ليبيا... بوادر العودة إلى «نقطة الصفر»

بين حراك فريقي حفتر و«الإخوان» ومحاولات السراج اختبار الواقع الجديد

ليبيا... بوادر العودة إلى «نقطة الصفر»
TT

ليبيا... بوادر العودة إلى «نقطة الصفر»

ليبيا... بوادر العودة إلى «نقطة الصفر»

طوال الرحلة إلى القاهرة؛ أي لمدة أكثر من سبع ساعات بالسيارة، لم يتوقف رنين الهواتف لتقصي الأحوال الصحية لقائد الجيش الوطني الليبي المشير خليفة حفتر، البالغ من العمر 75 عاماً. لم يكن الأمر يتعلق بقلق داخل أوساط سياسية وعسكرية من غياب المشير، لكن من احتمالات نزاع قبلي حول بنغازي في الشرق، وعودة الاقتتال بين ميليشيات حول طرابلس في الغرب.
فخلال الأيام القليلة الماضية وصل إلى العاصمة المصرية ضباط ليبيون وقادة مدنيون، عبر الحدود البرية، وعبر رحلات جوية أيضاً، وانشغل الجميع بحثاً عن خطط عملية لإنهاء فوضى تضرب بلادهم منذ إطاحة معمر القذافي في 2011. ومن الألفاظ المستخدمة لدى جلهم، تدرك كم هي مختلفة عن لغة المبعوث الأممي الدكتور غسان سلامة، الذي يتحدث عن إجراء انتخابات.

يقول محمد العبَّاني، رئيس المؤتمر الوطني العام الجامع «الليبي - الليبي»، بعد أن جاء من تونس إلى مصر بالطائرة «ما معني أن يطلب (سلامة) انتخابات في ظل انفلات أمني، وفي ظل انقسامات. من هو الليبي الذي سيأتي لكي ينتخب؟ وأين سينتخب؟ وأي مدينة هذه التي سيقيم فيها مثل هذه الانتخابات؟».
لا يظهر أن المشكلة في ليبيا - كما يحاول البعض أن يصورها - تخص استمرار حفتر أو اختفاءه من المشهد لأي سبب. فكل إنسان في النهاية عُرضة للمرض والغياب... الأمر يتعلق بما هو أعمق، ومنها أن جماعة «الإخوان» حققت في طرابلس تقدماً مثيراً، وذلك بترؤسها منذ أيام عدة واحداً من مخرجات اتفاق الصخيرات المدعوم دولياً، وهو المجلس الأعلى للدولة. وقد تعجَّلَ بعض زعماء الجماعة، المنتشين بالنصر، باستغلال مجلس الدولة لإعادة الحياة لمجموعات معادية لقوات يعتمد عليها رئيس المجلس الرئاسي فايز السراج في طرابلس، ومعادية للجيش الذي يقوده حفتر، ولدول بالجوار. وعلى رأس هذه المجموعات «مجلس شورى» مدينة درنة، التي يحاصرها الجيش في الشرق، و«مجلس شورى بنغازي»، المصنف منظمةً إرهابيةً. إضافة إلى «عملية إخوانية محمومة» لجمع معلومات عن أجهزة رئيسية يعتمد عليها السراج.
وبدأت الجماعة في الضغط سريعاً للإفراج عن قادة المتطرفين داخل سجون طرابلس ومصراتة، وصبراتة والزاوية، وفقاً لمصادر أمنية ليبية، مشيرة إلى أن من بينهم جنسيات مصرية وتونسية وجزائرية، وغيرها.
يقول ضابط كبير من نظام معمر القذافي، بعد أن عبر الحدود، إن تعبير «بوادر العودة إلى نقطة الصفر»، المستخدم هذه الأيام في بلاده يشير إلى أحداث صيف عام 2014، حينما احتدمت الحرب وقتذاك بين ميليشيات جهوية ومذهبية بقيادة «الإخوان» من جانب، والتيار المدني الذي فاز بالأغلبية في انتخابات برلمان تلك السنة، من جانب آخر، ونتج منها منع البرلمان من عقد جلساته في العاصمة، وكذا وقوع انقسامات كبيرة داخل مؤسسات الجيش والشرطة، والمصارف والنفط.
وخلال السنوات الأربع الأخيرة عملت الأمم المتحدة ودول الجوار، وعلى رأسها مصر وتونس والجزائر من أجل إنهاء خلافات الأفرقاء الليبيين. وحتى أسابيع قليلة مضت، كادت هذه الجهود أن تكلل بالنجاح، وبخاصة بعد تفاهمات مهمة جرت في القاهرة لتوحيد المؤسسة العسكرية، وأخرى تمت بين قادة سياسيين وقبليين شهدتها العاصمة التونسية، إلا أن الرياح لا تأتي بما تشتهي السفن، كما يقال.
فبالإضافة للقلق من غياب حفتر لأسباب صحية، ظهرت مشكلة أخرى لم تكن في الحسبان. إذ خرج من على خشبة المسرح، أحد اللاعبين الرئيسيين، وهو الدكتور عبد الرحمن السويحلي، رئيس المجلس الأعلى للدولة. وحدث كل هذا مرة واحدة وفي وقت متسارع.
ويوصف السويحلي بأنه رجل معتدل، وحفيد لأحد رموز مدينة مصراتة التاريخيين. وقد بدأ يرسل في الشهور الأخيرة رسائل إيجابية تجاه الجهود المصرية والتونسية لتوحيد الجيش والمصالحة. كما أنه يتمتع بكلمة مسموعة في أوساط ضباط أقوياء بمدينة مصراتة. وفي هذا السياق، يقول أحد مساعديه، إن خسارته المجلس الرئاسي «بمثابة عرقلة لترتيبات تخص التقارب داخل الجيش، والتسوية بين حفتر في الشرق، ورئيس المجلس الرئاسي في الغرب».
وفي الانتخابات الداخلية على رئاسة مجلس الدولة، التي جرت قبل أيام، تمكنت جماعة «الإخوان» من الهيمنة على المجلس. وحققت الفوز لقائدها خالد المشري، المعروف بتشدده وخصومته للسلطات المصرية، ناهيك عن رفضه حفتر وميليشيات طرابلس الموالية للسراج.
ويجري في الوقت الراهن تصعيد مكتوم داخل فريقي حفتر، وجماعة «الإخوان»، بينما يبدو السراج كمن يبحث عن مخرج، وهو يدير دفة الأمور من العاصمة، في ظل وجود نواب للسراج محسوبين على الجماعات المتطرفة. يقول مستشار للسراج بهذا الخصوص «كانت مراجعات السويحلي لأعمال السراج كرئيس للسلطة التنفيذية غير مريحة له، والآن سيضطر السراج للتعامل مع (الإخوان) وطموحاتهم العابرة للحدود. وهذا غير مريح للجميع... هذه مشكلة. لقد بدأوا في تمهيد الأرض لأنفسهم بالفعل».
وفي خضم هذه التطورات العاصفة، جرى الترويج على نطاق واسع لأنباء تتحدث عن دخول حفتر في حالة صحية حرجة. وأشاعت منصات إعلامية محسوبة على جماعة الإخوان وتيارات متطرفة، ما قالت: إنه صراع داخل الجيش حول من يخلف حفتر، وذهبت إلى بث روح التنافس بين قبيلة الفرجان التي ينتمي إليها قائد الجيش، وقبيلة العواقير التي لعب أبناؤها دوراً كبيراً في طرد الميليشيات المتشددة من بنغازي.
لكن الدكتور محمد زبيدة، القيادي في مؤتمر القبائل، يقول إن الظروف التي تمر بها البلاد «لا تتحمل بطبيعة الحال ترف أي خلاف قبلي حول المناصب العسكرية... أعتقد أن هذا أمر غير موجود... وعلى العموم فحفتر ليس في حالة مَرَضِية خطيرة تستدعي كل هذه التخمينات».
ويتحرك معظم قادة الجيش الكبار، المحسوبين على نظام القذافي، بعيداً عن الأضواء، بمن في ذلك من اشتركوا في قيادة عمليات حربية مع حفتر لهزيمة الجماعات المتطرفة، ولكسب الأرض في الشرق وبعض مناطق الوسط والجنوب.
وفي استراحته بضواحي القاهرة، وافق أحد هؤلاء على الحديث بشأن مستقبل الجيش في حال غياب حفتر، دون أن يتم ذكر اسمه في القصة لأسباب أمنية وقبلية.
يقول الرجل، الذي يعد من القيادات العسكرية التي تتواصل مع أطراف من عموم ليبيا، بمن فيهم حفتر «أنت تتحدث عن عسكريين... وعن جيش عريق. وفي هذا السياق، هناك دائماً قيادات بديلة، حتى في الحرب... فعندما يسقط أحد القادة، هناك بدائل. والمؤسسة العسكرية قادرة على إفراز قيادات جديدة. أعتقد أن المشكلة ليست في الشرق، لكن في الغرب، وبخاصة بعد عودة (الإخوان) للواجهة».
ومثل كثير من قادة النظام السابق، يتحدث هذا الضابط، ذو الرتبة الكبيرة، بفخر حين يتعلق الأمر بالقوات المسلحة، ويقول على سبيل المثال «لقد تعرض الجيش للضرب بقوة (في 2011)، ونتج من ذلك تمزيق البنية التحتية، وفي المعسكرات، وفي سلاحي الدبابات والمدفعية، وسلاح البحرية. لكن تظل هناك قيادات عسكرية غير هيّنة، شاركت (فيما مضى) في حروب في أفريقيا، وفي مواجهات مع حلف الأطلسي عام 1986، واصطدمت بالبحرية الأميركية لعشر سنوات في خليج سرت. ودخلت في مواجهة مع حلف الناتو لمدة ثمانية شهور في 2011».
كما يتهم هذا الضابط «الإخوان» بالمشاركة في تفتيت ما تبقى من الجيش بعد مقتل القذافي، قائلاً، إنهم قاموا وقتها بتصعيد نجم عسكريين متقاعدين أو مفصولين من الخدمة لتولي مناصب قيادية، وطرد الضباط غير الموالين لهم. ويضيف: إن «الجماعة عادت من جديد هذه الأيام، من خلال نافذة مجلس الدولة. وهذه مشكلة كبيرة لحفتر والسراج، ولليبيين عموماً»، مشيراً إلى أن «جماعات متطرفة مرتبطة بـ(الإخوان) في ليبيا تسعى لاستغلال الموقف، والانتقام من القوات التي انخرطت في الحرب على الإرهاب من الشرق والغرب».
وبخصوص ما يمكن أن يحدث إذا ما اختفى حفتر من المشهد لأي سبب، يقول هذا الضابط «توجد قيادات عسكرية لديها خبرة تمتد لسنوات طويلة، ولدينا أقدميات في الجيش تحظى باحترام كبير». قبل أن يضيف موضحاً «لقد كانت هناك مشاورات لأشهر لتأسيس مجلس عسكري، يضم بعض هذه القيادات، لا يمكن ذكر أسمائهم الآن لأسباب أمنية. هذا المجلس سوف يقود هذه المرحلة، إلى أن يتكامل مع باقي القيادات العسكرية الأخرى في الغرب والجنوب، والوسط، من كل المؤسسة العسكرية، دون أي حساسية، لأن هؤلاء منتظمين في رتب وأقدميات».
ومن خلال حديث بعض كبار قادة النظام السابق ممن يؤيدون المشير حفتر، يستطيع المرء أن يشعر بأنهم غير مطمئنين بشكل كامل لبعض المتشددين في ولائهم للجنرال، الذي بدأ حياته العسكرية مع بزوغ نجم القذافي، بغض النظر عن كونه انضم لمعارضيه في ثمانينات القرن الماضي، ثم اشترك في الانتفاضة التي أطاحت به قبل سبع سنوات.
ويبدو أنه توجد أسماء لرتب عسكرية كبيرة موالية للنظام السابق موجودة داخل البلاد، ويمكن أن تظهر على رأس المؤسسة العسكرية في المستقبل، دون مقدمات.
من جانبه، أبدى الدكتور زبيدة دهشته من كثرة التكهنات عما يمكن أن يصيب المنطقة الشرقية التي يسيطر عليها حفتر، في حال غيابه، بالقول: «حفتر ليس زعيم عصابة حتى تنتهي باختفائه... هذه مؤسسة عسكرية لديها تراتبية، وفيها ضباط على درجة كبيرة من الكفاءة والمهنية. فإذا اختفى خليفة حفتر، يوجد آلاف من الضباط الأكْفاء الذين سيقومون بما يقوم به وأفضل... المؤسسة ليست قائمة على المشير خليفة».
ويزيد زبيدة موضحاً، أنه يوجد في ليبيا ما يشبه المجلس العسكري، وإن كان غير معلن حتى الآن، مشيراً إلى أنه توجد أيضاً حظوظ لضباط من النظام السابق، وبخاصة أولئك الذين أبدوا صرامة عسكرية في مواجهة التنظيمات المتطرفة داخل مناطق عدة، خصوصاً المنطقة الشرقية في السنوات الأخيرة.
لكن الإعلامي رجب بن غزي، الذي تعرضت قناته التلفزيونية في طرابلس لهجمات بالقذائف الصاروخية أجبرته على النزوح للقاهرة، يرى أن «كل شيء مرتبط بحفتر؛ ولهذا فإذا غاب عن المشهد فجأة، فقد تنقلب منطقة شرق ليبيا رأساً على عقب... لماذا؟ لأنه لا يوجد شيء مبني على أساس متين. نحن هنا لا نتحدث عن دولة متماسكة مثل مصر، التي يوجد فيها جيش مؤسسي... في حالة ليبيا الكل مبني على شخص. وهذا أمر خطير». مشيراً إلى أن «قبيلة حفتر محسوبة على الوسط والغرب؛ أي على منطقتي سرت وترهونة، أما في الشرق فنخشى من أن تقول قبيلة من قبائل منطقة الشرق إنها الأوْلى بتولي المرحلة الجديدة، بعد المشير؛ وذلك بالنظر إلى أن أكثر من ضحوا واستشهدوا في الحرب ضد الإرهاب من أبنائها. وهذا أمر لا نتمناه في ظل هذه الظروف الصعبة».
وبعد أن عدَّد أسماء لقادة عسكريين معروفين في وسائل الإعلام بقربهم من المشير حفتر، يقول بن غزي، إن معظم هؤلاء يفتقرون لكاريزما مثل كاريزما المشير... «ولهذا؛ أتوقع أن يظهر اسم من أسماء القادة العسكريين غير المعروفين. هذا ممكن. ولا تنس أن معظم عسكريي النظام السابق كانوا يحاربون في المحاور المهمة في بنغازي مع حفتر».
وعلى كل حال، ففي الشهور الأخيرة أصبح من المعتاد أن تلتقي بكثير من الخصوم الليبيين، بعد وصولهم للقاهرة، وهم يتجادلون عن مستقبل بلادهم، لأيام عدة في غرف الضيافة المصممة على الطريقة الليبية، أو في بهو الفنادق المعتمة، بالنسبة لمن لا يفضلون الظهور تحت الأضواء. وقد تمكنت مثل هذه الزيارات المكوكية بين طرابلس وتونس والقاهرة من تذويب خلافات كثيرة، أهمها ما يتعلق بتوحيد المؤسسة العسكرية، برعاية مصر، وعقد «مؤتمر جامع» لليبيين في تونس كبلد محايد.
إلا أن أحد قيادات مصراتة العسكرية يقول، إن غياب السويحلي عن مجلس الدولة، وبقاء السراج وحيداً أمام سطوة «الإخوان» الجديدة، أمر ستكون له تداعيات على لمّ شمل المؤسسة العسكرية... «وببساطة، فقادة الجيش في الغرب، ممن كان يُسمح لهم بحضور اجتماعات القاهرة، سيجدون صعوبة في ذلك»، حسب تعبيره.
وحتى الآن ما زال كثير من الليبيين يثني على جهود مصر وتونس. وبهذا الخصوص يقول العبَّاني، بعد أن رجع للفندق من جولات على خصوم من القادة الليبيين في ضواحي القاهرة «مصر قريبة لنا... فهي تسعى وتبذل جهوداً كبيرة. مصالحنا واحدة. وقد استوعبت، مثل تونس، عدداً كبيراً من المُهجَّرين الليبيين. نحن نؤيد بقوة الاتفاق، الذي جرى في مصر (لتوحيد المؤسسة العسكرية الليبية). فأمن ليبيا أمن لمصر».
ويبدو من كلام العبَّاني أن «المؤتمر الجامع» الذي يقوم بالتحضير لعقده في تونس لا يحظى بالدعم، الذي كان يتوقعه من الأمم المتحدة، رغم أنه يزعم أنه هو صاحب الفكرة منذ نحو عامين بقوله «لقد عرضنا الفكرة على الأمم المتحدة منذ سنتين. عرضنا عليهم كيف يكون الحل في ليبيا... ولا بد أن يكون الحل ليبياً، وأننا نريد إشراف الأمم المتحدة على هذا الأمر... إشرافاً فقط على المؤتمر».
ويضيف العباني موضحاً: إن البعثة الأممية في ليبيا أطلقت مبادرة مماثلة، و«تجاهلت ما نقوم به... أعتقد أن السبب هو تمسكنا في اللجنة التحضيرية بأن تكون المبادرة ليبية صرفة، أي دون تدخل في التفاصيل الخاصة بالليبيين».
وعلى ما يبدو، يجد العبَّاني تشجيعاً لما يقوم به من جهود من كثير الفرقاء، وبخاصة أنه كان قد بدأ، مع المشير حفتر، منذ وقت مبكر في طرابلس، البحث عن طريق لاستعادة الدولة. وهو لديه خطط مشابهة لما هو مطروح من الأمم المتحدة، لكنها معكوسة، أي أنه لا يريد أن تبدأ الأمور بالانتخابات، كما يسعى لذلك الدكتور سلامة، لكن أن تبدأ بالمصالحة أولاً.
يقول العبَّاني في هذا الصدد «أساساً نحن ليس لدينا دستور، فعلى أي أساس سيتم انتخاب رئيس للدولة، أو حكومة؟ قلنا من قبل إنه لا بد أولاً من مصالحة وطنية شاملة، ثم بعد ذلك إنشاء الدستور، ومن خلاله يتم تحديد شكل الحكم والحكومة، ومدتها. يجب أن نضع قاعدة للدولة أولاً. ثم بعد ذلك تبدأ الانتخابات. لكن أن تجري الانتخابات، ثم تبحث عن مرحلة انتقالية. أقول لك: لا».
ويعيش العبَّاني، خريج كلية القانون، في طرابلس، لكن أصوله من مدينة ترهونة القريبة من العاصمة من ناحية الجنوب الشرقي، وهي مدينة تضم جانباً من قبيلة حفتر. ويقول، إن بداية نشاطه في العمل العام كانت منذ 2012، و«كان معنا المشير حفتر، وكل رجال المصالحة الوطنية الآخرين. بدأنا سوياً للمّ شمل ليبيا».
ويضيف موضحاً «وقتذاك، وبالدرجة الأولى، بدأ (حفتر) في محاولة بناء الجيش الموحد انطلاقاً من طرابلس. كنا نخشى مما حدث. قلنا إذا سارت الأمور على ما هي عليه، فإن الوطن سوف يتشتت. كنا نجتمع في أماكن عامة، منها مقر للمصالحة الوطنية في طرابلس، ولم نكن نجتمع في الخفاء».
وتعرض حفتر منذ ذلك الوقت لهجوم من تيارات متطرفة كانت تشجعها حكومات طرابلس وجماعة «الإخوان». ويتذكر العباني هذه المرحلة بقوله «كانت هناك تيارات إسلامية خطيرة. وأفشلتنا الحكومات المتعاقبة التي سيطرت عليها التيارات الإسلامية الرافضة لإعادة بناء الجيش. وهذا ما دفع حفتر للخروج من طرابلس. كانت الحكومات السابقة ضد بناء الجيش».
وانتقل حفتر إلى بنغازي، وأسس نواة لاستعادة الجيش. ثم بدأ عملية ضد الجماعات المتطرفة، أطلق عليها «عملية الكرامة» منذ عام 2014، وشملت الحملة قيادات محسوبة على جماعة «الإخوان» أيضاً. بينما واصل العبَّاني جهوده في المصالحة من طرابلس، فتمت معاقبته باغتيال ابنه الضابط في الشرطة عبد السلام في العام التالي... «ورغم هذا لم ننكسر، وما زلنا مستمرين حتى نصل إلى المراحل الأخيرة من المصالحة».
بيد أن عملية التقارب بين الشرق والغرب، تبدو الآن برمتها محفوفة بالمخاطر. وتنذر بالعودة بالبلاد إلى مواجهة بين تيار الإخوان المدعوم من المتطرفين، والتيار المدني المتمثل في أغلبية البرلمان، الذي يعقد جلساته في طبرق شرقاً، وبعض قيادات المجلس الرئاسي بقيادة السراج. أما مجلس الدولة، الذي كان طرفاً أصيلاً في محاولة لم الشمل، فقد انقلبت أحواله بعد خروج السويحلي منه الأسبوع الماضي.
يقول مصدر أمني ليبي مسؤول، إن هيمنة التيار المتشدد على مجلس الدولة «جرت بترتيب من التنظيم الدولي لجماعة (الإخوان)، ومن بعض الدول الإقليمية المتهمة برعاية الإرهاب، وهذا من شأنه أن يزيد التعقيد في موضوع توحيد الجيش، والمصالحة»، مشيراً في ردود مكتوبة وأخرى مسجلة إلى أن أبرز المستفيدين من خروج السويحلي من المجلس هي شخصيات وكيانات ليبية وغير ليبية، مدرجة في قائمة الإرهاب.
وبخصوص تأثير ذلك على المحاولات التي تقوم بها مصر وتونس، وأطراف أخرى، لإخراج ليبيا من الفوضى التي تمر بها، يجيب قائلاً: «هذا له تأثير سلبي كبير... الأمر لا يتعلق بليبيا فقط، لكن هناك خطراً عابراً للحدود، ويمس عدداً من دول الجوار».
ويشير المصدر نفسه إلى تحركات «إخوانية» «غير مبشرة على الإطلاق»، ويقول إن «ثلاثة قادة من التيار الإخواني الليبي قدموا قبل يومين ملفاً مزعوماً لدبلوماسي غربي، التقوا به في طرابلس، عما قالوا فيه إنها انتهاكات السلطات المصرية ضد جماعة (الإخوان) منذ عام 2013، وطلبوا تحريك الضغط الدولي على القاهرة».
ووفقاً لتقرير أمني، كان أحد هؤلاء القادة الليبيين الثلاثة من المعتصمين في ساحة «رابعة العدوية»، المؤيدين للرئيس المصري الأسبق محمد مرسي، في تلك السنة بالقاهرة. وفرَّ من الميدان قبيل فض السلطات المصرية للاعتصام، كما «شارك كذلك مع تيارات متشددة في تونس».
وزار الدبلوماسي الغربي المشار إليه أطرافاً في المجلس الرئاسي بعد ذلك بساعات. وتطرق خلال الاجتماع إلى لقائه بالإخوان الثلاثة في مقر سفارة بلاده في طرابلس، وقدم تطمينات عن التطورات في العاصمة، بحسب مصدر على اطلاع بالموضع.
لكن في مساء اليوم التالي، حسبما يقول المصدر نفسه، تلقت أطراف بالمجلس الرئاسي تقارير مقلقة عن «أوامر فجة» أصدرتها قيادات «إخوانية» لجهات عدة في الدولة، لـ«جمع معلومات حساسة عن قضايا من اختصاص السلطة التنفيذية والقضائية».
ومن بين هذه الطلبات، أمر للنيابة بتقديم كشف يحوي كل أسماء المساجين المنتمين للتيارات المتطرفة، ومن بينها أيضاً أوامر لست قيادات كبيرة تابعة للسراج، من الجيش، والشرطة، والحرس الرئاسي، والقوات البحرية، والغرفة الأمنية الليبية الإيطالية، والمباحث العامة، بأن يقدموا لجماعة «الإخوان» تفاصيل كاملة عن التسليح والعتاد وعدد القوات وأسماء الموقوفين لدى كل جهة.
وبينما يعيد «إخوان ليبيا» ترتيب الأوراق بسرعة كبيرة في غرب البلاد، مشحونين بالعداء لميليشيات طرابلس الموالية للسراج، يبدو الشرق مشغولاً إلى حد كبير بمستقبل حفتر. وما بين هذا وذاك، يحاول المجلس الرئاسي في طرابلس الابتعاد عن نقاط الصدام في الواقع الجديد، انتظاراً لما ستسفر عنه مجريات الأحداث في الفترة المقبلة، وسط آمال معقودة على محاولات غسان سلامة، للحل، وكذلك وسط مخاوف من العودة بالبلاد إلى نقطة الصفر.



فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

TT

فلسطينيون ظلوا بلا عائلة... وعائلات كاملة شُطبت من السجل المدني

جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)
جنازة جماعية في 7 مارس 2024 لـ47 فلسطينياً قتلتهم إسرائيل في رفح (أ.ف.ب)

216 ليس مجرد رقم عادي بالنسبة لعائلة «سالم» الموزعة بين مدينة غزة وشمالها. فهذا هو عدد الأفراد الذين فقدتهم العائلة من الأبناء والأسر الكاملة، (أب وأم وأبنائهما) وأصبحوا بذلك خارج السجل المدني، شأنهم شأن مئات العائلات الأخرى التي أخرجتها الحرب الإسرائيلية المتواصلة على قطاع غزة منذ عام.

سماهر سالم (33 عاماً) من سكان حي الشيخ رضوان، فقدت والدتها وشقيقها الأكبر واثنتين من شقيقاتها و6 من أبنائهم، إلى جانب ما لا يقل عن 60 آخرين من أعمامها وأبنائهم، ولا تعرف اليوم كيف تصف الوحدة التي تشعر بها ووجع الفقد الذي تعمق وأصبح بطعم العلقم، بعدما اختطفت الحرب أيضاً نجلها الأكبر.

وقالت سالم لـ«الشرق الأوسط»: «أقول أحياناً إنني وسط كابوس ولا أصدق ما جرى».

وقصفت إسرائيل منزل سالم وآخرين من عائلتها في 11 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وهو يوم حفر في عقلها وقلبها بالدم والألم.

رجل يواسي سيدة في دفن أفراد من عائلتهما في خان يونس في 2 أكتوبر 2024 (أ.ف.ب)

تتذكر سالم لحظة غيرت كل شيء في حياتها، وهي عندما بدأت تدرك أنها فقدت والدتها وشقيقاتها وأولادهن. «مثل الحلم مثل الكذب... بتحس إنك مش فاهم، مش مصدق أي شي مش عارف شو بيصير». قالت سالم وأضافت: «لم أتخيل أني سأفقد أمي وأخواتي وأولادهن في لحظة واحدة. هو شيء أكبر من الحزن».

وفي غمرة الحزن، فقدت سالم ابنها البكر، وتحول الألم إلى ألم مضاعف ترجمته الأم المكلومة والباقية بعبارة واحدة مقتضبة: «ما ظل إشي».

وقتلت إسرائيل أكثر من 41 ألف فلسطيني في قطاع غزة خلال عام واحد في الحرب التي خلّفت كذلك 100 ألف جريح وآلاف المفقودين، وأوسع دمار ممكن.

وبحسب المكتب الإعلامي الحكومي، بين الضحايا 16.859 طفلاً، ومنهم 171 طفلاً رضيعاً وُلدوا وقتلوا خلال الحرب، و710 عمرهم أقل من عام، و36 قضوا نتيجة المجاعة، فيما سجل عدد النساء 11.429.

إلى جانب سالم التي بقيت على قيد الحياة، نجا قلائل آخرون من العائلة بينهم معين سالم الذي فقد 7 من أشقائه وشقيقاته وأبنائهم وأحفادهم في مجزرة ارتكبت بحي الرمال بتاريخ 19 ديسمبر 2023 (بفارق 8 أيام على الجريمة الأولى)، وذلك بعد تفجير الاحتلال مبنى كانوا بداخله.

وقال سالم لـ«الشرق الأوسط»: «93 راحوا في ضربة واحدة، في ثانية واحدة، في مجزرة واحدة».

وأضاف: «دفنت بعضهم وبعضهم ما زال تحت الأنقاض. وبقيت وحدي».

وتمثل عائلة سالم واحدة من مئات العائلات التي شطبت من السجل المدني في قطاع غزة خلال الحرب بشكل كامل أو جزئي.

وبحسب إحصاءات المكتب الحكومي في قطاع غزة، فإن الجيش الإسرائيلي أباد 902 عائلة فلسطينية خلال عام واحد.

أزهار مسعود ترفع صور أفراد عائلتها التي قتلت بالكامل في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة (رويترز)

وقال المكتب الحكومي إنه في إطار استمرار جريمة الإبادة الجماعية التي ينفذها جيش الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، فقد قام جيش الاحتلال بإبادة 902 عائلة فلسطينية ومسحها من السجل المدني بقتل كامل أفرادها خلال سنة من الإبادة الجماعية في قطاع غزة.

وأضاف: «كما أباد جيش الاحتلال الإسرائيلي 1364 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها، ولم يتبقَّ سوى فرد واحد في الأسرة الواحدة، ومسح كذلك 3472 أسرة فلسطينية قتل جميع أفرادها ولم يتبقَّ منها سوى فردين اثنين في الأسرة الواحدة».

وأكد المكتب: «تأتي هذه الجرائم المتواصلة بحق شعبنا الفلسطيني في إطار جريمة الإبادة الجماعية التي يشنها الاحتلال الإسرائيلي برعاية أميركية كاملة، وبمشاركة مجموعة من الدول الأوروبية والغربية التي تمد الاحتلال بالسلاح القاتل والمحرم دولياً مثل المملكة المتحدة وألمانيا وفرنسا وغيرها من الدول».

وإذا كان بقي بعض أفراد العائلات على قيد الحياة ليرووا ألم الفقد فإن عائلات بأكملها لا تجد من يروي حكايتها.

في السابع عشر من شهر سبتمبر (أيلول) المنصرم، كانت عائلة ياسر أبو شوقة، من بين العائلات التي شطبت من السجل المدني، بعد أن قُتل برفقة زوجته وأبنائه وبناته الخمسة، إلى جانب اثنين من أشقائه وعائلتيهما بشكل كامل.

وقضت العائلة داخل منزل مكون من عدة طوابق قصفته طائرة إسرائيلية حربية أطلقت عدة صواريخ على المنزل في مخيم البريج وسط قطاع غزة.

وقال خليل أبو شوقة ابن عم العائلة لـ«الشرق الأوسط»: «لا يوجد ما يعبر عن هذه الجريمة البشعة».

وأضاف: «كل أبناء عمي وأسرهم قتلوا بلا ذنب. وذهبوا مرة واحدة. شيء لا يصدق».

الصحافيون والعقاب الجماعي

طال القتل العمد عوائل صحافيين بشكل خاص، فبعد قتل الجيش الإسرائيلي هائل النجار (43 عاماً) في شهر مايو (أيار) الماضي، قتلت إسرائيل أسرته المكونة من 6 أفراد بينهم زوجته و3 أطفال تتراوح أعمارهم بين عامين و13 عاماً.

وقال رائد النجار، شقيق زوجة هائل: «لقد كان قتلاً مع سبق الإصرار، ولا أفهم لماذا يريدون إبادة عائلة صحافي».

وقضى 174 صحافياً خلال الحرب الحالية، آخرهم الصحافية وفاء العديني وزوجها وابنتها وابنها، بعد قصف طالهم في دير البلح، وسط قطاع غزة، وهي صحافية تعمل مع عدة وسائل إعلام أجنبية.

الصحافي غازي أشرف علول يزور عائلته على شاطئ غزة وقد ولد ابنه في أثناء عمله في تغطية أخبار الموت (إ.ب.أ)

إنه القتل الجماعي الذي لا يأتي بطريق الخطأ، وإنما بدافع العقاب.

وقال محمود بصل، المتحدث باسم جهاز الدفاع المدني بغزة، إن الاحتلال الإسرائيلي استخدم الانتقام وسيلة حقيقية خلال هذه الحرب، وقتل عوائل مقاتلين وسياسيين ومسؤولين حكوميين وصحافيين ونشطاء ومخاتير ووجهاء وغيرهم، في حرب شنعاء هدفها إقصاء هذه الفئات عن القيام بمهامها.

وأضاف: «العمليات الانتقامية كانت واضحة جداً، واستهداف العوائل والأسر والعمل على شطب العديد منها من السجل المدني، كان أهم ما يميز العدوان الحالي».

وأردف: «ما حدث ويحدث بحق العوائل جريمة مكتملة الأركان».