رحيل فؤاد عجمي

رحيل فؤاد عجمي
TT

رحيل فؤاد عجمي

رحيل فؤاد عجمي

في أول مرة أتعرف فيها على البروفسور فؤاد عجمي كنت طالبا للدراسات العليا، وذلك عندما قرأت كتابه «المحنة العربية»، الذي ترك لدي انطباعا عميقا، إنه يجيد وصف العذابات الفكرية والسياسية والثقافية في العالم العربي التي حلت في أعقاب هزيمة عام 1967، ولا يزال دون منافس في هذا المضمار. في فترة لاحقة، عندما كنت أسعى إلى التعرف على شيعة لبنان، قرأت كتابه «الإمام المُغيّب»، الذي يدور حول الإمام الراحل موسى الصدر بقدر ما يتعلق بتاريخ عائلة البروفسور عجمي ذاته. يتميز الكتاب، مثل كثير من كتابات عجمي، بالحميمية والاطلاع العميق والأسلوب الجميل. دائما ما أنصح بقراءة هذا الكتاب وكتاباته الأخرى لطلابي. الأمر الجدير بالذكر على وجه خاص في علم البروفسور عجمي كيفية جمعه بين التاريخ السياسي والتقدير العميق للثقافة والأدب والتاريخ. كان راويا بالفطرة، إذ كان يكتب ويقدم سردا أساسيا، ولم يكن شخصا متزلفا أو متملقا في نخبة القوة الأميركية، كما وصفه البعض.

* برنارد هيكل: البروفسور عجمي.. كان رجلا رقيق المشاعر ذا علم.... تحدث كثير عن «أمراض» العرب وكل أمله أن يراهم يوما يخرجون من الأزمات السياسية التي غرقوا فيها
* قابلت البروفسور عجمي منذ خمس سنوات وسارت الأمور بيننا على ما يرام، وقد أرجع ذلك إلى أساليبنا «البلدي» القديمة. نشأت صداقتنا بفضل حقيقة أن أصولنا نحن الاثنين ترجع إلى الأقاليم اللبنانية ولا نشعر بالارتياح لأهل العاصمة المتصنعين في بيروت. كان البروفسور عجمي شيعيا من أرنون في الجنوب، وأنا ماروني من نيحا في الشمال. كنا نحن الاثنان نعتز بالولايات المتحدة التي قدمت لنا وطنا جديدا، وحررتنا من أغلال العالم القديم، ومنحتنا فرصا مذهلة.
في أول انطباع، بدا البروفسور عجمي محللا متشككا ومتشائما تجاه العالم العربي، حيث كان يتحدث عن الأمراض التي يعاني منها العرب. ولكنه انطباع خاطئ. لقد كان رجلا عطوفا يهتم كثيرا بشأن العرب – كل العرب – ويريد أن يراهم وهم يخرجون من الأزمات السياسية التي غرقوا فيها. وعلى النقيض من كثير من أبناء عصره، رفض عجمي القبول بأن المخرج هو الاشتراكية، أو، في مرحلة لاحقة، الإسلام السياسي. بالنسبة له كانت كلتا الآيديولوجيتين تمثلان جانبين مختلفين من عملة الاستبداد ذاتها، ويمثلان وعودا كاذبة وطرقا سياسية مسدودة. كان الأمل الوحيد من وجهة نظره هو الديمقراطية الليبرالية. يمكن أن يساعد ذلك تفسير حماسه الخاطئ وتأييده للغزو الأميركي في العراق. كان يجب أن يعرف على نحو أفضل، وعلى وجه التحديد أن المجتمع العراقي تعرض لتدمير بالغ جراء حكم صدام، ونظام العقوبات، وأن الغزو وما حدث في أعقابه سوف يجعل من المستحيل بناء أي كيان مترابط. كما أخطأ البروفسور عجمي أيضا في ثقته في قدرة الولايات المتحدة على حسن إدارة الأمور.
وفي الفترة الأخيرة، ألف كتابا مؤثرا عن الحرب في سوريا، دافع فيه عن التدخل العسكري الغربي للمساعدة على هزيمة نظام الأسد. يجب مرة أخرى قراءة هذا باعتباره دليلا على مشاعره الثابتة تجاه العرب، بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية أو انتمائه الشخصي، بالإضافة إلى إيمانه المستمر بقدرة الولايات المتحدة على تحقيق التوازن لصالح من تعرضوا لمعاناة طويلة.
الأمر الوحيد الذي لا يستطيع العديد من أعضاء السلك الأكاديمي أن يتسامحوا فيه مع البروفسور عجمي هو ما بدا منه من عدم اكتراث تجاه الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. ولا يخفى أن البروفسور عجمي كان يحظى بإعجاب الكثيرين في إسرائيل والمناصرين لها، ولم تكن لديه مشكلة في وجود إسرائيل. كان يرى أن إسرائيل واقع سياسي لا يمكن إلغاؤه، لذلك يجب على العرب القبول به، بل وحتى مصادقتها من أجل تحقيق تنميتهم. في الواقع، كان عجمي يرى أن انشغال العرب بإسرائيل حارة سياسية أخرى مسدودة تحول بينهم وبين التقدم، بينما يسمح ذلك ببقاء أنظمة استبدادية للبقاء في السلطة باسم الصراع مع الكيان الصهيوني. أشك أيضا، ولكني لا أملك دليلا على ذلك، في أن آراءه تجاه إسرائيل والفلسطينيين تأثرت بالتجربة العصيبة التي مر بها الشيعة في جنوب لبنان في السبعينات، عندما خضعوا وقتها لسيطرة منظمة التحرير الفلسطينية التي كانت توصم بالفساد والوحشية في ذلك الوقت. قد يرى المرء في موقف البروفسور عجمي خيانة لفلسطين، ولكن على الأرجح أن جذور هذا الموقف ترجع إلى فهم واضح لوجوب تكيف العرب مع الواقع، في هذه القضية وغيرها من القضايا. ومن المثير للاهتمام الإشارة إلى أن كتب البروفسور فؤاد عجمي، ما زالت محل إعجاب بالغ وتحظى بقراءة واسعة في العالم العربي.
على الرغم من كل ما يحمله من تعقيدات وما قد يشوبه من تناقضات، فإن ما تركه البروفسور فؤاد عجمي يمثل معلما تركه رجل رقيق المشاعر وذو علم. سوف يجد الدارسون في العالم العربي الكثير الذي يمكنهم الاستفادة منه في أعماله.
* أستاذ دراسات الشرق الأدنى في جامعة برنستون

* أفشين مولافي : فؤاد عجمي والوضع السياسي العربي
* «انتحر مساء يوم 6 يونيو (حزيران) 1982 وعمره 62 سنة في بلكونة منزله غرب بيروت» الشاعر المعروف والأستاذ بالجامعة الأميركية ببيروت خليل الحاوي. وتلقى الحاوي تعليمه بذات الجامعة ثم بجامعة كمبريدج». هكذا بدأت إحدى أفطن المقالات في الوضع السياسي العربي في قصر أحلام العرب: أوديسة جيل التي كتبها الراحل فؤاد عجمي ونشرت عام 1998.
«أين العرب؟» قالها الحاوي حينها في اليوم الذي اجتاحت فيه الدبابات الإسرائيلية لبنان. «من الذي سيمسح وصمة العار عن جبيني؟» وبعدها في عشية ذلك اليوم أزال وصمة العار بإطلاق النار على نفسه. أوحى انتحار الحاوي لفؤاد عجمي قصة أكبر عن الرجال والنساء العرب الذين يحلمون بالحداثة ولكنهم يائسون بسبب ضعفهم وسياسات بلادهم البالية والتقاليد العنيدة والطائفية الخطرة. كانت مقالة مدهشة عنوانها «انتحار خليل الحاوي: قداس جيل» والفصل الأول فيما اعتبره أحد أهم أعمال فؤاد عجمي «قصر أحلام العرب».
لمن عرفوا الأستاذ عجمي مثلنا، عجمي الرجل وليس الكاريكاتير، فهمنا أن مقالة الحاوي كانت شخصية بعمق. وعجمي يئس أيضا من الوضع السياسي العربي وعبر للعالم بوضوح عن رؤيته في «قصر أحلام العرب» الذي نشر عام 1998.
وكتب عجمي: «عندما يتحدث الغربيون والإسرائيليون (الأعداء) وعندما لا يستمع (المستشرقون) يتحدث العرب بالصراحة والرمز».. «لم يحتاجوا للكثير من التفاصيل فكان بإمكانهم الحديث بإيجاز عما حدث بعالمهم فمسار الأحداث لتاريخهم الحديث معروف لديهم».
فما هي القصة التي حكوها عن السقوط؟
من «المد الثقافي والسياسي في الخمسينات»، ذلك المد الذي أتى بالمعرفة المتزايدة للتعلم والثقة السياسية بالقومية الجماعية والانعتاق الأكبر للنساء والأدب والشعر الجديد الذي أعاد صياغة الشكل الموقر للفن، تبددت تلك الثقة بعد عقد من ذلك في حرب الأيام الستة عام 1967 وصُنع عالم جديد.
في ذلك العالم الجديد كتب عجمي «اتجه الشباب إلى السياسة الثيوقراطية (الدينية) وتركوا السياسة العلمانية التي كانت لمن هم أكبر منهم سنا». وعندما رجع فؤاد عجمي إلى تلك اللحظة بذاكرته بعد نحو عقدين من الزمن كتب: «في صميم هذا السرد الممتد يكون المأزق، خط الخطأ الجيلي بين الآباء العلمانيين وأبنائهم الثيوقراطيين».
في ذلك العالم الجديد انتحر خليل الحاوي في شرفة منزله غرب بيروت ثم أصبح الوضع السياسي العربي قاسيا، لا سيما في المدن الرئيسة بغداد والقاهرة ودمشق وبيروت. وربما كان هذا سبب تعلق عجمي بالشعراء والرواة، إذ كانوا يمنحونه الأمل.
عرفت فؤاد عجمي كطالب في مدرسة الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جون هوبكنز. وقبل سفري لمصر لدراسة اللغة العربية خلال إجازة الصيف سألته عما يجب أن أقرأه، فقال لي: «لدي عشرون كتابا لك: جميعها لنجيب محفوظ». وكان أخبرني مرة عن الأيام القلية التي قضاها في صحبة الكاتب نجيب محفوظ.
كان فؤاد عجمي كاتبا غزير الإنتاج لكن كان لكتبه مكانة خاصة في قلبه. فهي تروي القصص التي يريد أن يحكيها وكان يلفها إحساس من الأسف والشفقة.
في كتابه «الإمام المُغيب: موسى الصدر وشيعة لبنان» الذي نشر عام 1987، كتب عجمي: «قاد موسى الصدر أتباعه اللبنانيين في وقت بدأوا يطالبون فيه ببلدهم. واختفى وترك لهم نصا وذاكرة وبعض المؤسسات في وقت كان فيه البلد بأكمله مكانا محطما. الشباب خلف أكياس الرمل مع ملصقات الإمام يدافعون عن حطامهم وطوائفهم. لقد أتى مقياس من المساواة إلى لبنان».
وكتب في كتابه «المحنة العربية» الذي نشر عام 1981 «ليس من تسلية في المادة التي ترد هنا: في تاريخ للأوهام واليأس والسياسات التي تنحدر بصورة متكررة إلى سفك الدماء، وللتحولات المتخيلة التي يعقبها اليأس لأن هناك جوهرا غير قابل للتغيير يشوه كل ذلك ويفترس كل النيات الطيبة ويسخر ممن يحاولون تغيير الأشياء».
وفي كتابه «بيروت: مدينة الندم» الذي نشر عام 1988 رثى حالة الحرب الأهلية في لبنان وكتب «قبل السقوط وقبل الأحداث الفظيعة والدمار السياسي خلال العقد الماضي، كانت هناك حكايات عن لبنان، حكايات عن بلد جبلي صغير على شاطئ البحر المتوسط، عن بيروت المدينة الساحرة حيث تنحدر سلسلة الجبال المثيرة نحو البحر. كانت هناك حكايات عن أناس يتسمون بروح الإقدام والمبادأة عاشوا حسب فطنتهم ولاقحوا بين صرامة الحق العربية الإسلامية في الشرق وأساليب ومفهوم الحق في الغرب».
أما في كتابه «قصر أحلام العرب: أوديسة جيل» الذي نشر عام 1998 فتوقع انتفاضة مصر عام 2011: «ليس هناك قانون للسلام الاجتماعي، ولا سعادة محتومة أو تمدن محتوم في أي أرض. كانت هناك مناحات على شاطئ النيل وأوقات عمّت فيها الاحتفالات. وهناك دور حاسم للإرادة الإنسانية يرقب دورة الحياة وتأتي بالأشياء حسب المواسم، ولا يكفي عزاء الإشادة بالأرض الطيبة والنهر الصبور. وعلى تلك المقاييس على الضفاف أن تقرأ وتراقب بحذر».
* باحث بمعهد السياسة الخارجية بجامعة جون هوبكنز للدراسات الدولية

* دوغلاس مارتن: رحيل الخبير في التاريخ العربي فؤاد عجمي
* توفي الأحد الماضي عن 68 سنة فؤاد عجمي الأكاديمي والمؤلف والإذاعي والمعلق على شؤون الشرق الأوسط. وساعد عجمي على تجميع الدعم لغزو الولايات المتحدة للعراق عام 2003، عن طريق تقديم الاستشارات الشخصية لكبار صناع السياسة. وقالت مؤسسة هوفر في جامعة ستانفورد، حيث كان عجمي من كبار أساتذتها في بيان، إن سبب وفاته مرض السرطان.
فؤاد عجمي عربي يئس من وصول الحكومات الاستبدادية بطريقتها الخاصة للديمقراطية واعتقد أن على الولايات المتحدة مواجهة ما سماه «ثقافة الإرهاب» بعد هجمات عام 2001 الإرهابية على نيويورك وواشنطن. وشبّه ديكتاتور العراق صدام حسين بهتلر.
عمل عجمي جاهدًا على وضع التاريخ العربي في منظور أكبر. وكثيرًا ما أشار إلى غضب المسلمين على فقدانهم السلطة في الغرب عام 1683 عندما فشل حصار الأتراك لفيينا. وقال إن تلك الذكرى أدت إلى نوع من التعاسة الذاتية والخداع الذاتي، حيث إنهم يلومون بقية العالم على مشكلاتهم. ويقول إن الإرهاب هو إحدى النتائج.
تلك وجهة نظر طرحها برنارد لويس المؤرخ البارز لشؤون الشرق الأوسط في برينستون والمفكر الشعبي الذي حث الولايات المتحدة أيضا على غزو العراق ونصح الرئيس جورج بوش.
اعتاد معظم الأميركيين على آراء عجمي على أخبار قناتي «سي بي إس» و«سي إن إن» وبرنامجي «بي بي إس» (شارلي روز) و«ساعة الأخبار»، حيث كانت تضفي لحيته المميزة وأسلوبه المنمق قوة على آرائه التي تبدو موثوقًا بها. وكتب عجمي ما يفوق 400 مقالاً للمجلات والصحف منها «نيويورك تايمز»، إضافة إلى ستة كتب عن الشرق الأوسط اشتمل بعضها على تجاربه الشخصية كمسلم شيعي في مجتمعات ذات أغلبية سنية.
ودعته كوندوليزا رايس عندما كانت مستشارة الأمن القومي إلى البيت الأبيض في عهد الرئيس بوش، ووجه النصح إلى بول وولفويتز عندما كان نائب وزير الدفاع. وفي خطاب عام 2002 أشار نائب الرئيس ديك تشيني إلى تنبؤ عجمي بأن يقابل العراقيون التحرير بواسطة الجيش الأميركي بالفرح.
وواصل عجمي خلال السنوات التي تلت غزو العراق دعم التدخل بوصفه يساعد على الاستقرار. لكنه قال هذا الشهر إن رئيس الوزراء نوري المالكي بدد فرصة لتوحيد البلد بعد التدخل الأميركي وأصبح ديكتاتورًا. وفي وقت قريب فضّل السياسات الأكثر عدوانية تجاه إيران وسوريا. وكان أشد انتقاد عجمي للحكام المستبدين العرب الذين يفتقرون للدعم الشعبي. لكن استخدامه لكلمات مثل «قبلي» و«رجعي» و«عشائري» لوصف الشعوب العربية أوغر صدور البعض، وكذلك اعتقاده أن الأمم الغربية يجب أن تتدخل في المنطقة لتصحيح الأخطاء. واتهمه الناقد الفلسطيني إدوارد سعيد الذي توفي عام 2003 بأن لديه صفات عنصرية جلية». وامتدحه آخرون على توازنه فكتب دانيال بايبس وهو مفكر متخصص في شؤون الشرق الأوسط في مجلة «كومنتري» عام 2006 أن عجمي تجنب «الشعور العربي الراسخ العام عن غدر وخيانة إسرائيل».
ولد فؤاد عجمي في 19 سبتمبر (أيلول) عام 1945 على سفح قلعة بناها الصليبيون في قرية أرنون المغبرة جنوب لبنان. وأتت أسرته من إيران (تعني كلمة عجمي «فارسي» في اللغة العربية) وكانت من مزارعي التباكو الأثرياء. وانتقلت أسرته إلى بيروت عندما كان في الرابعة من عمره.
وعندما كان صبيًا كان يسخر منه أطفال المسلمين السنة لكونه شيعيًا وقصيرًا، وكتب في قصر أحلام العرب: أوديسة الأجيال 1998 «دراسة للمفكرين العرب في الجيلين الأخيرين». وعندما كان عجمي مراهقًا كان متحمسًا للقومية العربية وهي قضية انتقدها فيما بعد. كما وقع في حب الثقافة الأميركية خاصة أفلام هوليوود، ولا سيما أفلام رعاة البقر. وفي عام 1963 وقبل عيد ميلاده الثامن عشر بيوم أو يومين انتقلت أسرته إلى الولايات المتحدة. ودرس عجمي بكلية أوريغون الشرقية (صارت جامعة الآن) ثم حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة واشنطن بعد كتابته أطروحة عن العلاقات الدولية وحكومات العالم. ثم درّس العلوم السياسية في برينستون. وفي عام 1980 عينته مدرسة الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هوبكنز مديرًا لدراسات الشرق الأوسط. ثم انضم إلى مؤسسة هوفر عام 2011. بحث كتابه الأول «المحنة العربية: الفكر السياسي العربي والممارسات السياسية منذ حرب عام 1967»، (1981) وحالة الفزع والشعور بالهشاشة والضعف في العالم العربي بعد انتصار إسرائيل في حرب عام 1967. وعرض كتابه التالي «الإمام المغيب: موسى الصدر وشيعة لبنان»، (1986) لرجل دين إيراني ساعد على تحول الشيعة اللبنانيين من «أقلية محتقرة» إلى لاعبين سياسيين فاعلين. وقدم عجمي في كتابه «بيروت: مدينة الندم» مقدمة طويلة وبعض النصوص المصاحبة لمقالة مصورة بقلم إيلي ريد.
ويتحدث كتاب «قصر أحلام العرب» عن كيف حاول جيل من المفكرين العرب تجديد ثقافة أوطانهم من خلال قوى الحداثة والعلمانية. ووصفته كريستيان سيانس مونيتور «بالنظرة الصافية لآمال العرب المفقودة».
وأدان البعض ذلك الكتاب من ضمن ما أدين به لتلك النبرة بوصفه سلبيًا للغاية. وقال المفكر أندرو روبن الذي يكتب في صحيفة «ذا نيشن»: «يعبر عن معاداة العروبة التي احتضنتها واشنطن واللوبي الموالي لإسرائيل».
وحصل فؤاد عجمي على الكثير من الجوائز منها زمالة ماك آرثر عام 1982 وميدالية العلوم الإنسانية الوطنية عام 2006. وترك عجمي زوجته ميشيل.
وصف آدم شاتز مظهر عجمي المميز في صحيفة «ذا نيشن» عام 2003 «بلحيته الدراماتيكية وملابسه الساحرة الأنيقة وأخلاقه الغزلية تقريبًا» وواصل: «يتحدث في التلفزيون بسخرية وثقة يحبها الرجال الذين على رأس السلطة، خاصة أولئك القادمين من خلفيات متواضعة، وخلافًا للعرب الآخرين لا يبدو أن له دوافع شخصية، إنه واحد منا، إنه العربي الطيب».
* خدمة «نيويورك تايمز»

* هشام ملحم : قدم أفكارا عظيمة بشأن ما يعاني منه العالم العربي
* «قدم عجمي أفكارا عظيمة بشأن ما يعاني منه العالم العربي. يمكنك أن تتفق أو تختلف معه فيما يتعلق بالحلول أو التحذيرات التي يقدمها، ولكن في رؤيته النافذة لتعقيد العالم العربي، كان شديد الإخلاص في الإشارة إلى التناقضات».
«التقط عجمي مرة بعد أخرى أزمة العرب في العصر الحديث، وحاضرهم المعذب وماضيهم المجيد، وكيف تتعرض أحلامهم في مستقبل أفضل دائما للعراقيل».
«روى عجمي قصة الاشتياق والأسف والإحباط، وعبر عنها بأسلوب شعري جميل. قد يكتب آخرون موضوعا أو مقالا أو كتابا، ولكنهم لا يحملون تلك الموهبة والمشاعر والأسلوب الأدبي الذي يقدمه فؤاد عجمي».
«كانت بيننا اختلافات سياسية، ولكن سواء كنت تتفق معه أو لا، يجب أن تقرأ له».
«دائما ما كنت أحسده على إتقانه للغة الإنجليزية في كتاباته».
«كان شغفه بأدونيس وجوزيف كونراد والشعراء العرب يغذي أسلوبه الجميل. يمكنك الرجوع إلى أعماله لاكتساب الأفكار وتقدير الأسلوب الذي يقدم لك الفكرة من خلاله، فحتى الطريقة التي يكتب بها والكلمات التي يستخدمها تشكل جزءا من الموضوع ذاته».
«امتلك عجمي قدرة على نقل تجربة جيل كامل، وكأنها تراتيل لتأبين جيله من العرب. تمتع عجمي بالجرأة والرؤية الثاقبة التي سمحت له بالحديث عن المحنة المأساوية التي حلت بجيل كامل».
«أحب عجمي الأدباء العرب. أدونيس كان بطلا وكذلك محفوظ كان بطلا».
* صحافي ومعلق سياسي

* إيميل حكيم : ساعدنا على استيعاب المحنة العربية من وجهة نظر أوسع
* «البروفسور عجمي شخصية معقدة، فقد استطاع تقديم أفضل تقييم لانهيار المجتمعات العربية والفكر السياسي العربي، ولكنه جمع مع هذا التقييم توصيات سياسية شديدة التفاؤل، تشوش على التقييم المتشائم السابق».
«في تقييمه للوضع، لا يوجد له منازع، وهو قاسٍ مع العرب بطريقة لا يجرؤ عليها كثيرون منهم. كما امتلك قليلا من الشفقة على الذات. وكانت لديه رؤية قاسية تجاه الأمراض التي تعاني منها المجتمعات العربية. وهذا هو أكبر إنجازاته».
«كان موقفه من حرب العراق خطأ مأساويا، ولكن حتى عندما كان مخطئا، لم يكن من السهل مطلقا رفض آرائه وبراهينه».
«من أكبر إسهاماته أنه ساعدنا على استيعاب المحنة العربية من وجهة نظر أوسع. وكان يتحدث عن المنطقة على نطاق أوسع. ولم يكن الأمر يتعلق بإسرائيل والغرب فقط».
«ليس من العدل تماما قصر إسهامات عجمي على حرب العراق وحدها، فقد قدم ما هو أكبر من هذا بكثير».
«كانت قدرة عجمي على التعبير عن ذاته بأسلوب جميل، على الرغم من أن اللغة الإنجليزية ليست لغته الأم، سمة جديرة بالملاحظة».
* كبير زملاء في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية

* بول وولفويتز: العالم فقد صوتا عربيا وأميركيا متفرد القوة
* حرمت وفاة فؤاد عجمي في عطلة نهاية الأسبوع هذا البلد والعالم من صوت متفرد القوة - صوت عربي وأميركي في الوقت ذاته، كان يمكن أن يساعد في توجيهنا كما فعل في الماضي من خلال مخاطر وتعقيدات الشرق الأوسط الذي ينتمي إليه.
عندما أصبحت عميدا لمدرسة جون هوبكنز للعلاقات الدولية المتقدمة عام 1994 كان الأستاذ عجمي مديرا لدراسات الشرق الأوسط، وكان من جوانب المتعة في تلك الوظيفة إمكانية التفاعل معه بصورة منتظمة.
سيكون من الصعب اليوم العثور على شخص يكتب في السياسة الدولية بتلك البلاغة والقوة وتمكنه الاستثنائي اللافت من اللغة الإنجليزية، من شخص ليست الإنجليزية اللغة الأم بالنسبة له. وتمتع عجمي مع تلك البلاغة بالشجاعة البارزة. كان يتحدث عن الحقيقة كما يراها دون مواراة حول الزوايا، وأكسبه ذلك الكثير من الأعداء. ولد عجمي في لبنان وتقبل قيم وطنه المختار الولايات المتحدة، لكنه لم يفقد أبدا نظرته إلى المنطقة التي أتى منها وتعقيداتها ومآسيها التي ستقلقل ذلك الجزء من العالم لفترة طويلة مقبلة. تشبعت كتاباته بشعور عميق من المأساة، النابعة من الصدام بين القوة الأميركية بـ«جيوشها وآلياتها وجديتها» و«منطقة كبيرة غامضة»، حيث يمكن أن يرعب الأميركان شعب العالمين العربي والإسلامي، وحيث يمكن أن تفوق المنطقة قوة الأميركان ذكاء وصبرا على الانتظار. بإمكان أميركا أن تمني العراقيين بآمال الثقافة السياسية اللائقة، وبإمكان أعداء هذا المشروع أن يتراجعوا إلى التعصب الحاد للقتال وعدم التسامح.
* نائب وزير الدفاع الأميركي بول وولفوفيتز



ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
TT

ألمانيا تتأهّب لانتخابات تعِد اليمين باستعادة الحكم

صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)
صادرات السيارات الألمانية إلى أميركا في قلب التأزم المحتمل مع ترمب (أ ف ب)

عوضاً عن بدء ألمانيا استعداداتها للتعامل مع ولاية جديدة للرئيس الأميركي «العائد» دونالد ترمب والتحديات التي ستفرضها عليها إدارته الثانية، فإنها دخلت أخيراً في أزمة سياسية بعد الانهيار المفاجئ للحكومة الائتلافية التي يرأسها المستشار أولاف شولتس. وبهذا التطوّر بات شولتس أحد أقصر المستشارين حكماً في ألمانيا؛ إذ إنه قبل إكماله 3 سنوات على رأس الحكومة الائتلافية التي تمثل 3 أحزاب (اشتراكي وليبرالي وبيئي «أخضر») صار المستشار رئيساً لحكومة أقلية مؤلفة من حزبين بانتظار الانتخابات المبكرة التي حُدّد موعدها يوم 23 فبراير (شباط) المقبل.

الحكومة الألمانية ترنّحت إثر انسحاب «ضلعها» الليبرالي، الحزب الديمقراطي الحر، منها. ورغم انسحاب الحزب، أراد رئيسها المستشار أولاف شولتس الاستمرار على رأس «حكومة أقلية» حتى نهاية مارس (آذار)، وهو التاريخ الذي حدّده في البداية لإجراء الانتخابات المبكرة عوضاً عن نهاية سبتمبر (أيلول).

لكن أمام ضغوط المعارضة وافق المستشار وزعيم الحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي) على تقريب الموعد شهراً آخر. وحتى بعد إجراء الانتخابات، فإن فترة الشكوك قد تستمر لأسابيع أو أشهر إضافية. وللعلم، في ألمانيا، لم يسبق أن فاز أي حزب بغالبية مطلقة تسمح له بتشكيل حكومة منفرداً. وبالنتيجة، حكمت ألمانيا (الغربية أساساً) منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حكومات ائتلافية قادها إما محافظو حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي (يمين الوسط) أو اشتراكيو الحزب الديمقراطي الاجتماعي (يسار الوسط).

فريدريش ميرتز (آجنزيا نوفا)

اليمين عائد... لكن!

هذه المرة يبدو أن الديمقراطيين المسيحيين (الحزب الذي قادته لفترة أنجيلا ميركل) يتجهون لاستعادة السلطة. فحزبهم تصدر استطلاعات الرأي بفارق كبير بنسبة تصل إلى 33 في المائة، وهي أعلى من النسبة التي تتمتع بها الأحزاب الثلاثة التي شكَّلت حكومة شولتس مجتمعة، قبل انهيارها. غير أن اختيار الحزب الشريك - أو الأحزاب الشريكة – في ائتلاف الديمقراطيين المرتقب، قد يكون أمراً معقّداً ويستغرق وقتاً طويلاً.

عقبة البيروقراطية

من ناحية ثانية، رغم محاولات الديمقراطيين المسيحيين تقريب موعد الانتخابات أكثر، مستفيدين من تقدم حزبهم في استطلاعات الرأي، ودعوات جمعيات الأعمال لتقليص فترة الشك والغموض في بلد لم يشهد نمواً اقتصادياً منذ 5 سنوات، فإن البيروقراطية الألمانية شكّلت عائقاً أساسياً أمام ذلك.

وحقاً، لا يقع اللوم في تأخير الانتخابات لنهاية فبراير (شباط) فقط على تشبّث شولتس بإطالة عمر حكومته العاجزة عن العمل. ذلك أنه فور انهيار الحكومة، وبدء الكلام عن انتخابات جديدة، دقّت «هيئة الانتخابات» جرس الإنذار محذّرة من أن التسرّع في إجرائها قد يؤدي إلى أخطاء تسببت بإعادتها. ورأت «الهيئة» ضرورة إفساح الوقت الكافي لتحضير اللوائح، وطبع الأوراق، وتحديات العثور على ورق كافٍ ومطابع جاهزة للعمل في خلال مدة زمنية قصيرة.

نقاط خلافية جدّية

ورغم سخافة هذا المشهد، فهو يعكس واقعاً في ألمانيا المقيدة بالبيروقراطية التي تعيق الكثير من تقدّمها، وكان واحداً من أسباب انهيار الحكومة في النهاية. فقد فشلت حكومة شولتس بإدخال أي إصلاحات لتخفيف البيروقراطية رغم التوصيات المتكرّرة من اختصاصيين. ولقد صدرت آخر هذه التوصيات الأسبوع الماضي من «مجلس الخبراء الاقتصادي»، وهو «مجلس حكماء» مدعوم من الحكومة، دعا إلى تقليص البيروقراطية وتسريع «المكننة» كواحدة من الخطوات الرئيسة لتحقيق النمو الاقتصادي.

وللعلم، كانت تلك واحدة من الخلافات الأبرز بين أحزاب الائتلاف الحكومي الثلاثة. فليبراليو الحزب الديمقراطي الحر (وسط) - الذي يعتبر مؤيداً لمجتمع الأعمال والشركات الكبرى - دفعوا منذ تشكيل الحكومة إلى «تقليص البيروقراطية»، خصوصاً على الشركات، إضافة إلى تخفيض الضرائب عنها، لكن أولويات الاشتراكيين وحزب «الخضر» البيئي تمثّلت بزيادة المعونات الاجتماعية والاستدانة لمواجهة التحديات الاقتصادية التي فرضتها تبعات حرب أوكرانيا وجائحة «كوفيد - 19».

قضية الإنفاق العام

شكّل الإنفاق العام نقطة خلافية أخرى مع الليبراليين الذين رفضوا التخلي عن بند كبح الديون الذي يوصي به الدستور الألماني إلا في الحالات القصوى. وجرى التخلي عن هذا البند بعد جائحة «كوفيد - 19» عندما اضطرت الحكومة إلى الاستدانة والإنفاق لمساعدة الاقتصاد على النهوض. وفي المقابل، أراد الاشتراكيون و«الخضر» مواصلة العمل بتعليق بند كبح الديون ضمن خطط إنعاش الاقتصاد وتمويل الحرب الأوكرانية، لكن ليندنر رفض رغم أن «مجلس الخبراء» أوصى ببحث هذا البند وتخفيف التقيد به.

هكذا أدى الخلاف على إجراءات إنعاش الاقتصاد وميزانية عام 2025 إلى انفراط التحالف مع الليبراليين، ودفع بشولتس إلى طرد زعيمهم ووزير المالية كريستيان ليندنر، الذي قدم مقترحاً لتقليص البيروقراطية وخفض الضرائب مقابل خفض الإعانات الاجتماعية لتمويل الحرب في أوكرانيا من دون زيادة الدين العام.

الاشتراكيون بقيادة شولتس وحزب «الخضر» رفضوا مقترح ليندنر من دون القدرة على التوصل إلى «حل وسط»، مع أن المستشار اعتاد المساومة والحلول الوسطى منذ تشكيل حكومته التي غالباً ما شابتها الخلافات الداخلية.

وطبعاً، دفع طرد ليندنر الوزراء الليبراليين للتضامن مع زعيمهم والاستقالة... ما فرط عقد الحكومة. وبعد أيام من الجدل حول موعد الانتخابات المقبلة، اتفقت الأحزاب على طرح الثقة بالحكومة يوم 16 ديسمبر (كانون الأول) - ويتوقع أن تخسرها بعد خسارتها الغالبية البرلمانية - ما سيؤدي إلى انتخابات عامة حدد موعدها في 23 فبراير.

كريستيان ليندنر (رويترز)

الاقتصاد أساس الأزمة

نقطة إنعاش الاقتصاد تظهر الآن نقطةً خلافية أساسية، بينما يراوح الاقتصاد الألماني مكانه عاجزاً عن تحقيق أي نمو يذكر. ثم أن مئات الشركات الصغيرة والوسطى أقفلت خلال العامين الماضيين، وبدأت حتى كبرى شركات السيارات تعاني خسائر دفعت بشركة «فولكسفاغن» العملاقة إلى إقفال 3 من مصانعها العشرة في ألمانيا.

مع هذا، لا يمكن لوم سياسات الحكومة والخلافات الداخلية حول التعامل مع الاقتصاد وحدها، لتبرير تدهور الاقتصاد الألماني خلال السنوات الثلاث الماضية. إذ بدأت حكومة شولتس عملها في خضم جائحة «كوفيد - 19» التي تسببت بأزمات اقتصادية عالمية، وتلت الجائحة الحرب الأوكرانية وتبعاتها المباشرة على ألمانيا، التي كانت تستورد معظم حاجاتها من الغاز من روسيا. وقد تعاملت حكومة شولتس مع انقطاع الغاز الروسي السريع عن ألمانيا بحكمة، ونجحت في تعويضه بسرعة من دون التسبب بأزمة نقص للغاز في البلاد. وأيضاً اتخذت تدابير لحماية المستهلكين من الارتفاع الكبير في الأسعار، مع أنها ما كانت قادرة على تفادي التداعيات بشكل كامل.

من ثم، تحوّلت الحكومة إلى ما يشبه حكومة إدارة الأزمات والسياسات السيئة الموروثة عن الحكومات السابقة. لكن حتى هنا، يمكن تحميل الاشتراكيين بعض مسؤولية السياسات الاقتصادية السيئة، ومنها اعتماد ألمانيا بشكل متزايد طوال حكومات أنجيلا ميركل الأربع على الغاز الروسي، والسبب أن الاشتراكيين شاركوا في ثلاث من هذه الحكومات، وشولتس نفسه كان وزيراً للمالية ثم نائب المستشارة.

علاقة الاشتراكيين بروسيا

من جانب آخر، لم يساعد القرب التاريخي للاشتراكيين من روسيا حكومة شولتس بإبعاد نفسها عن موسكو؛ إذ بقي المستشار متردداً لفترة طويلة في قطع العلاقات مع روسيا ودعم أوكرانيا. ومع أن ألمانيا تحوّلت الآن إلى ثاني أكبر داعم عسكري لكييف بعد واشنطن، فإن تردد شولتس شخصياً في كل قرار يتعلق بتسليح أوكرانيا، غالباً ما وضعه في مواجهة مع حليفيه في الحكومة وكذلك مع المعارضة. وللعلم، يعتمد شولتس سياسة حذرة في دعم أوكرانيا ولا يؤيد ضمها لـ«ناتو» (حلف شمال الأطلسي)؛ تخوفاً من استفزاز روسيا أكثر وخشيته من دفعها لتوسيع الصراع.

في أي حال، كرّر شولتس القول في كل مناسبة بضرورة استمرار دعم أوكرانيا، وكان هذا واحداً من أسباب الخلافات حول الميزانية التي أدت إلى انهيار الحكومة، فوزير المالية أراد اقتطاع مخصّصات اجتماعية لتمويل الحرب في حين شولتس أراد الاستدانة لذلك رافضاً المس بالإعانات.

وحيال أوكرانيا، مع أن مقاربة تمويل الحرب في أوكرانيا تختلف بين الأحزاب الألمانية، لا خلاف على دعم كييف لا خلاف عليه. بل يتشدّد الديمقراطيون المسيحيون المتوقع فوزهم بالانتخابات وقيادتهم الحكومة المقبلة أكثر في دعمهم. ويؤيد زعيم حزبهم، فريدريش ميرتز، الذي قد يصبح المستشار القادم، أوكرانيا ضم أوكرانيا «فوراً» إلى «ناتو» بخلاف شولتس، كما يؤيد إرسال صواريخ «توروس» البعيدة المدى والألمانية الصنع إليها، بينما يعارض شولتس ذلك.

وهنا نشير إلى أن حزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي كان طوال السنوات الماضية، منذ تفجّر الحرب الأوكرانية، شديد الانتقاد لتردّد المستشار الاشتراكي في قرارات تسليح كييف وقطع العلاقات الاقتصادية مع روسيا، رغم أنه كان المسؤول عن وصول العلاقات الاقتصادية إلى مرحلة الاعتماد الألماني على الطاقة الروسية... كما كان حاصلاً قبل الحرب.

على الحكومة الجديدة التعامل مع ترمب

في ملف العلاقات الاقتصادية

أولاف شولتس (رويترز)

تبعات عودة ترمب

في اتجاه موازٍ، مقاربة الحرب الأوكرانية ستضع أي حكومة ألمانية جديدة في مواجهة محتملة مع إدارة دونالد ترمب القادمة في واشنطن. إذ ستضيع ألمانيا شهوراً ثمينة في تحديد سياستها مع العد العكسي للانتخابات المبكرة وتفاوض الأحزاب خلالها على تشكيل حكومة ائتلافية.

ولن يكون أمام الحكومة الجديدة فقط تحدي التعامل مع إدارة ترمب في ملف أوكرانيا، بل أيضاً في ملف التجارة والعلاقات الاقتصادية. ذلك أن ترمب في عهده الأول دأب على انتقاد ألمانيا بسبب ضخامة صادراتها إلى الولايات المتحدة، وبخاصة السيارات، التي تفوق بأضعاف الصادرات الأميركية إليها. وبالفعل، هدَّد آنذاك برسوم على السيارات الألمانية في حال لم تزد برلين وارداتها من الولايات المتحدة خاصة الغاز الأميركي الذي كان ترمب يضغط على ميركل لاستيراده عوضاً عن الغاز الروسي. بالتالي، مع عودة ترمب، ستعود المخاوف من حرب اقتصادية مع واشنطن قد تكون إذا وقعت مدمّرة لقطاع السيارات الألمانية. وحقاً، خفّضت كل الشركات الألمانية الكبرى سقف توقّعاتها للأرباح في الأشهر المقبلة، بعد تراجع مبيعاتها في الأسواق الخارجية وتحديداً الصين، بشكل كبير. وقد يشكّل تقلّص سوقها في الولايات المتحدة ضربة جديدة لها يحذّر الخبراء الاقتصاديون من أن تبعاتها ستكون مؤلمة للاقتصاد الألماني.

حسابات الانتخابات المقبلة

عودة إلى حسابات الداخل، لم يطرح الزعيم الديمقراطي المسيحي فريدريش ميرتز، في الواقع، فكرة إعادة وزير المالية المعزول كريستيان ليندنر إلى حكومته المحتملة. لكن سيتوجّب أولاً على حزب ليندنر، أي الحزب الديمقراطي الحر (الليبرالي) أن يكسب أصواتاً كافية لتمثيله في البرلمان. وحتى مع تحقيق هذا قد لا يكون التحالف بين الحزبين كافياً لضمان الغالبية، إلا إذا حصلت مفاجأة وحقق أحد الحزبين نتائج أعلى من المتوقع في الاستطلاعات، كما فعل الاشتراكيون في الانتخابات الماضية عندما نالوا قرابة 26 في المائة متقدمين على الديمقراطيين المسيحيين الذين نالوا 24 في المائة من الأصوات. ويومذاك كانت استطلاعات الرأي التي سبقت الانتخابات تشير إلى شبه تعادل بين الحزبين.

من ثم، في حال بقاء ليبراليي الحزب الديمقراطي الحر خارج الحكومة، قد تعيد ألمانيا إنتاج حكومة يشارك فيها الحزبان الرئيسان المتناقضان في سياساتهما الاجتماعية والاقتصادية، أي الاتحاد الديمقراطي المسيحي اليميني والحزب الديمقراطي الاجتماعي (الاشتراكي). وقد يُجبَر الحزبان على ضم شريك ثالث يرجح أن يكون حزب «الخضر» في حال غياب الليبراليين عن المشهد. وقد تعيد هكذا حكومة ثلاثية فترة الخلافات والاضطراب التي شهدتها ألمانيا في ظل الحكومة الثلاثية الحالية التي رغم انجازاتها، لا يذكر كثيرون إلا الخلافات التي شابتها.وحتى ذلك الحين، فإن التحديات التي ستواجهها أي حكومة ألمانية قادمة، تجعل من فترة انتظار الانتخابات وتشكيل الحكومة، فترة صعبة ستزيد من عمق الأزمة الاقتصادية وتشرذم الموقف الألماني والأوروبي أمام الإدارة الأميركية.