سيرة الألم العراقي

رواية «هزائم وانتصارات» لمحمود سعيد

سيرة الألم العراقي
TT

سيرة الألم العراقي

سيرة الألم العراقي

يرصد الروائي محمود سعيد سيرة تلك الرحلة المحفوفة بالمخاطر، التي قطعها بطله «سامر» ومن معه، هرباً من جبهات الحرب العراقية - الإيرانية، أواسط ثمانينات القرن المنصرم.
يدير سعيد مخلوقاته الروائية بمهارة، يتجلى هذا سواء عند رصد حركة الشخصية الرئيسيّة (سامر) وشخصيات أخرى فاعلة في السرد الطويل نسبياً (511 صفحة من القطع الكبير) أو عندما يدير مجموعات من الشخصيات، كأنْ يرصد سجن النساء أو «بيت الأصدقاء»، مثلاً.
يقرر «سامر» الجندي العراقي، من أهل الموصل، الهرب من وحدته العسكرية، على خطوط القتال مع إيران، صحبة «ياسين» كاتب الفرقة العسكرية، لتنشأ بينهما علاقة صداقة حميمة، تنمو عبر مراحل رحلة العذاب بحثاً عن بلد أوروبي للجوء.
مثلما سيغتني السرد بدخول عشرات الشخصيات، الثانوية لكن الفاعلة، على الخط الروائي الأساس، فهو ينمو عبر المكان، أيضاً، إذ كل رحلة تقتضي مدناً وشخصيات، وفِي الرواية تبدأ الرحلة من كردستان، شمال العراق، حتى بانكوك-تايلاند، مروراً بإيران وباكستان والهند.
ليس الجنود، كلهم، يَرَوْن الحرب وجهاً لوجه. الجنود الذين في جبهات القتال، وحدهم، من يرونها ويعرفونها، لأنهم من أقام فيها أو جرح، أو مات، ومنهم، أيضاً، من رفضها وكره مشعليها فهرب منها كي لا يقتل جندياً لا يعرفه في الخندق المقابل، ولكي لا يذهب هو ضحية مجانية في حرب لا يد له فيها ولا قلب ولا مصلحة.
«سامر» يحمل وثيقتين شخصيتين، يونانية وإيرانية، ويتعلم تزوير الوثائق وجوازات السفر، ليساعد كل من يطلب منه المساعدة.
كل الذين التقوا «سامر»، أو التقاهم، أحبوه وفتحوا له بيوتهم وقلوبهم، فصار واحداً منهم. يقيم معهم أو يزورهم، بل يسافر إلى حيث يقيمون في بلدان ومدن بعيدة.
المصادفات أحد الحلول الروائية التي يلجأ إليها الروائي في حالات عدة، بل إن المصادفات أحد أشكال الفانتازيا الأكثر حضوراً في فضاء السرد.
المصادفات، تلك، أنقذته من الموت الوشيك، على الحدود أو داخل أكثر من بلد، وهذا يحدث للشخصيات الأخرى أيضاً. والمصادفات هي التي قادته أيضاً إلى أكثر تجارب الحب دفئاً، بما فيها تلك التي انتهت بخيبة أمل مريرة. تحديداً شخصية «سانتا» البريطانية التي تعرّف عليها في «سفينة الحب» لزيارة مدينة اسمها «كوا». تبادر تلك البريطانية إلى التعرف على «سامر» الذي سرعان ما يقع قتيل هواها العاصف، أو كمينها الخطير، عندما تخبره بأنها أحبته لمقتضيات العمل (البزنس)، وهو باختصار: العمل معها كشريك في تهريب المخدرات، الأمر الذي لا يقبله حتى لو قتل مشاعره الغرامية الملتهبة.
لم يكن «سامر» من حملة العقائد السياسية المتداولة، فالموقف من الحرب المجانية، وحده، هو ما دفعه، في البداية، إلى رفضها والوقوف ضدها، إثر ما تعرض له الجنديان الصغيران اللذان رافقاه في اليوم الأول للالتحاق بوحدتهم (الوحدة 241) عندما قُتلا بقنبلة من الجانب الإيراني، وهو مشهد لن ينساه «سامر» لسنوات عدة لاحقة. لم يكن يحمل (سامر) أي آيديولوجيا عدا آيديولوجيا ضميره الشخصي.
لكن، وبدافع من ذلك الضمير يتحول (سامر) من جندي هارب من الحرب إلى ناشط إنساني يعمل مع بقية أصدقائه على التعريف بسجناء وسجينات لا يعرف عنهم ذووهم شيئاً، عبر نشر أسمائهم وأماكن اعتقالهم في وسائل الإعلام الدولية المتنوعة، بمساعدة أصدقائه وبجهودهم الفردية لا غير.
عدا تفاصيل ما تعرض له هذا (السامر) من مخاطر حقيقية هددت حياته –نجا من الموت سبع مرات– إلا أن المنعطف شبه الحاسم الذي نقل حياته إلى مستوى درامي مختلف هو تعرفه على سجن النساء في بانكوك.
هُن متهمات بتهم مختلفة أو محكومات لمدد طويلة. وفقاً للقانون يحق لكل منهن إجازة خارج السجن ولكن بشرط الكفيل الضامن. هناك يبدأ «سامر» نشاطه بشكل مختلف هذه المرة: البحث عن كفيل ضامن يتيح لإحداهن (هيلين) التمتع بتلك الإجازة وهي الفتاة التي أحبها «سامر» حباً جارفاً. «هيلين» متورطة في قضية مخدرات، ملتبسة، بعد أن تخلى عنها خليلها، الذي يتعاون مع الشرطة، لينجو من التهمة بنفسه بينما وقعت هي في قبضتهم. وإذ تستحوذ «هيلين» على «سامر» لتصبح أجمل امرأة في الوجود تعرف عليها في حياته، سيبذل كل ما في وسعه من أجل إخراجها من السجن حتى لو في إجازة مؤقتة.
في واحدة من فانتازيات الرواية، وعن طريق المصادفة أيضاً، يتعرف «سامر» على شخصيات نافذة في بانكوك، هم أصدقاء الملك التايلاندي المقربون، منهم كون تان جيسداواتاتشيان، الذين أكرموا وفادته، كما يقال، وساعدوه في مهمته مع السجينات، وخصوصاً «هيلين».
يولي صاحب «زنقة بن بركة» عنايته للمهمشين، ضحايا الحرب والعنف واللجوء، وبسطاء الناس، وينقلهم من الغياب القسري إلى الواجهة، ويغذّيهم بالإصرار على الحياة والأمل والكفاح من أجل مواصلة الشروع بالحياة وبهجة الوجود.
ملاحظة أخيرة: منح سعيد مناظر الطبيعة الخلابة في شرق آسيا وجنوبها الكثير من الوصف وتوقف طويلاً عند مشاهد الترفيه والسهر وريادة المراقص والمطاعم، في تلك الأصقاع، مما أثقل سرده بشيء من السياحة، وهذا قلل من طاقة الدراما والتوتر في متن الرواية وجسمها الأساس، ولا أعتقد أن اختصار هذا سيؤثر على البعد الدرامي والتشويقي في هذا العمل الروائي المتميز.



رحيل إبراهيم أبو سنة... شاعر الرومانسية العذبة

الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
TT

رحيل إبراهيم أبو سنة... شاعر الرومانسية العذبة

الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة
الشاعر محمد أبراهيم أبو سنة

حياة حافلة بالعطاء الأدبي، عاشها الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة الذي غيّبه الموت صباح أمس عن عمر يناهز 87 عاماً بعد معاناة طويلة مع المرض.

ويعد أبو سنة أحد رموز جيل شعراء الستينات في مصر، واشتهر بحسه الرومانسي شديد العذوبة، وغزلياته التي تمزج بين الطبيعة والمرأة في فضاء فني يتسم بالرهافة والسيولة الوجدانية. كما تميزت لغته الشعرية بنبرة خافتة، نأت قصائده عن المعاني الصريحة أو التشبيهات المباشرة؛ ما منح أسلوبه مذاقاً خاصاً على مدار تجربته الشعرية التي اتسعت لنصف قرن.

ترك أبو سنة حصاداً ثرياً تشكل في سياقات فنية وجمالية متنوعة عبر 12 ديواناً شعرياً، إضافة إلى مسرحيتين شعريتين، ومن أبرز دواوينه الشعرية: «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» 1965، و«أجراس المساء» 1975، و«رماد الأسئلة الخضراء» 1985، و«شجر الكلام» 1990.

عاش صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» طفولة قروية متقشفة تركت أثراً لافتاً في شعره؛ إذ ظل مشدوداً دائماً إلى بداهة الفطرة وواقعية الحياة وبساطتها.

وبحسب الموقع الرسمي للهيئة المصرية العامة للاستعلامات، وُلد أبو سنة بقرية الودي بمركز الصف بمحافظة الجيزة في 15/3/1937، وحصل على ليسانس كلية الدراسات العربية بجامعة الأزهر عام 1964. عمل محرراً سياسياً بالهيئة العامة للاستعلامات في الفترة من عام 1965 إلى عام 1975، ثم مقدم برامج ثقافية بالإذاعة المصرية عام 1976 من خلال «إذاعة البرنامج الثاني»، كما شغل منصب مدير عام البرنامج الثقافي، ووصل إلى منصب نائب رئيس الإذاعة.

وحصد الراحل العديد من الجوائز منها: «جائزة الدولة التشجيعية» 1984 عن ديوانه «البحر موعدنا»، وجائزة «كفافيس» 1990 عن ديوانه «رماد الأسئلة الخضراء»، وجائزة أحسن ديوان مصري في عام 1993، وجائزة «أندلسية للثقافة والعلوم»، عن ديوانه «رقصات نيلية» 1997، فضلاً عن «جائزة النيل» في الآداب التي حصدها العام الجاري.

ونعى الراحل العديد من مثقفي مصر والعالم العربي عبر صفحاتهم على منصات التواصل الاجتماعي، ومنهم الشاعر شعبان يوسف الذي علق قائلاً: «وداعاً الشاعر والمبدع والمثقف الكبير محمد إبراهيم أبو سنة، كنتَ خيرَ سفيرٍ للنبلِ والجمالِ والرقةِ في جمهورية الشعر».

وقال الشاعر سمير درويش: «تقاطعات كثيرة حدثت بين الشاعر الكبير محمد إبراهيم أبو سنة وبيني، منذ بداياتي الأولى، فإلى جانب أنه صوت شعري صافٍ له تجربة طويلة وممتدة كان لي شرف الكتابة عنها وعنه، فهو إنسان حقيقي وجميل وطيب ومحب للآخرين، ولا يدخر وسعاً في مساعدتهم».

ويضيف درويش: «حين كان يقرأ الشعر بصوته في برنامجه الإذاعي، كنت أحب القصائد أكثر، فمخارج الحروف وإشباعها وتشكيلها، وليونة النطق، إلى جانب استعذاب الشعر... كلها مواصفات ميزته، كما ميزت فاروق شوشة والدكتور عبد القادر القط... ثمة ذكريات كثيرة لن أنساها يا أستاذنا الكبير، أعدك أنني سأكتبها كلما حانت فرصة، وعزائي أنك كنتَ تعرف أنني أحبك».

ويستعيد الكاتب والناقد الدكتور زين عبد الهادي ذكرياته الأولى مع الشاعر الراحل وكيف أحدث بيت شعري له تغييراً مصيرياً في حياته، قائلاً: «ربما في سن المراهقة كنت أقرأ الشعر حين وقع في يدي ديوان صغير بعنوان (قلبي وغازلة الثوب الأزرق) لمحمد إبراهيم أبو سنة حين قررت الهجرة خارج مصر عام 1981، كان الديوان الصغير وروايات (البلدة الأخرى) لإبراهيم عبد المجيد، و(البيضاء) ليوسف إدريس، و(حافة الليل) لأمين ريان، و(ميرامار) لنجيب محفوظ... هي شهود انتماءاتي الفكرية وما أتذكره في حقيبتي الجلدية».

ويضيف عبد الهادي: «كان الغريب في هؤلاء الشهود هو ديوان محمد إبراهيم أبو سنة، فبقدر حبي للعلم كان الأدب رحيق روحي، كنت أقرأ الديوان وأتعلم كيف يعبّر الشعر عن الحياة المعاصرة، إلى أن وصلت لقصيدة رمزية كان بها بيت لا أنساه يقول: (البلاد التي يغيب عنها القمر)، في إشارة لقضية ما أثارت جدلاً طويلاً وما زالت في حياتنا المعاصرة، كان هذا البيت أحد أهم دوافع عودتي من الغربة، فمهما كان في بلادي من بؤس فهو لا يساوي أبداً بؤس الهجرة والتخلي عن الهوية والجذور».

أما الشاعر سامح محجوب مدير «بيت الشعر العربي» بالقاهرة فيقول: «قبل 25 عاماً أو يزيد، التقيت محمد إبراهيم أبو سنة في مدرجات كلية (دار العلوم) بجامعة القاهرة، وأهداني وقتها أو بعدها بقليل ديوانه المهم (قلبي وغازلة الثوب الأزرق)، لأبحث بعد ذلك عن دواوينه الأخرى وأقتني معظمها (مرايا النهار البعيد، والصراخ في الآبار القديمة، ورماد الأسئلة الخضراء، ورقصات نيلية، وموسيقى الأحلام)، وغيرها من الدواوين التي قطع فيها أبو سنة وجيله من الستينيين في مصر والوطن العربي مسافة معقولة في توطين وتوطئة النص التفعيلي على الخط الرأسي لتطور الشعرية العربية التي ستفقد برحيله أحد أكبر مصباتها».

ويضيف: «يتميز نص أبو سنة بقدرته الفائقة على فتح نوافذ واسعة على شعرية طازجة لغةً ومجازاً ومخيلةً وإيقاعاً، وذلك دون أن يفقد ولو للحظة واحدة امتداداته البعيدة في التراث الشعري للقصيدة العربية بمرتكزاتها الكلاسيكية خاصة في ميلها الفطري للغناء والإنشادية. وهنا لا بد أن أقرّ أن أبو سنة هو أجمل وأعذب مَن سمعته يقول الشعر أو ينشده لغيره في برنامجه الإذاعي الأشهر (ألوان من الشعر) بإذاعة (البرنامج الثاني الثقافي) التي ترأسها في أواخر تسعينات القرن المنصرم قبل أن يحال للتقاعد نائباً لرئيس الإذاعة المصرية في بداية الألفية الثالثة؛ الفترة التي التحقت فيها أنا بالعمل في التلفزيون المصري حيث كان مكتب أبو سنة بالدور الخامس هو جنتي التي كنت أفيء إليها عندما يشتد عليّ مفارقات العمل. كان أبو سنة يستقبلني بأبوية ومحبة غامرتين سأظل مديناً لهما طيلة حياتي. سأفتقدك كثيراً أيها المعلم الكبير، وعزائي الوحيد هو أن (بيت الشعر العربي) كان له شرف ترشيحك العام الماضي لنيل جائزة النيل؛ كبرى الجوائز المصرية والعربية في الآداب».

عاش صاحب «قلبي وغازلة الثوب الأزرق» طفولة قروية متقشفة تركت أثراً لافتاً في شعره

وفي لمسة احتفاء بمنجزه الشعري استعاد كثيرون قصيدة «البحر موعدنا» لأبو سنة التي تعد بمثابة «نصه الأيقوني» الأبرز، والتي يقول فيها:

«البحرُ موعِدُنا

وشاطئُنا العواصف

جازف

فقد بَعُد القريب

ومات من ترجُوه

واشتدَّ المُخالف

لن يرحم الموجُ الجبان

ولن ينال الأمن خائف

القلب تسكنه المواويل الحزينة

والمدائن للصيارف

خلت الأماكن للقطيعة

من تُعادي أو تُحالف؟

جازف

ولا تأمن لهذا الليل أن يمضي

ولا أن يُصلح الأشياء تالف

هذا طريق البحر

لا يُفضي لغير البحر

والمجهول قد يخفى لعارف

جازف

فإن سُدَّت جميع طرائق الدُّنيا أمامك

فاقتحمها

لا تقف

كي لا تموت وأنت واقف».