المؤكد أن فوز حزب «فيديس» المجري برئاسة رئيس الوزراء الحالي فيكتور أوربان يعد دلالة على أن الخوف بات الطائر المحلق في سماوات وسط أوروبا تحديداً، فقد فاز الرجل وحزبه بنحو 49.5 في المائة من الأصوات، مما مكنه من ثلثي مقاعد البرلمان، أي 134 مقعداً من أصل 199 في برلمان بلاده.
ولعل الأكثر إثارة هو أن «القوميين المجريين»، قد جاءوا في المرتبة الثانية بنحو 20 في المائة من الأصوات، مما يمكنهم من الحصول على 27 مقعداً، بينما لم يستطع الاشتراكيون سوى حصد 11.85 في المائة من الأصوات.
النتائج المتقدمة تقودنا للتفكير مليا في الأسباب والدوافع التي من شأنها تمضي مسيرة الأصولية الأوروبية قدماً.
أوربان الرجل اللغز
يعد فيكتور أوربان حجر الزاوية في البناء المجري السياسي المعاصر، وله تاريخ نضالي كبير في أثناء الحقبة الشيوعية، حين كانت المجر واقعة تحت أسر نفوذ الاتحاد السوفياتي، ومنذ الرابعة عشرة من عمره يخوض غمار الحياة السياسية، وقد أسس حزبه المعروف باسم «فيديس» أي «حزب الشباب الديمقراطي»، وهو يشكل علامة استفهام للشرق والغرب سوية، بمعني أنه كان ممجوجاً من الروس رغم شيوعيته، وغير مقبول من الغرب باعتبار أنه السياسي الذي قاد التغيرات المفصلية في بلاده عبر كل المناحي، لكنه أخفق في السير على درب الديمقراطية، وفي تناقضاته البنيوية هذه وقع الجميع في الحيرة من حوله.
«فيكتور أوربان» نموذج مثير للأصولية الأوروبية المغايرة عن نظيرتها في ألمانيا أو فرنسا، وبعيد جداً عن النسق الأميركي، فهو يكاد يقترب من رؤية دول العالم الثالث للمؤسسات المالية والسياسية الدولية، ويكاد يلامس سقف الراديكاليين الشرق أوسطيين الذين يؤمنون بأن كل ما يجري حول العالم هو صنيعه مؤامرة غربية، ويزيد أوربان من الشعر بيتاً حين يبث خطاباته الكارهة للمنظمات اليهودية والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، رغم أن بلاده عضو في جميعها.
هويته ورؤيته للإسلام
على أن مزايدات أوربان، على أطراف وأطياف العالم والعولمة يمكن رصدها في جهة، فيما الورقة الرابحة بشكل شبه مؤكد والتي تلاعب بها على أوتار المتناقضات تتمثل في جانب آخر، جانب مغازلة القوميين والشعبويين من المجريين الذين صوتوا له بكثافة هذه المرة، فيما يخص مسألة الهوية المجرية خاصة والأوروبية بشكل أكثر عمومية.
خلال شهر فبراير (شباط) الماضي وقبل بضعة أسابيع من الانتخابات البرلمانية كان «أوربان» يتحدث عن بلاده بوصفها آخر معاقل أوروبا في مواجهة ما أسماه «ظاهرة الأسلمة»، بل أكثر من ذلك، إذ يزايد على المتطرفين في الداخل المجري بالقول إن الأسلاك الشائكة التي أقامتها بلاده على حدودها وإجراءات الأمن المشددة التي اتخذت تجاه المهاجرين، قد نجحت دون وقوع ما أطلق عليه «غزو إسلامي» لبلاده التي أتهمتها الأمم المتحدة بخرق التزاماتها بموجب القوانين الدولية الأوروبية بسبب فرضها قيوداً على اللاجئين المسلمين.
والشاهد أن الأوروبيين لا سيما التيارات المعتدلة في داخلها قد اعتبرت الرجل ظاهرة تتوجب الرصد والتحليل خوفاً من تبعاتها واستحقاقاتها المستقبلية، ومثال ذلك ما نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية عن مفردات أوربان التي يستخدمها ليذيع الكراهية في قلوب الأوروبيين تجاه المسلمين في القارة العجوز، مصطلحات من عينة «الغيوم السوداء» التي تحلق فوق سماوات أوربان.
يفتح أوربان الأبواب واسعة أمام إعادة النقاش الدائر حول «أسلمة أوروبا». ذلك التعبير غير العلمي وغير الموضوعي، والذي يستخدم اليوم كفزاعة لاستجلاب أصوات الناخبين، وعند أوربان أن: «عدد المسلمين الذين يعيشون في أوروبا قد تكاثروا جداً، مما يجعل القيم الثقافية والدينية الأوروبية تتراجع، عطفاً على تراجع أعداد سكان أوروبا أصحاب الثقافة المسيحية، وبداية مسيرة لأسلمة المدن الأوروبية الكبرى».
ولعل نتيجة الانتخابات الأخيرة تؤكد أن الخطاب الشعبوي لأوربان سيما تأكيده على أن «بلده يتعرض لغز مهاجرين وأجانب يريدون أخذ المجر من شعبه» قد آتت أكلها.
المجر تضحى أكثر راديكالية
لا يقتصر المشهد على فوز أوربان، بل يتخطاه إلى الإشكالية الحقيقية التي تتمثل في أن سياسات وشعارات الرجل دفعت وتدفع لصعود الحركات اليمينية المتطرفة والرأي العام المتأثر بتدفق المهاجرين إلى البلاد، مما جعل المجر قلعة للأصولية اليمينية في قلب أوروبا، تلك التي كانت يوماً مثالاً للتنوير وحرية الرأي، وحقوق الآخر. والمؤكد أن المتابع لمجريات الأحداث السياسية وحركة الأحزاب والجماعات الناشطة في الداخل المجري، يدرك تمام الإدراك المردود السلبي لخطابات «أوربان» الكارهة للمهاجرين والمتخذة كمنصة انطلاق لتصعيد شعبوي ضد المسلمين بحجة أنهم مصدر الإرهاب، وكذا أنهم يمثلون الجبهة المناوئة لليبرالية الأوروبية التقليدية.
أما عن تلك الجماعات فإن حركة «قوة وعزم» المتطرفة تعد دليلاً عليها من خلال خطابها الذي يكاد يقارب خطابات الفاشية والنازية الأوروبية، والأكثر خطورة في المشهد أن المجر اليوم بدأت تضحى بؤرة جاذبة لهجرات أوروبية داخلية، فعلى سبيل المثال هناك مواطنون ألمان قد شدوا رحالهم إلى المجر كراهية في أنجيلا ميركل مستشارة ألمانيا، التي تفتح أبواب بلادها للمهاجرين، ليستقروا في المجر التي باتوا يعتبرونها أكثر أمناً وأماناً.
ومن أمثلة الأصوات الراديكالية الساعية في درب أوروبا يأتي «جيورجي شوبفلين» النائب المجري في البرلمان الأوروبي وعضو حزب فيديس، والذي يريد أن تصبح المجر مجتمعاً متعدد الثقافات، ويؤمن أن السياج الذي ضربته من حولها هدفه قطع الطريق على وجود مجتمع مسلم كبير في المجر، وهي الفكرة التي لا يقبلها حزب فيديس.
يخبر «أوربان» شعبه ونوابه، ومن خلال وسائل الإعلام التي يمتلكها بين أمرين: الديمقراطية التي يمكن أن تحول بلاده إلى جنة للمسلمين، وبين النموذج الحالي الذي يحاول الحفاظ على وحدة بلاده ودرء خطر الأجانب من المسلمين عنها.
والمقطوع به أن الخيار المتقدم زائف، لكنه في نهاية المطاف خيار يقود صفوف الناخبين لإعادة انتخاب أوربان من جديد.
مسلمو المجر ومعاناة واقعية
قبل نحو عام تحدث ستيفانوس ستافروس الأمين التنفيذي للجنة الأوروبية لمناهضة العنصرية والتعصب عن أحوال المجر الداخلية بالقول: «نحن قلقون جداً من خطاب الكراهية الذي يستهدف الفئات الضعيفة، إنه من الخطر استعمال عبارات الغجر واليهود والمثليين والمتحولين جنسياً، وغيرها للحديث عن المهاجرين» غير أن الرجل لم يتحدث عن أحوال ومآلات المسلمين في المجر وهؤلاء قسم كبير منهم يعود إلى أواخر القرن الرابع الهجري عندما هاجرت بعض القبائل البلغارية التي اعتنقت الإسلام إلى المجر، فيما أسلم نفر آخر عندما احتل العثمانيون المجر عام 1586، وكان في بودابست وحدها في عام 1687 نحو واحد وستون مسجداً واثنان وعشرون مصلى، وعشر مدارس إسلامية ولاحقاً ازدادت أعداد المسلمين هناك بعد حركة الهجرة من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أوائل سبعينات القرن المنصرم وحتى تيار الهجرة الأخرى.
لكن هؤلاء باتوا اليوم يعانون من التمييز العنصري ضدهم من قبل السلطات الرسمية، تلك التي تمنع بناء المساجد أو رفع الآذان، عطفاً على عدم السماح بارتداء النقاب أو البوركيني كما حدث في مدينة «اسوثالوم» القريبة من حدود صربياً». وفي تبريره لتلك الإجراءات يقول لازلوتورو زكاي، رئيس البلدية المتشدد: «إن القرار اتخذ بهدف الحفاظ على قيم المجتمع المسيحي وتقاليده في وجه أي استيطان خارجي حاشد»، والجدير بالذكر أن رئيس البلدية هو كذلك نائب رئيس حزب «يوبيك» اليميني المتشدد، الذي يشابه في تعصبه وكراهيته للأجانب وبخاصة المسلمين حزب «فيديس» الذي يتزعمه أوربان نفسه.
> لم يقف مسلمو المجر مكتوفي الأيدي أمام هذا الغبن، وقد عبرت عن شؤونهم «الجمعية الإسلامية المجرية» التي أنشئت عام 1990، وهي أبرز الجمعيات المسلمة في البلاد ويقدر عددها بنحو عدة آلاف جمعية.
مسلمو المجر رفعوا شكواهم إلى المحكمة الدستورية للبلاد للنظر في التمييز العنصري الواقع عليهم، وكذا وجهوا رسالة إلى أوربان نفسه، لكنهم لم يتلقوا رداً، كان ذلك قبل عام تقريباً، وعليه فإن على القارئ أن يستنتج كيف يمكن أن يرسم مستقبل المسلمين في المجر... خطوطه وقسماته المؤلمة؟
ومن بين الملامح المثيرة والمقلقة في الوقت ذاته التي استتبعت فوز «فيكتور أوربان وحزبه، تلك الأريحية وذلك الترحيب من قبل قوى أوروبية يمكن القطع بأنها تميل نحو اليمين المتطرف ميلاً كبيراً جداً، وكأنها تسعى إلى بناء جبهة يمينية أوروبية موحدة.
خذ إليك على سبيل المثال تصريحات وزير الداخلية الألماني الجديد هورست زيهوفر، الرجل الذي تحدث مؤخراً بالقول إن الإسلام لا يمثل جزءاً من ألمانيا، على العكس من تصريحات المستشارة أنجيلا ميركل التي تؤكد دوما على أن الإسلام والمسلمين جزء من السبيكة الديموغرافية لألمانيا عبر التاريخ المعاصر.
زيهوفر وفي اليوم التالي مباشرة لفوز «أوربان» رحب بانتصار الأخير، وحث الاتحاد الأوروبي على التخلي عما وصفه «بسياسة الغطرسة والتفضل تجاه ما أسماه «الدول الأصغر في التكتل».
بل أكثر من ذلك، إذ أشاد «زيهوفر» بنتائج الانتخابات المجرية.... أما لماذا يفعل وزير داخلية ألمانيا ما يفعل، فالجواب يسير للغاية وهو أن الرجل عضو في حزب الاتحاد الاجتماعي المسيحي المناصر القديم لأوربان.
ومن ألمانيا إلى بولندا التي تتعالى فيها وبقوة الأصوات الراديكالية اليمينية نجد نائب وزير الخارجية ومبعوث بولندا لدى الاتحاد الأوروبي «كونارد شومانسكي» يصرح بأن فوز أوربان في الانتخابات إقرار بسياسة تحرر وسط أوروبا، وإن كان ذلك لا يعني استهداف أو محاربه أي شخص، وإن لم يقل لنا تحرر من قبل من ولماذا الآن؟
هل الاتحاد الأوروبي في خطر؟
السؤال الذي يراود أذهان الكثيرين في أوروبا اليوم: «هل فوز أوربان والتضامن الأوروبي اليميني معه يضع الاتحاد الأوروبي في منطقة الخطر، خوفاً من التفكك والتفسخ؟
يلاحظ أنه رغم خلافات أوربان مع بروكسل في شأن مسألة الهجرة وقبول المهاجرين، فإنه لم يهدد يوماً بالانسحاب من الاتحاد والمجر من الدول الرئيسية التي تستفيد من الأموال الأوروبية، تلك التي ساهمت في إنعاش الاقتصاد بعد الأزمة التي شهدتها البلاد في نهاية سنوات العقد الأول من القرن الحالي.
لكن وعلى الرغم من ذلك فإن فوز «أوربان - فيديس» يجعل التمدد الشعبوي لمعسكر الأحزاب المناهضة للاتحاد الأوروبي في أفضل أحوالها، مع تجمع المزيد من المكتسبات، وتحقيق انتصارات في انتخابات برلمانية كما الحال في ألمانيا والنمسا، إيطاليا والتشيك، وفي مقابل إخفاق الأحزاب التقليدية، مما يجعل الأصولية اليمينية هي الغيوم الحقيقية التي تخيم على سماوات أوروبا في الحال وتتهددها في الاستقبال.
المجر مربع جديد لتيار أصولية العداء للآخر
تحولت معقلاً لليمين الأوروبي المتطرف بقيادة أوربان
المجر مربع جديد لتيار أصولية العداء للآخر
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة