البرنامج الكيماوي السوري... من السبعينات إلى اليوم

انطلق بحجة «ردع» إسرائيل

البرنامج الكيماوي السوري... من السبعينات إلى اليوم
TT

البرنامج الكيماوي السوري... من السبعينات إلى اليوم

البرنامج الكيماوي السوري... من السبعينات إلى اليوم

رغم مضي خمس سنوات على اتخاذ مجلس الأمن قراره الرقم 2118 الذي يلزم النظام السوري بالتعاون لتدمير ترسانته من الأسلحة الكيماوية وكل ما يتصل بها من مواد ومعدات، تواصلت التقارير والادعاءات عن استخدام الغازات السامة المحظورة دولياً منذ زهاء 100 سنة، في سياق الحرب الطاحنة التي تشهدها سوريا منذ عام 2011.
والواقع أنه طوال سنوات الحرب السورية، واظب نظام البعث على التعامل مع كل تشكيلات المعارضة السورية المسلحة باعتبارها «جماعات إرهابية» تنتشر مثل «الخلايا السرطانية» في نسيج المجتمع السوري، وبالتالي: «لا بد من العلاج الكيماوي للقضاء على هذا السرطان».
هذا، على الأقل، هو «المنطق» الذي روّج له «المنحبكجية»، وهذا التعبير الأخير أطلقه معارضون على محبي رأس النظام بشار الأسد عبر وسائل التواصل الاجتماعي.

ظهر الفصل الأخير من أزمة استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا عندما توالت الأنباء يوم 7 أبريل (نيسان) الجاري عن هجوم جديد شنه نظام الرئيس بشار الأسد على مدينة دوما في الغوطة الشرقية بضواحي العاصمة دمشق. غير أن الغوطة كانت أصلاً مسرح هذه المأساة الكبرى صبيحة 21 أغسطس (آب) 2013 حين قضى أكثر من 1400 شخص بهجوم أفادت المعارضة السورية أن قوات من «اللواء 155» في الجيش السوري شنته على مناطق الغوطة، ومنها مدن عربين وزملكا والمعضمية وبلدة عين ترما. وفي المقابل، ردّد النظام السوري روايات عدة متضاربة، إذ نفى أولاً وقوع هجوم بالأسلحة الكيماوية، متهماً «قنوات خليجية» بمحاولة حرف لجنة التحقيق الأممية عن هدفها بالتحقيق في هجوم سابق وقع في منطقة خان العسل (على بعد 14 كلم من مدينة حلب) بشمال سوريا، ثم اتهم «مسلحين وإرهابيين» بتنفيذ الهجوم لتبرير التدخل الأجنبي. أما روسيا التي دافعت طويلاً، ولا تزال تدافع عن نظام الأسد، فاتهمت المعارضة بـ«تزوير صور الضحايا». بيد أنها وافقت تحت وطأة السخط الدولي على القرار 2118 لتدمير مخزون سوريا من الأسلحة الكيماوية.
على أثر هذا الهجوم، أعد فريق من الباحثين تقريراً للكونغرس الأميركي عن برنامج الأسلحة الكيماوية في سوريا. ووافق في خلاصته مع تقرير سابق تلقاه مكتب مدير الاستخبارات الوطنية في الولايات المتحدة عام 2011. وكان تقييم استخباري أميركي عام 1995 قد أورد أن «سوريا لديها برنامج للحرب الكيماوية منذ منتصف الثمانينات»، علما بأن وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) أفادت عام 1997 أن البرنامج السوري انطلق في عقد السبعينات من القرن الماضي.
غالبية التقارير الأميركية ترجح أن تكون دمشق طوّرت برنامج أسلحتها الكيماوية للتعامل مع تهديد محتمل من إسرائيل. ويفيد محللون أن مصر قدّمت لسوريا كميات صغيرة من الأسلحة الكيماوية وأنظمة إطلاقها قبيل حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973. بيد أن سوريا باشرت توسيع برنامجها في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. كذلك، تفيد وثائق أميركية رفعت عنها السرية أن الاتحاد السوفياتي السابق زوّد سوريا بعوامل كيماوية وأنظمة إطلاق، فضلاً عن التدريب على استخدام الأسلحة الكيماوية. ولا يستبعد أن تكون سوريا اشترت معدات وعوامل كيماوية من شركات خاصة في أوروبا الغربية.

معاهدة الأسلحة الكيماوية
من جهة أخرى، رغم انضمام سوريا عام 1968 إلى «بروتوكول جنيف لعام 1925» الخاص بحظر الاستخدام الحربي للغازات الخانقة أو السامة أو سواها، فإنها بقيت لفترة طويلة واحدة من خمس دول فقط لم توقع على معاهدة الأسلحة الكيماوية، التي تحظر تطوير هذه الأسلحة وإنتاجها وتخزينها ونقلها واستخدامها. وهذا، مع العلم، أن سلطات دمشق تعهدت مراراً وتكراراً بالمصادقة على المعاهدة «إذا صدقت البلدان المجاورة» لها - ولا سيما إسرائيل - عليها.
وفي هذا السياق، تفيد وثائق لدى الحكومة الأميركية أن دمشق سعت إلى الاكتفاء الذاتي في برنامجها للأسلحة الكيماوية منذ منتصف الثمانينات. ورغم تقديرات للاستخبارات الوطنية الأميركية عام 1983 عن أن سوريا «غير قادرة محلياً على إنتاج مواد أو عوامل» لسلاح كيماوي، كشفت برقية لوزارة الخارجية عام 1985 عن أنها «تحاول تطوير سلاحها الكيماوي الخاص بها».

مركز البحوث العلمية
قبل تفجّر الثورة السورية، كان يسود اعتقاد أن «مركز البحوث العلمية» السوري يدير ما لا يقل عن أربعة معامل لتصنيع المواد الكيماوية في كل من الضُّمَير وخان عبو وخان أبو الشامات والفرقلس، فضلاً عن تشغيل مواقع تخزين في نحو 50 موقعاً في كل أنحاء البلاد.
وعلى الرغم التقارير الغربية - منذ السبعينات والثمانينات من القرن الماضي - عن امتلاك نظام دمشق مخزوناً كبيراً من غاز الخردل والعوامل المحفّزة له، وكذلك غازات الأعصاب كالسارين و«في إكس» ووسائل إطلاقها، لم يعترف النظام بقيادة الرئيس السابق الراحل حافظ الأسد ثم وريثه الرئيس بشار الأسد، بامتلاك أسلحة كيماوية إلا في يوليو (تموز) 2012. حين أفاد الناطق باسم وزارة الخارجية السورية - آنذاك - جهاد مقدسي أن سوريا تمتلك أسلحة كيماوية، مضيفاً أن هذه الأسلحة لن تُستخدم قط ضد الشعب السوري، ولكن فقط لصدّ أي «عدوان خارجي».
وبعد أقل من شهر على هذا التصريح، أعلن الرئيس الأميركي باراك أوباما أن استخدام الغازات السامة في سوريا «خط أحمر»، مدّعياً أن حساباته بشأن الرد العسكري ستتغير بدرجة كبيرة إذا رأت الولايات المتحدة «مجموعة كاملة من الأسلحة الكيماوية تتحرك أو يجري استخدامها». غير أن أوباما لم يحرّك ساكناً عندما جرى الإبلاغ في23 ديسمبر (كانون الأول) 2012 عن مقتل سبعة أشخاص في حمص بـ«غاز سام» استخدمه نظام الأسد. وتكرّر الأمر حين قال مسؤول في وزارة الخارجية الأميركية إن «هناك أدلة دامغة على أن الجيش السوري استخدم سلاحاً كيماوياً يُعرف باسم «العامل 15» في حمص يوم 23 ديسمبر (كانون الأول) 2012. ومنذ ذلك الحين بدأ يتلاشى «الخط الأحمر» الذي وضعه أوباما، إذ أن التقارير توالت عن استخدام الغازات السامة من دون أن تحرك الإدارة الأميركية ساكناً.
وبعد رسائل كثيرة من فرنسا وبريطانيا، أعلن الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي - مون يوم 21 مارس (آذار) 2013 «أن المنظمة الدولية ستجري تحقيقاً بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية حول إمكان استخدام الأسلحة الكيماوية في سوريا». وأكد يوم 17 أبريل (نيسان) 2013 «أن السلطات السورية عرقلت تحقيقات عن طريق رفضها نطاق التحقيق الذي تجريه الأمم المتحدة بشأن استخدام الأسلحة الكيماوية».

«سماح» بعد عرقلة
حيال تكاثر الاتهامات من كل الأطراف المتحاربة في شأن استخدام الأسلحة الكيماوية، سمح نظام الأسد يوم 14 أغسطس (آب) 2013 لفريق من الأمم المتحدة بالتحقيق في ثلاثة حوادث. غير أن تفويض الفريق ما كان يسمح إلا بتحديد ما إذا كانت الغازات السامة استخدمت أم لا، من دون تحديد من استخدمها.
ولم تمض أيام قليلة على السماح المشروط، حتى وقع هجوم الغوطة يوم 21 أغسطس 2013 فهزّت الصور البشعة الواردة من هناك العالم. وعقد مجلس الأمن اجتماعاً طارئاً، وأعلن الناطق باسم الأمم المتحدة أن الأمين العام يريد إجراء «تحقيق شامل ومحايد وسريع» حول الهجوم.
كذلك أعرب المدير العام لمنظمة حظر الأسلحة الكيماوية أحمد أوزومجو عن «قلقه الشديد» من الهجوم، الذي وقع بينما كان خبراء المنظمة موجودين بالفعل في سوريا مع فريق التحقيق التابع للأمم المتحدة.
وفي ضوء ردود الفعل الدولية على هجوم الغوطة وبناءً على اقتراح من روسيا لمساعدتها في التخلص من ترسانتها، أعلنت سلطات دمشق يوم 10 سبتمبر (أيلول) 2013 أنها تعتزم الانضمام إلى معاهدة الأسلحة الكيماوية. ومن ثم، سلّمت الأمم المتحدة، بصفتها الجهة المودعة، صك الانضمام إلى المعاهدة رسمياً خلال أربعة أيام (يوم 14 سبتمبر 2013). وأعلنت الولايات المتحدة وروسيا أنهما اتفقتا على «إطار لنزع السلاح من شأنه أن يقضي على برامج سوريا للأسلحة الكيماوية». وبموجب ذلك كان يتوجب على سوريا تقديم «قائمة شاملة» بأسلحتها «في غضون أسبوع»، ومع وجوب تدمير المعدات اللازمة لإنتاج الأسلحة الكيماوية وخلطها وتعبئتها بحلول نوفمبر (تشرين الثاني) من العام نفسه، على أن تكتمل «الإزالة التامة لجميع مواد الأسلحة الكيماوية ومعداتها في النصف الأول من عام 2014». وبناءً عليه، شُكّلت يوم 16 أكتوبر 2013 بعثة مشتركة بين منظمة حظر الأسلحة الكيماوية والأمم المتحدة للإشراف على هذه العملية.

مناورات وهجمات جديدة
وفعلاً، في أكتوبر 2013 أكدت منظمة حظر الأسلحة الكيماوية أنها تمكنت من فحص 21 من المواقع الـ23 التي كانت توجد فيها مرافق تطوير الأسلحة الكيماوية. أما الموقعان المتبقيان فتعذرت زيارتهما بسبب «مخاوف أمنية». لكن المفتشين أكدوا أن المعدات نُقلت من هذه المواقع ودمّرت.
ثم أﻋﻠﻦ اﻟﻤﺠﻠﺲ اﻟﺘﻨﻔﻴﺬي للمنظمة أن خبراءها ﺗﻤﻜﻨوا ﻣﻦ اﻟﺘﺤﻘﻖ ﻣﻦ أن 60 في المائة ﻣﻦ اﻟﺬﺧﺎﺋﺮ اﻟﺴﻮرﻳﺔ اﻟﻤﻌﻠﻨﺔ ﺪﻣّﺮت. والباقي سيدمّر على متن سفينة أميركية باستخدام التحلل المائي، وهو عملية تكسير العوامل الكيماوية باستخدام الماء الساخن ومركبات كيماوية أخرى. وجرى الانتهاء رسمياً من تدمير الأسلحة المعلنة بحلول أغسطس 2014.
ولكن على رغم ذلك، ظلت التقارير ترد عن استخدام الغازات السامة، فأصدر مجلس الأمن في 7 أغسطس 2015 القرار الـ2235 الذي أنشئت بموجبه آلية التحقيق المشتركة بين الأمم المتحدة ومنظمة حظر الأسلحة الكيماوية لتحديد الأطراف المسؤولة عن الهجمات المبلغ عنها في سوريا. وأوردت الآلية في تقريرها الثالث أن هليكوبترات عسكرية ألقت غاز الكلور على بلدتي تلمنس في 21 أبريل (نيسان) 2014 وسرمين في 16 مارس (آذار) 2015. وأضاف التقرير أن تنظيم داعش استخدم غاز الخردل في مارع يوم 21 أغسطس 2015.
وأنحى التقرير الرابع للتحقيق باللوم على جيش النظام السوري في هجوم بالغازات السامة في قميناس بمحافظة إدلب في 16 مارس 2015، غير أن الخبراء لم يجمعوا أدلة كافية لتحديد المسؤولية عن هجومين كيماويين آخرين في بلدتي بنّش بالمحافظة نفسها يوم 24 مارس (آذار) 2015 وكفر زيتا بمحافظة حماه في 18 أبريل (نيسان) 2014.
ثم، في 4 أبريل 2017 استخدم السلاح الكيماوي مجدداً في هجوم نسب إلى قوات النظام وأدى إلى مقتل العشرات في بلدة خان شيخون بمحافظة إدلب. وبعد يومين، استهدفت الولايات المتحدة قاعدة الشعيرات العسكرية السورية بصواريخ كروز من نوع «توماهوك».
وعلى الأثر، استخدمت روسيا حق النقض «الفيتو» ضد مشروع قرار يندد بالهجوم بغاز السارين. وبعد أشهر، أكدت آلية التحقيق أن السارين استخدم في هجوم خان شيخون، وأن نظام الأسد مذنب فيه. وفي 16 نوفمبر انتهت ولاية الآلية بعد فشل القرارين اللذين عرضا في مجلس الأمن في تمديدها. وكذلك أفشل «الفيتو» الروسي محاولات لاحقة لإحياء هذا التحقيق.
أما الهجوم الأخير فوقع يوم 7 أبريل الجاري في دوما، وفشلت مشاريع قرارات عدة في الصدور عن مجلس الأمن. كذلك لم يتمكن خبراء منظمة حظر الأسلحة الكيماوية من الوصول على الفور إلى المنطقة لتحديد ما إذا كانت الهجمات الكيماوية وقعت أو لم تقع. وكما هو معروف، شنت الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا ضربات وصفت بأنها دقيقة على ثلاثة مرافق للأسلحة الكيماوية في سوريا، وقال الرئيس الأميركي دونالد ترمب في خطاب بثه التلفزيون بأن الغرض هو «إنشاء رادع قوي ضد إنتاج الأسلحة الكيماوية ونشرها واستخدامها».



خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)
TT

خافيير ميلي... شعبية «المخرّب الأكبر» لا تعرف التراجع

خافيير ميلي (أ.ب)
خافيير ميلي (أ.ب)

في المشهد الشعبوي واليميني المتطرف، المتنامي منذ سنوات، يشكّل الصعود الصاعق لخافيير ميلي إلى سدّة الرئاسة في الأرجنتين، حالة مميّزة، لا بل فريدة، من حيث الأفكار والطروحات «التخريبية» التي حملها برنامجه وباشر بتطبيقها منذ توليه المنصب في مثل هذه الأيام من العام الفائت. حالة لم يتح لها الوقت الكافي بعد كي تفجّر كل «مواهبها» ومفاجآتها التي لا يوفّر ميلي مناسبة ليتوعّد بها، خاصة بعد نيله «بركة» مثاله الأعلى، دونالد ترمب، الذي يستعد للعودة قريباً إلى البيت الأبيض.

في مقابلة أجرتها معه مجلة «الإيكونوميست» نهاية الشهر الماضي، قال ميلي إنه يشعر بازدراء لا نهاية له تجاه الدولة، مؤكداً أنه سيفعل كل ما بوسعه للقضاء على تدخل الدولة في شؤون المواطنين وتنظيم حياتهم «لأن ذلك يشكّل أسرع الطرق إلى الاشتراكية». لكن اللافت أن «الإيكونوميست»، الموصوفة برصانتها، تعتبر أن ما يقوم به هذا «المخرّب الأكبر» - كما يحلو له أن يطلق على نفسه – يجب أن يكون قدوة للولايات المتحدة وحكومتها الجديدة التي يبدو أنها مستعدة لتحذو حذو الرئيس الأرجنتيني وتكليف هذه المهمة إلى الملياردير إيلون ماسك.

تدلّ كل المؤشرات على أن الهدف الأساسي من وصول ميلي إلى الحكم، أواخر العام الفائت، هو «تدمير» الدولة من الداخل. ألغى 13 وزارة، وسرّح ما يزيد على ثلاثين ألفاً من الموظفين العموميين، وخفّض بنسب وصلت إلى 74% مخصصات الرواتب التقاعدية والتعليم والصحة والعلوم والثقافة والتنمية الاجتماعية. وعلى هذه الخلفية، سارعت أسواق المال للاحتفاء بالفائض المالي وتراجع التضخم الذي ليس سوى ثمرة واحدة من أكبر الجراحات المالية في التاريخ. لكن الوجه الآخر لهذه العملة البرّاقة كان انضمام 5 ملايين أرجنتيني إلى قافلة الفقراء الذين يعيش معظمهم على المعونة الغذائية في واحد من أغنى البلدان الزراعية والغذائية في العالم، وانكماشا اقتصاديا... من غير أن تتراجع شعبية ميلي الذي يفاخر بأنه الرئيس الأوسع شعبية على وجه الكرة الأرضية.

لا يكفّ ميلي عن مخاطبة مواطنيه عبر وسائط التواصل التي لعبت دوراً أساسياً في وصوله إلى الرئاسة، ويقول إن «القوى السماوية» التي تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى».

رئيسة الأرجنتين السابقة كريستينا كيرشنر (أ.ب)

لا يعترف الرئيس الأرجنتيني بالتغيّر المناخي، ولا بالمساواة بين الرجل والمرأة، أو بالعدالة الاجتماعية، وينكر الذاكرة التاريخية لأنظمة الاستبداد التي تعاقبت على بلاده، ويعتبر أن كل ذلك ليس سوى بدع يسارية يتوعّد بالقضاء عليها في «حرب ثقافية» يتبّلها بكل أنواع الشتائم التي توقد الحماسة في صفوف أنصاره وتزرع الحيرة في أوساط المعارضة المشتتة.

الأغرب في كل ذلك هو أن ميلي لا تؤيده سوى أقلية في مجلسي الشيوخ والنواب، فضلاً عن أن جميع حكّام الولايات الذين يتمتعون بصلاحيات واسعة، ليسوا من حزبه «الحرية تتقدم». كما أنه اضطر للإبقاء على العديد من كبار موظفي الحكومة اليسارية السابقة في مناصبهم لعدم وجود كوادر مؤهلة كافية في حزبه. لكن رغم هذا العجر الهائل، تمكّن ميلي من إقرار حزمة قوانين يعتبرها أساسية لمشروع تفكيك الدولة ورفع القيود عن العجلة الاقتصادية، من غير أن يتضّح بعد إذا كانت هذه السنة الأولى من ولايته مدخلاً لإحكام سيطرته على الدولة، أو هي تمهيد لهيمنة اليمين المتطرف على المشهد السياسي.

يعتمد ميلي على التأييد الشعبي الواسع الذي ما زال يلقاه، وعلى حاجة حكّام الولايات لموارد الدولة، وبشكل خاص على الحلف التشريعي الذي أقامه مع اليمين المعتدل ممثلاً بالحزب الذي يقوده رئيس الجمهورية الأسبق ماوريسيو ماكري. ومنذ نزوله المعترك السياسي، بعد أن كان ينشر أفكاره وطروحاته عبر البرامج التلفزيونية التي كان يقدمها، استمد شعبيته وقوته ضد ما يسميه «السلالة»، أي الطبقة السياسية التقليدية. أما الاتفاقات أو الائتلافات التي سعى إليها، فهي لم تكن سوى تكتيكية، ولم يفاوض على برنامجه مع الأحزاب أو القوى التي تحالف معها، بل بقي تحالفه الأساسي مع القاعدة الشعبية التي ما زالت تدعمه، والتي يرجّح أن تكون هي أيضاً نقطة ضعفه الرئيسية التي ستؤدي إلى سقوطه عندما تتوقف عن دعمه بعد أن تفقد الأمل الضئيل الذي ما زال يحدوها في أن تتحسن الأوضاع المعيشية.

وصفة ميلي تحقق نتائجها

يقول المقربون من ميلي إن سر استمرار شعبيته التي توقع كثيرون أنها إلى زوال سريع، هو أنه ينفّذ كل الوعود التي قطعها في حملته الانتخابية، فيما بدأ بعض منتقديه يعترفون بأن «وصفته» تحقق النتائج التي وعد بها.

وقد شهدت الأشهر الأخيرة انشقاق بعض رموز الحزب البيروني واصطفافهم إلى جانب ميلي، مثل العضو البارز في مجلس الشيوخ كارلوس باغوتو، وهو قريب من الرئيس الأسبق كارلوس منعم. وقال باغوتو: «إن ميلي هو الشخص الذي تحتاجه الأرجنتين للتخلص من الموجة الشعبوية الاشتراكية التي حكمتها طيلة العقدين المنصرمين... كنا في حال من التحلل الاجتماعي الذي بلغ مستويات يصعب تصورها. وبعد أن أصبحت الدولة تتدخل في جميع مسالك الحياة، عاجزة عن توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية لشريحة واسعة من المواطنين، وبعد أن أخفقت جميع المحاولات لضبط التضخم الهائل، أدركت الطبقات المتواضعة أن الخلاص لا يمكن أن يأتي من غير تضحيات... وكان ميلي».

"يقول ميلي إن «القوى السماوية» تسدد خطاه وتقود كفاحه ضد الطبقة السياسية التقليدية والاشتراكية ستجعل من الأرجنتين قريباً «قوة عالمية كبرى»."

خدمة مصالح رجال الأعمال

لكن قراءة المعارضة للمشهد الاجتماعي تختلف كلياً، إذ يرى وزير الداخلية السابق إدواردو دي بيدرو المقرّب من الرئيسة السابقة كريستينا كيرشنر، أن ميلي قضى على حقوق وخدمات أساسية، مثل الصحة والتعليم والحماية الاجتماعية، بينما خدم، في المقابل، مصالح رجال الأعمال والمراكز المالية. ويضيف: «إن قرارات مثل قطع الأدوية عن مرضى السرطان في المراحل الأخيرة، أو الكف عن توفير التغطية العلاجية للمتقاعدين، أو إقفال المطاعم الشعبية التي كانت تؤمن وجبات أساسية لحوالي 19% من السكان يعيشون على المعونة الغذائية، هي دليل ساطع على قسوة هذه الحكومة وعدم إحساسها».

يردّ ميلي على هذه الانتقادات بوصفها من أفعال الشيوعيين المناهضين للحرية، ويكرر أنه يقود «أفضل حكومة في التاريخ»، مقتنعاً بأنه مكلّف مهمة سماوية، ويقترح حرباً نضالية عالمية تحت راية «اليمين الدولي» من أجل القضاء نهائياً على اليسار، يجوز فيها استخدام كل الوسائل، بما في ذلك العنف. كما أكّد مؤخراً في أحد المهرجانات السياسية: «لست في وارد اللياقة أو الوفاق. لن أتراجع أبداً، وسأواصل السير نحو النار، لأن الهجوم هو أفضل وسيلة للدفاع. لسنا ملزمين بتبرير أفعالنا، وإذا فعلنا فسوف يعتبرون ذلك من باب الضعف. كلما تعرضنا لضربة من خصومنا، سنردّ الواحدة بثلاث».

تكيف وبراغماتية

الهجوم الدائم هو العلامة الفارقة في أسلوب الرئيس الأرجنتيني، لكن ميلي أظهر قدرة لافتة على التكيّف والبراغماتية التفاوضية كلّما وجد نفسه بحاجة إلى أصوات المعارضة، في مجلسي الشيوخ والنواب وبين حكام الولايات، خاصة عندما طرح «قانون الأساسات» الذي يتضمّن مئات المواد التي تعتبرها الحكومة ضرورية لتنفيذ برنامجها. يفعل ذلك وهو يدرك جيداً أن الأحزاب التقليدية فقدت شعبيتها، وهي في حال من الانهيار السريع الذي يمكن لحزبه أن يستفيد منه في الانتخابات العامة المرحلية في خريف العام المقبل ليقلب المعادلة البرلمانية الحالية التي تشكّل عائقاً كبيراً أمام مشروعه «التخريبي».

ستكون انتخابات العام المقبل حاسمة بالنسبة لميلي ليقلب المعادلة البرلمانية ويضمن الأغلبية التي تحرره من التفاوض مع المعارضة كلما أقدم على خطوة اشتراعية لتنفيذ برنامجه، خاصة أن التأييد الشعبي ليس مضموناً في المدى الطويل.

ويخشى معاونوه من أن جنوحه الشديد نحو التعصب والصدام العنيف مع خصومه السياسيين قد يبعده عن تحقيق هدفه الأساسي الذي كان وراء فوزه في الانتخابات الرئاسية، وهو معالجة الأزمة الاقتصادية المزمنة التي تتخبط فيها البلاد منذ عقود. وينصحه المقربون بعدم التمادي في «الحروب الثقافية» مع حلفائه الغربيين الذين حصرهم منذ اليوم الأول بالولايات المتحدة وإسرائيل والدول «الحرة»، وسمّى الاشتراكيين واليساريين خصومه إلى الأبد.

لكن رغم خطابه الناري والتهديدي الذي لا يخلو أبداً من الألفاظ البذيئة، والذي بدأ مستشاروه يواجهون صعوبة في تبريره بالقول إن هذا هو أسلوبه والناس تعرف ذلك، بدأ ميلي يعطي مؤشرات على أنه ليس غريباً كلياً عن البراغماتية والواقعية. وهو اعترف قبل أيام أنه تعلّم الكثير في السياسة خلال هذه السنة الأولى من ولايته. وقال إنه لم يعد لديه أعداء سياسيون في الأرجنتين، بل خصوم يريدون الخير للبلاد. وبعد أن كان صرّح مراراً خلال الحملة الانتخابية بأن الصين هي في معسكر الأعداء وبأنه لن يتعامل مع «القتلة»، قال مؤخراً: «إن الصين شريك رائع لا يطلب شيئاً سوى التبادل التجاري الهادئ» وإن الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الذي كان وصفه غير مرة بأنه «يساري فاسد»، لن يصبح صديقه، لكن مسؤوليته الدستورية تقتضي منه التعامل معه.

الأرقام الاقتصادية في نهاية العام الأول من ولاية ميلي تظهر أن الشركات الكبرى في قطاع المحروقات، وكبار المستثمرين في أسواق المال والمصارف، هم الذين حققوا أرباحاً استثنائية خلال هذه السنة، وأن الجائزة الكبرى كانت من نصيب المتهربين من دفع الضرائب الذين استفادوا من خطة «التبييض» التي وضعها، بما يزيد على 20 مليار دولار، أي نصف القرض الذي حصلت عليه الأرجنتين منذ سنوات من صندوق النقد الدولي لوقف الانهيار الاقتصادي التام وما زالت حتى اليوم عاجزة عن سداده أو حتى عن جدولته. أما في الجهة المقابلة فكان المتقاعدون والموظفون العموميون وأصحاب المؤسسات الصغيرة والمتوسطة هم الأكثر تضرراً من النموذج الذي خفّض الإنفاق العام وألغى القيود على الواردات بهدف احتواء التضخم الجامح الذي يقضّ مضاجع ملايين الأسر منذ سنوات، فضلاً عن الفقراء (19% من السكان حسب الإحصاء الأخير) الذين حُرموا فجأة من المعونة الغذائية التي كانت تقدمها الدولة.

أرباح الشركات الكبرى في قطاع الطاقة بلغت أرقاماً قياسية هذا العام بفضل زيادة الإنتاج وتحرير الأسعار والتدابير الضريبية والجمركية والقانونية التي أعلنها ميلي الذي يريد لهذا القطاع أن يكون المحرك الأساسي لاقتصاد الأرجنتين في العقود الثلاثة المقبلة، انطلاقاً من منطقة «باتاغونيا» الشاسعة في أقصى الجنوب التي تختزن، بحسب تقديرات، ثاني أكبر احتياطي من الغاز ورابع احتياطي من النفط في العالم. وفي نهاية الشهر الماضي كانت أسعار أسهم شركة النفط الرسمية قد ارتفعت بنسبة 140% عن العام الفائت، فيما ارتفعت أسعار أسهم الشركات الخاصة 75%.

تمديد الإنفاق

في موازاة ذلك قرر ميلي تجميد الإنفاق على المشاريع العامة، بينما كان الاستهلاك يتراجع إلى أدنى مستوياته والصناعة الأرجنتينية تعاني على جبهات ثلاث: انخفاض المبيعات، وتدفق السلع المستوردة بأسعار تصعب منافستها، وتراجع الصادرات بسبب ارتفاع سعر البيزو مقابل الدولار الأميركي. إلى جانب ذلك، سحب ميلي جميع إجراءات الدعم التي كانت اتخذتها الحكومات السابقة لمساعدة الطبقات الفقيرة، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار النقل العام بنسبة 1000% وفواتير الغاز والكهرباء والتأمين الطبي والتعليم الخاص بنسب تزيد على 500%. وكانت الأشهر الستة الأولى من ولاية ميلي هي الأكثر صعوبة، إذ تزامنت مع نسبة تضخم قاربت 30% شهرياً بحيث تجاوزت نسبة المصنفين فقراء بين السكان 53%.

ستكون الأشهر الأولى من العام الثاني لولاية ميلي، حاسمة في تقدير عدد من المراقبين، لأنها ستبيّن مدى صمود شعبيته أمام انهيار الخدمات الأساسية والمساعدات التي تعيش نسبة عالية من السكان عليها، فيما يصرّ هو على رهانه بأن الفشل الذريع الذي تتخبط فيه القوى السياسية الأرجنتينية منذ عقود سيكون الخزان الذي سيغرف منه لترسيخ شعبيته حتى نهاية الولاية.