ليبيا... بوادر العودة إلى «نقطة الصفر»

بين حراك فريقي حفتر و«الإخوان» ومحاولات السراج اختبار الواقع الجديد

ليبيا... بوادر العودة إلى «نقطة الصفر»
TT

ليبيا... بوادر العودة إلى «نقطة الصفر»

ليبيا... بوادر العودة إلى «نقطة الصفر»

طوال الرحلة إلى القاهرة؛ أي لمدة أكثر من سبع ساعات بالسيارة، لم يتوقف رنين الهواتف لتقصي الأحوال الصحية لقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، البالغ من العمر 75 عاماً. لم يكن الأمر يتعلق بقلق داخل أوساط سياسية وعسكرية من غياب المشير، لكن من احتمالات نزاع قبلي حول بنغازي في الشرق، وعودة الاقتتال بين ميليشيات حول طرابلس في الغرب.
فخلال الأيام القليلة الماضية وصل إلى العاصمة المصرية ضباط ليبيون وقادة مدنيون، عبر الحدود البرية، وعبر رحلات جوية أيضاً، وانشغل الجميع بحثاً عن خطط عملية لإنهاء فوضى تضرب بلادهم منذ إطاحة معمر القذافي في 2011. ومن الألفاظ المستخدمة لدى جلهم، تدرك كم هي مختلفة عن لغة المبعوث الأممي الدكتور غسان سلامة، الذي يتحدث عن إجراء انتخابات.

يقول محمد العبَّاني، رئيس المؤتمر الوطني العام الجامع «الليبي - الليبي»، بعد أن جاء من تونس إلى مصر بالطائرة «ما معني أن يطلب (سلامة) انتخابات في ظل انفلات أمني، وفي ظل انقسامات. من هو الليبي الذي سيأتي لكي ينتخب؟ وأين سينتخب؟ وأي مدينة هذه التي سيقيم فيها مثل هذه الانتخابات؟».
لا يظهر أن المشكلة في ليبيا - كما يحاول البعض أن يصورها - تخص استمرار حفتر أو اختفاءه من المشهد لأي سبب. فكل إنسان في النهاية عُرضة للمرض والغياب... الأمر يتعلق بما هو أعمق، ومنها أن جماعة «الإخوان» حققت في طرابلس تقدماً مثيراً، وذلك بترؤسها منذ أيام عدة واحداً من مخرجات اتفاق الصخيرات المدعوم دولياً، وهو المجلس الأعلى للدولة. وقد تعجَّلَ بعض زعماء الجماعة، المنتشين بالنصر، باستغلال مجلس الدولة لإعادة الحياة لمجموعات معادية لقوات يعتمد عليها رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج في طرابلس، ومعادية للجيش الذي يقوده حفتر، ولدول بالجوار. وعلى رأس هذه المجموعات «مجلس شورى» مدينة درنة، التي يحاصرها الجيش في الشرق، و«مجلس شورى بنغازي»، المصنف منظمةً إرهابيةً. إضافة إلى «عملية إخوانية محمومة» لجمع معلومات عن أجهزة رئيسية يعتمد عليها السراج.
وبدأت الجماعة في الضغط سريعاً للإفراج عن قادة المتطرفين داخل سجون طرابلس ومصراتة، وصبراتة والزاوية، وفقاً لمصادر أمنية ليبية، مشيرة إلى أن من بينهم جنسيات مصرية وتونسية وجزائرية، وغيرها.
يقول ضابط كبير من نظام معمر القذافي، بعد أن عبر الحدود، إن تعبير «بوادر العودة إلى نقطة الصفر»، المستخدم هذه الأيام في بلاده يشير إلى أحداث صيف عام 2014، حينما احتدمت الحرب وقتذاك بين ميليشيات جهوية ومذهبية بقيادة «الإخوان» من جانب، والتيار المدني الذي فاز بالأغلبية في انتخابات برلمان تلك السنة، من جانب آخر، ونتج منها منع البرلمان من عقد جلساته في العاصمة، وكذا وقوع انقسامات كبيرة داخل مؤسسات الجيش والشرطة، والمصارف والنفط.
وخلال السنوات الأربع الأخيرة عملت الأمم المتحدة ودول الجوار، وعلى رأسها مصر وتونس والجزائر من أجل إنهاء خلافات الأفرقاء الليبيين. وحتى أسابيع قليلة مضت، كادت هذه الجهود أن تكلل بالنجاح، وبخاصة بعد تفاهمات مهمة جرت في القاهرة لتوحيد المؤسسة العسكرية، وأخرى تمت بين قادة سياسيين وقبليين شهدتها العاصمة التونسية، إلا أن الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن، كما يقال.
فبالإضافة للقلق من غياب حفتر لأسباب صحية، ظهرت مشكلة أخرى لم تكن في الحسبان. إذ خرج من على خشبة المسرح، أحد اللاعبين الرئيسيين، وهو الدكتور عبد الرحمن السويحلي، رئيس المجلس الأعلى للدولة. وحدث كل هذا مرة واحدة وفي وقت متسارع.
ويوصف السويحلي بأنه رجل معتدل، وحفيد لأحد رموز مدينة مصراتة التاريخيين. وقد بدأ يرسل في الشهور الأخيرة رسائل إيجابية تجاه الجهود المصرية والتونسية لتوحيد الجيش والمصالحة. كما أنه يتمتع بكلمة مسموعة في أوساط ضباط أقوياء بمدينة مصراتة. وفي هذا السياق، يقول أحد مساعديه، إن خسارته المجلس الرئاسي «بمثابة عرقلة لترتيبات تخص التقارب داخل الجيش، والتسوية بين حفتر في الشرق، ورئيس المجلس الرئاسي في الغرب».
وفي الانتخابات الداخلية على رئاسة مجلس الدولة، التي جرت قبل أيام، تمكنت جماعة «الإخوان» من الهيمنة على المجلس. وحققت الفوز لقائدها خالد المشري، المعروف بتشدده وخصومته للسلطات المصرية، ناهيك عن رفضه حفتر وميليشيات طرابلس الموالية للسراج.
ويجري في الوقت الراهن تصعيد مكتوم داخل فريقي حفتر، وجماعة «الإخوان»، بينما يبدو السراج كمن يبحث عن مخرج، وهو يدير دفة الأمور من العاصمة، في ظل وجود نواب للسراج محسوبين على الجماعات المتطرفة. يقول مستشار للسراج بهذا الخصوص «كانت مراجعات السويحلي لأعمال السراج كرئيس للسلطة التنفيذية غير مريحة له، والآن سيضطر السراج للتعامل مع (الإخوان) وطموحاتهم العابرة للحدود. وهذا غير مريح للجميع... هذه مشكلة. لقد بدأوا في تمهيد الأرض لأنفسهم بالفعل».
وفي خضم هذه التطورات العاصفة، جرى الترويج على نطاق واسع لأنباء تتحدث عن دخول حفتر في حالة صحية حرجة. وأشاعت منصات إعلامية محسوبة على جماعة الإخوان وتيارات متطرفة، ما قالت: إنه صراع داخل الجيش حول من يخلف حفتر، وذهبت إلى بث روح التنافس بين قبيلة الفرجان التي ينتمي إليها قائد الجيش، وقبيلة العواقير التي لعب أبناؤها دوراً كبيراً في طرد الميليشيات المتشددة من بنغازي.
لكن الدكتور محمد زبيدة، القيادي في مؤتمر القبائل، يقول إن الظروف التي تمر بها البلاد «لا تتحمل بطبيعة الحال ترف أي خلاف قبلي حول المناصب العسكرية... أعتقد أن هذا أمر غير موجود... وعلى العموم فحفتر ليس في حالة مَرَضِية خطيرة تستدعي كل هذه التخمينات».
ويتحرك معظم قادة الجيش الكبار، المحسوبين على نظام القذافي، بعيداً عن الأضواء، بمن في ذلك من اشتركوا في قيادة عمليات حربية مع حفتر لهزيمة الجماعات المتطرفة، ولكسب الأرض في الشرق وبعض مناطق الوسط والجنوب.
وفي استراحته بضواحي القاهرة، وافق أحد هؤلاء على الحديث بشأن مستقبل الجيش في حال غياب حفتر، دون أن يتم ذكر اسمه في القصة لأسباب أمنية وقبلية.
يقول الرجل، الذي يعد من القيادات العسكرية التي تتواصل مع أطراف من عموم ليبيا، بمن فيهم حفتر «أنت تتحدث عن عسكريين... وعن جيش عريق. وفي هذا السياق، هناك دائماً قيادات بديلة، حتى في الحرب... فعندما يسقط أحد القادة، هناك بدائل. والمؤسسة العسكرية قادرة على إفراز قيادات جديدة. أعتقد أن المشكلة ليست في الشرق، لكن في الغرب، وبخاصة بعد عودة (الإخوان) للواجهة».
ومثل كثير من قادة النظام السابق، يتحدث هذا الضابط، ذو الرتبة الكبيرة، بفخر حين يتعلق الأمر بالقوات المسلحة، ويقول على سبيل المثال «لقد تعرض الجيش للضرب بقوة (في 2011)، ونتج من ذلك تمزيق البنية التحتية، وفي المعسكرات، وفي سلاحي الدبابات والمدفعية، وسلاح البحرية. لكن تظل هناك قيادات عسكرية غير هيّنة، شاركت (فيما مضى) في حروب في أفريقيا، وفي مواجهات مع حلف الأطلسي عام 1986، واصطدمت بالبحرية الأميركية لعشر سنوات في خليج سرت. ودخلت في مواجهة مع حلف الناتو لمدة ثمانية شهور في 2011».
كما يتهم هذا الضابط «الإخوان» بالمشاركة في تفتيت ما تبقى من الجيش بعد مقتل القذافي، قائلاً، إنهم قاموا وقتها بتصعيد نجم عسكريين متقاعدين أو مفصولين من الخدمة لتولي مناصب قيادية، وطرد الضباط غير الموالين لهم. ويضيف: إن «الجماعة عادت من جديد هذه الأيام، من خلال نافذة مجلس الدولة. وهذه مشكلة كبيرة لحفتر والسراج، ولليبيين عموماً»، مشيراً إلى أن «جماعات متطرفة مرتبطة بـ(الإخوان) في ليبيا تسعى لاستغلال الموقف، والانتقام من القوات التي انخرطت في الحرب على الإرهاب من الشرق والغرب».
وبخصوص ما يمكن أن يحدث إذا ما اختفى حفتر من المشهد لأي سبب، يقول هذا الضابط «توجد قيادات عسكرية لديها خبرة تمتد لسنوات طويلة، ولدينا أقدميات في الجيش تحظى باحترام كبير». قبل أن يضيف موضحاً «لقد كانت هناك مشاورات لأشهر لتأسيس مجلس عسكري، يضم بعض هذه القيادات، لا يمكن ذكر أسمائهم الآن لأسباب أمنية. هذا المجلس سوف يقود هذه المرحلة، إلى أن يتكامل مع باقي القيادات العسكرية الأخرى في الغرب والجنوب، والوسط، من كل المؤسسة العسكرية، دون أي حساسية، لأن هؤلاء منتظمين في رتب وأقدميات».
ومن خلال حديث بعض كبار قادة النظام السابق ممن يؤيدون المشير حفتر، يستطيع المرء أن يشعر بأنهم غير مطمئنين بشكل كامل لبعض المتشددين في ولائهم للجنرال، الذي بدأ حياته العسكرية مع بزوغ نجم القذافي، بغض النظر عن كونه انضم لمعارضيه في ثمانينات القرن الماضي، ثم اشترك في الانتفاضة التي أطاحت به قبل سبع سنوات.
ويبدو أنه توجد أسماء لرتب عسكرية كبيرة موالية للنظام السابق موجودة داخل البلاد، ويمكن أن تظهر على رأس المؤسسة العسكرية في المستقبل، دون مقدمات.
من جانبه، أبدى الدكتور زبيدة دهشته من كثرة التكهنات عما يمكن أن يصيب المنطقة الشرقية التي يسيطر عليها حفتر، في حال غيابه، بالقول: «حفتر ليس زعيم عصابة حتى تنتهي باختفائه... هذه مؤسسة عسكرية لديها تراتبية، وفيها ضباط على درجة كبيرة من الكفاءة والمهنية. فإذا اختفى خليفة حفتر، يوجد آلاف من الضباط الأكْفاء الذين سيقومون بما يقوم به وأفضل... المؤسسة ليست قائمة على المشير خليفة».
ويزيد زبيدة موضحاً، أنه يوجد في ليبيا ما يشبه المجلس العسكري، وإن كان غير معلن حتى الآن، مشيراً إلى أنه توجد أيضاً حظوظ لضباط من النظام السابق، وبخاصة أولئك الذين أبدوا صرامة عسكرية في مواجهة التنظيمات المتطرفة داخل مناطق عدة، خصوصاً المنطقة الشرقية في السنوات الأخيرة.
لكن الإعلامي رجب بن غزي، الذي تعرضت قناته التلفزيونية في طرابلس لهجمات بالقذائف الصاروخية أجبرته على النزوح للقاهرة، يرى أن «كل شيء مرتبط بحفتر؛ ولهذا فإذا غاب عن المشهد فجأة، فقد تنقلب منطقة شرق ليبيا رأساً على عقب... لماذا؟ لأنه لا يوجد شيء مبني على أساس متين. نحن هنا لا نتحدث عن دولة متماسكة مثل مصر، التي يوجد فيها جيش مؤسسي... في حالة ليبيا الكل مبني على شخص. وهذا أمر خطير». مشيراً إلى أن «قبيلة حفتر محسوبة على الوسط والغرب؛ أي على منطقتي سرت وترهونة، أما في الشرق فنخشى من أن تقول قبيلة من قبائل منطقة الشرق إنها الأوْلى بتولي المرحلة الجديدة، بعد المشير؛ وذلك بالنظر إلى أن أكثر من ضحوا واستشهدوا في الحرب ضد الإرهاب من أبنائها. وهذا أمر لا نتمناه في ظل هذه الظروف الصعبة».
وبعد أن عدَّد أسماء لقادة عسكريين معروفين في وسائل الإعلام بقربهم من المشير حفتر، يقول بن غزي، إن معظم هؤلاء يفتقرون لكاريزما مثل كاريزما المشير... «ولهذا؛ أتوقع أن يظهر اسم من أسماء القادة العسكريين غير المعروفين. هذا ممكن. ولا تنس أن معظم عسكريي النظام السابق كانوا يحاربون في المحاور المهمة في بنغازي مع حفتر».
وعلى كل حال، ففي الشهور الأخيرة أصبح من المعتاد أن تلتقي بكثير من الخصوم الليبيين، بعد وصولهم للقاهرة، وهم يتجادلون عن مستقبل بلادهم، لأيام عدة في غرف الضيافة المصممة على الطريقة الليبية، أو في بهو الفنادق المعتمة، بالنسبة لمن لا يفضلون الظهور تحت الأضواء. وقد تمكنت مثل هذه الزيارات المكوكية بين طرابلس وتونس والقاهرة من تذويب خلافات كثيرة، أهمها ما يتعلق بتوحيد المؤسسة العسكرية، برعاية مصر، وعقد «مؤتمر جامع» لليبيين في تونس كبلد محايد.
إلا أن أحد قيادات مصراتة العسكرية يقول، إن غياب السويحلي عن مجلس الدولة، وبقاء السراج وحيداً أمام سطوة «الإخوان» الجديدة، أمر ستكون له تداعيات على لمّ شمل المؤسسة العسكرية... «وببساطة، فقادة الجيش في الغرب، ممن كان يُسمح لهم بحضور اجتماعات القاهرة، سيجدون صعوبة في ذلك»، حسب تعبيره.
وحتى الآن ما زال كثير من الليبيين يثني على جهود مصر وتونس. وبهذا الخصوص يقول العبَّاني، بعد أن رجع للفندق من جولات على خصوم من القادة الليبيين في ضواحي القاهرة «مصر قريبة لنا... فهي تسعى وتبذل جهوداً كبيرة. مصالحنا واحدة. وقد استوعبت، مثل تونس، عدداً كبيراً من المُهجَّرين الليبيين. نحن نؤيد بقوة الاتفاق، الذي جرى في مصر (لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية). فأمن ليبيا أمن لمصر».
ويبدو من كلام العبَّاني أن «المؤتمر الجامع» الذي يقوم بالتحضير لعقده في تونس لا يحظى بالدعم، الذي كان يتوقعه من الأمم المتحدة، رغم أنه يزعم أنه هو صاحب الفكرة منذ نحو عامين بقوله «لقد عرضنا الفكرة على الأمم المتحدة منذ سنتين. عرضنا عليهم كيف يكون الحل في ليبيا... ولا بد أن يكون الحل ليبياً، وأننا نريد إشراف الأمم المتحدة على هذا الأمر... إشرافاً فقط على المؤتمر».
ويضيف العباني موضحاً: إن البعثة الأممية في ليبيا أطلقت مبادرة مماثلة، و«تجاهلت ما نقوم به... أعتقد أن السبب هو تمسكنا في اللجنة التحضيرية بأن تكون المبادرة ليبية صرفة، أي دون تدخل في التفاصيل الخاصة بالليبيين».
وعلى ما يبدو، يجد العبَّاني تشجيعاً لما يقوم به من جهود من كثير الفرقاء، وبخاصة أنه كان قد بدأ، مع المشير حفتر، منذ وقت مبكر في طرابلس، البحث عن طريق لاستعادة الدولة. وهو لديه خطط مشابهة لما هو مطروح من الأمم المتحدة، لكنها معكوسة، أي أنه لا يريد أن تبدأ الأمور بالانتخابات، كما يسعى لذلك الدكتور سلامة، لكن أن تبدأ بالمصالحة أولاً.
يقول العبَّاني في هذا الصدد «أساساً نحن ليس لدينا دستور، فعلى أي أساس سيتم انتخاب رئيس للدولة، أو حكومة؟ قلنا من قبل إنه لا بد أولاً من مصالحة وطنية شاملة، ثم بعد ذلك إنشاء الدستور، ومن خلاله يتم تحديد شكل الحكم والحكومة، ومدتها. يجب أن نضع قاعدة للدولة أولاً. ثم بعد ذلك تبدأ الانتخابات. لكن أن تجري الانتخابات، ثم تبحث عن مرحلة انتقالية. أقول لك: لا».
ويعيش العبَّاني، خريج كلية القانون، في طرابلس، لكن أصوله من مدينة ترهونة القريبة من العاصمة من ناحية الجنوب الشرقي، وهي مدينة تضم جانباً من قبيلة حفتر. ويقول، إن بداية نشاطه في العمل العام كانت منذ 2012، و«كان معنا المشير حفتر، وكل رجال المصالحة الوطنية الآخرين. بدأنا سوياً للمّ شمل ليبيا».
ويضيف موضحاً «وقتذاك، وبالدرجة الأولى، بدأ (حفتر) في محاولة بناء الجيش الموحد انطلاقاً من طرابلس. كنا نخشى مما حدث. قلنا إذا سارت الأمور على ما هي عليه، فإن الوطن سوف يتشتت. كنا نجتمع في أماكن عامة، منها مقر للمصالحة الوطنية في طرابلس، ولم نكن نجتمع في الخفاء».
وتعرض حفتر منذ ذلك الوقت لهجوم من تيارات متطرفة كانت تشجعها حكومات طرابلس وجماعة «الإخوان». ويتذكر العباني هذه المرحلة بقوله «كانت هناك تيارات إسلامية خطيرة. وأفشلتنا الحكومات المتعاقبة التي سيطرت عليها التيارات الإسلامية الرافضة لإعادة بناء الجيش. وهذا ما دفع حفتر للخروج من طرابلس. كانت الحكومات السابقة ضد بناء الجيش».
وانتقل حفتر إلى بنغازي، وأسس نواة لاستعادة الجيش. ثم بدأ عملية ضد الجماعات المتطرفة، أطلق عليها «عملية الكرامة» منذ عام 2014، وشملت الحملة قيادات محسوبة على جماعة «الإخوان» أيضاً. بينما واصل العبَّاني جهوده في المصالحة من طرابلس، فتمت معاقبته باغتيال ابنه الضابط في الشرطة عبد السلام في العام التالي... «ورغم هذا لم ننكسر، وما زلنا مستمرين حتى نصل إلى المراحل الأخيرة من المصالحة».
بيد أن عملية التقارب بين الشرق والغرب، تبدو الآن برمتها محفوفة بالمخاطر. وتنذر بالعودة بالبلاد إلى مواجهة بين تيار الإخوان المدعوم من المتطرفين، والتيار المدني المتمثل في أغلبية البرلمان، الذي يعقد جلساته في طبرق شرقاً، وبعض قيادات المجلس الرئاسي بقيادة السراج. أما مجلس الدولة، الذي كان طرفاً أصيلاً في محاولة لم الشمل، فقد انقلبت أحواله بعد خروج السويحلي منه الأسبوع الماضي.
يقول مصدر أمني ليبي مسؤول، إن هيمنة التيار المتشدد على مجلس الدولة «جرت بترتيب من التنظيم الدولي لجماعة (الإخوان)، ومن بعض الدول الإقليمية المتهمة برعاية الإرهاب، وهذا من شأنه أن يزيد التعقيد في موضوع توحيد الجيش، والمصالحة»، مشيراً في ردود مكتوبة وأخرى مسجلة إلى أن أبرز المستفيدين من خروج السويحلي من المجلس هي شخصيات وكيانات ليبية وغير ليبية، مدرجة في قائمة الإرهاب.
وبخصوص تأثير ذلك على المحاولات التي تقوم بها مصر وتونس، وأطراف أخرى، لإخراج ليبيا من الفوضى التي تمر بها، يجيب قائلاً: «هذا له تأثير سلبي كبير... الأمر لا يتعلق بليبيا فقط، لكن هناك خطراً عابراً للحدود، ويمس عدداً من دول الجوار».
ويشير المصدر نفسه إلى تحركات «إخوانية» «غير مبشرة على الإطلاق»، ويقول إن «ثلاثة قادة من التيار الإخواني الليبي قدموا قبل يومين ملفاً مزعوماً لدبلوماسي غربي، التقوا به في طرابلس، عما قالوا فيه إنها انتهاكات السلطات المصرية ضد جماعة (الإخوان) منذ عام 2013، وطلبوا تحريك الضغط الدولي على القاهرة».
ووفقاً لتقرير أمني، كان أحد هؤلاء القادة الليبيين الثلاثة من المعتصمين في ساحة «رابعة العدوية»، المؤيدين للرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، في تلك السنة بالقاهرة. وفرَّ من الميدان قبيل فض السلطات المصرية للاعتصام، كما «شارك كذلك مع تيارات متشددة في تونس».
وزار الدبلوماسي الغربي المشار إليه أطرافاً في المجلس الرئاسي بعد ذلك بساعات. وتطرق خلال الاجتماع إلى لقائه بالإخوان الثلاثة في مقر سفارة بلاده في طرابلس، وقدم تطمينات عن التطورات في العاصمة، بحسب مصدر على اطلاع بالموضع.
لكن في مساء اليوم التالي، حسبما يقول المصدر نفسه، تلقت أطراف بالمجلس الرئاسي تقارير مقلقة عن «أوامر فجة» أصدرتها قيادات «إخوانية» لجهات عدة في الدولة، لـ«جمع معلومات حساسة عن قضايا من اختصاص السلطة التنفيذية والقضائية».
ومن بين هذه الطلبات، أمر للنيابة بتقديم كشف يحوي كل أسماء المساجين المنتمين للتيارات المتطرفة، ومن بينها أيضاً أوامر لست قيادات كبيرة تابعة للسراج، من الجيش، والشرطة، والحرس الرئاسي، والقوات البحرية، والغرفة الأمنية الليبية الإيطالية، والمباحث العامة، بأن يقدموا لجماعة «الإخوان» تفاصيل كاملة عن التسليح والعتاد وعدد القوات وأسماء الموقوفين لدى كل جهة.
وبينما يعيد «إخوان ليبيا» ترتيب الأوراق بسرعة كبيرة في غرب البلاد، مشحونين بالعداء لميليشيات طرابلس الموالية للسراج، يبدو الشرق مشغولاً إلى حد كبير بمستقبل حفتر. وما بين هذا وذاك، يحاول المجلس الرئاسي في طرابلس الابتعاد عن نقاط الصدام في الواقع الجديد، انتظاراً لما ستسفر عنه مجريات الأحداث في الفترة المقبلة، وسط آمال معقودة على محاولات غسان سلامة، للحل، وكذلك وسط مخاوف من العودة بالبلاد إلى نقطة الصفر.



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.