أشرف غني.. خليفة كرزاي المحتمل

الخبير الاقتصادي الأفغاني يتحدر من كبرى قبائل البشتون ويعرف بين مناصريه بـ«العقل المفكر»

أشرف غني
أشرف غني
TT

أشرف غني.. خليفة كرزاي المحتمل

أشرف غني
أشرف غني

العملية السياسية في أفغانستان والتي تشكلت بعد رحيل نظام طالبان نهاية سنة 2001، عقب هجوم قوات التحالف الدولي على نظام الحركة المتشددة، دخلت مرحلة جديدة من فقدان الثقة بين الفرقاء السياسيين الأفغان الذين خاضوا حروبا تسببت في تدمير البنى التحتية للبلاد ونجمت عن مقتل مئات الآلاف من المدنيين ونزوح الملايين الآخرين إلى دول الجوار خاصة باكستان وإيران.
فالانتخابات الرئاسية، التي جرت أخيرا لم تسلم من انتقادات وتحديات كادت أن تعصف بها.. فبعد أن تصدر المشهد مرشحان للرئاسة هما عبد الله عبد الله وزير الخارجية السابق وأشرف غني أحمد زاي وزير المالية السابق، أعلن عبد الله عبد الله وهو أحد أقطاب تحالف شمال السابق المناهض لطالبان في تسعينات القرن الماضي بأنه لا يثق في اللجان الانتخابية واتهمها بالتزوير لصالح منافسه الوحيد أشرف غني. وعلق التعاون مع اللجان الانتخابية وسحب مراقبيه من عمليات الفرز بعد أن وجه اتهامات مباشرة لأمين اللجنة المستقلة للانتخابات ضياء الحق عمر خيل، الذي استقال يوم الاثنين الماضي، متهما إياه بالتزوير لمصلحة غني في جولة الإعادة.

على الرغم من أن نتائج جولة الإعادة لم تظهر بعد، فإن التسريبات الصحافية تتحدث بأن أشرف غني يتقدم على منافسه بأكثر من مليون صوت وهو ما يرجح فوزه في الجولة الثانية من الانتخابات الأفغانية المثيرة للجدل.
وأشرف غني الذي يتطلع إلى أن يكون الرئيس الثاني للبلاد بعد الرئيس الحالي حميد كرزاي، سياسي أفغاني وأكاديمي يعرف بين مناصريه بـ«مغز متفكر جهان»، ويعني العقل المفكر على المستوى العالمي. وينحدر من قبيلة بشتونية (مثل كرزاي) وهي قبيلة أحمدزاي كبرى قبائل البشتون القاطنة بمناطق الشرق الأفغاني. وتنتمي القبيلة إلى قبائل البدو الرحل حيث لا تستقر في مكان محدد وإنما تنتقل من محافظة أفغانية إلى أخرى وفقا لتطورات مناخية.
ولد أشرف غني أحمدزاي عام 1949 بولاية «لوجر» الواقعة جنوب شرقي العاصمة كابل، درس التعليم الابتدائي والثانوي في ثانوية «حبيبية» في كابل وهي الثانوية التي تخرج فيها معظم أبناء الطبقة الحاكمة وأثرياء العاصمة. وفي نهاية الستينات حصل على منحة دراسية ليلتحق بالجامعة الأميركية ببيروت. تخرج فيها عام 1973، وهناك تعرف على لبنانية وهي رولا سعادة مسيحية الديانة ولهما ولدان مريم وطارق، يعيشان في الولايات المتحدة حاليا. عاد أشرف غني إلى أفغانستان بعد إكمال دراسته الجامعية في لبنان عام 1977 ليلتحق بجامعة كابل العريقة آنذاك أستاذا للعلوم الإنسانية، ثم حصل على منحة حكومية للمرة الثانية هذه المرة إلى جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة في مجال علوم الإنسان ليكمل درجة الماجستير هناك. وعمل غني بعدد من الجامعات في أفغانستان والغرب، فقد انضم إلى هيئة التدريس في جامعة كابل، ثم جامعة آرهوس في الدنمارك عام 1977، وجامعة كاليفورنيا عام 1983، وجامعة جونز هوبكنز في الفترة بين عامي 1983-1991.
وحصل غني على درجة الدكتوراه في الأنثروبولوجيا الثقافية من جامعة كولومبيا، وكانت أبحاثه الأكاديمية تتمحور حول بناء الدولة والتحول الاجتماعي. وفي سنة 1985 أكمل سنة من العمل الميداني والبحث في المدارس الدينية الباكستانية، كما درس أيضا مقارنة الأديان.
وبعد الإطاحة بحكومة طالبان برزت شخصية أشرف غني مجددا في الساحة الأفغانية كونه رجل اقتصاد، وعمل موظفا خبيرا في البنك الدولي، وكانت أفغانستان بأشد الحاجة إلى خبراته في الهيئات الأممية كونه عمل في مجال الارتقاء بمؤسسات الدول الفاشلة في القارة الأفريقية وآسيا ومجال التحول الاجتماعي في الدول النامية ودول ما بعد الحرب.
وكان باكورة الظهور العلني لأشرف غني في اجتماع «بن» بألمانيا عام 2002، الذي عقد بإشراف مباشر من الأمم المتحدة والمجتمع الدولي لوضع لبنة جديدة للنظام الحالي في أفغانستان ما بعد التخلص من نظام طالبان. وشغل في حكومة الرئيس الأفغاني حميد كرزاي الانتقالية منصب وزير المالية.
استطاع غني إقناع الدول المانحة بشأن احتياجات أفغانستان المالية العاجلة، وتمكن من جمع مليارات الدولارات صرفت في بناء مؤسسات حيوية ومؤسسات رسمية كالقوات الأمنية وتطوير الأرياف، كما تمكن من تأسيس نظام جديد للجمارك في منافذ أفغانستان المنتهية إلى الدول المجاورة والتي كانت تخضع لأمراء الحرب الذين كانوا يجمعون أموال التجار في الجمارك لمصلحتهم الشخصية.
وتعد شخصية أشرف غني صارمة في اتخاذ القرارات المهمة وهو رجل صريح لا يجامل السياسيين وزعماء القبائل على غرار باقي الشخصيات السياسية الأفغانية، لهذا السبب له أعداء كثر من بينهم أمراء الحرب الذين يبحثون دوما عن مصالح شخصية في الأزمات الأفغانية المتلاحقة.
ترشح أشرف غني لمنصب الرئاسة في الانتخابات الرئاسية عام 2009 ضمن قائمة طويلة من المرشحين لهذا المنصب كان أبرزهم الرئيس الحالي حميد كرزاي المنحدر من قبيلة بشتوية أيضا. ولم يحالفه الحظ في تلك الانتخابات فحل في المرتبة الرابعة بعد كرزاي وعبد الله وبشردوست، لكن الرجل ظل يتواصل مع القبائل والشخصيات السياسية وانخرط في العملية السياسية من جديد بزعامة كرزاي فعين رئيسا لجامعة كابل وتولى المنصب لمدة سنتين، كانت حافلة بالمشاكل العرقية. وخرجت مظاهرات طلابية تطالب بتنحيه، بعد أن قام بسلسلة تعديلات ووضع قوانين جديدة تخص الجامعة، لكن خصومه السياسيين اتهموه بالتعصب لقبيلته وأنه بصدد التخلص من الأساتذة الذين ينتمون إلى الطاجيك كما وضع قيودا تمنع استعمال مصطلحات تعليمية عدها الطلاب دخيلة على المجتمع الأفغاني وهي من اللهجة الفارسية لإيران، وكان المصطلح الذي أثار مشكلة أدت إلى تنحيه من منصب رئيس الجامعة هو كلمة «دانشغاه» وهو اسم يطلق على الجامعة في إيران فأمر غني بمنع استعمال هذا المصطلح وبات يروج لمصطلح «بوهنتون» وهو مصطلح مأخوذة من اللغة البشتونية يطلق على الجامعات مما أثار حفيظة الطاجيك الذين تظاهروا ضده وطالبوا بإقالته.
وبعد التنحي عن رئاسة الجامعة عينه الرئيس الأفغاني مسؤولا عن ملف الانتقال السياسي والأمني من القوات الأميركية والأطلسية إلى نظيرتها الأفغانية. وبدأ يتنقل من محافظة إلى أخرى وسط إجراءات أمنية مشددة ويلتقي بحكام الأقاليم ومسؤولين محليين للاطلاع على مدى قدراتهم واستعدادهم لتسلم الملف الأمني والسياسي من الأجانب، وبالفعل استطاع أن يخرج بنجاح من هذه المهمة التي اكتملت بنسبة تسعين في المائة تقريبا، وبات الأفغان يسيطرون على كامل المهمة الأمنية في جميع المناطق الأفغانية.
وانتقلت السلطة السياسية كاملة إلى الأفغان بعد ثلاثة عشر عاما.
يقول أشرف غني إنه استطاع أن يشخص مشاكل ومعاناة الأفغان خلال توليه مهمة الانتقال الأمني والسياسي من خلال تنقلاته وإنه يستطيع حل هذه المشاكل في حال توليه منصب رئاسة الجمهورية.
ترشح غني لمنصب الرئاسة في انتخابات عام 2014 إلى جانب أحد عشر مرشحا آخرين كان أبرزهم عبد الله عبد الله وزلماي رسول وزير الخارجية السابق المقرب إلى الرئيس حميد كرزاي وعبد رب الرسول سياف أحد زعماء المجاهدين السابقين.
ولم يتمكن أحد من المتنافسين على منصب الرئاسة إحراز النسبة المطلوبة في الجولة الأولى وهي خمسون وواحد حسب الدستور والقانون الانتخابي الجديد مما اضطر اللجنة الانتخابية إلى إعلان عقد جولة الإعادة بين اثنين من المتنافسين اللذين حصلا على أغلب الأصوات. وكان أشرف غني أحدهما، عقدت الجولة الثانية ورافقها كثير من المشاكل تتعلق بالتزوير والمخالفات ولا تزال نتائجها غير واضحة حتى الآن. غير أن المعلومات والتوقعات الأولية تشير إلى تقدم أشرف غني على منافسه بمليون صوت وهو ما يعني أنه الرئيس المقبل لأفغانستان بعد كرزاي الذي لا يحق له الترشح لولاية ثالثة. لكن الأصوات الاحتجاجية التي بدأت ترتفع من هنا وهناك خاصة من فريق عبد الله عبد لله بعدم شرعية الانتخابات بسبب التزوير الواسع يبدو واضحا أن طريق غني إلى القصر الجمهوري ليس مفروشا بالورود وأنه سيعاني كثيرا حتى الوصول إليه مثل باقي رؤساء أفغانستان.
يقول نثار أحمد فيضي، وهو أحد الشباب الذين يقودون حملة في شبكات التواصل الاجتماعي «فيسبوك» و«تويتر» إن أشرف غني هو أفضل وأنسب رجل لقيادة المرحلة الحالية من حياة أفغانستان السياسي خاصة أنها تتزامن مع مرحلة الانتقال وخروج القوات الدولية منها نهاية العام الحالي، مشيرا إلى أن غني رجل مثقف أكاديمي لم يتورط في الحروب الأهلية وعاش معظم سنوات عمره في خارج البلد يتعلم ويعلم، كما أن لديه خبرة واسعة في مجال الانتقال من حالة الفوضى إلى حالة الاستقرار والتحول الاجتماعي.
أما سلطان أحمد وهو صحافي أفغاني يناصر أشرف غني فيقول إنه رجل صريح ينفذ ما يعد به وإن أفغانستان بحاجة إلى خبراته في مجال مكافحة الفقر وتعزيز المؤسسات والبنى التحتية للدولة بينما لا يحمل منافسه هذه المواصفات، على حد تعبير أحمد.
اختار أشرف غني الجنرال الأزبكي المثير للجدل عبد الرشيد دوستم محليا ودوليا كمساعد أول في حال فوزه بمنصب الرئاسة وهو المتهم بقتل مئات من عناصر طالبان المعتقلين لديه في سجن قلعة جنكي بولاية بلخ بالشمال الأفغاني أثناء الحرب على طالبان، وهو ما أثار غضب قبائل البشتون الذين طالبوا بمحاكمة الجنرال، غير أن غني يقول إن دوستم طالب بالعفو واعترف بالخطأ وإنه قل من يفعل ذلك، مشيرا إلى أنه ممتن لهذه الجرأة السياسية التي أظهرها عبد الرشيد دوستم قبل خوض غمار الانتخابات الرئاسية.
وما يؤخد على أشرف غني هو أن بطاقته الانتخابية تكاد تكون خالية من الشخصيات الطاجيكية المؤثرة في الساحة وهو ما وجه إليه كثيرا من الانتقاد من عرقية الطاجيك بأن الرجل متعصب لقبيلته البشتونية. علاوة على ذلك فإن الرجل تعرض إلى أبشع أنواع التهم والإشاعات فاتهم بأنه شيوعي يسعى إلى إعادة الحكم الشيوعي في البلاد من قبل بعض أمراء الحرب وقادة المجاهدين السابقين واتهم بأن زوجته مسيحية ولم تعتنق الإسلام رغم أنه يؤكد أن زوجته اعتنقت الإسلام، وتداول الخصوم مقطع فيديو يظهر فيه غني يقول إنه يحترم إرادة زوجته اللبنانية، وإنه لم يجبرها على التخلي عن الديانة المسيحية، وإنه أثناء إقامته بأميركا كان يرافقها إلى الكنيسة، وفي حال فوزه بمنصب الرئاسة فإن أول مرة بتاريخ أفغانستان السياسي ستدخل امرأة لبنانية إلى القصر الجمهوري وهي ظاهرة فريدة وجديدة بالنسبة للأفغان.

* أشرف غني.. في سطور
* ولد أشرف غني أحمدزاي عام 1949 بولاية «لوجر» الواقعة جنوب شرقي العاصمة كابل، درس التعليم الابتدائي والثانوي في ثانوية «حبيبية» في كابل وهي الثانوية التي تخرج فيها معظم أبناء الطبقة الحاكمة وأثرياء العاصمة. في نهاية الستينات حصل على منحة دراسية ليلتحق بالجامعة الأميركية ببيروت تخرج فيها عام 1973، وهناك تعرف على زوجته اللبنانية «رولا سعادة» وهي مسيحية، ولهما ولدان مريم وطارق، يعيشان في الولايات المتحدة حاليا. حصل على منحة حكومية للمرة الثانية إلى جامعة كولومبيا بالولايات المتحدة ونال فيها درجتي الماجستير والدكتوراه.



شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
TT

شرق السودان... نار تحت الرماد

الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)
الشرق السودان دخل دوامة الحروب السودانية المتمددة (رويترز)

لا يبعد إقليم شرق السودان كثيراً عن تماسّات صراع إقليمي معلن، فالجارة الشرقية إريتريا، عينها على خصمها «اللدود» إثيوبيا، وتتربص كل منهما بالأخرى. كذلك، شرق السودان هو «الجسر» الذي يمكن أن تعبره قوات أي منهما نحو أرض الجانب الآخر. ومع تأثر الإقليم أيضاً بالصراعات الداخلية الإثيوبية، وبأطماع الدولتين بموارد السودان، يظل الصراع على «مثلث حلايب» هو الآخر لغماً قد ينفجر يوماً ما.

حدود ملتهبة

تحدّ إقليم «شرق السودان» ثلاث دول، هي مصر شمالاً، وإريتريا شرقاً، وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، ويفصله البحر الأحمر عن المملكة العربية السعودية. وهو يتمتع بشاطئ طوله أكثر من 700 كيلومتر؛ ما يجعل منه جزءاً مهماً من ممر التجارة الدولية المهم، البحر الأحمر، وساحة تنافس أجندات إقليمية ودولية.

وفئوياً، تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة من نواحي البلاد الأخرى، وبينها تناقضات وصراعات تاريخية، وارتباطات وقبائل مشتركة مع دول الجوار الثلاث. كذلك يتأثر الإقليم بالصراعات المحتدمة في الإقليم، وبخاصة بين إريتريا وإثيوبيا، وهو إلى جانب سكانه يعج باللاجئين من الدولتين المتشاكستين على الدوام؛ ما يجعل منه ساحة خلفية لأي حرب قد تنشأ بينهما.

وحقاً، ظل شرق السودان لفترة طويلة ساحة حروب داخلية وخارجية. وظلت إريتريا وإثيوبيا تستضيفان الحركات المسلحة السودانية، وتنطلق منهما عملياتها الحربية، ومنها حركات مسلحة من الإقليم وحركات مسلحة معارضة منذ أيام الحرب بين جنوب السودان وجنوب السودان، وقوات حزبية التي كانت تقاتل حكومة الخرطوم من شرق السودان.

لكن بعد توقيع السودان و«الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق ما عُرف بـ«اتفاقية نيفاشا»، وقّعت الحركات المسلحة في شرق السودان هي الأخرى ما عُرف بـ«اتفاقية سلام شرق السودان» في أسمرا عاصمة إريتريا، وبرعاية الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، يوم 14 أكتوبر (تشرين الأول) 2006. ونصّت تلك الاتفاقية على تقاسم السلطة والثروة وإدماج الحركات المسلحة في القوات النظامية وفقاً لترتيبات «أمنية»، لكن الحكومة «الإسلامية» في الخرطوم لم تف بتعهداتها.

عبدالفتاح البرهان (رويترز)

12 ميليشيا مسلحة

من جهة ثانية، اندلعت الحرب بين الجيش السوداني و«قوات الدعم السريع» في منتصف أبريل (نيسان) 2023، فانتقلت الحكومة السودانية إلى بورتسودان «حاضرة الشرق» وميناء السودان على البحر الأحمر، واتخذت منها عاصمة مؤقتة، ووظّفت الحركات المسلحة التي أعلنت انحيازها للجيش، في حربها ضد «الدعم السريع».

وإبّان هذه الحرب، على امتداد 18 شهراً، تناسلت الحركات المسلحة في شرق السودان ليصل عددها إلى 8 ميليشيات مسلحة، كلها أعلنت الانحياز إلى الجيش رغم انتماءاتها «الإثنية» المتنافرة. وسعت كل واحدة منها للاستئثار بأكبر «قسمة حربية» والحصول على التمويل والتسليح من الجيش والحركة الإسلامية التي تخوض الحرب بجانب الجيش من أجل العودة للسلطة.

ميليشيات بثياب قبلية

«الحركة الوطنية للعدالة والتنمية» بقيادة محمد سليمان بيتاي، وهو من أعضاء حزب «المؤتمر الوطني» المحلول البارزين - وترأس المجلس التشريعي لولاية كَسَلا إبان حكم الرئيس عمر البشير -، دشّنت عملها المسلح في يونيو (حزيران) 2024، وغالبية قاعدتها تنتمي إلى فرع الجميلاب من قبيلة الهدندوة، وهو مناوئ لفرع الهدندوة الذي يتزعمه الناظر محمد الأمين ترك.

أما قوات «الأورطة الشرقية» التابعة لـ«الجبهة الشعبية للتحرير والعدالة» بقيادة الأمين داؤود، فتكوّنت في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024، وسمّت «اتفاقية سلام السودان»، في جوبا، داؤود المحسوب على قبيلة البني عامر رئيساً لـ«مسار شرق السودان». لكن بسبب التنافس بين البني عامر والهدندوة على السيادة في شرق السودان، واجه تنصيب داؤود رئيساً لـ«تيار الشرق» رفضاً كبيراً من ناظر قبائل الهدندوة محمد الأمين ترك.

بالتوازي، عقدت «حركة تحرير شرق السودان» بقيادة إبراهيم دنيا، أول مؤتمر لها في مايو (أيار) 2024 برعاية إريترية كاملة فوق التراب الإريتري، بعد أيام من اشتعال الحرب في السودان. وتدرّبت عناصرها في معسكر قريب من قرية تمرات الحدودية الإريترية، ويقدّر عدد مقاتليها اليوم بنحو ألفي مقاتل من قبيلتي البني عامر والحباب، تحت ذريعة «حماية» شرق السودان.

كذلك، نشطت قوات «تجمّع أحزاب وقوات شرق السودان» بقيادة شيبة ضرار، وهو محسوب على قبيلة الأمرار (من قبائل البجا) بعد الحرب. وقاد شيبة، الذي نصّب نفسه ضابطاً برتبة «فريق»، ومقرّه مدينة بورتسودان - العاصمة المؤقتة - وهو ويتجوّل بحريّة محاطاً بعدد من المسلحين.

ثم، على الرغم من أن صوت فصيل «الأسود الحرة»، الذي يقوده مبروك مبارك سليم المنتمي إلى قبيلة الرشايدة العربية، قد خفت أثناء الحرب (وهو يصنَّف موالياً لـ«الدعم السريع»)، يظل هذا الفصيل قوة كامنة قد تكون طرفاً في الصراعات المستقبلية داخل الإقليم.

وفي أغسطس (آب) الماضي، أسّست قوات «درع شرق السودان»، ويقودها مبارك حميد بركي، نجل ناظر قبيلة الرشايدة، وهو رجل معروف بعلاقته بالحركة الإسلامية وحزب «المؤتمر الوطني» المحلول، بل كان قيادياً في الحزب قبل سقوط نظام البشير.

أما أقدم أحزاب شرق السودان، «حزب مؤتمر البجا»، بقيادة مساعد الرئيس البشير السابق موسى محمد أحمد، فهو حزب تاريخي أُسّس في خمسينات القرن الماضي. وبعيد انقلاب 30 يونيو 1989 بقيادة عمر البشير، شارك الحزب في تأسيس ما عُرف بـ«التجمع الوطني الديمقراطي»، الذي كان يقود العمل المسلح ضد حكومة البشير من داخل إريتريا، وقاتل إلى جانب قوات «الحركة الشعبية لتحرير السودان» بقيادة الراحل جون قرنق على طول الحدود بين البلدين، وفي 2006 وقّع مع بقية قوى شرق السودان اتفاقية سلام قضت بتنصيب رئيسه مساعداً للبشير.

ونصل إلى تنظيم «المجلس الأعلى لنظارات البجا والعموديات المستقلة» بقيادة الناظر محمد الأمين ترك. لهذا التنظيم دور رئيس في إسقاط الحكومة المدنية بقيادة رئيس الوزراء الدكتور عبد الله حمدوك، بإغلاقه الميناء وشرق البلاد. ورغم زعمه أنه تنظيم «سياسي»، فإنه موجود في الميليشيات المسلحة بشكل أو بآخر.

وهكذا، باستثناء «مؤتمر البجا» و«المجلس الأعلى للعموديات المستقلة»، فإن تاريخ تأسيس هذه الميليشيات القبلية وجغرافيا تأسيسها في إريتريا، ونشرها في الإقليم تحت راية الجيش وتحت مزاعم إسناده – على رغم «تبعيتها» لدولة أجنبية مرتبطة بالحرب - يعتبر مراقبون أن وجودها يهدّد استقرار الإقليم ويعزّز الدور الإريتري في شرق السودان، وبخاصة أن البناء الاجتماعي للإقليم في «غاية الهشاشة» وتتفشى وسط تباينات المجموعات القبلية والثقافية المكوّنة له.

أسياس أفورقي (رويترز)

مقاتلون من الغرب يحاربون في الشرق

إلى جانب الميليشيات المحلية، تقاتل اليوم أكثر من أربع حركات مسلحة دارفورية بجانب الجيش ضد «الدعم السريع»، ناقلةً عملياتها العسكرية إلى شرق السودان. الأكبر والأبرز هي: «حركة تحرير السودان» بقيادة مني أركو مناوي (حاكم إقليم دارفور)، و«حركة العدل والمساواة السودانية» بقيادة (وزير المالية) جبريل إبراهيم، و«حركة تحرير السودان - فصيل مصطفى طمبور»، ومعها حركات أخرى صغيرة كلها وقّعت «اتفاقية سلام السودان» في جوبا، وبعد سبعة أشهر من بدء الحرب انحازت إلى الجيش في قتاله ضد «الدعم السريع».

الحركات المسلحة الدارفورية التي تتخذ من الشرق نقطة انطلاق لها، أسسها بعد اندلاع الحرب مواطنون سودانيون ترجع أصولهم إلى إقليم دارفور، إلا أنهم يقيمون في شرق السودان. أما قادتها فهم قادة الحركات المسلحة الدارفورية التي كانت تقاتل الجيش السوداني في إقليم دارفور منذ عام 2003، وحين اشتعلت حرب 15 أبريل، اختارت الانحياز للجيش ضد «الدعم السريع». ولأن الأخير سيطر على معظم دارفور؛ فإنها نقلت عملياتها الحربية إلى شرق السودان أسوة بالجيش والحكومة، فجندت ذوي الأصول الدارفورية في الإقليم، ودرّبتهم في إريتريا.

استقطاب قبلي

حسام حيدر، الصحافي المتخصّص بشؤون شرق السودان، يرى أن الحركات المسلحة في الإقليم، «نشأت على أسس قبلية متنافرة ومتنافسة على السلطة واقتسام الثروة والموارد، وبرزت أول مرة عقب اتفاق سلام شرق السودان في أسمرا 2006، ثم اتفاق جوبا لسلام السودان».

ويرجع حيدر التنافس بين الميليشيات المسلحة القبلية في الإقليم إلى «غياب المجتمع المدني»، مضيفاً: «زعماء القبائل يتحكّمون في الحياة العامة هناك، وهذا هو تفسير وجود هذه الميليشيات... ثم أن الإقليم تأثر بالنزاعات والحروب بين إريتريا وإثيوبيا؛ ما أثمر حالة استقطاب وتصفية حسابات إقليمية أو ساحة خلفية تنعكس فيها هذه الصراعات».

تتساكن في الإقليم مجموعات ثقافية وإثنية «أصيلة» وأخرى وافدة

من نواحي البلاد الأخرى وبينها تناقضات وصراعات تاريخية

الدكتورعبدالله حمدوك (رويترز)

المسؤولية على «العسكر»

حيدر يحمّل «العسكر» المسؤولية عن نشاط الحركات المسلحة في الشرق، ويتهمهم بخلق حالة استقطاب قبلي واستخدامها لتحقيق مكاسب سياسية، ازدادت حدتها بعد حرب 15 أبريل. ويشرح: «الحركات المسلحة لا تهدد الشرق وحده، بل تهدد السودان كله؛ لأن انخراطها في الحرب خلق انقسامات ونزاعات وصراعات بين مكوّنات الإقليم، تفاقمت مع نزوح ملايين الباحثين عن الأمان من مناطق الحرب».

وفقاً لحيدر، فإن نشاط أربع حركات دارفورية في شرق السودان، وسّع دائرة التنافس على الموارد وعلى السلطة مع أبناء الإقليم؛ ما أنتج المزيد من الحركات القبلية، ويوضح: «شاهدنا في فترات سابقة احتكاكات بين المجموعات المسلحة في شرق السودان مع مجموعات مسلحة في دارفور، وهي مع انتشار المسلحين والسلاح، قضايا تضع الإقليم على حافة الانفجار... وإذا انفجر الشرق ستمتد تأثيراته هذا الانفجار لآجال طويلة».

ويرجع حيدر جذور الحركات التي تدرّبت وتسلحت في إريتريا إلى نظام الرئيس السابق عمر البشير، قائلاً: «معظمها نشأت نتيجة ارتباطها بالنظام السابق، فمحمد سليمان بيتاي، قائد (الحركة الوطنية للبناء والتنمية)، كان رئيس المجلس التشريعي في زمن الإنقاذ، ومعسكراته داخل إريتريا، وكلها تتلقى التمويل والتسليح من إريتريا».

وهنا يبدي حيدر دهشته لصمت الاستخبارات العسكرية وقيادة الجيش السوداني، على تمويل هذه الحركات وتدريبها وتسليحها من قِبل إريتريا على مرأى ومسمع منها، بل وتحت إشرافها، ويتابع: «الفوضى الشاملة وانهيار الدولة، يجعلان من السودان مطمعاً لأي دولة، وبالتأكيد لإريتريا أهداف ومصالح في السودان». ويعتبر أن تهديد الرئيس (الإريتري) أفورقي بالتدخل في الحرب، نقل الحرب من حرب داخلية إلى صراع إقليمي ودولي، مضيفاً: «هناك دول عينها على موارد السودان، وفي سبيل ذلك تستغل الجماعات والمشتركة للتمدد داخله لتحقق مصالحها الاقتصادية».

الدور الإقليمي

في أي حال، خلال أكتوبر الماضي، نقل صحافيون سودانيون التقوا الرئيس أفورقي بدعوة منه، أنه سيتدخّل إذا دخلت الحرب ولايات الشرق الثلاث، إضافة إلى ولاية النيل الأزرق. وهو تصريح دشّن بزيارة مفاجئة قام بها رئيس مجلس السيادة عبد الفتاح البرهان لإريتريا 26 نوفمبر الماضي، بحثت بشكل أساسي - وفقاً لتقارير صحافية - قضية الحركات المسلحة التي تستضيفها إريتريا داخل حدودها ومشاركتها في الحرب إلى جانب الجيش، إلى جانب إبرام اتفاقات أمنية وعسكرية.

للعلم، الحركات الشرقية الثماني تدرّبت داخل إريتريا وتحت إشراف الجيش الإريتري وداخل معسكراته، وبعضها عاد إلى السودان للقتال مع جانب الجيش، وبعضها لا يزال في إريتريا. وعلى الرغم من النفي الإريتري الرسمي المتكرر، فإن كثيرين، وبخاصة من شرق السودان، يرون أن لإريتريا أطماعاً في الإقليم.

أما إثيوبيا، فهي الأخرى تخوض صراعاً حدودياً مع السودان وترفض ترسيم الحدود عند منطقة «الفشقة» السودانية الخصيبة بولاية القضارف. وإلى جانب تأثر الإقليم بالصراعات الداخلية الإثيوبية، فهو يضم الآلاف من مقاتلي «جبهة تحرير التيغراي» لجأوا إلى السودان فراراً من القتال مع الجيش الفيدرالي الإثيوبي في عام 2020، ولم يعودوا إلى بلادهم رغم نهاية الحرب هناك. ويتردد على نطاق واسع أنهم يقاتلون مع الجيش السوداني، أما «الدعم السريع» فتتبنى التهمة صراحةً.

أخيراً، عند الحدود الشمالية حيث مثلث «حلايب» السوداني، الذي تتنازع عليه مصر مع السودان ويسيطر عليه الجيش المصري، فإن قبائل البشارية والعبابدة القاطنة على جانبي الحدود بين البلدين، تتحرك داخل الإقليم. وهي جزء من التوترات الكامنة التي يمكن أن تتفجر في أي وقت.

وبالتالي، ليس مبالغة القول إن شرق السودان يعيش على شفا حفرة من نار. وتحت الرماد جمرات قد تحرق الإقليم ولا تنطفئ أبداً.