المخرج ميلوش فورمان بلغ الذروة في فيلمين... وتراجع حتى الرحيل

يبلغ مجموع ما حققه المخرج ميلوش فورمان الذي توفي يوم الجمعة الماضي، سبعة عشر فيلماً طويلاً، بالإضافة إلى فصل من فيلم عنوانه «رؤية ثمانية» (1973) وفيلمين قصيرين على الأقل، الأول مطلع مهنته سنة 1964 والثاني سنة 1971.
حتى العام 1965 عمل فورمان في نطاق السينما التشيكوسلوفاكية كونه وُلد هناك في الثامن عشر من سنة 1932 باسم يان توماس فورمان في بلدة صغيرة اسمها كاسلاف تقع فوق أرض منبسطة شرق العاصمة براغ. بعد سنوات قليلة وجدت تشيكوسلوفاكيا نفسها محتلة من قِبل الألمان، وسيق يهودها إلى المعسكرات، فقضى والداه فيها، وتربى ميلوش في إحدى مدارس اليتامى. بعض حياته عكسها المخرج لاحقاً في «بلاك بيتر» و«عشق شقراء».
بعد الحرب أخرج فيلماً تسجيلياً طويلاً بعنوان «الفانوس السحري 2» سنة 1960، فيلمه الروائي الأول «بلاك بيتر» ورد بعد عامين، تلاه بفيلم تسجيلي آخر عنوانه «مزاد» (1964) ثم «عشق شقراء» الروائي سنة 1965 وتلاه بـ«كرة الإطفائيين» الذي كان آخر فيلم ينجزه في بلاده.
باقي أفلامه جميعاً حققها في الولايات المتحدة التي وصل إليها عبر باريس ومعه سيناريو يدور حول أحداث العام 1968 عندما غزى الجيش الروسي بلاده. لكن ذلك السيناريو لم يقنع أحداً في هوليوود، ولم تتبنه شركاتها ما دفعه للبحث عن عمل آخر لا علاقة سياسية له مع ما كان يود التعليق عليه، ووجد ضالته سنة 1971 عندما كتب وأخرج «إقلاع» (Taking Off)، كوميديا اجتماعية عن التحرر الجنسي وهوى الشباب والهوة الشاسعة بين جيله وجيل آبائه.
«طار عالياً»
ميلوش كان محظوظاً إذ إنه وصل إلى الولايات المتحدة في الفترة التي أرادت فيها شركة «يونيفرسال» المعروفة إنتاج عدد من الأفلام الصغيرة التي تمنح القرار فيها إلى المخرجين. هذا تم بعدما شهد نجاح فيلم «إيزي رايدر» لدنيس هوبر الذي قامت منافستها «كولومبيا» بتمويله وحقق لها أرباحاً طائلة ما حفّز «يونيفرسال» على تمويل بضعة أفلام من هذا النوع، بينها «ركض صامت» لدوغلاس ترومبل (1972) و«المأجور» (The Hired Hand) لبيتر فوندا (1971) و«ميني وموسكوفيتز» لجون كازيفيتيس (1971)، كما «إقلاع» في العام نفسه.
لم ينجح الفيلم تجارياً لكنه حمل دمغة أسلوبية ساخرة تكررت لاحقاً في كل أعماله. فورمان لم يكن، في هذا الفيلم، ليقف جانب سلطة الأهل على الأولاد، بل لجانب الحرية التي يطلبها الأولاد لأنفسهم بعيداً عن السُلطة. وهذا التداول بين الفرد والسُلطة ميّز كذلك معظم أعماله اللاحقة، في الوقت الذي استمدّه من مشاغباته في إطار السينما التشيكية سابقاً عندما بدأ بإنجاز أفلام توحي برفضه نظام المؤسسات. هذه الأعمال الأولى بلغت ذروتها في فيلم «كرة الإطفائيين» الذي وُجه بالمنع.
لكن فشل «إقلاع» التجاري، وإلى حد معين النقدي أيضاً، لم يمنع من ضمّه إلى مجموعة المخرجين الذين قبلوا مهمة تداول رؤاهم السينمائية في فيلم «رؤية ثمانية» التسجيلي سنة 1973. هذا وضعه جنباً إلى جنب مخرجين سبق وأن تأسسوا منذ بضع سنوات من بينهم آرثر بن وكون إيتشيكاوا وجون شلسنجر.
إثر ذلك، وضمن حالة الرغبة في منح المخرجين حرية أوسع لاتخاذ القرارات الفنية مما تلا لاحقاً، تم اختياره لتحقيق نسخة سينمائية من رواية كن كيسي «واحد طار فوق عش الوقواق» سنة 1975. تلك الرواية دارت حول مصحة للمجانين، والمطلوب معالجتهم عصبياً وما تحتويه من عنف حيال المرضى تبعاً لنظام قاس. الرواية التي نشرت سنة 1962 تحوّلت إلى مسرحية بعد سنوات قليلة قام خلالها مايكل دوغلاس بتمثيل دور مكمورفي الذي قام به جاك نيكولسون في الفيلم. كلمتا «عش الوقواق» تؤخذان دلالة على «مصحة المجانين» ما يعطي العنوان ذلك البعد المقصود.
ودوغلاس هو من قرر إنتاج نسخة سينمائية، وحسناً فعل أن جلب إلى الفيلم ميلوش فورمان، ليس لأن فورمان برهن عن ملكيّته الفنية، بقدر أنه كان برهن منذ أعماله المعادية للنظام الشيوعي في بلاده على أنه خير من ينقل روح الفيلم القائمة على حث المجانين للتمرد ضد سُلطة السجانين. في هذا الإطار كان فورمان تكملة لما بدأه الروائي كن كيرسي وعلى الخط نفسه.
ماكمورفي كان يعرف ما يحتاجه رفاقه في المصحة أكثر من مديرة المصحة ذاتها. عوض إبر التهدئة والحبوب المعالجة للأعصاب. عوض الكبت والحرمان والعقاب وعوض حجب الحريات، أراد تحرير رفاقه من وضعهم البائس، كما كان سبارتاكوس حرر عبيد روما. بذلك جسّدت الشخصية الحالتين الفردية، كما التشخيص الشامل للإرادة الفردية (ثم الجماعية) ضد النظام.
جاك نيكولسون كان الاختيار الرائع ذاته. بعدما عاين دوغلاس احتمال قيامه بالدور الأول تم التفكير بجيمس كان للدور، ثم ببيرت رينولدز قبل أن يرسي الدور على نيكولسون. الميزة هنا هي أن نيكولسون ينتمي إلى تمثيل متحرر يلائم الدور الذي يؤديه كقائد ومحفّز للثورة على نظام المصحّة. الممثلة لويز فلتشر التي لعبت شخصية مديرة المصحة الصارمة، انتمت إلى التمثيل المنهجي المنضبط لذلك حمل كل من هذين المنهجين المتناقضين معنى إضافياً للمجابهة التي تقع في الفيلم بين من تمثل السُلطة والنظام وبين من يمثل الثورة والتحرر.
الميزة الأخرى المهمّة لهذا الفيلم الذي حظي بنجاح مستحق على أكثر من صعيد، هو الاستعانة بممثل معروف يكون محور العدد الكبير من الممثلين غير المعروفين (ليس على النطاق نفسه) ما يجعل من القيادة السياسية المناطة به سهلة الوصول إلى المشاهدين. لكن في المقابل لم يرد المخرج تقديم فيلم من بطولة فردية، لذلك نلاحظ في الفيلم لا إسهام الشخصيات المختلفة كلها (معظمها من المرضى) الملحوظ فقط، بل قيام المخرج بكسر حدة البطولة الفردية بلقطات عديدة للآخرين مزروعة في شتى الأحداث حتى ولو كانوا مجرد حاضرين لما يقوم به مكمورفي.
النتيجة خمس أوسكارات ذهبت لهذا الفيلم، هي: أوسكار أفضل فيلم وأفضل سيناريو وأفضل إخراج وأفضل ممثل أول وأفضل ممثلة مساندة (فلتشر). والغالب أنّه لولا استبدال مدير التصوير هاسكل وكسلر (بعد شهر من التصوير) بآخر هو بِل بتلر الذي توقف عن العمل أيضاً ليحل مكانه ويليام أ. فراكر قبل بضعة أيام من نهاية العمل، لكان حظ الفيلم في نيل أوسكار أفضل تصوير ارتفع عما كان عليه.
في كل الأحوال فاز بها جون ألكوت عن تصويره الممتاز لفيلم ستانلي كوبريك الرائع «باري ليندون».
«أبواب القانون»
إذ أسس فورمان عبر هذا الفيلم وضعه كمخرج ضد النظم، لا بد من التذكير بأنّ هذا الوضع كان ممارساً في الفترة السابقة التي أمضاها في تشيكوسلوفاكيا، والتي أحالته، أمام النظام، لاعتباره من فلول البرجوازية اليمينية. في الولايات المتحدة، فإن الهامش العريض من حرية الرأي جعله ينقل عداءه للنظام إلى الداخل الأميركي (المؤسسة الأميركية ذاتها)، وبذلك انتمى إلى حركة يسارية وليبرالية كانت نشطة آنذاك.
فيلمه التالي «Hair» كان مأخوذاً عن كتاب أغانٍ تحوّل إلى مسرحية غنائية مشهورة قبل أن يدلف فورمان إليها، ويحوّلها إلى فيلم من بطولة بفرلي دانجلو وجون سافاج (برزا في تلك الحقبة وانتهيا بنهايتها).
الصراع هنا متكرر. «هير» يدور حول الشاب المتمرد الذي يترك عائلته ويهرب من التجنيد الإجباري، وينضم إلى مجموعة من الهيبيين. عندما يتعرف على الفتاة شيلا ويقع في حبها، يكتشف بأنها تنتمي إلى عائلة ثرية، لكنها في الوقت ذاته تشاركه تطلعاته التحررية.
الموضوع هو تكرار لما أنجزه المخرج في عمله الأميركي الأول «إقلاع» مع اختلافين مهمين، الأول أن هذا الفيلم ورد من خلفية موسيقية ومسرحية ناجحة، والثاني أنّه كان إنتاجاً أعلى تكلفة بعشر مرات من الفيلم السابق (11 مليون دولار). لكن نجاحه التجاري كان أيضاً محدوداً في الولايات المتحدة (15 مليون دولار) وخارجها (أقل من ذلك).
سنجد فورمان وقد عاد بعد عامين لتحقيق فيلم أكبر إنتاجاً عنوانه «راغتايم» (Ragtime) عن أحداث وردت في رواية لإدغار لورنس دوكتوروف، التي كانت نسيجاً من الواقع والخيال في فترة مطلع القرن العشرين حول عازف بيانو أسود (هوارد رولينز) يطالب بكرامته المهدورة، بعدما حطم رجال الإطفاء سيارته ما دفعه، بعدما طرق أبواب القانون بلا فائدة، إلى احتجاز رهائن إلى أن يستسلم رئيس الإطفائيين (الراحل كنيث مكميلان) إليه وتصليح سيارته لتعود كما كانت عليه.
لكن هناك خيوطاً أخرى كثيرة في الفيلم، وأكثر منها في الرواية ذاتها التي تنتقل بين الشخصيات والأحداث مشكلة حبكات متعددة. فورمان يختار ما يجعل الفيلم أكثر التحاماً. يعرض حياة ومواقف جانبية محدودة، ويضع حكاية العازف الموسيقي الباحث عن عدالة تنصفه في الوسط. ثم يأتي برئيس بوليس سابق كان اعتزل، ويتم اختياره للتفاوض مع هذا الموسيقي الثائر استناداً لخبرته.
الممثل الذي يلعب دور رئيس البوليس المتقاعد والمُستعان به من جديد هو ممثل كان تقاعد واستعين به ليقود الفيلم وهو جيمس كاغني، الذي كان آخر فيلم مثله كوميديا عابرة أخرجها بيلي وايلدر بعنوان «واحد، اثنان، ثلاثة» سنة 1961. أي قبل عشرين سنة من هذا الفيلم.
عودته خدمت الإعلام حول الفيلم أكثر مما خدم الفيلم نفسه. إدارة فورمان للعمل بقيت منضبطة وملاحظاته حول التوزيع الاجتماعي للشخصيات ناجحة. ومع أن عدداً من نقاد ذلك الحين أعاب اختصار عالم دوكتوروف بهذا الشكل، إلا أنّه لم يكن اختصاراً اعتباطياً و - لمن قرأ الرواية - جاء مبرراً ومنطقياً.
«أماديوس»
الذروة المماثلة لـ«واحد طار فوق عش الوقواق» تجسدت في فيلم فورمان اللاحق «أماديوس» عن مسرحية وضعها كاتباً ومخرجاً بيتر شافر، وشاهدها فورمن على الخشبة البريطانية وبهرته. صرّح لاحقاً أنه تعَّود، من أيام حياته المبكرة في براغ، على الشعور بالتثاؤب كلما فرض عليه مشاهدة مسرحية أو فيلم يدور حول عازف موسيقي. في العام 1990 التقيت به في فندق «ذا فور سيزنز» في منطقة بيفرلي هيلز، وأخبرني ما حدث حين شاهد مسرحية شافر تلك:
«دخلتها من دون أي توقعات وخرجت منها وقد اكتشفت أن العمل الفني لحياة موسيقار ما قد تصلح كثيراً لفيلم يختلف عما كنت تعودت عليه. أعتقد أنّ ذلك كان قصوراً مني. أقصد أنّني لم أكن أثق بمثل هذه البيوغرافيات لكن لا بأس، قلت لنفسي وأنا أقرر أن مشروعي المقبل هو تحويل هذه المسرحية إلى فيلم سينمائي».
«أماديوس» (من ثلاث ساعات) هو أكمل فيلم أنجزه في حياته. عمل فني رائع عن شخصيتين فنيتين رائعتين كذلك: وولفغانغ أماديوس موزارت (توم هولسي) وغريمه أنطونيو سالييري (فريد موراي أبراهام).‬
يحيط الفيلم بالسنوات العشر الأخيرة من حياة موزارت (الممتدة ما بين 1781 و1791) التي شهدت قيام سالييري بمحاولات النيل من قيمة موزارت في المحافل كافة بسبب غيرته من نجاحه. فورمان يصوّر موزارت (وبفضل ملامح هولسي الصبيانية) منفتحاً ومبتسماً ومتفانياً في موهبته، ويمنح سالييري (وبسبب من تقاسيم وجه الممثل أبراهام المناسبة) صورة تشي بالنوايا السيئة التي يضمرها صوب غريمه. لكن فورمان يمنح المشاهد فرصة التعاطف مع سالييري من ناحية، وتقدير موهبة موزارت الفنية من ناحية معاكسة. الناتج هو أنّ التعاطف مع سالييري ارتفع بين المشاهدين أكثر من درجة التعاطف مع موزارت على الرغم من أن الأخير هو الضحية.
هذا ناتج بدوره عن أنّه من السهل فهم منطلقات ومشاعر سالييري، ومن الصعب مواكبة التكوين الشخصي والفني للعبقرية المتمثلة بموزارت. هذا إلى حين يعترف سالييري بأنه وقف وراء وفاة موزارت المبكرة والمفاجئة (في سن الخامسة والثلاثين).
إنه وضع مزعزع ذلك المرتسم على الشاشة من زاوية هذا الصراع واستدلالاته، لكن معالجة فورمان للفيلم بأسرها نجحت في احتواء سلبيات هذا الوضع، كما في منح العمل ميزته الأساسية، وهي أنّه لا يتوجه فقط إلى هواة موزارت، ولا حتى إلى هواة فن الموسيقى عموماً، بل، أساساً، إلى الراغبين في مشاهدة دراما تراجيدية حول النجاح وما تجلبه من غيرة الآخرين المفتقرين إلى المستوى ذاته من القدرات الفنية. هذه الناحية تجعل الفيلم مستساغاً من الجمهور العام أكثر وأكثر في الوقت الذي يقدر الناحية الفنية العامّة، وقدرة الفيلم على جذب غير المهتم بالموسيقى عموماً ليشاهد فيلماً موسيقياً من هذا النوع.
في حين لا غبن في ذلك من ناحية مبدئية، إلا أن صلب العمل يبقى، بمزيجه المؤلف من 70 في المائة خيال، و30 في المائة واقع، يشبه العسل المغشوش بالسكر أو الماء. على ذلك، وفي حين فشل «راغتايم» في ثمانية ترشيحات «أوسكار»، نجح «أماديوس» في قطف ثماني أوسكارات، من بينها أفضل فيلم وأفضل مخرج وأفضل ممثل (ف. موراي أبراهام).
بعده بقي فورمان في التاريخ، واتجه سنة 1989 إلى تحقيق فيلمه «فالمونت» عن رواية الكاتب الفرنسي كودرلوس دي لالكوس «علاقات خطرة» (Les Liaisons Dangereuses). هنا مرّة أخرى يحيد المخرج عن الشخصية الرئيسية بعض الشيء. فالمونت (كولين فيرث)، الأرستقراطي الذي يخطط للإيقاع بفتاة بريئة (فيروزا بوولك) فقط ليربح الرهان الذي عقده مع عشيقته (أنيت بانينغ)، يبقى المحور، لكن الكثير من المشاهد تُصرف على شخصية الفتاة ومرجعيتها الاجتماعية. لا خطأ في ذلك خصوصاً أن الحياكة ماهرة تسمح للمخرج ولممثليه باستيعاب شخصيات بأقنعة متعددة ومثيرة عموماً.
لكن في هذا الإطار واجه الفيلم مشكلة أثرت على متلقيه وعلى إنتاجه أيضاً، فقبل عام واحد من إطلاق «فالمونت» قدم البريطاني فيلمه (الأفضل) «علاقات خطرة» عن مسرحية كريستوفر هامبتون المقتبسة عن الرواية ذاتها. هذا ما جعل «فالمونت» يصل متأخراً ليقتطف ما تبقى من مشاهدين مهتمين. لكن، من ناحية أخرى، يكشف الفيلم عن أن الرغبة في التحدي الذي صاحب أعمال المخرج فورمان الأولى شحت. الفيلم يقبل أن يلعب دور الراوي بأقل قدر من تفعيل الدراما مع إبقاء المشاعر غالباً محبوسة في صدور أصحابها.
في كل الأحوال أثار فورمان الإعجاب العام من جديد عندما انبرى لإخراج «الشعب ضد لاري فلينت» (1996).
مع هذا الفيلم نرى فورمان وقد عاد إلى الموضوع الآثر لديه: الفرد ضد المجتمع والنظام. لاري فلينت، في الأصل، لم يكن سوى ناشر مجلة خلاعية (قام به وودي هارلسون) أقيمت ضد عدة قضايا قضائية (في السبعينات) نجحت في منع صدور مجلته من حين لآخر وهددت بسجنه مرات. كما في «راغتايم» و«أماديوس»، مزج المخرج الحقيقة بالخيال كما يشاء. بالتالي لا يمكن التأكد من أي شيء نراه سوى الأساسيات. وفي فيلم يأخذ موقفاً مؤيداً لشخصية فلينت، على أساس أنّه الفرد الذي يتحدّى النظام، فإن المبدأ الأخلاقي يأتي في أسفل اهتمامات المخرج وفيلمه.
في كل الأحوال، وعلى الرغم من براعة مؤكدة لوودي هارلسون في تأدية الدور، إلا أنّ الفيلم الذي أريد له الاحتفاء بانتصار الإرادة الفردية تلك يتلاعب بالحقائق كما يرغب ثم ينتهي إلى عمل يثير الضجة وحب المتابعة كونه دراما خفيفة إلى حد أنها تصلح للترفيه أكثر من النظر إليه كعمل فني.
فيلمه التالي «رجل على القمر» (2006)، ثم فيلمه الأخير «مسيرة مستأهلة» (A Walk Worthwhile) عملان دون مستوى أي من الأفلام السابقة الأولى. كون «مسيرة مستأهلة» تم تحقيقه قبل تسع سنوات، وحقيقة أن ميلوش فورمان حينها كان بلغ السابعة والسبعين من العمر، يكشفان عن أنّه لم يكترث ليواصل العمل بالجهد ذاته الذي قام به مخرجون لم تمنعهم سنوات الحياة المتقدمة من ممارسة ما يحبون أمثال كلينت إيستوود (87 سنة) والبرتغالي مانويل دي أوليفييرا الذي مات سنة 2015، عن 107 أعوام وهو ما زال يكتب ويخرج.