الإنجليز مهووسون تاريخياً بالجوائز، مثل هوسنا بالحديث عنها. فما تقرأ حواراً أو خبراً عن كاتب أو كاتبة ما، حتى تسبقه عبارة «الفائز أو الفائزة بجائزة». هكذا بالتنكير، من دون ذكر ما هي هذه الجائزة. أهي جائزة «بوكر»، أم «كوستا» (التي ترعاها سلسة المقاهي الشهيرة)، أم جائزة محلية منحها مجلس بلدية أو جمعية أدبية في منطقة ما. المهم، أنه فاز بجائزة ما. إنه نوع مضلل من التزكية، والتسويق، وتبرير للنشر أيضاً. انظروا، أنه ليس كاتباً عادياً، فقد فاز بجائزة! وهي تتضمن أيضاً انتقاصاً من كل الكتاب الآخرين الذين لم ينالوا جائزة، مهما كانوا مهمين. وللأسف، هذا ما درجت عليه كل الصحف البريطانية الجادة وملاحقها الثقافية. إنها عادة بريطانية بامتياز.
ويبلغ الهوس الإنجليزي ذروته مع جائزة «بوكر»، التي تمولها شركة الأغذية الشهيرة المعروفة باسم «بوكر» منذ 1968، ثم اندمجت معه شركة «مان غروب» فصار اسمها «مان بوكر» منذ عام 2002.
فلم تكتفِ هذه بكونها جائزة بريطانية، تشمل كتّاب الكومنولث أيضاً، مثل جائزة «غونكور» الفرنسية التي اكتفت بالأدباء الفرانكفونيين، وجائزة «بوليتزر» الأميركية المقتصرة على كتَّاب بلدها، ففتحت جوائزها للكتَّاب الأميركيين أيضاً. وقبل ذلك، انتقلت إلى الهند، وباتت تعرف بـ«بوكر الهندية»، وتفرعت إلى روسيا أيضاً باسم «بوكر الروسية»، وفي أفريقيا باسم «بوكر الأفريقية»، وأخيراً وصلت إلى منطقتنا العربية، فسميناها «بوكر العربية»، التي ستعلن يوم غد اسم الرواية الفائزة بجائزتها، والتي غطت على كل الجوائز الأخرى، وتسببت في ارتفاع درجة الحمى كلما اقترب موعد الإعلان عن قوائمها الطويلة، ثم القصيرة، ثم اسم الفائز.
واستمراراً لهذا الهوس، أعلنت لجنة جائزة «بوكر البريطانية» قبل سنوات قليلة إطلاق جائزة أخرى، هي «مان بوكر العالمية»، التي ستعلن الفائز بجائزتها في 22 من الشهر المقبل. وهي تمنح لأي رواية في العالم ترجمت إلى الإنجليزية، مناصفة بين الكاتب والمترجم. وبهذا المعنى هي الأولى من نوعها عالمياً بعد جائزة نوبل، والفرق أن هذه الأخيرة تمنح لمجمل أعمال الكاتب في مختلف الفروع الأدبية، بينما تقتصر الأولى على عمل روائي واحد.
والهوس البريطاني الآخر، وهو هوس أميركي أيضاً، هو تلك القوائم التي تصدر بين فترة وأخرى، وتتضمن «أهم الروائيين في القرن العشرين» أو في الخمسين سنة الأخيرة، أو خلال عقد. من يقرر ذلك؟
ويبدو أن الكيل طفح. فقد وجهت الشاعرة البريطانية ويندي كوب نداءً موجعاً نشرته في «ذي تايمز» بتاريخ 20 من هذا الشهر تحت عنوان دال: «لا تختصروا الكتابة إلى سباق خيل»، بعدما قرأت في ملحق الجريدة الثقافي الشهير قائمة «بأفضل الكتاب البريطانيين والآيرلنديين» اليوم. هذه القوائم والجوائز، كما تقول بحق، هي «انتقاص من الكتّاب، الذين ربما لم ولن يحصلوا على أي جائزة لسبب ما ليس له علاقة بأهميتهم الإبداعية، بينما يظفر بها قليلون لسبب ما، ليس له بالضرورة علاقة بالقيمة الأدبية، فيشتهرون، بدل أن يسعوا هم بجد لنيل هذه الشهرة بأعمالهم، وكذلك تزداد مبيعات كتبهم على حساب كتاب كثيرين، وهذا ليس عدلاً. الشيء الوحيد الجيد في الجوائز هو الحصول على المال». وويندي نفسها كانت عضواً في لجنة تحكيم جائزة «بوكر» في إحدى السنوات، وحاصلة على جائزة «ويتبريد» للشعر عام 2001، وجائزة «مايكل برود» للشعر عام 1995.
أظن أنه حان الأوان أن نفهم الجوائز ضمن هذا الإطار،، وبخاصة أننا نعيش في سباق جوائز عربية محموم. فمن يقرر، في نهاية المطاف، أن هذا العمل يستحق «نوبل»، أو «بوكر»، أو «غونكور» أو «بوليتزر»؟ إنهم مجموعة أشخاص تحركهم عوامل وأذواق وميول واعتبارات شتى، وهم ذوو مستويات ثقافية مختلفة، كما أنهم محكومون بروايات يرشحها ناشرون لهم حساباتهم فيما يخص السوق.
أعضاء لجان التحكيم في أي جائزة، وهم خمسة أو ستة، ليسوا نقاد أدب، وليسوا آلهة الأوليمب. وليس من المطلوب منهم أن يكونوا كذلك. وقد يخطئون وقد يصيبون، وباختيار غيرهم يمكن أن تتغير النتائج كلها. هذا هو كل ما في الأمر... ولا ننس هنا أن مايكل بورتيللو، وزير الدفاع البريطاني السابق، قد رأس إحدى لجان تحكيم «بوكر البريطانية». ومن المعروف أن ثقافته لا تتجاوز فوهة البندقية.. نعتقد أنها بديهيات، لكن للأسف لا يدركها الكثيرون. وغياب هذا الإدراك لا يمكن أن يؤدي إلا إلى الإحباط الذي يصيب قسماً كبيراً من الكتاب حين لا يرون أعمالهم ولو في القائمة الطويلة، هذا إذا لم يصابوا بانهيار عصبي، وفرح الذين يظفرون بـ«الفوز»، هذا إذا لم ينفجروا.
هذه هي آلية الجوائز في كل تاريخها. قد يفوز بها من يستحقها بالصدفة، وليس بالضرورة، وقد لا يظفر بها من يستحقها بالصدفة، وليس بالضرورة. المهم، أن ندرك أننا ليس في حلبة سباق خيل، أو مسابقة للركض السريع أو الطويل. معنى الكتابة أسمى من ذلك.
«لا تعاملوا الكتاب كخيولٍ في ميدان سباق»
«لا تعاملوا الكتاب كخيولٍ في ميدان سباق»
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة