عجمي.. فقدنا مثقفا

عجمي.. فقدنا مثقفا
TT

عجمي.. فقدنا مثقفا

عجمي.. فقدنا مثقفا

لم أكن أخالني سأكتب يوما رثاء في أحد أكثر العقول العربية اتقادا، واطلاعا، وموسوعية. في مطلع شبابي، كنت متحمسا وعقائديا وأرى في الرأي الآخر خيانة. فيما بعد، غصت في عقل الرجل، واستمتعت بأسلوبه، وعلّقت على كتبه ومقالاته سلبا وإيجابا، فجاءتني تعليقاته على تعليقاتي، فأخجلتني لطافته وأسعدتني متابعاته.
أول من أمس رحل فؤاد عجمي، أحد الأكاديميين الأميركيين من أصل عربي ممن شغلت آراؤهم المشهد الثقافي والسياسي على مدى العقود القليلة الماضية هنا في العاصمة الأميركية كما في عواصم العالم.
وعجمي من مواليد قرية أرنون الجنوبية اللبنانية، انتقلت عائلته الميسورة إلى بيروت في العام 1949 وهو ابن أربع سنوات، ودرس في مدارسها وأقام فيها حتى إتمامه الثانوية العامة في العام 1963؛ حيث انتقل إلى الولايات المتحدة ونال شهادة الدكتوراه.
ومنذ مطلع الثمانينات، ألف عجمي أكثر من عشرة كتب، جاءت باكورتها في العام 1981 بعنوان «مأزق العرب»، وتناول فيه «الفكر السياسي العربي بعد العام 1967». وفي العام 1986 أصدر عجمي كتاب «الإمام المختفي» الذي عرض فيه سيرة حياة رجل الدين الإيراني اللبناني موسى الصدر، الذي اختفى في العام 1978 في ظروف غامضة.
وفي العام 1998 أصدر عجمي كتابا شيقا آخر حمل عنوان «قصر أحلام العرب». أما آخر كتبه فصدر في العام 2012 وحمل عنوان «الثورة السورية».
وكتب عجمي الصادرة على مدى أربعة عقود تظهر تطورا فكريا رافق الأحداث وواكبها، فهو في مطلع شبابه كان ناصري الهوى مؤيدا للزعيم المصري الراحل جمال عبد الناصر ولشعاراته عن العروبة والوحدة العربية. لكن يبدو أن عجمي شعر فيما بعد أن ضحايا العروبة ناهزوا ضحايا الإمبريالية، خصوصا مع تصاعد المواجهة في جنوب لبنان بين «حركة أمل» (التنظيم الذي أسسه الصدر)، والفصائل الفلسطينية المسلحة التي حولت الجنوب إلى ما عرف بـ«فتح لاند».
ومع مطلع التسعينات واجتياح صدام حسين الكويت، كان عجمي من أكبر مؤيدي الحرب الأميركية التي حررتها؛ مما متن علاقاته بإدارة الرئيس السابق جورج بوش الأب.
ويبدو أن الأحداث المتوالية أقنعت عجمي أن «مأزق العرب» ليس في الإمبريالية فحسب، بل في تشرذم وضعهم وضعضعة مجتمعاتهم والمشكلات التي تشوبها، وهو موقف وضعه فورا في مواجهة كبيرة مع عرب أميركيين آخرين، تصدرهم الفلسطيني الأميركي إدوار سعيد.
على أن عجمي لم يكن وحيدا بين المثقفين الذين رفضوا إلقاء اللوم في الأزمات العربية على أميركا أو الغرب وحده وآثروا «نقد الذات»، فمن هؤلاء، على سبيل المثال لا الحصر، الأكاديمي السوري الكبير صادق جلال العظم، الذي ساجل سعيد كذلك، وخصوصا في مبدأ «الاستشراق». واعتبر العظم أن قول سعيد إن الغربيين ينظرون إلى العرب في كتاباتهم من دون تمييز، فيه نفس المشكلة التي تنظر إلى الغربيين بعين واحدة كذلك.
لكن العظم لم يتعرض لانتقادات العرب الأميركيين أو «اليساريين»، العرب كما الأميركيين، لمواقفه الداعية دوما، مثل عجمي، إلى نقد الذات قبل الإمبريالية. ربما لأن العظم نفسه يبدو يساريا، وأحيانا عروبيا، في كتاباته، فيما كان عجمي يتمتع بصداقات واسعة، خصوصا مع التيار الأميركي اليميني والمتمركز في الحزب الجمهوري.
وكان لعجمي علاقات وطيدة مع إدارة الرئيس جورج بوش الابن، الذي كان يستقبل عجمي بشكل متواصل في البيت الأبيض، وظل على علاقة شخصية معه حتى بعد خروجه من الحكم، فكان بوش يرسل لعجمي بطاقات المعايدة الشخصية بشكل دوري. وفي إدارة أوباما أيضا، كان لعجمي علاقات وطيدة بنائب الرئيس ديك تشيني، ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، ومساعد وزير الدفاع.
هكذا، كان من الطبيعي أن تتكئ إدارة أوباما إلى أفكار عجمي وأقواله ومقالاته أثناء حملتها لإقناع الرأي العام الأميركي بضرورة الذهاب إلى الحرب في العراق. وهكذا كان عجمي بطلا، في حرب العراق الثانية كما في الأولى، مدافعا عن ضرورة الحرب من أجل المصالح الأميركية، ومن أجل نشر الديمقراطية، وتحرير الشعب العراقي من نير الاستبداد الذي كان يعيش في ظله.
ومع أن عجمي تعرض لحملات انتقاد كبيرة لمساندته حرب العراق، إلا أنه وجد نفسه فيما بعد صديقا لكثير من منتقديه أنفسهم الذين راحوا يطالبون الإدارة الأميركية بشن ضربة عسكرية ضد أهداف لقوات الرئيس السوري بشار الأسد.
على أن الحزبية الأميركية سيطرت على مواقف عجمي، وهو ثابر في مهاجمة الرئيس باراك أوباما منذ ما قبل انتخابه رئيسا في العام 2008 وحتى المقالة الأخيرة التي كتبها في صحيفة «وال ستريت جورنال» في الثالث عشر من الشهر الحالي، أي بعد ثلاثة أيام على أحداث الموصل العراقية، ووجه فيها أصابع اللوم إلى أوباما ورئيس حكومة العراق نوري المالكي، معتبرا أن عدم متابعة الأول لسياسة بوش، وسحبه القوات الأميركية من العراق من دون الإبقاء على قوة صغيرة، مترافقا مع الممارسات الديكتاتورية للمالكي، هو الذي أطاح بالإنجازات التي تعبت إدارة بوش من أجل التوصل إليها لتثبيت الوضع الأمني في العراق مع حلول العام 2009.
وفي مقالة سابقة في الصحيفة نفسها، حمل عجمي مسؤولية التخبط الأميركي في سوريا لإدارة أوباما، وكتب أنه حتى قبل اندلاع الثورة في سوريا في مارس (آذار) 2011، كان أوباما مصرا على الانفتاح على بشار الأسد وكسر العزلة الدولية التي كانت مفروضة عليه.
يومذاك، ردا على مقالته، كتبت أن سياسة الانفتاح على سوريا كانت بدأت في الواقع أثناء إدارة الرئيس جورج بوش عندما دعت وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس في صيف العام 2007 نظام الأسد للمشاركة في مؤتمر أنابوليس للسلام العربي الإسرائيلي. وكانت رايس هي التي قدمت سياسة مفادها أن على النظام السوري «تغيير تصرفاته»، وهو ما كان بمثابة التراجع عن سياسات بوش أثناء السنوات الأولى لحكمه التي كانت تطلب ديمقراطية كاملة من الأسد أو إمكانية الإطاحة به.
يومذاك، خشيت أن تثير المساجلة مع عجمي انزعاجه، ولكنني عندما سمعت قوله لي عن طريق أصدقاء إنه «سعيد أن الجيل القادم يناقش الأفكار بدلا من أن يتبناها بعقائدية أو حزبية».
ذلك كان فؤاد عجمي، مثقفا، مستنيرا، أثار النقاش، فأرضى البعض وأزعج البعض الآخر، ولكن، إن لم يكن دور المثقف إثارة النقاشات والمشاركة في صناعة الرأي، فما هو دوره؟



إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
TT

إيران في ربع قرن... صراع «الثورة» والدولة

امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)
امرأة إيرانية تمشي أمام لوحة جدارية على حائط السفارة الأميركية السابقة في طهران (أ.ف.ب)

عاشت إيران على مدى 25 عاماً صراعاً داخلياً مريراً بين البعد الآيديولوجي «الثوري» والنظرة الاستراتيجية الساعية لحماية الدولة ومصالحها في عالم متغير.

ورغم الآمال بتحولات جذرية، اصطدمت محاولات الإصلاح بمقاومة مراكز القوى التقليدية، مما حال دون حسم التناقض بين مبادئ «الثورة» ومتطلبات المصالح القومية بشكل جذري، أو تحقيق توافق مستدام بين هذين النهجين المتعارضين.

منذ عام 2000، شهدت إيران تداول السلطة بين خمسة رؤساء للجمهورية بصلاحيات محدودة، وتعاقب خمسة برلمانات تأثرت بالتيارين الرئيسيين «الإصلاحي» و«المحافظ»، في ظل جدل مستمر حول طبيعة الحكم، اتجاهاته، وأولوياته.

ومع دخول إيران منتصف العقد الرابع من عمر ثورة 1979، لا تزال صلاحيات الجهازين المنتخبين، التشريعي (البرلمان) والتنفيذي (الحكومة)، خاضعة بالكامل لهيمنة مراكز صنع القرار، على رأسها مؤسسة المرشد علي خامنئي الذي يتمتع بصلاحيات شبه مطلقة تجعله فوق جميع مؤسسات الدولة.

في المقابل، توسع دور المؤسسات العسكرية والسياسية مثل «الحرس الثوري» و«مجلس صيانة الدستور» اللذين يحملان على عاتقهما حماية المبادئ الآيديولوجية لنظام الحكم، المستند إلى دستور يقوم على مبدأ «ولاية الفقيه» الركيزة الثابتة في موازين القوى الداخلية. هذه المؤسسات تشكل أدوات أساسية في الحفاظ على هوية «الجمهورية الإسلامية» وتعزيز نهجها المعادي للغرب.

بعد نحو 45 عاماً من «الثورة الإسلامية» في إيران لم يحسم التناقض بين مبادئها والمصالح القومية (غيتي)

خاتمي وتحول الصراع

تزامنت بداية الألفية الجديدة في إيران مع مرحلة حاسمة من عهد الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي، تحديداً الفترة الأخيرة من رئاسته (1997 - 2005). اتسمت هذه المرحلة بتصاعد المواجهة بين الإصلاحيين والمحافظين، إذ عمل التيار المحافظ على عرقلة الشعارات الإصلاحية التي رفعها خاتمي، خصوصاً في مجالي الحريات المدنية وحرية التعبير.

ولعبت المؤسسات غير المنتخبة التي تخضع لإشراف مباشر من المرشد علي خامنئي، مثل «مجلس صيانة الدستور» والقضاء، دوراً حاسماً في تعطيل الإجراءات الإصلاحية، مما جعل الإصلاحيين يواجهون تحديات متزايدة في تحقيق أجندتهم السياسية والاجتماعية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية. عدَّ خاتمي أن الإصلاحات ضرورة استراتيجية لضمان استمرارية نظام الحكم وتكيّفه مع المتغيرات الداخلية والخارجية، بينما رأى منتقدوه في طروحاته تدخلاً خطيراً يهدد أسس نظام «ولاية الفقيه».

عملت طهران على تحسين علاقاتها مع الغرب وتعزيز الهوية الوطنية من خلال مبادرات مثل «حوار الحضارات»، إلا أن هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001 والغزو الأميركي للعراق عام 2003 شكّلا ضربة لهذا التوجه. ومع سقوط نظام صدام حسين، وجدت إيران فرصة لتوسيع نفوذها الآيديولوجي في العراق عبر دعم جماعات مرتبطة بها كانت قد نشأت وتشكّلت داخل أراضيها.

ساهم الملف النووي في تقويض مبادرة «حوار الحضارات» لخاتمي، وزيّف محاولات بناء الثقة مع الغرب، مما زاد من عزلة إيران والتوترات الإقليمية والدولية.

لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في البرنامج النووي وحروب المنطقة (موقع خامنئي)

«الحرس» والدور الإقليمي

كما لعب «الحرس الثوري» دوراً أساسياً في قضايا البرنامج النووي، والتطورات الداخلية، وحروب أفغانستان والعراق في نهاية عهد خاتمي.

في أفغانستان، دعم «الحرس الثوري»، الولايات المتحدة، في إطاحة حركة «طالبان». أما في العراق، فقد قاد «فيلق القدس» جماعات عراقية مسلحة لتعزيز النفوذ الإيراني الذي استمر لسنوات. كما توسعت أنشطة الفيلق بقيادة الجنرال قاسم سليماني في لبنان، مما أسهم في إنشاء شبكة عمل موازية للدبلوماسية الإيرانية في السياسة الإقليمية.

تعزيز الحضور العسكري الأميركي في المنطقة دفع إيران إلى الشعور بالتهديد، مما أدى إلى توسيع برامجها الأمنية والاستراتيجية، على رأسها البرنامج النووي وتطوير الصواريخ الباليستية.

وفي عام 2002، أثار اكتشاف منشآت نووية سرية شكوك المجتمع الدولي حول نيّات البرنامج الإيراني، بما في ذلك احتمال إنتاج أسلحة نووية. ومع تصاعد التوترات، تحولت أولويات الغرب مع طهران إلى لجم أنشطتها النووية.

كما هدد المسؤولون الأميركيون، خصوصاً خلال فترة حكم جورج بوش، مراراً باستخدام الخيار العسكري إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية.

شهدت فترة خاتمي تحولاً بارزاً في الصراع بين أنصار الآيديولوجية الثورية ودعاة المصالح الاستراتيجية

«النووي» ملفاً للجدل الداخلي

مُذّاك، أثار الملف النووي جدلاً داخلياً في إيران حول الأولويات الوطنية، إذ سعى الإصلاحيون للحفاظ على العلاقات الدولية وتقليل التوتر، بينما دفع المحافظون نحو التشبث بالمبادئ الآيديولوجية.

في 2003، أعلنت طهران وقف تخصيب اليورانيوم «طواعية» كجزء من اتفاق «سعد آباد» مع الترويكا الأوروبية، مع تعهد بعدم إحالة الملف إلى مجلس الأمن، وإقامة علاقات اقتصادية مع أوروبا. في العام نفسه، بدأت إيران الترويج لفتوى المرشد علي خامنئي التي تحرم إنتاج السلاح النووي أو تخزينه أو استخدامه، مما أصبح أساس الموقف الإيراني الدولي حول البرنامج النووي.

لكن الولايات المتحدة المتشككة في نيّات طهران، عدّت الاتفاق غير كافٍ، واتهمت إيران بتوسيع برنامجها النووي، ما دفعها لفرض عقوبات اقتصادية على البنوك الإيرانية وقطاع الطاقة.

ولاحقاً أحالت ملف إيران إلى مجلس الأمن في خطوة لاقت مساندة دولية. حدث ذلك في بداية عهد الرئيس محمود أحمدي نجاد، مما دفع إيران لتبني سياسة هجومية تجاه القوى الغربية.

لم تعلن إيران رسمياً امتلاكها برنامجاً لتطوير السلاح النووي. ونشرت الاستخبارات الأميركية في 2007 تقريراً يفيد بأن إيران أوقفت برنامجاً لتطوير السلاح النووي في 2003، وساهم التقرير في تعديل الموقف الأميركي.

خلال ثماني سنوات من رئاسة محمود أحمدي نجاد، تصاعد التوتر مع الغرب بسبب البرنامج النووي الإيراني الذي ارتفع تخصيب اليورانيوم فيه إلى 20 في المائة. وأصر أحمدي نجاد على حق إيران في استخدام التكنولوجيا النووية سلمياً. رداً على ذلك، فرضت عقوبات مشددة على إيران استهدفت برنامجها النووي، ومبيعات النفط، والاقتصاد، ووُضعت تحت الفصل السابع.

عززت إيران نفوذها في الشرق الأوسط فازداد التوتر مع قوى إقليمية (أ.ب)

إيران وفرصة «الربيع»

على صعيد العلاقات الخارجية، سعت إيران لتعزيز علاقاتها مع الدول العربية والأفريقية وأميركا اللاتينية، ودعمت جماعات مسلحة مثل «حزب الله» و«حماس».

مع اندلاع ثورات «الربيع العربي»، سعت إيران لتعزيز نفوذها في الشرق الأوسط، خصوصاً في العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما زاد التوترات مع القوى الإقليمية والدول العربية. وكان دعم نظام بشار الأسد في سوريا من أولويات حكومة أحمدي نجاد، قبل تسليم السلطة لحسن روحاني.

داخلياً، شهدت إيران أزمة كبيرة بعد فوز أحمدي نجاد في انتخابات 2009، ما أدى إلى احتجاجات «الحركة الخضراء» إثر رفض نتائج الانتخابات التي جرت بين أحمدي نجاد والمرشحين الإصلاحيين مير حسين موسوي ومهدي كروبي.

بعد انتهاء فترة رئاسة أحمدي نجاد، سعت إيران إلى تهدئة التوترات مع الغرب، ودخلت في مفاوضات نووية بهدف إدارة هذه التوترات مع القوى الكبرى. استمرت المفاوضات لعامين، وأسفرت عن اتفاق نووي في 2015 (خطة العمل الشاملة المشتركة) الذي أدى إلى تجميد العقوبات الأممية المفروضة على إيران وفرض قيود على برنامجها النووي.

لعب المرشد الإيراني دوراً محورياً في المفاوضات، إذ مهّد لذلك بمفاوضات سرية خرجت للعلن بإعلان «المرونة البطولية». ووضع خامنئي خطوطاً حمراء تتضمن الحفاظ على حق إيران في تخصيب اليورانيوم، ورفع العقوبات الاقتصادية، ورفض دخول المفتشين الدوليين إلى المنشآت العسكرية.

دعم خامنئي بحذر فريق الرئيس حسن روحاني في المفاوضات النووية، رغم الضغوط من التيارات المحافظة، من دون أن يتحمل المسؤولية المباشرة عن النتائج. كانت المفاوضات توازناً بين الآيديولوجيا والمصالح الاستراتيجية، إذ سعت إيران للحفاظ على شعاراتها «الثورية»، وفي الوقت نفسه التعامل مع المتغيرات الدولية، ومواجهة التحديات الاقتصادية والأمنية، وتمويل أنشطتها الإقليمية، وضمان استمرارها لاعباً رئيسياً في الشرق الأوسط.

استمر «الحرس الثوري» الإيراني في تعزيز نفوذ إيران في المنطقة، لا سيما في سوريا والعراق، وتوسعت أنشطته في دعم الجماعات التي تدعمها إيران وتعزيز وجودها العسكري هناك. كما وسّع أنشطته الصاروخية. وفي الوقت نفسه، هدد المرشد الإيراني بطرد القوات الأميركية من المنطقة. هذه الأنشطة أثارت قلق الإدارة الأميركية، ما دفع الرئيس دونالد ترمب إلى الانسحاب من الاتفاق النووي.

خامنئي خلال لقائه قدامى المحاربين في أثناء الحرب العراقية - الإيرانية (إ.ب.أ)

«الصبر» لمواجهة «الضغوط»

وفي مواجهة «الضغوط القصوى» التي مارستها إدارة ترمب، بما في ذلك منع إيران من مبيعات النفط، تمسكت طهران أكثر بسياسات «السير على حافة الهاوية» و«الصبر الاستراتيجي». كما شهدت المياه الإقليمية توترات بسبب احتجاز ناقلات نفط من قبل «الحرس الثوري» بعدما هددت طهران بعرقلة خطوط النفط. وقرر ترمب تصنيف «الحرس الثوري» على قائمة الإرهاب.

جاء مقتل قاسم سليماني بأمر من ترمب في لحظة مفصلية من تفاقم التوترات بين الولايات المتحدة وإيران، مما قرب البلدين من حافة الانزلاق إلى حرب مباشرة.

في تسجيل مسرب عام 2021، دعا وزير الخارجية الإيراني الأسبق، محمد جواد ظريف، إلى تحقيق توازن بين السياسة الخارجية و«الميدان»، مشيراً إلى تأثير «فيلق القدس» الذراع الخارجية لـ«الحرس الثوري». وكشف عن انقسام داخلي بين التيار الآيديولوجي والبراغماتي، إذ سعى الأخير لتحقيق مصالح مثل رفع العقوبات. دافع ظريف عن قناعته بأن العمل الدبلوماسي يعتمد على الواقع الميداني، والعكس صحيح، إذ يمكن للدبلوماسية أن تمنح «شرعية دولية» للإنجازات الميدانية.

مع مجيء الرئيس الأميركي جو بايدن، استخدم المرشد الإيراني نفوذه لدعم «الحرس الثوري»، وأبدى مرونة محدودة لإدارة التوترات عبر المفاوضات النووية. حاول بايدن العودة للاتفاق النووي مع طهران، لكن الإجراءات النووية غير المسبوقة التي اتخذها الجانب الإيراني وتولي حكومة محافظة بقيادة الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي، ودخول روسيا في حرب مع أوكرانيا، عرقلت المسار الدبلوماسي إلى حد كبير.

قاسم سليماني (تسنيم)

رئيسي و«الحكومة الثورية»

مع تولي رئيسي، تمسكت طهران بالإبقاء على المسار الدبلوماسي لطاولة المفاوضات مع الغرب، من دون أن تعبر المفاوضات خط النهاية.

فسرت مرحلة رئيسي في البداية بأنها امتثال لمقاربة طرحها المرشد الإيراني بشأن تولي «حكومة ثورية» في بداية العقد الرابع من نظام الحكم، وتوحيد توجهات أركان الدولة، وحصرها بيد المحافظين، بعدما واصل هيمنته على البرلمان.

حملت حكومة إبراهيم رئيسي نقاط تشابه كبيرة مع حكومة محمود أحمدي نجاد؛ فمن جهة عادت طهران لمساعي التقارب مع القوى الإقليمية، ومن جهة أخرى راهنت على الالتفاف على العقوبات وإبطال مفعولها. وسرعت خطواتها النووية، اعتماداً على قانون أقره البرلمان في نهاية 2020، بدعم كبير من المرشد.

شهد عام 2024 تطورات غير متوقعة في إيران، إذ أدى تحطم مروحية الرئيس إبراهيم رئيسي إلى انتخابات رئاسية مبكرة فاز فيها النائب مسعود بزشيكان. تعهد الرئيس المدعوم من الإصلاحيين بمواصلة سياسة «التوجه نحو الشرق» وتعزيز العلاقات مع الصين وروسيا، إضافة إلى السعي لرفع العقوبات عبر العودة للمفاوضات النووية.

إقليمياً، تحولت طهران من «حرب الظل» مع إسرائيل إلى ضربات مباشرة، بينما تعرضت لانتكاسات استراتيجية مهمة، أبرزها سقوط نظام بشار الأسد وتراجع دور «حزب الله» و«حماس». ومن شأن هذه التطورات أن تضعف دور «الحرس الثوري» الإقليمي، لكنها قد تنذر بانتقاله لمحاولة تعويض ذلك في مناطق أخرى، بما في ذلك الداخل الإيراني.

بزشكيان ومصالحة داخلية

تأتي رئاسة بزشكيان التي ينظر إليها على أنها محاولة للمصالحة الداخلية في إيران، في فترة حساسة مع ترقب الإيرانيين لملف خلافة المرشد. من غير المتوقع أن تحدث تغييرات جذرية في العلاقات مع الغرب، ويُحتمل أن يحصل بزشكيان على صلاحيات محدودة في المفاوضات النووية.

شدد بزشكيان بعد فوز ترمب بالانتخابات الرئاسية على ضرورة إدارة العلاقة والمواجهة مع الولايات المتحدة من قبل الإيرانيين أنفسهم. قال بزشكيان إن نهج حكومته سيكون في إطار استراتيجية نظام الحكم وتوجهاته الشاملة.

من المرجح أن يحصل بزشكيان على دعم خامنئي والتيار «الثوري» للتوصل إلى تسوية تهدف إلى تخفيف الضغوط على إيران. ومع ذلك، فإن هذا السيناريو لا يعني بالضرورة الابتعاد عن حافة الهاوية، بل يعكس توجهاً لتوسيع هامش المناورة في مواجهة التوترات مع الغرب. ومن المتوقع أن تستمر إيران في هذا النهج على المدى القريب، على الأقل حتى تتضح ملامح هوية المرشد الإيراني الثالث.