«شظايا فيروز»... محنة الإيزيديين في رواية كردية عراقية

عمل يكتظ بالأحداث المفجعة

«شظايا فيروز»... محنة الإيزيديين في رواية كردية عراقية
TT

«شظايا فيروز»... محنة الإيزيديين في رواية كردية عراقية

«شظايا فيروز»... محنة الإيزيديين في رواية كردية عراقية

يمكن اعتبار «شظايا فيروز» للقاص والروائي العراقي نوزت شمدين رواية محايدة بامتياز لم ترجِّح كفة الشخصيات الإيزيدية الكردية على الشخصيات العربية في النص الروائي، على الرغم من أنّ كاتبها كردي، لكنه مؤمن إيماناً قاطعاً بأن لقب العراقي يجب أن يتقدم على القومية واللغة والدين والطائفة، فلا غرابة أن يكون النص مُحايداً، ويعرض محنة الإيزيديين الأخيرة، كما هي عليه، من دون تهويل أو تزوير للحقائق التاريخية التي تجري وقائعها على الأرض.
تتميز الرواية بتعدد الرواة، وتعدد الأبطال، حيث يحضر الراوي العليم إلى جانب مُراد وفيروز اللذين يرويان الأحداث بصيغة المتكلم، كما تتوزع البطولة على ثلاث شخصيات رئيسية، وهي مُراد، خرّيج كلية الطب البيطري حديثاً، وفيروز، بائعة البصل، وخليل إبراهيم أحمد، صاحب سجل الوفيات في «دولة الخلافة الإسلامية» المزعومة، إضافة إلى شخصيات مسلمة وإيزيدية تعزز الثيمة الرئيسة القائمة على حملة الإبادة الرابعة والسبعين التي تعرّض لها المكوِّن الإيزيدي على أيدي الظلاميين «الدواعش» في يونيو (حزيران) 2014 وما ترتب عليها من قتل وسبي وتهجير.
يقع مُراد، الشاب المسلم في حب فيروز، الفتاة الإيزيدية التي تبيع البصل الأبيض على حافة الطريق، وبسبب حاجز اللغة، والخجل لا ترد على أسئلته البسيطة، لكنها بمرور الوقت بدأت تحبه بصمت، وتميل إليه رغم المحاذير الدينية والاجتماعية. وحينما يئس من إمكانية التواصل معها تتبعها إلى قريتها حتى عرف البيت الذي تسكن فيه. لم يكن في حسبان مراد أن «الدواعش» سوف يهاجمون سنجار، ويقتلون رجالها، ويغتصبون نساءها، ويأخذونهن كسبايا، ويبيعونهن في أسواق النخاسة بأبخس الأثمان.
يبايع مراد تنظيم داعش، ويلتحق بهم لغاية نبيلة وهي تحرير فيروز من أسْرها مهما كان الثمن. وبما أن عمه هو الأمير عبود (أبو رواحة) فقد سهّل له أمر التنقل بين ثلاث وظائف، من بينها مُؤذن في مسجد البلدة القديمة، لكنه لم يلتزم بشروط الآذان، إذ راح يرفعه بلحن غنائي ممطوط لم يعهده الناس من قبل، الأمر الذي أثار اعتراضات كثيرة عليه، فوجد له مكاناً في ديوان الإعلام المركزي، لكنه لم يحبذ هذه الوظيفة الاستخبارية التي تصور عقوبات قطع الرؤوس، وإلقاء الضحايا من أسطح البنايات الشاهقة.
ثمة شخصية مهمة لعلها تشكّل العمود الفقري للنص الروائي وهي شخصية خليل إبراهيم أحمد الذي لُقب بـ«الحاج بومة»، لأن الابتسامة مشطوبة من ملامح وجهه. عُرف خليل بنزعته التوثيقية المبكرة التي انتبه إليها مدرس اللغة العربية، وقد وثّق أول حالة وفاة لصبي من حي باب لجش غرق في نهر دجلة سنة 1950، ثم توالت حالات التوثيق بطريقة احترافية لقتلى ثورة الشوّاف الفاشلة سنة 1959، ولكي يتقن عمله التوثيقي تعلّم ثلاث لغات، وهي الكردية والتركمانية والسريانية، لتسهيل مهامه في مناطق الأقليات التي تسكن في الجزء الشمالي من نينوى. ثم كرّمه البعثيون حينما وصلوا إلى السلطة لأنه وثّق قتلاهم في حروب عديدة مثل الحرب العراقية - الإيرانية، وحرب الكويت.
وإثر سقوط «البعث» واحتلال الجيش الأميركي للعراق عام 2003 فتح «سجل الغرباء» للمقتولين من رجال التنظيمات المسلحة. أما «الدواعش» فقد منحوه وظيفة «صاحب سجل الوفيات» بدوام حرّ، وصلاحية مُطلقة في جميع مناطق «الخلافة» بين الموصل وبين الرقّة، يرافقه سائق شخصي متفرغ، وسيارة دفع رباعي.
وبسبب شيخوخته اختار مُراد معاوناً له حين صادفه في ديوان الإعلام المركزي، وأدخله في عالم الأموات عبر سجل الوفيات، لكنه اكتشف خلال مدة قصيرة بأن «الحاج بومة» لا يخفي معارضته القوية لما يسمّى بتنظيم داعش، فهو يرى أن كل المقاتلين الذين وفدوا من مختلف بلدان العالم كان هدفهم الأول والأخير هو الدخول في مغامرة يغيّرون بها حياتهم الرتيبة.
وأن «داعش» وُلد قبل 1200 سنة حينما ألغى فقهاء السلطة مجلس الشورى، وصادروا إرادة الأمة في اختيار حاكمها. ولهذا السبب فهو يرى مدينة الموصل سبيّة مُختطفة منذ زمن طويل شأنها شأن فيروز التي اُختطفت، وسبيت، وتعرضت للاغتصاب على يد «أبو القعقاع» لاحقاً. لا يتأخر «الحاج بومة» في التعاطف مع مراد وتسهيل مهمته في البحث عن فيروز، ومحاولة إنقاذها، فهو مخوّل بزيارة مدن «الخلافة» برمتها، ودخول المستشفيات، والسجون، ومزادات بيع السبايا وما إلى ذلك.
وبينما كان مراد منهمكاً في البحث عن حبيبته فيروز كانت هي وشقيقتاها الصغيرتان نَعام وكُلي تنتقل من سجن إلى آخر حتى انتهى بها المطاف إلى «أبي القعقاع» بعد أن قُتلت شقيقتها نَعام نتيجة انفجار وقع في القصر، فقررت أن تضحي بنفسها من أجل إنقاذ شقيقتها الأخرى كُلي. وعلى الرغم من هربها من منزل أبي القعقاع، ووصولها إلى شرق الموصل مع السبية فريال، إلاّ أنها قررت العودة إلى المنزل كي لا تترك شقيقتها لوحدها، فلربما يبرّ هذا «الداعشي» الفظ بوعده ويعيدها إليها.
ورغم أن المسارات السردية للرواية تكتظ بالأحداث المفجعة من قتل، وسبي، وتعذيب، إلا أن إعدام «الحاج بومة» في ساحة سوق باب الطوب هي الأشدّ إيلاماً، لأنه يمثل صوت القرّاء وضميرهم الجمعي الذي يتعاطف مع هذه الضحية الشجاعة التي وجه لها «الدواعش» تسع تهم، من بينها ارتداء أزياء مخالفة للشرع كالبذل، وربطات العُنُق، وحلق اللحية، والامتناع عن دخول المسجد عمداً دون عذر شرعي بعد سماعه الآذان، وحيازته لكتب شركية تلهيه عن ذكر الله، والاستماع إلى الموسيقى والأغاني، وتهريب السبايا إلى خارج حدود «الدولة الإسلامية» المزعومة، الأمر الذي استدعى تنفيذ حكم الإعدام به بضربة سيف على مرأى الناس ومسمعهم، كي يكون عبرة لمن في قلبه مرض. وفي اللحظة التي وصل فيها السيف إلى هدفه أغمض مراد عينيه كي تبقى صورة الحاج مكتملة في ذهنه. حينما عاد مراد إلى قريته أم نهود التي غيّرها التنظيم إلى «أم فهود» وجد عمّه عبّود أبو رواحه قد عاد إلى القرية التي حُرم منها لمدة طويلة لأنه أحب إيزيدية وتزوجها رغم معارضة الأهل والأقرباء.
وربما يكون عبّود هو أنموذج إشكالي آخر للشخصية المتقلبة التي تستغل الأحداث، وتركب كل موجة جديدة تصادفها إذا ما تقلبت الأحول، فهو بعثي سابق ادعى أنه معاق خلال الحرب العراقية – الإيرانية، وحينما تمّ استدعاء المعاقين لتلبية الخدمة العسكرية انتمى إلى حزب الدعوة، ثم فرّ إلى مدينة قُم الإيرانية، وعاد ليصبح كبير مستشاري الوالي في مدينة نينوى يحدوه الأمل في أن يحل محل شقيقه الشيخ حامد النجم الذي حرّم عليه الدخول إلى هذه القرية طالما بقي على قيد الحياة.
أصدر نوزت شمدين منذ 2002 وحتى الآن مجموعتين قصصيتين وهما «الموصل في بكين» و«قادمون يا عتيق»، وثلاث روايات وهنّ على التوالي «نصف قمر»، و«سقوط سرداب» و«شظايا فيروز» التي تُرجمت إلى اللغة الإنجليزية، كما أصدر «قصة ناجٍ من الموصل»، وهو كتاب باللغة الإنجليزية عن منظمة «آيكورن» في النرويج.



«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية
TT

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ حول منظومتها، لتقوم بطرح أسئلة تُفند بها ذلك الخطاب بداية من سؤالها: «هل تحتاج الأمومة إلى كتاب؟»، الذي تُبادر به القارئ عبر مقدمة تسعى فيها لتجريد كلمة «أمومة» من حمولاتها «المِثالية» المرتبطة بالغريزة والدور الاجتماعي والثقافي المُلتصق بهذا المفهوم، ورصد تفاعل الأدبين العربي والعالمي بتجلياتهما الواسعة مع الأمومة كفِعل وممارسة، وسؤال قبل كل شيء.

صدر الكتاب أخيراً عن دار «تنمية» للنشر بالقاهرة، وفيه تُفرد أبو النجا أمام القارئ خريطة رحلتها البحثية لتحري مفهوم الأمومة العابرة للحدود، كما تشاركه اعترافها بأنها كانت في حاجة إلى «جرأة» لإخراج هذا الكتاب للنور، الذي قادها «لاقتحام جبل من المقدسات، وليس أقدس من الأمومة في مجتمعاتنا ولو شكلاً فقط»، كما تقول، وتستقر أبو النجا على منهجية قراءة نصوص «مُتجاورة» تتقاطع مع الأمومة، لكاتبات ينتمين إلى أزمنة وجغرافيات مُتراوحة، ومُتباعدة حتى في شكل الكتابة وسياقها الداخلي، لاستقراء مفهوم الأمومة وخطابها كممارسة عابرة للحدود، ومحاولة فهم تأثير حزمة السياسات باختلافها كالاستعمارية، والقبلية، والعولمة، والنيوليبرالية، وغيرها.

فِعل التئام

يفتح اختيار شيرين أبو النجا للنصوص الأدبية التي تستعين بها في كتابها، في سياق القراءة المُتجاورة، مسرحاً موازياً يتسع للتحاوُر بين شخصيات النصوص التي اختارتها وتنتمي لأرضيات تاريخية ونفسية مُتشعبة، كما ترصد ردود أفعال بطلاتها وكاتباتها حِيال خبرات الأمومة المُتشابهة رغم تباعد الحدود بينها، لتخرج في كتابها بنص بحثي إبداعي موازِ يُعمّق خبرة النصوص التي حاورت فيها سؤال الأمومة.

يضع الكتاب عبر 242 صفحة، النصوص المُختارة في مواجهة المتن الثقافي الراسخ والنمطي لمنظومة الأمومة، تقول الكاتبة: «الأمومة مُتعددة، لكنها أحادية كمؤسسة تفرضها السلطة بمساعدة خطاب مجتمعي»، وتتوقف أبو النجا عند كتاب «كيف تلتئم: عن الأمومة وأشباحها»، صدر عام 2017 للشاعرة والكاتبة المصرية إيمان مرسال بوصفه «الحجر الذي حرّك الأفكار الساكنة المستكينة لفكرة ثابتة عن الأمومة»، على حد تعبير أبو النجا.

تتحاور الكاتبة مع منطق «الأشباح» وتتأمل كيف تتحوّل الأمومة إلى شبح يُهدد الذات سواء على المستوى النفسي أو مستوى الكتابة، تقول: «في حياة أي امرأة هناك كثير من الأشباح، قد لا تتعرف عليها، وقد تُقرر أن تتجاهلها، وقد تتعايش معها. لكن الكتابة لا تملك رفاهية غض الطرف عن هذه الأشباح»، ومن رحِم تلك الرؤية كانت الكتابة فعل مواجهة مع تلك «الشبحية»، ومحاولة تفسير الصراع الكامن بين الذات والآخر، باعتبار الكتابة فعلاً يحتاج إلى ذات حاضرة، فيما الأمومة تسلب تلك الذات فتصير أقرب لذات منشطرة تبحث عن «التئام» ما، ويُجاور الكتاب بين كتاب إيمان مرسال، وبين كتاب التركية إليف شافاق «حليب أسود: الكتابة والأمومة والحريم»، إذ ترصد أبو النجا كيف قامت الكاتبتان بتنحّية كل من الشِعر والسرد الروائي جانباً، في محاولة للتعبير عن ضغط سؤال الأمومة وفهم جوهرها بعيداً عن السياق الراسخ لها في المتن الثقافي العام كدور وغريزة.

تقاطعات الورطة

ترصد أبو النجا موقع النصوص التي اختارتها ثقافياً، بما يعكسه من خصائص تاريخية وسياسية ومُجتمعية، المؤثرة بالضرورة على وضع الأمومة في هذا الإطار، فطرحت مقاربةً بين نص المُستعمِر والمُستعمَر، مثلما طرحت بمجاورة نصين لسيمون دو بوفوار المنتمية لفرنسا الاستعمارية، وآخر لفاطمة الرنتيسي المنتمية للمغرب المُستعمرة، اللتين تشير الكاتبة إلى أن كلتيهما ما كان من الممكن أن تحتلا الموقع الذي نعرفه اليوم عنهما دون أن تعبرا الحدود المفروضة عليهما فكرياً ونفسياً ومجتمعياً.

كما تضع كتاب «عن المرأة المولودة» للأمريكية إدريان ريتش، صدر عام 1976، في إطار السياق الاجتماعي والقانوني والسياسي الذي حرّض آنذاك على انتقاد الرؤى الثابتة حول تقسيم الأدوار بين الجنسين وبين ما يجب أن تكون عليه الأم النموذجية، ما أنعش حركة تحرير النساء التي خرجت من عباءة الأحزاب اليسارية والحركات الطلابية آنذاك، وتشير إلى أن هذا الكتاب أطلق على الأمومة اسم «مؤسسة» بما يجابه أطراف المؤسسة الذكورية التي ترسم بدقة أدوار النساء في العائلة وصورهن، وصاغت ريتش هذا الكتاب بشكل جعله يصلح للقراءة والتأمل في بيئات مُغايرة زمنياً وجغرافياً، ويخلق الكتاب تقاطعات بين رؤية ريتش مع تجربة شعرية لافتة بعنوان «وبيننا حديقة» للشاعرتين المصريتين سارة عابدين ومروة أبو ضيف، الذي حسب تعبير شيرين أبو النجا، يمثل «حجراً ضخماً تم إلقاؤه في مياه راكدة تعمل على تعتيم أي مشاعر مختلفة عن السائد في بحر المُقدسات»، والذات التي تجد نفسها في ورطة الأمومة، والتضاؤل في مواجهة فعل الأمومة ودورها. تجمع شيرين أبو النجا بين النص الأميركي والديوان المصري اللذين يفصل بينهما نحو 40 عاماً، لتخرج بنص موازِ يُعادل مشاعر الأم (الكاتبة) وانسحاقها أمام صراع بين القدرة والعجز، والهوية وانسحاقها، لتقول إنه مهما تعددت الأسئلة واشتد الصراع واختلفت تجلياته الخطابية انسحبت الكاتبات الثلاث إلى حقيقة «تآكل الذات»، وابتلاع الأمومة للمساحة النفسية، أو بتعبير الشاعرة سارة عابدين في الديوان بقولها: «حروف اسمي تتساقط كل يوم/ لأزحف أنا إلى هامش يتضاءل/ جوار متن الأمومة الشرس».

في الكتاب تبرز نماذج «الأم» المُتعددة ضمن ثيمات متفرقة، فتضعنا الناقدة أمام نموذج «الأم الأبوية» التي تظهر في شكلها الصادم في أعمال المصرية نوال السعداوي والكاريبية جامايكا كينكد التي تطرح الكاتبة قراءة تجاورية لعمليهما، وتتوقف عند «الأم الهاربة» بقراءة تربط بين رواية «استغماية» للمصرية كاميليا حسين، وسيرة غيرية عن الناقدة الأمريكية سوزان سونتاغ، وهناك «الأم المُقاومة» في فصل كرسته لقراءة تفاعل النص الأدبي الفلسطيني مع صورة الأم، طارحة تساؤلات حول مدى التعامل معها كرمز للأرض والمقاومة، فيما تُشارك شيرين أبو النجا مع القارئ تزامن انتهائها من هذا الكتاب مع «طوفان الأقصى» وضرب إسرائيل لغزة، في لحظة مفصلية تفرض سؤالها التاريخي: ماذا عن الأم الفلسطينية؟ أمهات الحروب؟ الأمهات المنسيات؟