حكاية ربيع وخريف أشهر صانع مانيكان في مصر

حسني الفارس تميّز برسم ملامح وجه دقيقة متفوقاً على القطع المستوردة

حسني الفارس يعرض صور مانيكان من صنعه («الشرق الأوسط»)
حسني الفارس يعرض صور مانيكان من صنعه («الشرق الأوسط»)
TT

حكاية ربيع وخريف أشهر صانع مانيكان في مصر

حسني الفارس يعرض صور مانيكان من صنعه («الشرق الأوسط»)
حسني الفارس يعرض صور مانيكان من صنعه («الشرق الأوسط»)

حسني الفارس، اسم بات مرتبطا بتطور المانيكان في مصر منذ بدايات الخمسينات من القرن الماضي، حين صنع الرجل المانيكان المصري لأول مرة، كبديل للأجنبي وحتى يومنا هذا، حيث تحولت ورشته إلى أشهر ورشة لتصليح المانيكان لمحلات العلامات التجارية الكبيرة، بدل من إرسالها إلى الخارج للتصليح.
في ورشته العتيقة التي يداوم على العمل بها منذ 60 عاما، يقف الرجل الثمانيني يصلح مانيكان مهشمة الوجه، ليعيدها كالجديدة... عمل بسيط يناسب سنوات عمره، يؤديه بشغف لا ينبض، بعد أن غزت المانيكان المستورد مصر، وتراجعت مهنته بشكل كبير.
القصة الطريفة لصناعة أول مانيكان مصري، يتذكرها عم حسني، مطاردا بالحكي ذاكرة شاحبة تنفلت منها الأسماء والأرقام، يقول إنه كان مساعد نحات، قبل أن يطلب منه الفنان يوسف إسحاق (أحد أصدقائه) مساعدته في تصليح تمثال له بمتحف الشمع.
المهارة التي أصلح بها عم حسني التمثال دفعت المثّال إلى سؤاله عن إمكانية صنع مانيكان مصري خالص، ينافس المستورد، ويحلّ محله في المحال التجارية الكبرى. قبل حسني التحدي، وبدأ في استشارة عدد من المثّالين في المقاييس الفنية القياسية للمانيكان خصوصاً الفنان يوسف طاهر، قبل أن يصنع قالبا للصبّ والتّشكيل، وينتج أول مانيكان مصري، يقول عم حسني: «كان جميلا ومثاليا، لكن ينقصه شيء واحد! كان ثقيلا جدا».
المادة الأولى التي استخدمها عم حسني في صناعة المانيكان كانت الجبس، إذ لم تدخل مادة الفيبر غلاس مصر، إلّا في السبعينات من القرن الماضي، لذلك رفضت المحال شراءه على الرّغم من رخصه مقارنة بالمانيكان الأجنبي. لكنّ العم حسني لم يستسلم، استخدم «المصيص الألبستر» الطّبي، وهو مادة تشبه الجبس، كانت تستخدم لأغراض طبية، وبطّنها بمادة الليف الأبيض المستخرجة من الأشجار التي كانت بمثابة الإسمنت المسلح الخاص بالمانيكان، ليصنع بذلك منتجا منافسا خفيف الوزن.
لم تكن مهارة العم حسني تقتصر على صنع المانيكان فقط، فقد كان يملك مهارة غير عادية في رسم الملامح والماكياج الخاص بالمانيكان وذلك باستخدام الطلاء، حتى أنّ التلفزيون الألماني أنتج له فيلما وثائقيا خاصا بتلك المهارة.
«كنت أبيع المانيكان الواحد بسعر يتراوح ما بين 500 إلى 700 جنيه، وكان وقتها مبلغا ضخما بحسابات السبعينات من القرن الماضي»، صنع المانيكان كان يستغرق أربعة أيام، ويتطلّب العمل دقه فنية ومهارة وقوة بدنية أيضا لحمله وتشكيله.
وحين وصلت شهرة العم حسني إلى صناع السينما، استعانوا به في تنفيذ الديكورات المختلفة التي كان أشهرها «الزلع» الخاصة بإخفاء الأربعين حرامي، في مسلسل «ألف ليلة وليلة» الشهير، والكرات المتحركة الخاصة بفوازير «الدنيا لعبة» للفنانة نيللي.
عمل العم حسني أيضا في تصميم ديكورات فيلم «القادسية»، إنتاج سنة 1981، للمخرج صلاح أبو سيف، بطولة الفنان عزت العلايلي، والفنانة سعاد حسني، كما صمّم الكثير من الآلات والأسلحة الخاصة بالعمل الفني.
شارك أيضا في تصميم ديكورات مسرحية وداد الغازية، وأعمال أخرى للمخرج الراحل أحمد زكي يكن، وصنع تمثالين مهمين، هما تمثال أحمد عرابي بالزقازيق، وتمثال الفلاح المصري بنزلة الشوبك.
وعلى الرّغم من مهارة العم حسني، فإنه لم ينجح في إقناع أبنائه بتعلّم مهنته، مؤكداً أنّهم فضّلوا مهنا أخرى أسهل، لا تتطلّب مهارة وجهدا.
إلى ذلك، طوّر العم حسني من صنعته بعد دخول مادة «الفيبر غلاس» إلى مصر، ونجح في تعلّم الخلطة المناسبة لصناعة المانيكان الأنيق اليدوي بتلك المادة، وبمراحلها الكثيرة التي كان من أهمها إضافة مادة النيكل، حتى يزداد صلابة.
ولكن خلال التسعينات من القرن الماضي فقد العم حسني جانبا كبيرا من زبائنه، بعد إغراق المنتجات الصينية للسوق المصرية التي كان من ضمنها المانيكان الصيني الذي لا يفضله العم حسني، ويصف إياه بكونه «شغل ماكينات... كله يشبه بعضه». لكن أصحاب المحلات وجدوا فيه البديل الرخيص المناسب، وقد تزامن ذلك مع عدم توفر اليد العاملة الماهرة لصناعة المانيكان المصري، صاحبة الصبر وسر الصنعة، حيث فضل العامل مهنا أكثر ربحا، فتوقفت ورشة العم حسني عن الإنتاج، وظنّ أنّ مهنته انتهت إلى الأبد، قبل أن يعود مرة أخرى للعمل، بعد أن لجأت إليه محلات العلامات التجارية الكبرى لتصليح المانيكان المستورد، بدلا من إرساله للخارج، كما استعان به مستوردو المانيكان عالي الجودة الذين جلبوها من الخارج من دون ملامح، ليعيد العم حسني رسم ملامحها بمهارته وإتقانه، ويعطي كل مانيكان ملامح مميزة، حتى لا يبدو كشغل الماكينات».



رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
TT

رحيل إيلي شويري عاشق لبنان و«أبو الأناشيد الوطنية»

عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»
عرف الراحل إيلي شويري بـ«أبو الأناشيد الوطنية»

إنه «فضلو» في «بياع الخواتم»، و«أبو الأناشيد الوطنية» في مشواره الفني، وأحد عباقرة لبنان الموسيقيين، الذي رحل أول من أمس (الأربعاء) عن عمر ناهز 84 عاماً.
فبعد تعرضه لأزمة صحية نقل على إثرها إلى المستشفى، ودّع الموسيقي إيلي شويري الحياة. وفي حديث لـ«الشرق الأوسط» أكدت ابنته كارول أنها تفاجأت بانتشار الخبر عبر وسائل التواصل الاجتماعي قبل أن تعلم به عائلته. وتتابع: «كنت في المستشفى معه عندما وافاه الأجل. وتوجهت إلى منزلي في ساعة متأخرة لأبدأ بالتدابير اللازمة ومراسم وداعه. وكان الخبر قد ذاع قبل أن أصدر بياناً رسمياً أعلن فيه وفاته».
آخر تكريم رسمي حظي به شويري كان في عام 2017، حين قلده رئيس الجمهورية يومها ميشال عون وسام الأرز الوطني. وكانت له كلمة بالمناسبة أكد فيها أن حياته وعطاءاته ومواهبه الفنية بأجمعها هي كرمى لهذا الوطن.
ولد إيلي شويري عام 1939 في بيروت، وبالتحديد في أحد أحياء منطقة الأشرفية. والده نقولا كان يحضنه وهو يدندن أغنية لمحمد عبد الوهاب. ووالدته تلبسه ثياب المدرسة على صوت الفونوغراف الذي تنساب منه أغاني أم كلثوم مع بزوغ الفجر. أما أقرباؤه وأبناء الجيران والحي الذي يعيش فيه، فكانوا من متذوقي الفن الأصيل، ولذلك اكتمل المشوار، حتى قبل أن تطأ خطواته أول طريق الفن.
- عاشق لبنان
غرق إيلي شويري منذ نعومة أظافره في حبه لوطنه وترجم عشقه لأرضه بأناشيد وطنية نثرها على جبين لبنان، ونبتت في نفوس مواطنيه الذين رددوها في كل زمان ومكان، فصارت لسان حالهم في أيام الحرب والسلم. «بكتب اسمك يا بلادي»، و«صف العسكر» و«تعلا وتتعمر يا دار» و«يا أهل الأرض»... جميعها أغنيات شكلت علامة فارقة في مسيرة شويري الفنية، فميزته عن سواه من أبناء جيله، وذاع صيته في لبنان والعالم العربي وصار مرجعاً معتمداً في قاموس الأغاني الوطنية. اختاره ملك المغرب وأمير قطر ورئيس جمهورية تونس وغيرهم من مختلف أقطار العالم العربي ليضع لهم أجمل معاني الوطن في قالب ملحن لا مثيل له. فإيلي شويري الذي عُرف بـ«أبي الأناشيد الوطنية» كان الفن بالنسبة إليه منذ صغره هَوَساً يعيشه وإحساساً يتلمسه في شكل غير مباشر.
عمل شويري مع الرحابنة لفترة من الزمن حصد منها صداقة وطيدة مع الراحل منصور الرحباني. فكان يسميه «أستاذي» ويستشيره في أي عمل يرغب في القيام به كي يدله على الصح من الخطأ.
حبه للوطن استحوذ على مجمل كتاباته الشعرية حتى لو تناول فيها العشق، «حتى لو رغبت في الكتابة عن أعز الناس عندي، أنطلق من وطني لبنان»، هكذا كان يقول. وإلى هذا الحد كان إيلي شويري عاشقاً للبنان، وهو الذي اعتبر حسه الوطني «قدري وجبلة التراب التي امتزج بها دمي منذ ولادتي».
تعاون مع إيلي شويري أهم نجوم الفن في لبنان، بدءاً بفيروز وسميرة توفيق والراحلين وديع الصافي وصباح، وصولاً إلى ماجدة الرومي. فكان يعدّها من الفنانين اللبنانيين القلائل الملتزمين بالفن الحقيقي. فكتب ولحن لها 9 أغنيات، من بينها «مين إلنا غيرك» و«قوم تحدى» و«كل يغني على ليلاه» و«سقط القناع» و«أنت وأنا» وغيرها. كما غنى له كل من نجوى كرم وراغب علامة وداليدا رحمة.
مشواره مع الأخوين الرحباني بدأ في عام 1962 في مهرجانات بعلبك. وكانت أول أدواره معهم صامتة بحيث يجلس على الدرج ولا ينطق إلا بكلمة واحدة. بعدها انتسب إلى كورس «إذاعة الشرق الأدنى» و«الإذاعة اللبنانية» وتعرّف إلى إلياس الرحباني الذي كان يعمل في الإذاعة، فعرّفه على أخوَيه عاصي ومنصور.

مع أفراد عائلته عند تقلده وسام الأرز الوطني عام 2017

ويروي عن هذه المرحلة: «الدخول على عاصي ومنصور الرحباني يختلف عن كلّ الاختبارات التي يمكن أن تعيشها في حياتك. أذكر أن منصور جلس خلف البيانو وسألني ماذا تحفظ. فغنيت موالاً بيزنطياً. قال لي عاصي حينها؛ من اليوم ممنوع عليك الخروج من هنا. وهكذا كان».
أسندا إليه دور «فضلو» في مسرحية «بياع الخواتم» عام 1964. وفي الشريط السينمائي الذي وقّعه يوسف شاهين في العام التالي. وكرّت السبحة، فعمل في كلّ المسرحيات التي وقعها الرحابنة، من «دواليب الهوا» إلى «أيام فخر الدين»، و«هالة والملك»، و«الشخص»، وصولاً إلى «ميس الريم».
أغنية «بكتب اسمك يا بلادي» التي ألفها ولحنها تعد أنشودة الأناشيد الوطنية. ويقول شويري إنه كتب هذه الأغنية عندما كان في رحلة سفر مع الراحل نصري شمس الدين. «كانت الساعة تقارب الخامسة والنصف بعد الظهر فلفتني منظر الشمس التي بقيت ساطعة في عز وقت الغروب. وعرفت أن الشمس لا تغيب في السماء ولكننا نعتقد ذلك نحن الذين نراها على الأرض. فولدت كلمات الأغنية (بكتب اسمك يا بلادي عالشمس الما بتغيب)».
- مع جوزيف عازار
غنى «بكتب اسمك يا بلادي» المطرب المخضرم جوزيف عازار. ويخبر «الشرق الأوسط» عنها: «ولدت هذه الأغنية في عام 1974 وعند انتهائنا من تسجيلها توجهت وإيلي إلى وزارة الدفاع، وسلمناها كأمانة لمكتب التوجيه والتعاون»، وتابع: «وفوراً اتصلوا بنا من قناة 11 في تلفزيون لبنان، وتولى هذا الاتصال الراحل رياض شرارة، وسلمناه شريط الأغنية فحضروا لها كليباً مصوراً عن الجيش ومعداته، وعرضت في مناسبة عيد الاستقلال من العام نفسه».
يؤكد عازار أنه لا يستطيع اختصار سيرة حياة إيلي شويري ومشواره الفني معه بكلمات قليلة. ويتابع لـ«الشرق الأوسط»: «لقد خسر لبنان برحيله مبدعاً من بلادي كان رفيق درب وعمر بالنسبة لي. أتذكره بشوشاً وطريفاً ومحباً للناس وشفافاً، صادقاً إلى أبعد حدود. آخر مرة التقيته كان في حفل تكريم عبد الحليم كركلا في الجامعة العربية، بعدها انقطعنا عن الاتصال، إذ تدهورت صحته، وأجرى عملية قلب مفتوح. كما فقد نعمة البصر في إحدى عينيه من جراء ضربة تلقاها بالغلط من أحد أحفاده. فضعف نظره وتراجعت صحته، وما عاد يمارس عمله بالشكل الديناميكي المعروف به».
ويتذكر عازار الشهرة الواسعة التي حققتها أغنية «بكتب اسمك يا بلادي»: «كنت أقفل معها أي حفل أنظّمه في لبنان وخارجه. ذاع صيت هذه الأغنية، في بقاع الأرض، وترجمها البرازيليون إلى البرتغالية تحت عنوان (أومينا تيرا)، وأحتفظ بنصّها هذا عندي في المنزل».
- مع غسان صليبا
مع الفنان غسان صليبا أبدع شويري مرة جديدة على الساحة الفنية العربية. وكانت «يا أهل الأرض» واحدة من الأغاني الوطنية التي لا تزال تردد حتى الساعة. ويروي صليبا لـ«الشرق الأوسط»: «كان يعد هذه الأغنية لتصبح شارة لمسلسل فأصررت عليه أن آخذها. وهكذا صار، وحققت نجاحاً منقطع النظير. تعاونت معه في أكثر من عمل. من بينها (كل شيء تغير) و(من يوم ما حبيتك)». ويختم صليبا: «العمالقة كإيلي شويري يغادرونا فقط بالجسد. ولكن بصمتهم الفنية تبقى أبداً ودائماً. لقد كانت تجتمع عنده مواهب مختلفة كملحن وكاتب ومغنٍ وممثل. نادراً ما نشاهدها تحضر عند شخص واحد. مع رحيله خسر لبنان واحداً من عمالقة الفن ومبدعيه. إننا نخسرهم على التوالي، ولكننا واثقون من وجودهم بيننا بأعمالهم الفذة».
لكل أغنية كتبها ولحنها إيلي شويري قصة، إذ كان يستمد موضوعاتها من مواقف ومشاهد حقيقية يعيشها كما كان يردد. لاقت أعماله الانتقادية التي برزت في مسرحية «قاووش الأفراح» و«سهرة شرعية» وغيرهما نجاحاً كبيراً. وفي المقابل، كان يعدها من الأعمال التي ينفذها بقلق. «كنت أخاف أن تخدش الذوق العام بشكل أو بآخر. فكنت ألجأ إلى أستاذي ومعلمي منصور الرحباني كي يرشدني إلى الصح والخطأ فيها».
أما حلم شويري فكان تمنيه أن تحمل له السنوات الباقية من عمره الفرح. فهو كما كان يقول أمضى القسم الأول منها مليئة بالأحزان والدموع. «وبالقليل الذي تبقى لي من سنوات عمري أتمنى أن تحمل لي الابتسامة».