فرصة أمام «طالبان» لتتحوّل من ميليشيا إلى كيان شرعي

وسط تغيّرات مثيرة في المشهد السياسي والأمني في أفغانستان

فرصة أمام «طالبان» لتتحوّل من ميليشيا إلى كيان شرعي
TT

فرصة أمام «طالبان» لتتحوّل من ميليشيا إلى كيان شرعي

فرصة أمام «طالبان» لتتحوّل من ميليشيا إلى كيان شرعي

لم تعد حركة طالبان المتشددة في أفغانستان مجرد ميليشيا رثة لطلبة مدارس دينية نصف أميّين. بل لقد دفعت السنوات العشر الماضية قيادة «طالبان» إلى عالم الدبلوماسية الإقليمية الغادر، حيث يُظهر عتاة الجواسيس أنفسهم كدبلوماسيين، ويصبحون مصدراً للمعدات العسكرية والدعم السياسي، وينخرط المسؤولون العسكريون من القوى الإقليمية في عمليات بناء تحالفات لتنصيب حكومات توافق رغباتهم في العاصمة الأفغانية كابل. ولقد أضفت الاتصالات المكثفة بين حركة طالبان الأفغانية والدول الإقليمية، بما في ذلك إيران والصين وروسيا، وجهاً من الشرعية على هذه الميليشيا، داخل المجتمع الأفغاني وكذلك على المستوى الإقليمي.
يرجح محللون سياسيون أن تقلل الاتصالات التي جرت أخيراً بين الدول الإقليمية الرئيسية المحيطة بأفغانستان -تحديداً، الصين وروسيا وإيران- وحركة طالبان الأفغانية من اعتماد الحركة - الميليشيا على باكستان. وفي الوقت ذاته، في ظل وجود اتصالات دبلوماسية وثيقة لحركة طالبان الأفغانية مع الدول الثلاث، ثمة فرصة كبيرة لظهور الميليشيا ككيان سياسي شرعي داخل المجتمع الأفغاني وعلى المستوى الإقليمي.
وعلى الرغم من أن الاتصالات بين «طالبان» الأفغانية والحكومة الروسية ما كانت سرية، فإن المسؤولين الروس العاملين في المنطقة لم يعترفوا علانية بوجود اتصالات سياسية بين الحكومة الروسية و«طالبان» إلا خلال الأسبوع الماضي. وحول هذا الأمر قال العميد محمود شاه، وهو مسؤول استخبارات كبير متقاعد وخبير أفغاني: «يقول الروس علناً إن الأميركيين على اتصال مع «طالبان»، فلماذا يريدون منع الدول الأخرى من البقاء على اتصال مع (طالبان)؟!».
من ناحية ثانية، ظهر الاتصال بين الحكومة الإيرانية والحكومة الأفغانية عندما قُتل القائد الأعلى السابق لـ«طالبان»، الملا أختر منصور، في غارة أميركية بطائرة «درون» من دون طيار على الحدود الباكستانية - الإيرانية في أثناء دخوله الأراضي الباكستانية من إيران. وذكرت صحيفة «وول ستريت جورنال» الأميركية أن الغارة وقعت في أثناء استقلاله سيارة أجرة من الحدود الإيرانية إلى مدينة كويتا الباكستانية قرب الحدود مع أفغانستان، بعد بقائه لـ«مدة طويلة» في إيران. وبالمثل، أخبر الخبير الأفغاني الشهير رحيم الله يوسف زي، هذا الكاتب بأن الحكومة الصينية كانت على اتصال مع الحكومة الأفغانية وحركة طالبان، قائلاً: إن «الصينيين يريدون التوسط بين الحكومة الأفغانية وحركة طالبان الأفغانية». وبالتالي، فإن كل هذه الاتصالات المنطوية على دبلوماسية بين «طالبان» والجهات الفاعلة الإقليمية الرئيسية، بما في ذلك إيران والصين وروسيا، ستضفي شرعية سياسية على «طالبان» داخل المجتمع الأفغاني، وأيضاً في الوضع الأمني الإقليمي. ونتيجة لذلك، تضفي الجهات الفاعلة الإقليمية الصبغة الشرعية بشكل متزايد على وجود «طالبان» ونشاطها، لأنه وفق رحيم الله يوسف زاي: «كل شخص يريد التحدث مع (طالبان)، وكل شخص يريد زيارة مسؤولي (طالبان) في العاصمة القطرية الدوحة».
- الخيارات العسكرية
كل هذا لم يمنع «طالبان» من الاعتماد المتواصل على الخيارات العسكرية كوسيلة لتحقيق أهدافها في أفغانستان. وتشير التقارير الصادرة من أفغانستان إلى أن الحركة ما زالت تنخرط في عمليات عسكرية فعّالة ضد قوات الحكومة الأفغانية وكذلك قوات حلف شمال الأطلسي «ناتو» داخل أفغانستان طوال فصل الشتاء. وأفاد «اتحاد أبحاث وتحليل الإرهاب» (TRAC)، وهو منظمة دولية لمراقبة الإرهاب مقرها العاصمة الأميركية واشنطن، في تقريره الأخير، بأن شهر يناير (كانون الثاني) كان فترة غير عادية في أفغانستان من منظور «طالبان». إذ ورد في تقرير «الاتحاد» الأخير قوله: «لقد كان يناير الماضي شهراً نشطاً بشكل استثنائي لكل من (طالبان IEA) و(داعش خراسان ISK)، مع إعلان (طالبان) وحدها بشكل مذهل مسؤوليتها عن 472 حادثاً على مدى موسم غير قتالي تقليدي في أفغانستان». وحتى بعد استبعاد الهجمات الكبرى التي وقعت في كابل على مدى الشهر، فإن العدد الهائل لبيانات إعلان المسؤولية عن الحوادث بالنسبة إلى بقية أفغانستان في يناير يعد صاعقاً. وسيكون 472 إعلان مسؤولية عن حوادث عدداً مذهلاً في شهر يوليو (تموز)، أما بالنسبة إلى شهر يناير فهو غير مسبوق. وهو يؤدي إلى استنتاج أن أوقات «موسم للقتال في أفغانستان» قد انتهت، لأن القتال «أصبح الآن على مدار السنة».
خلال الشهر الماضي، اتهم جنرال أميركي يعمل في أفغانستان، روسيا بتقديم أسلحة إلى «طالبان»، غير أن الحكومة الروسية رفضت هذا الادعاء. ولكن حتى الخبراء العسكريون المستقلون المقيمون في العاصمة الباكستانية إسلام آباد يرون أن «طالبان» لا تحتاج إلى أي دولة أجنبية لتزويدها بالسلاح، وحسب العميد محمود شاه: «هناك الكثير من الأسلحة في أفغانستان التي يمكنك تسليح جيش من العالم الثالث بها، في ظل توافر الأسلحة في تلك الدولة التي مزّقتها الحرب».
... وخيار المباحثات
وفي هذا السياق، لم تظهر حركة طالبان، إبان السنوات العشر إلى الخمس عشرة الماضية، كقوة عسكرية فحسب، بل أيضاً كقوة على وشك الحصول على الشرعية السياسية من الجهات الفاعلة الإقليمية. وفي الشهر الماضي، عرض الرئيس الأفغاني أشرف غني على قيادة «طالبان»، بالفعل، مباحثات سلام مقابل تعهّد بالتخلي عن العنف. وتدعم الحكومة الباكستانية أيضاً مبادرة السلام التي عرضها الرئيس الأفغاني، إلا أنها، أوضحت للحكومة الأفغانية أنه في حال وقوع أعمال عنف واسعة النطاق داخل أفغانستان، فإن إمكانية إجراء مباحثات سلام ستتلاشى.
وهنا يُذكر أنه في عام 2015، أرادت الحكومة الأفغانية التباحث مع «طالبان» بهدف منع الحركة من شن «هجوم الربيع»، وحدث عكس هذا التوقع تماماً في أفغانستان في أعقاب المباحثات مع «طالبان» برعاية باكستان. وفي أفغانستان، كما هو متوقع، أعقبت هذه الزيادة في العنف تصريحات متعنتة من المسؤولين الأفغان بأنهم سيتعاملون مع «طالبان» بيد من حديد.
من ناحية أخرى، اتخذ الجانب الباكستاني موقفاً مختلفاً تماماً. ففي ذلك الوقت، قال مستشار رئيس الوزراء للشؤون الخارجية -آنذاك- سرتاج عزيز: «إن التهديد باستخدام العمل العسكري ضد العناصر غير القابلة للتصالح (طالبان) لا يمكن أن يسبق عرض إجراء المباحثات بالنسبة إلى جميع المجموعات وردها على مثل هذا العرض». وكان يقول للجانب الأفغاني إنه ينبغي ألا يُرفقوا أي شروط مسبقة لإجراء المباحثات، وإن عليهم تهيئة أجواء مواتية لها، كما أن عليهم ألا يحددوا أي موعد نهائي. ونتيجة لذلك، لم تنطلق هذه المباحثات المأمولة.
- أفغانستان مقبرة للسلام
الحقيقة أن أفغانستان ليست مجرد مقبرة للإمبراطوريات، بل هي مقبرة أيضاً لجهود السلام. ففي الماضي القريب، بذل الباكستانيون والسعوديون والصينيون والعديد من الجهات الفاعلة الإقليمية جهوداً لإقناع حركة طالبان الأفغانية والحكومة الأفغانية بالجلوس إلى طاولة المفاوضات. ونظمت وكالات الاستخبارات الأميركية والغربية المسار الأول للمفاوضات في ألمانيا، الذي أبلغ مسؤولون أميركيون الجيش الباكستاني عنه في ديسمبر (كانون الأول) 2011.
أيضاً حاولت باكستان تنظيم إجراء مباحثات مباشرة بين «طالبان» وسلطات أفغانستان خلال السنوات الثلاث الماضية، لكن المحاولة لم تنجح. وفي الماضي، لم تنجح محاولات جهود السلام لسبب رئيسي هو أن كلاً من الحكومة الأفغانية و«طالبان» لم تأخذا إمكانية إجراء مباحثات كخيار جاد لحل نزاعهما، وواصل الطرفان جهودهما العسكرية من أجل حسم الصراع عسكرياً. ورغم ذلك، في الماضي، أبدى الطرفان موافقتهما على إمكانية الجلوس إلى طاولة المفاوضات وجهاً لوجه.
أما الآن، فهناك تغيّر طفيف في الموقف، وبالتوازي مع رفض «طالبان» الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع حكومة أفغانستان، قال متحدث «طالبان» أخيراً: «سنتحدث مباشرة مع واشنطن... نظام كابل عبارة عن نظام دُمى لن نتفاوض معه». ويعتقد معظم المحللين أن بيان «طالبان» هذا يعكس ثقة الحركة المكتسبة حديثاً لأنها تسيطر الآن على معظم الأراضي الأفغانية، كما أنها حصلت على ما يشبه الشرعية السياسية من الجهات الفاعلة الإقليمية.
وفي هذه الأثناء، ازدادت توقعات الحكومة الأفغانية والمسؤولين الأميركيين بأن باكستان قد تجلب «طالبان» إلى طاولة المفاوضات، بالإضافة إلى إقناع قيادة الحركة بالموافقة على حل سلمي للصراع. وكذلك واصلت الحكومة الأفغانية الضغط على الحكومة الباكستانية للتأثير على سياسات «طالبان». ولكن، في المقابل، الواضح أنه كلما تعرضت باكستان للضغط، فإنها تتوخى حذراً أكبر في دورها المحتمل بالتسوية السلمية الأفغانية. وقبل زيارة رئيس الوزراء الباكستاني شهيد خاقان عباسي، لكابل مباشرة، نُقِل عن مسؤول عسكري كبير قوله في وسائل الإعلام الباكستانية أنه ليس لدى باكستان التأثير على حركة طالبان الأفغانية، ولم تدّع أبداً امتلاكها تأثيراً على سياساتها. كما أوضح المسؤول العسكري أن الجيش الباكستاني لا يمتلك أي قدرة على جلب «طالبان» الأفغانية إلى طاولة المفاوضات مع سلطات كابل.
وبعد هذا البيان، حرص المسؤولون الباكستانيون أيضاً، في أعقاب مباحثاتهم مع ممثلي الحكومة الأفغانية في كابل، على أنهم لم يقولوا شيئاً عن قدرة باكستان على التأثير على سياسات «طالبان» أو جلبهم إلى طاولة المفاوضات. ووفقاً للبيان الصادر عن مكتب رئيس الوزراء عباسي في ختام زيارته لكابل، رحّب عباسي برؤية الرئيس أشرف غني للسلام والمصالحة في أفغانستان، وعرضه التباحث من أجل السلام مع «طالبان». وجاء في البيان: «دعا الزعيمان (طالبان) للاستجابة بشكل إيجابي لعروض السلام والانضمام إلى عملية السلام دون مزيد من التأخير. واتفقا على أنه لا يوجد حل عسكري للصراع الأفغاني الجاري، وعلى أن الحل السياسي هو أفضل وسيلة للتقدم».
- أسس التوقعات
هذا، وتستند توقعات الحكومة الأفغانية في المقام الأول إلى تصوّرات مفادها أن معظم قيادة «طالبان» ما زالت مستقرة مقيمة في مدينة كويتا (بجنوب باكستان) قرب الحدود الأفغانية. ويرتكز هذا التصور على تقارير وسائل الإعلام في الصحف الأميركية التي مفادها أن قيادة «طالبان»، بما في ذلك الراحل الملا عمر، ظلت مقيمة في كويتا خلال الفترة منذ الغزو الأميركي لأفغانستان. وبصرف النظر عن صحة هذه التصوّرات أم لا، فثمة حقيقة خلفها هي أن باكستان كانت في الماضي تدعم حركة طالبان الأفغانية سياسياً وعسكرياً.
إن سياسة الحذر الباكستانية تجاه «طالبان» حديثة العهد، إذ لا يتجاوز عمرها بضعة أشهر، بينما في الماضي كان المسؤولون الباكستانيون يتفاخرون بتأثير بلادهم على الحركة الأفغانية. وفي تناقض تام مع موقف إسلام آباد الأخير المتمثل في إبقاء تأثيرها على «طالبان» تحت غطاء سياسي، من الواضح أن باكستان على اتصال مع الحركة من خلال مكتب الأخيرة في الدوحة. وقام وفد من «طالبان» مكوّن من 3 أعضاء من مكتب الدوحة بزيارة إسلام آباد في يناير، وأجرى مباحثات مع مسؤولين باكستانيين. ووفقاً لتقارير، تباحثت وفود «طالبان» المكوّنة من 3 أعضاء من مكتب الدوحة أيضاً مع ممثلي الحكومة الأفغانية، فيما نفت الحكومة هذا الأمر. وقالت مصادر لـ«الشرق الأوسط» إن باكستان أطلعت المسؤولين الأميركيين والأفغان على نتائج هذه المباحثات مع ممثلي «طالبان».
مع ذلك، باشرت باكستان النأي بنفسها علانية عن الحركة الأفغانية، ويبدو أنها تبعث برسالة استياء من التقارير التي تفيد بأنها يمكن أن تؤثر على سياسات «طالبان» أو تجلبها إلى طاولة المفاوضات. والجدير بالذكر، في هذا السياق، أن باكستان نقلت بالفعل للمسؤولين الأفغان والأميركيين، عبر القنوات الدبلوماسية، عجزها عن جلب «طالبان» إلى طاولة المفاوضات تحت كل الظروف. وتعتقد السلطات الباكستانية أنه بعد موجة من سفك الدماء في أفغانستان، التي من المتوقع حدوثها في «موسم الربيع» الحالي، سيكون من المستحيل تسهيل المباحثات بين «طالبان» وسلطات كابل.
- جماعة «تحريك طالبان باكستان» النشأة والتحول
> تعود بداية الاضطرابات التي عمّت المناطق القبلية في باكستان، إلى الفترة التي أعقبت الغزو الأميركي لأفغانستان مباشرةً عام 2001، لكن الاضطرابات سرعان ما تحولت إلى حالة أشبه بالتمرد عام 2004، وبلغ الوضع ذروته في ديسمبر (كانون الأول) 2007 عندما اجتمع نحو 40 من قادة الجماعات الإرهابية المسلحة في المناطق القبلية الباكستانية وفي منطقة «خيبر باختون خا» البشتونية الحدودية للاتفاق على تأسيس كيان موحّد كمظلة لجميع الكيانات أطلقوا عليها لاحقاً اسم «تحريك طالبان باكستان» (أي، حركة طالبان باكستان)، وعُيّن بيت الله محسود زعيماً لها، ليلقى حتفه لاحقاً.
كان محسود قد أكد أن الهدف من تأسيس التحالف هو «الجهاد الدفاعي»، ولكن عندما اتجه الصحافيون الباكستانيون إلى منطقة جنوب وزيرستان في مايو (أيار) 2008، أبلغهم محسود بأنه يعتبر الولايات المتحدة «عدوه الشخصي»، وكان في بعض الأحيان يهدد بتوسيع نطاق جهاده ومده إلى الدول الغربية.
وفي نهاية عام 2008، تلقت الحكومة الباكستانية معلومات من العواصم الأوروبية بأنهم ألقوا القبض على مواطنين باكستانيين وأوروبيين اعتنقوا الإسلام ويخططون لشن اعتداءات إرهابية في مدن أوروبية، وأيضاً أن هؤلاء تلقوا تدريباتهم في معسكرات تابعة لمحسود. وفي تصريح لصحيفة «الشرق الأوسط» عام 2008، قال مسؤول باكستاني: لقد «تلقينا معلومات مؤكدة من ألمانيا وإسبانيا تفيد بأن إرهابيين تلقوا تدريبات في معسكرات تابعة لمحسود قد ألقي القبض عليهم في تلك الدول». كان ذلك البلاغ بمثابة الإشارة الأولى على أن جماعة «تحريك طالبان باكستان» قد تحولت إلى «جماعة جهادية عالمية».
ومن ثم، تمكنت أجهزة الاستخبارات الباكستانية ومعها عدد محدود من الكتاب والخبراء المعنيين بالإرهاب والقتال، من توثيق ورصد الأدلة على وجود تعاون بين «تحريك طالبان باكستان» وتنظيم «القاعدة» الإرهابي. وأفاد الخبراء بأنه ليس سراً أن التنظيمين نفّذا عمليات إرهابية في المدن الباكستانية بمساعدة عناصر محلية. وبات من المعروف الآن أن «تحريك طالبان باكستان» أُسست في ديسمبر (كانون الأول) (كانون أول) 2007 للعمل كمظلة لأكثر من 20 جماعة في منطقة جنوب وزيرستان الحدودية مع أفغانستان، وأن ذلك التاريخ يمثل بداية بزوغها. ومنذ نشأتها الأولى، كان وجود المتشددين العرب ملحوظاً بقوة لكنه اقتصر في البداية على التمويل. ولقد اعترف الزعيم الذي لقي حتفه، محسود، في مقابلة شخصية، بأن العرب وتنظيم «القاعدة» كلاهما قدم تمويلات ساعدت في تأسيس جماعة «تحريك طالبان باكستان».
من جهة أخرى، لا عجب أنه في غضون سنتين من تأسيسها، بات للجماعات العربية المرتبطة بـ«القاعدة» ممثلون في المجلس المركزي لجماعة «تحريك طالبان باكستان». وأفاد الخبراء بأن تلك كانت المرة الأولى التي يكون فيها للمتشددين نفوذ في صناعة القرار داخل الجماعة. وللعلم، ينتسب العديد من مقاتلي التنظيم على الأرض، وكذلك العديد من قادتها، إلى مدرسة «الديوبندية» الفكرية المتطرفة، لكن أتباع تلك المدرسة تلاشوا مع مرور الوقت لصالح العناصر المسلحة والتنظيمات الطائفية والمناطقية التي حوّلت عملياتها من وسط باكستان إلى المناطق القبلية. من تلك التنظيمات كانت جماعات مسلحة مثل «عسكر طيبة» المتشددة، وبعض العناصر الأصولية من «الجماعة الإسلامية» وغيرها من الجماعات المسلحة التي سيطرت على القرار داخل «تحريك طالبان» حتى عام 2010.



موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
TT

موسكو تترقّب إدارة ترمب... وتركيزها على سوريا والعلاقة مع إيران

لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)
لقاء ترمب وبوتين على هامش "قمة العشرين" عام 2017 (آ ف ب)

لم تُخفِ موسكو ارتياحها للهزيمة القاسية التي مُنيت بها الإدارة الديمقراطية في الولايات المتحدة. إذ في عهد الرئيس جو بايدن تدهورت العلاقات بين البلدين إلى أسوأ مستوياتها منذ تفكّك الاتحاد السوفياتي السابق، وجرى تقويض كل قنوات الاتصال السياسية والدبلوماسية والأمنية. وحتى «الخط الساخن» الذي طالما عوّل عليه البلدان لمواجهة الظروف الطارئة وتجنّب الانزلاق إلى احتكاكات مقصودة أو غير مقصودة، جرى تجميده كلياً. كانت تلك، وفقاً لمسؤولين روس، أسوأ أربع سنوات في العلاقات، ولقد تحوّلت فيها الولايات المتحدة إلى خصم مباشر، و«شريك رئيس في الحرب الهجينة ضد روسيا». ولم ينعكس التدهور فقط في ملفات أوكرانيا والأمن الاستراتيجي والوضع في أوروبا - وهي القضايا المركزية التي تشغل بال الكرملين - بل أيضاً امتد في تأثيره بعيداً عن الجغرافيا الحيوية لروسيا... ليصل إلى الملفات الإقليمية الساخنة في الشرق الأوسط التي شهدت تصعيداً متواصلاً فاقم تأجيج الأزمة في العلاقات.

بمجرد اتضاح نتائج الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة، بدأ محللون روس في وضع «سيناريوهات» للتقارب مع الإدارة الجمهورية الجديدة في واشنطن. ولطالما كان ينظر في موسكو للرئيس المنتخب دونالد ترمب على أنه «قادر على إعادة تشغيل العلاقات مع موسكو»، والتوصل إلى تسويات أو «صفقات» حول القضايا الأكثر خلافية.

بيد أن الكرملين كان قد خاض تجربة مريرة مع ولاية ترمب الأولى، عندما بدا الرئيس - المتهم بالتعاون سرّاً مع روسيا - عاجزاً عن مواجهة تركة باراك أوباما الثقيلة في العلاقة مع موسكو. لذلك لم ينجح التفاؤل الروسي في حينه، ولا الخطوات المحدودة التي انتهجها ترمب في تحسين العلاقات جدياً، ووضع «سيناريوهات» للتعاون في ملفات دولية أو إقليمية. بل بالعكس من ذلك، فقد واجهت روسيا في ولاية ترمب السابقة أضخم رُزم عقوبات فرضتها واشنطن. ومن ناحية ثانية، فشل الطرفان أيضاً في تحسين شروط التعاون حيال ملفات إقليمية مهمة، فتدهور الوضع حول إيران بعد انسحاب ترمب من الاتفاقية النووية، وتراجع الأخير عن تنفيذ تعهد الانسحاب من سوريا.

ثلاثة أفخاخ

بناءً عليه، بدت موسكو أكثر حذراً هذه المرة وهي تستقبل أنباء فوز ترمب الساحق. وحقاً، تجنّبت تعليق آمال جدية، بانتظار ما ستقدم عليه الإدارة الجديدة من خطوات عملية فور تسلم الرئيس منصبه رسمياً في يناير (كانون الثاني) المقبل.

لكن هذا لم يمنع التوقّعات المتشائمة، التي غلبت على العلاقة، من البروز بشكل مباشر أو غير مباشر. والحال أن موسكو تبدو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة. وفي هذا الإطار، أجمل أليكسي بوشكوف، عضو مجلس الشيوخ الروسي وأحد خبراء السياسة المقربين من الرئيس فلاديمير بوتين، المأزق الذي يواجه ترمب بأنه يشتمل على «ثلاثة أفخاخ صعبة».

الفخ الأول، بطبيعة الحال، هو ملف أوكرانيا: فلقد استثمرت الولايات المتحدة بالفعل الكثير في أوكرانيا لدرجة أنها ما عادت تعرف كيفية الخروج من هذه الأزمة. وهنا لا تتوقف موسكو كثيراً عند الوعود الانتخابية لترمب بإنهاء الحرب في 24 ساعة. ويتساءل بوشكوف: «هل ستتخلى واشنطن عنها مثل أفغانستان؟ لم يعد يمكنها ذلك». أو تكمل ما بدأته الإدارة الديمقراطية؟ عندها... وكما حذّر ترمب بحق، فإن هذا قد يؤدي إلى صراع نووي مع روسيا. تدرك موسكو حجم الصعوبات التي تواجه ترمب في هذا الملف.

أما الفخ الثاني، فهو شرق أوسطي. وهنا - حسب بوشكوف - «لا يمكن لترمب التراجع عن دعم إسرائيل بسبب وجود لوبي قوي جدّاً مؤيد لإسرائيل في الولايات المتحدة. لكنه لا يستطيع دعم رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو علناً في كل ما يفعله، لأن هذا يضرّ بمكانة الولايات المتحدة في العالم العربي (...) ولأن المخطط الأميركي لمصالحة إسرائيل مع جيرانها ما زال موضع شك. لقد حاولت الولايات المتحدة إخراج إسرائيل من عزلتها في المنطقة... لكن هذا المدخل لم يعد يعمل. وعلاوة على ذلك: يُصرّ العالم العربي على إقامة الدولة الفلسطينية، وهو ما ترفضه إسرائيل بشكل قاطع. إذن فهذا أيضًاً فخ».

وأما الفخ الثالث فهو تايوان. ووفقاً لبوشكوف: «من الممكن أن تصبح قضية تايوان فخاً كبيراً للولايات المتحدة. والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل ستدعم أوروبا الأميركيين إذا دخلت الولايات المتحدة في صراع مع الصين؟ لقد قوّضت أوروبا نفسها اقتصادياً بشدة بالفعل بسبب انفصالها عن روسيا. وإذا فتحت أيضاً معركة مع الصين، التي يبلغ حجم تجارة الاتحاد الأوروبي معها تريليون دولار أميركي، فمن المرجح أن ينهار الاقتصاد الأوروبي ببساطة».

قنابل موقوتة

السياسي الروسي يرى أن «الأفخاخ الثلاثة» تمثل قنابل موقوتة بالنسبة إلى دونالد ترمب... مهما كانت طبيعة التركيبة النهائية لفريقه الرئاسي، أو خطواته الأولى على صعيد السياسة الخارجية.

فضلاً عن ذلك، يرى بوشكوف، أن ترمب الذي تعهد بإيلاء القدر الأكبر من الاهتمام للإصلاح الداخلي، سيواجه صعوبة كبرى في إيجاد توازن بين الانكفاء إلى الداخل من أجل تحسين الأداء الاقتصادي ومواجهة الهجرة و«إعادة أميركا عظيمة» بقدراتها واقتصادها ومستوى المعيشة لشعبها، وبين العمل بسرعة لتنفيذ وعود انتخابية بإنهاء حروب وتقليص التوتر في أزمات خارجية. ويضيف متسائلاً: «كيف يمكن أن تكون أميركا عظيمة مجدّداً... وهي تنكفئ في السياسة الدولية؟».

تبدو موسكو حالياً ضعيفة الثقة بقدرة «ترمب الجديد» على تجاوز

التغيّرات الكبرى التي شهدتها الأوضاع الإقليمية والدولية خلال السنوات الأخيرة

تباين حيال التسوية في الشرق الأوسط

لا يبدو أن موسكو تثق كثيراً بقدرة ترمب على لعب دور نشط لإنهاء الحرب على غزة ولبنان، ودفع الإسرائيليين إلى التوصّل لحلول سياسية تعيد الهدوء - ولو نسبياً - إلى الشرق الأوسط.

وهنا، يذكر خبراء أن المدخل الأميركي السابق قام على أساس تعزيز اتفاقات تطبيع وفرض سلام من نوع خاص، لا يؤدي إلى تسوية سياسية حقيقية تنهي العنف في المنطقة وتنزع ذرائعه.

وترمب نفسه أعرب خلال فترة ولايته الرئاسية الأولى عن نيته التوسط في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، لكنه أظهر لاحقاً التقارب مع إسرائيل من أجل كسب دعم المانحين الرئيسيين والناخبين الرئيسيين، وخاصة الصهاينة المسيحيين الإيفانجيليين.

بحسب خبراء، هذا الموقف يتوافق مع النهج القائل: «أميركا تفعل ما تريد، وبالتالي أصدقاء أميركا يفعلون ما يريدون». مع الإشارة هنا إلى أن هذا النهج المائل إلى عقد «صفقات» ينصّ على «امتيازات خاصة للحلفاء كدفعة مقابل الأمن». غير أن موسكو ليست مقتنعة بأن هذا المدخل سيعزّز طريق الحلول النهائية للمنطقة.

ومقابل القناعة الروسية بالعودة إلى الآليات التي توافر عليها نوعٌ من الإجماع الدولي، كإحياء «الرباعية الدولية» وتوسيعها بضم بعض الأطراف الإقليمية المهمة (المملكة العربية السعودية ومصر وجامعة الدول العربية)، وأيضاً العودة إلى مبادئ التسوية القائمة على أساس رفض التوسّع الجغرافي للاحتلال، وإعلاء «مبدأ حل الدولتين» ووضع خرائط طريق جديدة بينها «المبادرة العربية للسلام»، فإن مدخل ترمب يقوم على عقد صفقات سريعة للتهدئة، وترك المناطق أمام «برميل بارود» قابل للانفجار مجدداً في أي وقت.

في هذا الإطار لا يتوقّع خبراء روس أن تكون التسوية في الشرق الأوسط بين أولويات الحوار المنتظر مع الإدارة الأميركية الجديدة، بالنظر إلى أن هذا الموضوع فيه تباعد واسع في وجهات النظر، ولا يدخل ضمن الملفات التي قد يكون بوسع الطرفين التوصل إلى صفقات حولها.

وفي الوقت ذاته، ترى موسكو - وفقاً لتحركات محدَّدة برزت في سوريا، ومن خلال حوارات مكثفة أجريت غالباً خلف أبواب مغلقة مع الجانب الإسرائيلي - أن بوسعها لعب دور أساسي في تأكيد دورها بضمان أمن إسرائيل من جهة سوريا وإيران مستقبلاً. وهو ما يعني أن هذا الموضوع قد يكون جزئياً على طاولة حوار روسي - أميركي في وقت لاحق.

تأهب للحوار حول سوريا

في هذه الأثناء، لدى الأوساط الروسية نظرة إيجابية، ولكن حذرة، بشأن احتمالات سحب ترمب القوات الأميركية من سوريا إبان ولاية ترمب الجديدة.

موسكو تتذكر الإرادة الأميركية في الانسحاب من سوريا إبان ولاية ترمب السابقة، لكن يومذاك كان التهديد الإرهابي ما زال نشطاً، والخطوط الفاصلة ومناطق النفوذ لم تكن قد تبلورت بشكل شبه نهائي. لذا يرى خبراء روس أن ترمب عندما يتكلّم عن سحب القوات حالياً فهو ينطلق من واقع ميداني وسياسي جديد. وبالتالي، سيكون حذراً للغاية عند مناقشة هذه المشكلة مجدداً.

أيضاً، ونظراً لوعود ترمب الانتخابية المتكررة، يُرجح أن ترغب واشنطن في سحب قواتها من سوريا، لكن لا يبدو لموسكو أن هذه القضية ستكون مُدرجة على جدول الأعمال ضمن أولويات التحرك الأميركي حالياً.

لقد قوبلت خطط ترمب لسحب القوات في السابق بمقاومة مفتوحة، خاصة من «القيادة الوسطى» الأميركية وشخصيات، مثل بريت ماكغورك، الذي عمل مبعوثاً خاصاً لمكافحة «داعش» حتى أواخر عام 2018، واستقال قبل شهرين من انتهاء فترة ولايته، مباشرة بعد قرار إدارة ترمب سحب القوات من سوريا في 19 ديسمبر (كانون الأول) 2018. بعدها عيّن جو بايدن، الرئيس الأميركي المنتخب، عام 2020، ماكغورك منسقاً لمجلس الأمن القومي الأميركي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، واكتسبت سياسة واشنطن في سوريا لدعم حزب العمال الكردستاني «وحدات حماية الشعب» زخماً.

حالياً يعود الملف إلى دائرة النقاش، ولقد برز بشكل واضح خلال اجتماعات «جولة آستانة للحوار» التي انعقدت أخيراً. وأكد المبعوث الرئاسي الروسي ألكسندر لافرنتييف إلى سوريا في ختام الاجتماعات أن موسكو منفتحة على الحوار مع الإدارة الأميركية الجديدة فور تشكيلها، لبحث الملفات المتعلقة بسوريا. وقال الدبلوماسي الروسي: «إذا كانت هناك مقترحات، فإن الجانب الروسي منفتح، ونحن على استعداد لمواصلة الاتصالات مع الأميركيين».

وفي هذا المجال، تنطلق موسكو من قناعة بأنه لا يمكن التوصل إلى بعض الحلول الوسط إلا من خلال المفاوضات المباشرة. وهي هنا مستعدة للاستماع إلى وجهات النظر الأخرى، وربما تقديم بعض الضمانات التي تحتاج إليها واشنطن لتسريع عملية الانسحاب ودعم التسوية في سوريا برعاية روسية تضمن مصالح الأخيرة.