جيش الصحراء {الداعشي}

تنظيم يقتات على العنف في جنوب ليبيا

{دواعش} ليبيون في مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
{دواعش} ليبيون في مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
TT

جيش الصحراء {الداعشي}

{دواعش} ليبيون في مدينة سرت («الشرق الأوسط»)
{دواعش} ليبيون في مدينة سرت («الشرق الأوسط»)

تساعد عوامل عدة الجماعات الإرهابية على إعادة الانتشار المؤثر في الساحة الليبية. فبعد الهزيمة القاسية التي تلقاها «داعش» في سرت وشرق ليبيا، في سنة 2016 و2017؛ استطاع التنظيم الإرهابي هذه المرة التمركز في منطقة رخوة، تمثل الثقب الأسوأ بليبيا ما بعد القذافي. نتج من هذا المسار الجديد ظهور «جيش الصحراء الداعشي»، ليمثل آخر جيب تنظيمي لتنظيم البغدادي. ويبدو أن التجربة العملية، والحس السياسي، كانا سببين مهمين، في الهجرة «الداعشية» نحو الجنوب، قرب الحدود التشادية والنيجيرية والجزائرية.
ويعتبر الجنوب الليبي لا يشكل فقط المنطقة الآمنة لـ«داعش»؛ نظراً لجغرافيته البشرية وتضاريسه الصعبة؛ وإنما يشكل مورداً مركزياً للتزود بالسلاح، واستقبال المجندين الأجانب، وكذا خلْق تواصل مع الجماعات الإرهابية في الساحل والصحراء، وصولاً لمناطق وسط أفريقيا.
يتمركز جيش الصحراء في الجنوب، ويتزعمه شاب في منتصف الثلاثينات من عمره، ولد بعاصمة الجنوب الليبي سرت سنة 1981؛ ويعتبر المهدي سالم دنقو، الملقب بـ«أبو البركات»، قائداً داعشياً محلياً بتجربة دولية. فقد عمل بمحكمة الشريعة بالموصل لفترة زمنية قصيرة، ولم يعرف عنه قيادة كتيبة أو مجموعة «داعشية» داخل العراق؛ غير أنه عاد لليبيا ضمن خطة البغدادي لتقوية فروع تنظيمه بشمال أفريقيا. وتشير المعطيات المتوفرة عن أبو بركات، إلى أنه شخصية متواضعة من الناحية التعليمية؛ لذلك فهو لا يعتبر مرجعاً في الإفتاء والشؤون الدينية، إلا أن تجربته في العراق قبل 2015، مكّنته من قيادة التنظيم واعتلائه القيادة العسكرية لجيش الصحراء.

جيش الصحراء الفتي
من المرجح أن الزعيم الجديد فرّ ومعه الكثير من أعضاء «داعش»، بعد معركة دامت ثمانية أشهر؛ وكانت المواجهات بين قوات «البنيان المرصوص» التابعة لحكومة الوفاق والتنظيم الإرهابي قد انتهت بتحرير سرت من الإرهابيين، الذين كانوا يسيطرون على المدينة منذ سنة 2015، مستغلين ظروف الحرب الأهلية التي تعيشها ليبيا منذ 2012.
من جانب آخر، تشير بعض التقارير الصحافية غير المؤكدة، إلى أن «أبو البركات» أشرف على قتل 21 قبطياً مصرياً سنة 2015؛ وأن علاقاته ومعرفته الجيدة بالجنوب الليبي سهّلت عليه استقبال الكثير من المقاتلين المتطرفين، القادمين من السودان، ومصر، وتونس، والجزائر؛ كما أن تقارير أخرى لا تستبعد انضمام عناصر، من كل من تشاد، والنيجر، ومالي لجيش الصحراء بقيادة المهدي سالم دنقو. ذلك أن الوضع الأمني الليبي بالجنوب قد كرس عرفاً عسكرياً منذ 2011، وهو استقدام مختلف الفصائل السياسية والقبلية لمرتزقة أجانب للقتال في ليبيا.
ويظهر أن «جيش الصحراء»، أصبح له ثقل وأنصار في المنطقة، ويدير منطقة جغرافية معتبرة؛ وهذه العوامل شجعت تنظيم «أبو بركات» في شهري يناير (كانون الثاني) وفبراير (شباط) من سنة 2018 على وضع نقط للمراقبة والتفتيش في الطرق المؤدية إلى الجنوب وشرق مدينة سبها. كما أعلن التنظيم مسؤوليته على هجومين دمويين على قوات محلية، واحد من هذه الهجمات وقع في نقطة تفتيش عسكرية تعرف بـ«بوابة الفقهاء»، وتبعد 100 كيلومتر جنوب مدينة الجفرة؛ حيث ذبح مقاتلو «داعش» 9 من أفراد الجيش الليبي ومدنيين اثنين، في أغسطس (آب) من سنة 2017.
ووفقاً لتقارير رسمية، فإن جيش الصحراء بقيادة الليبي المهدي سالم دنقو، والملقب بـ«أبو البركات»، يتكون من ثلاث كتائب، ولكل منها قائد عسكري. وكان يعتمد أساساً على تنفيذ بعض الهجمات من حين إلى آخر، قبل أن يظهر بشكل علني بنواحي سبها، وينظم دوريات للمراقبة في مارس (آذار) من سنة 2018.
ويقول رئيس التحقيقات بمكتب النائب العام الليبي، الصديق الصور، عن هذا التنظيم الإرهابي: «هذا الجيش تم تأسيسه بعد تحرير مدينة سرت، وهو يضم ثلاث كتائب تحت قيادة دنقو، ولكل منها قائد. والآن هم موجودون في الصحراء الليبية».

تحديات المواجهة
وفي سياق مواجهة إعادة انتشار التنظيمات الإرهابية، اتفقت كل من تشاد، والنيجر، وليبيا، والسودان، في اجتماع ضم الأطراف الحكومية للبلدان الأربعة يوم 3 أبريل (نيسان) 2018، على ضرورة تنسيق جهود القوات المسلحة، فيما يخص مواجهة الحركات الإرهابية، والاتجار في السلاح والبشر والمخدرات. ويأتي هذا التحرك الإقليمي، بعد نحو أسبوعين من قتل القوات الأميركية التابعة لقيادتها بأفريقيا قياديين من تنظيم القاعدة يوم السبت، 24 - 03 - 2018، في غارة لها على منزل بحي الفرسان بمنطقة قرب مدينة «أوباري».
ويظهر أن الجهود الأميركية الخاصة بمكافحة الإرهاب، تعززت من الناحية الكمية والكيفية، منذ مجيء الرئيس الحالي ترمب وموافقته على رفع عدد القوات الأميركية الموجودة في النيجر لتصبح نحو 1000 عسكري.
وكانت مصادر إعلامية أميركية، قد أشارت في أحد أعدادها في الأسبوع الثاني من مارس 2018، إلى أن الجيش الأميركي شن غارات عدة غير معلنة في ليبيا؛ وهو ما يؤكد أن استعمال سلاح «الدرون» الطائرات من دون طيار في تزايد مستمر، رغم أن البنتاغون لا يشير إلى ذلك. وقد تعود أسباب عدم الإعلان عن الغارات التي بلغت منذ يناير 2017 إلى يناير 2018، ثماني غارات، إلى الرغبة في التكتم على النشاط الأميركي في الجنوب الليبي، وضمان سلامة المتعاونين على الأرض. كما أن الجنوب الليبي يعرف وجود قوات فرنسية خاصة لمكافحة الإرهاب، الشيء الذي يفرض على الأميركيين والفرنسيين، نوعاً معيناً من السياسة الأمنية والإعلامية. وهو ما عبر عنه الجنرال والدهاوسر، قائد «أفريكوم» في شهادته أمام الكونغرس يوم 6 من مارس 2018 حينما تحدث عن ليبيا، بطريقة مجملة وعامة، قائلاً: «نحن متورطون بشدة في عملية مكافحة الإرهاب هناك»؛ وهذا النوع من الخطاب، يشير إلى عدم رغبة قائد «أفريكوم»، في الحديث المفصل عن طبيعة العمل العسكري الأميركي المناهض للإرهاب في ليبيا عامة والجنوب خاصة.

معضلة العنف بالجنوب
لا تقتصر ممارسة العنف على أنصار التنظيمات الإرهابية في الجنوب الليبي، بل إن المنطقة تعرف مواجهات قبلية، يختلط فيها السياسي بالعرقي، والوطني بالإقليمي. فالجغرافية البشرية للقبائل هناك، لها امتداد في كل دول الجوار؛ مما يجعل المنطقة عرضة للتدخلات الخارجية، في غياب مؤسسات الدولة وجيش وطني في ليبيا. وقد تجددت النزاعات الدموية المسلحة بين قبيلة التبو وقبيلة أولاد سليمان العربية، في نهاية يناير على إثر مقتل أفراد من التبو من طرف مجهولين، وردت القبيلة بقتل القائد العسكري مادي عمر، الذي ينحدر من قبيلة أولاد سليمان؛ وهو ما أدى إلى خرق اتفاق للمصالحة، عقد بين القبيلتين بإشراف إيطالي في مارس 2017.
وليست النزاعات المحلية وحدها من يساعد على نشاط «داعش» بالمنطقة؛ بل الخلافات بين القبائل العربية والطوارق والتبو، تأخذ في كثير من الأحيان طابعاً اقتصادياً؛ نظراً للصراع على الموارد بالمنطقة، وكذلك إدارة التجارة غير القانونية، والتهريب المتعلق بالمخدرات والبشر. كما أن طبيعة هذا الصراع يؤثر على الدور السياسي للمدن: سبها، وأوباري، ومرزوق، وفزان، والقطرون، وغات، في الوقوف ضد التنظيمات الإرهابية؛ كما يمكن القول إن مدينة الجفرة، تعيش وضعاً مشابهاً، وربما أكثر تعقيداً من الجنوب الغربي. ويبدو أن هذه العوامل، تساعد التنظيمات الإرهابية، على خلق مساومات ميدانية، وتعايش مع الواقع بالجنوبي المتشابك سوسيولوجياً؛ مستغلين الانتماء القبلي ووفرة السلاح، ونظام الثأر العسكري السائد بالمنطقة.
من جهة أخرى، يعرف الجنوب الليبي اليوم باعتباره حاضناً لمجموعات عسكرية معارضة للنظام السوداني، والنيجيري، والتشادي؛ وتتعامل قبيلة التبو مع هذه الميليشيات الأجنبية وأبنائها، باعتبارهم أولاد العَّم. بينما تنظر إليهم القبائل العربية بعين الريبة، وتطالبهم بالخروج من الأراضي الليبية.
ومن تلك الميليشيات المسلحة الموجودة بالجنوب الليبي، نذكر على سبيل المثال: حركة «العدل والمساواة» السودانية، وحركة «من أجل العدالة والديمقراطية»، و«المجلس العسكري» لإنقاذ الجمهورية في تشاد، و«القوات الثورية المسلحة من أجل الصحراء»، وهي حركة متمردة ضد حكومة النيجر، من عرقية التبو استقرت بالجنوب الليبي من 2011، وجبهة «الوفاق من أجل التغيير» التشادية التي تتمركز في الجفرة وسط ليبيا، أما تجمع القوى من أجل التغيير،.فهي أقوى الحركات، وهي المسيطرة على الجنوب الليبي، ويغلب عليها الانتماء القبلي ذو الأصول التشادية، وبخاصة الزغاوة. ويتداخل هذا التنظيم عرقياً مع حركة العدل والمساواة، التي تقاتل الحكومة السودانية في دارفور.
وتجدر الإشارة إلى أن التنظيمات المذكورة هنا، هي تنظيمات عسكرية ميليشياوية تملك أنواعاً من الأسلحة، بما فيها الثقيلة والصواريخ المضادة للدبابات، وغيرها. ولتحافظ كل هذه الحركات على قوتها القبلية والعرقية، فإنها تدخل من حين لآخر في تشابك كبير مع التنظيمات الإرهابية، وبخاصة من الناحية التجارية، وإدارة المعابر الصحراوية.

خلاصة
رغم أن «جيش الصحراء الداعشي» لا يعتبر تنظيماً قوياً، فإنه استطاع في ظرف وجيز التموقع في بيئة الجنوب المضطربة؛ كما خرج مؤخراً في أبريل 2018، لينظم دوريات علنية في الطرق، بعد نجاحه في تنفيذ عمليات إرهابية بالمنطقة. وهذا الصعود المضطرد لهذا التنظيم، يجعل من هذا الفرع الداعشي تحدياً جديداً أمام ليبيا الممزقة، ودول شمال أفريقيا والساحل والصحراء. كما أن وضع «داعش» في الجنوب الليبي، يخفي من ورائه مسيرة تاريخية من العنف المحلي، الذي تزكيه الثقافة القبلية؛ وتاريخ طويل من الاقتصاد الإقليمي القائم على التداخل بين الإرهاب والجريمة العالمية الخاصة بتهريب السلاح والمخدرات والبشر.
* أستاذ زائر للعلوم السياسية بجامعة محمد الخامس الرباط



ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
TT

ألمانيا... صعود {اليمين المتطرف}

انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)
انتشار أمني عقب وقوع مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة وسقوط 9 قتلى في مدينة هاناو الألمانية قبل بضعة أيام (إ.ب.أ)

عندما وصف رجل ألماني في شريط على «يوتيوب» سوسن شبلي، السياسية الألمانية الشابة من أصل فلسطيني، والتي تنتمي للحزب الاشتراكي الديمقراطي، بأنها: «دمية متحدثة باسم الإسلاميين»، ظنت أن محكمة ألمانية سترد لها حقها بعد «الإهانة» التي تعرضت لها، ولكنها فوجئت عندما حكمت المحكمة بأن هذه الصفة وغيرها من التي ألصقها بها الرجل، هي «ضمن حرية التعبير التي يصونها القانون الألماني»، وليست إهانة ولا تحريضاً على الكراهية.

في الواقع، لم تكن تلك المرة الأولى التي تتعرض لها شبلي لتوصيفات عنصرية كهذه. فهي وغيرها من السياسيين المسلمين القلائل في ألمانيا، والسياسي الأسود الوحيد كرامبا ديابي، معتادون على سماع كثير من الإهانات، بسبب ديانتهم ولونهم فقط؛ حتى أنهم يتلقون تهديدات عبر البريد الإلكتروني والاتصالات، تصل أحياناً لحد التهديد بالقتل.
ورغم أن هذه التهديدات التي يتعرض لها السياسيون المسلمون في ألمانيا تجلب لهم التضامن من بقية السياسيين الألمان، فإن أكثر من ذلك لا يُحدث الكثير.
في ألمانيا، تصنف السلطات ما يزيد على 12 ألف شخص على أنهم من اليمين المتطرف، ألف منهم عنيفون، وهناك خطر من أن ينفذوا اعتداءات داخل البلاد.
يشكل اليمينيون المتطرفون شبكات سرية، ويتواصلون عادة عبر الإنترنت، ويتبادلون الأحاديث داخل غرف الـ«تشات» الموجودة داخل الألعاب الإلكترونية، تفادياً للمراقبة.
وفي السنوات الماضية، ازداد عنف اليمين المتطرف في ألمانيا، وازداد معه عدد الجرائم التي يتهم أفراد متطرفون بارتكابها. وبحسب الاستخبارات الألمانية الداخلية، فإن اعتداءات اليمين المتطرف زادت خمسة أضعاف منذ عام 2012.
وفي دراسة لمعهد «البحث حول التطرف» في جامعة أوسلو، فإن ألمانيا على رأس لائحة الدول الأوروبية التي تشهد جرائم من اليمين المتطرف، وتتقدم على الدول الأخرى بفارق كبير جداً. فقد سجل المعهد حوالي 70 جريمة في هذا الإطار بين عامي 2016 و2018، بينما كانت اليونان الدولة الثانية بعدد جرائم يزيد بقليل عن العشرين في الفترة نفسها.
في الصيف الماضي، شكل اغتيال سياسي ألماني يدعى فالتر لوبكه، في حديقة منزله برصاصة أطلقت على رأسه من الخلف، صدمة في ألمانيا. كانت الصدمة مضاعفة عندما تبين أن القاتل هو يميني متطرف استهدف لوبكه بسبب سياسته المؤيدة للاجئين. وتحدث كثيرون حينها عن «صرخة يقظة» لأخذ خطر اليمين المتطرف بجدية. ودفن لوبكه ولم يحدث الكثير بعد ذلك.
فيما بعد اغتياله بأشهر، اعتقل رجل يميني متطرف في ولاية هسن، الولاية نفسها التي اغتيل فيها السياسي، بعد أن قتل شخصين وهو يحاول الدخول إلى معبد لليهود، أثناء وجود المصلين في الداخل بهدف ارتكاب مجزرة. أحدثت تلك المحاولة صرخة كبيرة من الجالية اليهودية، وعادت أصوات السياسيين لتعلو: «لن نسمح بحدوثها مطلقاً مرة أخرى»، في إشارة إلى ما تعرض له اليهود في ألمانيا أيام النازية. ولكن لم يحدث الكثير بعد ذلك.
وقبل بضعة أيام، وقعت مجزرة في مقهيين لتدخين النارجيلة في مدينة هاناو في الولاية نفسها، استهدفا من قبل يميني متطرف لأن من يرتادهما من المسلمين. أراد الرجل أن يقتل مسلمين بحسب رسالة وشريط فيديو خلَّفه وراءه بعد أن قتل 9 أشخاص، ثم توجه إلى منزله ليقتل والدته، ثم نفسه. أسوأ من ذلك، تبين أن الرجل كان يحمل سلاحاً مرخصاً، وينتمي لنادي الرماية المحلي.
بات واضحاً بعد استهداف هاناو، أن السلطات الألمانية لم تولِ اليمين المتطرف اهتماماً كافياً، وأنها لا تقدر حقيقة خطره على المجتمع، رغم أنها كشفت قبل أيام من جريمة هاناو عن شبكة يمينية متطرفة، كانت تعد لاعتداءات على مساجد في أنحاء البلاد، أسوة بما حصل في كرايستشيرش في نيوزيلندا.
وجاء الرد على اعتداء هاناو بتشديد منح رخص السلاح، وبات ضرورياً البحث في خلفية من يطلب ترخيصاً، على أن يرفض طلبه في حال ثبت أنه ينتمي لأي مجموعة متطرفة، ويمكن سحب الترخيص لاحقاً في حال ظهرت معلومات جديدة لم تكن متوفرة عند منحه. كما يبحث وزراء داخلية الولايات الألمانية تأمين حماية للمساجد وللتجمعات الدينية للمسلمين واليهود.
ولكن كل هذه الإجراءات يعتقد البعض أنها لا تعالج المشكلة الأساسية التي تدفع باليمين المتطرف لارتكاب أعمال عنف. وفي كل مرة تشهد ألمانيا اعتداءات، يوجه سياسيون من اليسار الاتهامات لحزب «البديل لألمانيا» اليميني المتطرف، بالمسؤولية عنها بشكل غير مباشر. ويواجه الحزب الذي دخل البرلمان الفيدرالي (البوندستاغ) للمرة الأولى عام 2018، وبات أكبر كتلة معارضة، اتهامات بأنه «يطبِّع سياسة الكراهية»، وبأنه يحرض على العنف ضد اللاجئين والمهاجرين، من خلال ترويجه لخطاب الكراهية. وحتى أن البعض ذهب أبعد من ذلك بالدعوة إلى حظر الحزب للتصدي للعنف المتزايد لليمين المتطرف.
والواقع أن مشكلة اليمين المتطرف تزداد منذ أن دخل «البديل لألمانيا» إلى «البوندستاغ». فهو - كما حملته الانتخابية - يركز خطابه على مواجهة سياسة اللاجئين التي اعتمدتها حكومة المستشارة أنجيلا ميركل. وكثير من الأسئلة التي يتقدم بها نوابه في البرلمان تهدف لإثبات خطأ هذه السياسة، وعدم قدرة اللاجئين على الاندماج. ورغم أن نوابه في البرلمان يحرصون على عدم تخطي القانون في خطاباتهم، فإن كثيراً من السياسيين المنتمين لهذا الحزب؛ خصوصاً في الولايات الشرقية، لا يترددون في الحديث بلغة لا يمكن تمييزها عن لغة النازيين. أبرز هؤلاء السياسيين بيورغ هوكيه الذي لم يستطع أعضاء في حزبه تمييز ما إذا كانت جمل قرأها صحافي لهم، هي مقتطفات من كتاب «كفاحي» لهتلر، أم أنها أقوال لهوكيه.
كل هذا خلق أجواء سلبية ضد المسلمين في ألمانيا، وحوَّل كثيرين من الذين ولدوا لأبوين مهاجرين إلى غرباء في بلدهم. في هاناو، يقول كثيرون من الذين فقدوا أصدقاءهم في المجزرة، بأنهم لم يعودوا يشعرون بالأمان، ولا بأنهم جزء مقبول من المجتمع. وبعضهم يرى أنه ما دام حزب «البديل لألمانيا» مقبولاً بين الأحزاب الأخرى، فإن خطاب الكراهية سيستمر، والجرائم كالتي حصلت في هاناو ستتكرر.
ما يزيد من هذه المخاوف ومن الشبهات، أن السلطات الألمانية لم تأخذ خطر اليمين المتطرف على محمل الجد طوال السنوات الماضية. وهناك فضائح متتالية داخل المؤسسات الأمنية تظهر أنها مليئة بمؤيدين أو متعاطفين مع اليمين المتطرف؛ خصوصاً داخل الشرطة والجيش. ويواجه رئيس المخابرات الداخلية السابق هانس يورغ ماسن اتهامات بأنه متعاطف مع اليمين المتطرف، وهو ما دفع جهازه لغض النظر عن تحركاتهم طوال السنوات الماضية، والتركيز عوضاً عن ذلك على خطر الإسلام المتطرف. ومنذ مغادرته المنصب، أصدرت المخابرات الداخلية تقييماً تقول فيه بأن خطر اليمين المتطرف بات أكبر من خطر الإسلام المتطرف في ألمانيا.
وطُرد ماسن الذي ينتمي للجناح المتطرف في حزب ميركل (الاتحاد المسيحي الديمقراطي) من منصبه، بعد اعتداءات كيمنتس في صيف عام 2018، بسبب رد فعله على التطورات هناك. وعارض ماسن ميركل في قولها بأن شريط فيديو من هناك أظهر ملاحقة نازيين جدد للاجئين، شتماً وضرباً. وخرج ماسن ليقول بأنه لم يتم التثبت من الشريط بعد، ويشكك في وجود نازيين جدد هناك. وكانت تظاهرات كبيرة قد خرجت ضد لاجئين في كيمنتس، بعد جريمة قتل ارتكبها لاجئان (عراقي وسوري) بحق أحد سكان البلدة.
وتعرض كذلك لانتقادات بعد جريمة هاناو لقوله بأن الرجل يعاني من اضطرابات عقلية، وهو الخط نفسه الذي اتخذه حزب «البديل لألمانيا» عندما رفض طبع المجرم بأنه يميني متطرف؛ خصوصاً أن الأخير تحدث في شريط الفيديو عن «التخلص» من جنسيات معينة من دول عربية ومسلمة.
ويعيد ماسن صعود عنف اليمين المتطرف لموجة اللجوء منذ عام 2015، إلا أن ألمانيا شهدت عمليات قتل وملاحقات عنصرية قبل موجة اللجوء تلك. ففي عام 2011 كشف عن شبكة من النازيين الجدد عملت بالسر طوال أكثر من 12 عاماً، من دون أن يكشف أمرها، ما سبب صدمة كبيرة في البلاد. ونجح أفراد هذه الشبكة في قتل تسعة مهاجرين لأسباب عنصرية بين عامي 2000 و2007، إضافة إلى تنفيذهم 43 محاولة قتل، و3 عمليات تفجير، و15 عملية سرقة.
وقبل اكتشاف الخلية، كانت الشرطة تستبعد أن تكون عمليات القتل ومحاولات القتل تلك تتم بدوافع عنصرية، رغم أن جميع المستهدفين هم من أصول مهاجرة. وعوضاً عن ذلك، كانت التخمينات بأن الاستهدافات تلك لها علاقة بالجريمة المنظمة والمافيات التركية.
ورغم أن الكشف عن ارتباط هذه الجرائم باليمين المتطرف زاد الوعي الألماني لخطر هذه الجماعات، وأطلق نقاشات في الصحافة والمجتمع والطبقة السياسية، فإن التعاطي مع الجرائم التي لحقت، والتي اشتبه بأن اليمين المتطرف وراءها، لم يكن تعاطياً يحمل كثيراً من الجدية.