نوع ما لماكبث، إن حدَث وأراده. هناك الإغراء بالطمع، وهناك الإغراء بالطموح، ونتائج الاختيار ستكون أشبه بالجحيم على بيئة كانت يوماً خضراء ريانة بالزهور، ولا بريء أو آثم ناج منها على الإطلاق. ولسوف يُقْدم ماكبث على ما يسعه الإقدام عليه حتى ينجو بحياته في تلك اللحظة الفارقة من تاريخ الكرة الأرضية.
وهنا، نشْهد ردود أفعال الطبيعة وتمردها على الممارسات البشرية وإساءة استخدام موارد الأرض. وتلتقط أعيننا أطرافاً صناعية بلاستيكية قبيحة على خشبة المسرح الذي تلفه عتمة غير مريحة، وفي كل ركن منه تتفرق أكياس نفاية من البلاستيك الأسود الممزق. ولا تنبئنا المسرحية بأسباب الانهيار البيئي، وإن وجدنا آياته قابلة للتصديق: أكانت تبعات للحرب الأهلية التي شنَّها العسكر أم أن البشر استباحوا البيئة واستهانوا بتوازنها مما أوقع هذا الحدث الاستثنائي؟
ومثلما تآكل اللون الأخضر، اختفى حكم القانون في هذا العالم المنحل من كل أخلاق أو عرف، ولا أثر لدولة ممنهجة أياً كانت في الأفق. يبدأ العرض بماكبث الأشعث المخبول يضرب عنق جندي هارب، ثم يتضح أنه قائد التمرد ضد ماكبث. ثم نجد أنفسنا نتساءل: ما قيمة النصر إن كان الملك سيطعم ضيوفه من صفائح معدنية داخل مبان أقرب إلى الأطلال منها إلى القصور؟!
كان عام كتابة المسرحية (1606) عام الشؤم على إنجلترا. فقد ضربها وباء الطاعون، ودب التمرد بين العامة، لرغبة الملك جيمس الأول في وحدة إنجلترا واسكتلندا. كذلك عم الخوف والشكوك عبر البلاد، مما كشف عن حالة من الانقسام في أعقاب هجوم إرهابي فاشل، صار يُعرف باسم مؤامرة البارود. ويبدو أن العرض المعاصر لم يتجاهل تلك الظروف التاريخية، فانطلق ليناقش فكرتي السحر والإيمان، وقيم الغوغاء في مقابل التحضر، في إطار انهيار الحضارة المؤسساتية على يد قطاع الطرق وحكم الطغاة.
وينتهي العرض برجل تطير رقبته في أجواء وحشية، ويسود مبدأ البقاء للأقوى بحكم من الروح العسكرية. وكل تلك الملابس المهلهلة والوجوه الملطخة بالوحل والأجواء السوداوية تخلف انطباعاً بأن زوال المملكة لا يعني بالضرورة زوال الصراع على النفوذ، بل إن حدته تشتعل بغياب مكونات الحضارة ومتطلباتها، عندما يشحذ الطغاة خناجرهم المستبدة. وفي النهاية، لن يكترث الملك الجائع إن كان انتصاره البربري باهظ الثمن أم ثمين. ومع أن شكسبير اختار اسكتلندا محلاً لنصه، لم يفصح لها المخرج عن زمان أو مكان. ولكن يذهب النقاد البريطانيون إلى إنها نظرة رؤيوية غارقة في التشاؤم والفوضى لبريطانيا بعد انفصالها عن الاتحاد الأوروبي.
وسواء قام قصرٌ في العاصمة أم قام مبنى رث من الخرسانة في خلاء مهجور، وسواء اكتمل نصَاب الهيراركية الاجتماعية أم تفتتت أشلاء الجماعة، وصار أفرادها مجرمين هاربين من عدالة غائبة، سوف يقاتل ماكبث، متهدم الجسد والجائع إلى الحكم، برفقة زوجته المتسلقة اجتماعياً اللاهثة وراء المجد، حتى الرمق الأخير، لأن الحياة ببساطة، كما يوحي المخرج، ما هي إلا «أنت قاتل أو مقتول».



الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي
TT

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي الراحل كمال سبتي

تصدر قريباً الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي كمال سبتي (1955 - 2006)، أحد أهم شعراء ما عُرف بجيل السبعينات في العراق. متضمنة ثمانية دواوين، مستهلةً بديوان «وردة البحر ـ 1980»، ومختتمةً بـ«صبراً قالت الطبائع الأربع ـ 2006». هنا نص مقدمة هذه الأعمال التي ستصدر عن «دار جبرا للنشر والتوزيع ـ الأردن»، وبالتعاون مع «دار النخبة للتأليف والترجمة والنشر - لبنان».

وقد كتب مقدمة المجموعة الكاملة الشاعر العراقي باسم المرعبي، التي جاءت بعنوان «كمال سبتي... المرافعة عن الشعر» ويقول فيها:

«يحتاج شعر كمال سبتي، بالمجمل، إلى جَلَد عند قراءته، فهو على نقيض الكثير مما هو شائع من تقنيات شعرية تعتمد البساطة والعفوية والمباشرة، مع عدم تسفيه هذه النزعات الأسلوبية، طالما أن الشعر كقيمة وجوهر يبقى مُصاناً، غير منتهَك به. على أنّ إشاحة الشاعر عن مثل هذا الاتجاه ومخالفته، لم يجعل شعره غامضاً أو عصيّاً.

شعر مثقل بالمعنى ومزدحم به، لأنه ذو مهمة توصيلية، وهو يتطلب إصغاءً وإعمال فكر. والقصيدة لدى كمال معمار ذهني - فكري ونفسي، في الآن ذاته، يستمدّ فيها الشاعر مادته من مغاور النفس والسيرة الشخصية، فضلاً عن استثمار راهن التجربة الحياتية، مشظّياً كلّ ذلك في النص، صراحةً أو رمزاً. دون أن يستثني مادة الحلم من استثماره الفني والموضوعي، وهو ما يُتبيَّن أثره في نصوصه، لا سيّما النصوص النثرية الطويلة، المتأخرة، ليتصادى ذلك مع قراءات الشاعر في الرواية أو اعتماده السينما مصدراً مفعّلاً في كتابته الشعرية. وعن هذه الأخيرة قد أشار إلى ذلك الشاعر نفسه في واحد من الحوارات التي أُجريت معه، ليرقى كلّ ذلك إلى أن يكون جزءاً عضوياً من تجربته الحياتية، الذهنية هذه المرة، مُسقَطة بالمحصلة على القصيدة، لتنعكس خلالها حركةً وتوتراً درامياً. وهو ما ينسحب بالقدر ذاته على نزوع الشاعر في سنواته الأخيرة إلى قراءات في التصوف والقرآن والتراث، ما نجمَ أثره بشكل جلي، في مجموعته الأخيرة «صبراً قالت الطبائع الأربع»، وإلى حد ما في المجموعة السابقة لها. وهو فارق يلمسه القارئ، إجمالاً، بين المنحى الذي اتخذه شعر كمال سبتي في السبعينات أو الثمانينات وما صار إليه في التسعينات وما بعدها. وعلى الرغم مما ذهب إليه الشاعر من مدى أقصى في التجريب الكتابي مسنوداً برؤية يميزها قلق إبداعي، شأن كلّ شاعر مجدّد، إلا أنه وبدافع من القلق ذاته عاد إلى القصيدة الموزونة، كما تجسد في كتابيه الأخيرين. وكان لقراءاته المذكورة آنفاً، دورها في بسط المناخ الملائم لانتعاش هذه القصيدة، ثانيةً، وقد بدت محافظة في شكلها، لكن بالاحتفاظ بقدر عال ورفيع من الشعرية المتينة، المعهودة في شعر كمال سبتي، وبدافع من روح المعنى الذي بقي مهيمناً حتى السطر الأخير، لأن الشعر لديه مأخوذ بجدية حدّ القداسة، وهو قضية في ذاتها، قضية رافع عنها الشاعر طوال حياته بدم القلب.

تصدر هذه الأعمال في غياب شاعرها، وهو ما يجعل من حدث كهذا مثلوماً، إذ عُرف عن كمال اهتمامه المفرط بنتاجه وتدقيقه ومتابعته، واحتفائه به قبل النشر وبعده، لأن الشعر كان كل حياته، هذه الحياة التي عاشها شعراً. فكم كان مبهجاً، لو أن مجموع أعماله هذا قد صدر تحت ناظريه.

ولأهمية هذه الأعمال وضروة أن لا تبقى رهينة التفرّق والغياب، أي في طبعاتها الأولى المتباعدة، غير المتاحة للتداول إلّا فيما ندر، ولأهمية أن تأخذ مكانها في مكتبة الشعر، عراقياً وعربياً، كانت هذه الخطوة في جمعها ومراجعتها وتقديمها للنشر. وقد كان لوفاء الصديق، الفنان المسرحي رياض سبتي، لشقيقه وتراثه الشعري، دوره الحاسم في حفظ مجموعات الشاعر، ومن ثمّ إتاحتها لكاتب سطور هذه المقدمة، حين تم طرح فكرة طباعتها ونشرها، إسهاماً في صون هذا الشعر وجعله قابلاً للانتشار من جديد، بما يجدر به».

من المجموعة الكاملة:

«الشاعر في التاريخ»

الرجل الجالسُ في المكتبة

مورّخٌ يكتبُ عن شاعرٍ

الرجل الهاربُ في سيرةٍ

مشرّدٌ في الليل كالليلِ

رغيفهُ باردْ

رغيفهُ واحدْ

عنوانه مصطبة

محطّةٌ مغلقةُ البابِ

الرجلُ الخائفُ في سيرةٍ

يغيّر الشكلَ تباعاً، فمرّةً

بلحية كثةٍ

ومرّةً بشاربٍ، ثمّ مرّةْ

بنصفِ قلبٍ حائرٍ في الطريقْ

يسيرُ فوقَ جمرةٍ، ثمّ جمرةْ

تلقيه فوقَ جمرةٍ، في الطريقْ.