ما من أديب أو عالم أو فيلسوف - بالغة ما بلغت مكانته الفكرية - بمنجى من نيران النقد أو فوق المساءلة. هذا ما يؤكده كتاب جديد عن مؤسس التحليل النفسي سيغموند فرويد (1856 - 1939) يحمل عنوان «فرويد: تكوين وهم» من تأليف فردريك كروز، صدر عن دار بروفايل للنشر في 746 صفحة.
لم يكن فرويد مجرد عالم موهوب (فالغرب زاخر بالعلماء الموهوبين في مختلف المجالات) وإنما كان واحدا من صناع العقل الحديث، «مناخا كاملا من الرأي- نعيش تحته حيواتنا المختلفة» كما وصفه الشاعر و. ه. آودن في قصيدة له عام 1939، ولكن هذا الكتاب يشن على فرويد حملة شعواء. وكما يقول تيم سميث –لينج في جريدة «ذا ديلي تلغراف» البريطانية فإن فردريك كروز بدأ حياته فرويديا، وأخرج في 1966 كتابا في التحليل النفسي عن الروائي الأميركي ناثانيل هوثورن عنوانه «خطايا الآباء». لكنه ما لبث أن انقلب على نظريات فرويد في أواخر سبعينات القرن الماضي. ويقوم هجومه على «طبيب فيينا» - كما كان فرويد يدعي - على ركيزتين: (1) إن التحليل النفسي علم زائف (2) إن فرويد ذاته مفتقر إلى الأمانة العقلية والمهنية.
يذهب كروز إلى أن فرويد من حيث الجوهر محتال كان يرمي إلى بلوغ الشهرة بأي ثمن، اعتمد في صياغة نظرياته على تخمينات مغربة في الخيال، وحاول محو أخطائه الماضية وإقامة تمثال - على صعيد دولي - لنفسه ولنظرياته، معتمدا على تقديس المحيطين به – من تلاميذ وأتباع. وكان أبرز المدافعين عنه ابنته آنا فرويد - وقد صارت محللة نفسية مثل أبيها - وعالم النفس البريطاني، كاتب سيرة فرويد، إرنست جونز. وقد سعى هذان الاثنان إلى إخفاء أخطائه.
كان فرويد - بحسب ما يقوله كروز - يكذب أحيانا في تقاريره عن حالات المرضى الذين يفحصهم. ففي رسالة منه إلى صديقه وزميله فيلهلم فليس - في مطلع حياته المهنية - يشكو من أن عيادته تكاد تخلو من المرضى النفسيين وأنه لا يجد زبائن. وحين نشرت هذه الرسائل حجبت آنا فرويد هذه السطور.
وقلما كان فرويد ينجح في علاج مرضاه كما أنه كان يتجاهل أحيانا أخلاقيات المهنة الطبية على نحو خليق أن يصدمنا في هذا القرن الحادي والعشرين. فذات مرة اشترك مع صديقه فيليس في معالجة مريضة تدعى إما إكستاين كانت تشكو من أعراض بدنية وذهنية شخصها الاثنان على أنها حالة هيستريا. عمد فرويد إلى معالجتها بالكوكايين (وكان يعده دواء شافيا لكل الأمراض) ثم بجراحة في الأنف. وحين فشل فيليس في إجراء الجراحة تدهورت حالة المريضة وأوشكت على التلف ولكن فرويد أبى أن يتراجع عما فعلاه مصرا على أن النزيف المميت الذي حدث للمريضة بعد الجراحة كان مجرد عرض من أعراض الهستريا وأنه راجع إلى تعلق المريضة لاشعوريا به (بفرويد!). وكتب في رسالة إلى فيليس (8 مايو/أيار 1896): «لقد جددت نزيفها بوصف ذلك وسيلة لا تخيب لإعادة إحياء مودتي لها». وحين لم يعد هناك أمل في نجاح العلاج ادعى فرويد أن المريضة تمثل حالة مستعصية على التحليل النفسي وأنه مكتوب عليها أن تظل «غير سوية حتى نهاية حياتها». وعمد أنصار فرويد إلى التغطية على هذه القصة فحذفتها آنا فرويد من سجل حالات مرضى أبيها.
وممن انتقدوا نظريات فرويد ومناهجه فيلسوف العلم كارل بوبر الذي ذهب في منتصف القرن الماضي إلى أن نظريات فرويد موضع شك علميا، إذ لا هي بالتي يمكن إثباتها ولا هي بالتي يمكن دحضها. وذهب أنصار علم النفس التجريبي إلى أن أغلب آرائه مجرد فروض نظرية لا تثبتها التجربة. وقال رتشارد فون كرافت - إبنج، المتخصص في بحوث الجنس، إن أفكار فرويد أقرب إلى أن تكون «قصة علمية من قصص الجنيات أو الخيال».
والرأي عندي أن كتاب كروز (الذي لا يخلو من تهجم شخصي وبعد أحيانا عن الموضوعية) مفيد من حيث أنه يلفتنا إلى أن فرويد -مثل غيره من كبار المفكرين - لم يكن إلا بشرا يخطئ ويصيب، وأن آراءه لم تكن تخلو أحيانا من الغرض أو الهوى أو التحيز. لكن الكتاب – من ناحية أخرى - لا يفلح في زحزحة فرويد عن عرشه، فهو يظل أيقونة فكرية مؤثرة في مجالات الفكر كافة بل في لغة المحادثات التي نستخدمها في حياتنا اليومية وذلك منذ أن أشاع فرويد مصطلحات «الهو» «الأنا» «الأنا الأعلى» «الرقيب» «الكبت» «مركب (عقدة) أوديب». لقد أرسى فرويد قواعد الدراسة العلمية لقارة اللاشعور (وكان من الأمانة بحيث ذهب إلى أن الشعراء والأدباء والفلاسفة مثل سوفوكليس وشكسبير ودوستويفسكي وشوبنهور قد سبقوه إلى اكتشاف هذه القارة) وقدم منهجا مبتكرا في تفسير المضامين الظاهرة والكامنة للأحلام، وألقى الضوء على الدور الخطير الذي تلعبه الغريزة الجنسية ونوازع العدوان في سلوك البشر، وأكد وجود الدافع الجنسي بمراحله الفمية والشرجية لدى الأطفال، وبين أن انشقاق الذهن إلى طبقات راجع إلى صراع نفسي داخلي بين مجموعات متنوعة من القوى، وعالج قضايا مهمة مثل مشكلات الحضارة، ومستقبل الدين، والصراع بين غرائز البقاء (إيروس) والرغبة في الموت (ثاناتوس)، وأصول العصاب، ودلالة النكات على محتويات اللاشعور، والطوطم والتابو، وسيكولوجية الحياة اليومية، والحرب والموت، وما وراء مبدأ اللذة، والصلة بين سيكولوجية الجماعة وتحليل الأنا، والكف والعرض والقلق، والأحلام في المأثورات الشعبية (الفولكلور)، فضلا عن تحليلاته لفنانين مثل ليوناردو دافنشي ولأعمال أدبية مثل «أوديب ملكا» لسوفوكليس، و«هملت» لشكسبير، و«فاوست» لجوته، و«الإخوة كارامازوف» لدوستويفسكي. هذه كلها منجزات باقية على الزمن تكفل لفرويد الخلود وإن كره شانئوه. إن فرويد - ببساطة - قد جاء ليبقى.
هل كانت نظريات فرويد محض أوهام؟
كتاب يتهمه بأنه كان «دجالاً» يرمي إلى بلوغ الشهرة بأي ثمن
هل كانت نظريات فرويد محض أوهام؟
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة