بورديو وتعرية آليات الهيمنة في المجتمع الرأسمالي

كتاب مغربي عن عالم الاجتماع الفرنسي «المشاكس»

بورديو وتعرية آليات الهيمنة في المجتمع الرأسمالي
TT

بورديو وتعرية آليات الهيمنة في المجتمع الرأسمالي

بورديو وتعرية آليات الهيمنة في المجتمع الرأسمالي

أصدرت مجلة «العلوم القانونية المغربية»، ضمن سلسلتها في البحث الأكاديمي، كتاباً جديداً للدكتور جميل الحمداوي، بعنوان: «بيير بورديو وأسئلة علم الاجتماع»، وهو كتاب صغير الحجم لكن يفي بالغرض، الذي هو التعريف بالملامح الكبرى لأفكار أحد أهم علماء الاجتماع الفرنسيين خلال القرن العشرين، وهو «المشاكس» بيير بورديو.
ويعد بورديو (1930 - 2002) من أهم علماء الاجتماع الفرنسيين الذين سموا «الملتزمين الجدد»، والذين جددوا في التصور الماركسي خلال منتصف القرن العشرين، وله أكثر من أربعين كتاباً وأكثر من مائة مقال. وقد انصب اهتمامه الأساسي على سؤال حارق آنذاك، وربما لا يزال، وهو: كيف يعيد المجتمع الرأسمالي إنتاج التراتبية الطبقية نفسها؟ لكن ليس انطلاقاً من التشديد على العوامل الاقتصادية، كما كانت تلح الماركسية الكلاسيكية، بل بالتركيز على العوامل الثقافية والرمزية. وهو الأمر الذي سيتضح من خلال كتابه «إعادة الإنتاج»، في سنوات الستينات من القرن الماضي، الذي كتبه مع صديقه كلود باسرون، والذي سيجعل من بورديو علماً مشهوراً. وهو الكتاب الذي سيسعى إلى إبراز كيف أن المدرسة ليست بريئة قط، وكيف أنها تساهم في إعادة الطبقية نفسها داخل المجتمع، فالثقافة التي يتلقاها المتعلم الفرنسي خصوصاً، والمتعلم في المجتمع الرأسمالي عموماً، ليست موضوعية أو نزيهة، بل هي ثقافة مؤدلجة تخدم الطبقة النافدة. وكي نفهم ذلك جيداً، لا بد من الوقوف عند مفهوم مركزي عند بورديو هو «الهابيتوس»:
خصص مؤلف الكتاب المبحث السادس لمفهوم الهابيتوس (Habitus)، أو الآبيتوس، دون محاولة تعريبه. وهنا لا بد من الإشارة إلى اجتهاد أحد الكتاب في اختيار لفظ يتناسب واللسان العربي، وهو المؤلف عبد الجليل بن محمد الأزدي، الذي ترجم المفهوم بـ«السمت»، وذلك في كتابه عن بيير بورديو، الصادر عام 2003، مراكش. فما المقصود بـ«الهابيتوس» عند بورديو؟ إنه بالضبط: كل المضمرات من خبرات وكفاءات وقدرات ناتجة عن التربية، ترسخت في جوف الفرد جراء التنشئة الاجتماعية، لتشتغل بلا وعي منه، ومن خلالها يواجه الوضعيات الصعبة والمعقدة داخل عالمه الاجتماعي. فالفرد منا، بحسب بورديو، يحمل «الهابيتوس» كرأسمال ثقافي، يعمل في خلسة وغفلة منه أحياناً، لهذا فهو يتميز بالتكرار والاستدامة والضمنية والتعالي، وقابلية التوريث للأجيال اللاحقة المنتمية للطبقة نفسها، أو لنقل ببساطة هو مجموع الاستعدادات الموروثة اجتماعياً التي تؤثر في سلوكياتنا وردود أفعالنا لدرجة نسيان وجودها، فهي تعمل لا شعورياً. وبعد هذا التوضيح لأهم مفاهيم بورديو، أي «الهابيتوس» أو «السمت»، لنعد إلى المدرسة باعتبارها أداة إعادة الإنتاج الطبقي. إن التلاميذ حينما يدخلون إلى المدرسة الرأسمالية، لا ينطلقون من وضعيات متساوية، لأن رساميلهم الثقافية مختلفة.. فكيف ذلك؟
إن المدرسة تخدم الطبقة المسيطرة لأنها تفرض برنامجاً دراسياً يتلاءم والرأسمال الثقافي الخاص بها، فالطفل في هذه الحالة يعيش في المدرسة استمرارية وانسجاماً مع ما يعيشه بالفعل ضمن طبقته (حضور للمسارح، وزيارات للمتاحف، وسفريات تسمح بإتقان اللغات، وضوابط للسلوك،... إلخ)، الأمر الذي لا يجعله يحس بالغربة، فكل ما يقدم له هو جزء من تربيته، أو لنقل إن هابيتوس طفل الطبقة المهيمنة يخول له التفوق والنجاح بيسر، ودون مجهود ينهك له قواه. وعلى خلاف ذلك، نجد الطفل القادم من الطبقة الدنيا يعيش قطيعة مع المدرسة لأنها تقدم له مضامين معرفية وأساليب للتقويم غريبة عن استعداداته ورأسماله الثقافي الذي تشربه واستدمجه من طبقته، مما يحتم عليه بذل الجهد الكبير من أن أجل التكيف، وهو ما يجعل الكثير يفشل في أن يحظى بالتفوق المطلوب، وإذا ما فلح في ذلك، فالأمر يكون بمجهود جبار ينسف القوى.
نستنتج من عمل بورديو أن تصنيفات الذكاء في المدرسة لا تخلو من الإقصاء، كما لا يمكن فصلها عن الصراعات الاجتماعية، لأن البرامج الدراسية توضع على مقاس المسيطر، مما يصنع التفوق الدائم، ومن ثم إعادة الهيمنة من جديد، فالذكاء صناعة اجتماعية، وليس فقط نتاج الوراثة البيولوجية.
إن موضوع علم الاجتماع الأساس، عند بيير بورديو، هو دراسة حقول الصراع والتنافس، فالمجتمع لا يخلو أبداً من تمايزات طبقية. فحتى الحقل العلمي الصرف غارق في التنافسية، والسعي نحو تحقيق الأرباح وحصد الجوائز المادية (جائزة نوبل) والرمزية للظفر بالسبق والحظوة. أما وظيفة علم الاجتماع، فهي تقويض وتفكيك آليات السلطة، وكشف المخفي باستجلاء لعبة الهيمنة التي تسري في النسيج الاجتماعي عن طريق المقاربة الصراعية. وهذا العمل ينبغي، بحسب بورديو، أن يخضع لمنهج كمي (الاستمارة، والتحقق الميداني، والإحصاء، والمعايشة المشتركة،...إلخ)، ناهيك عن المنهج الكيفي، عن طريق فهم الظاهرة الاجتماعية، وليس فقط تفسيرها، مع التأكيد على ضرورة التزام عالم الاجتماع الحياد القيمي، عن طريق وعيه بموقعه الاجتماعي والاقتصادي والثقافي. باختصار: نجمل السوسيولوجيا عند بورديو في أنها تهتم بالمضمر والمسكوت عنه.
نحن وقفنا فقط عند جانب من سوسيولوجيا بيير بورديو، أما المؤلف جميل حمداوي، فهو يزودنا بتفاصيل كثيرة في كتابه، نذكر منها: أنواع الرأسمال عند بورديو (الرأسمال الاقتصادي، والثقافي، والاجتماعي، والرمزي اللغوي)، ومفهوم السوق اللسانية (مثلاً، الإنجليزية تحتل مكانة كبرى في السوق الألسنية مقارنة باللغات الأخرى)، والعنف الرمزي (باعتباره عنفاً لطيفاً عذباً غير مرئي حتى بالنسبة لضحاياه أنفسهم)، والجمال والتذوق (الذوق يناقش بحسب الانتماء الاجتماعي)، والتميز والاختلاف، وأخيراً مفهوم الحقل.


مقالات ذات صلة

ثقافة وفنون «أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

«أمومة مُتعددة» في مواجهة المؤسسة الذكورية

في كتابها «رحِم العالم... أمومة عابرة للحدود» تزيح الكاتبة والناقدة المصرية الدكتورة شيرين أبو النجا المُسلمات المُرتبطة بخطاب الأمومة والمتن الثقافي الراسخ

منى أبو النصر (القاهرة)
تكنولوجيا شركات الذكاء الاصطناعي تتفق مع دور النشر بما يتيح لهذه الشركات استخدام الأعمال المنشورة لتدريب نماذجها القائمة على الذكاء الاصطناعي التوليدي (رويترز)

شركات الذكاء الاصطناعي التوليدي تلجأ إلى الكتب لتطوّر برامجها

مع ازدياد احتياجات الذكاء الاصطناعي التوليدي، بدأت أوساط قطاع النشر هي الأخرى في التفاوض مع المنصات التي توفر هذه التقنية سعياً إلى حماية حقوق المؤلفين.

«الشرق الأوسط» (باريس)
يوميات الشرق كاميلا ملكة بريطانيا تحصل على الدكتوراه الفخرية في الأدب بحضور الأميرة آن (رويترز)

قدمتها لها الأميرة آن... الملكة كاميلا تحصل على دكتوراه فخرية في الأدب

حصلت الملكة البريطانية كاميلا، زوجة الملك تشارلز، على الدكتوراه الفخرية؛ تقديراً لـ«مهمتها الشخصية» في تعزيز محو الأمية.

«الشرق الأوسط» (لندن)
كتب سوزان بلاكمور وابنتها أميلي تروسيانكو  أثناء حفل توقيع كتاب "الوعي: مقدمة"

الشبحُ في الآلة

شغل موضوع أصل الأشياء The Origin مكانة مركزية في التفكير البشري منذ أن عرف البشر قيمة التفلسف والتفكّر في الكينونة الوجودية.

لطفية الدليمي

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)
بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)
TT

مهرجان للفيلم الأوروبي في العاصمة طرابلس لكسر حاجز الانقسام

بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)
بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي المشارك في مهرجان الفيلم الأوروبي بطرابلس (السفارة الفرنسية)

بعيداً عن التكلس السياسي الذي تعانيه ليبيا، انطلق في العاصمة طرابلس مهرجان للفيلم الأوروبي تحت إشراف بعثة الاتحاد الأوروبي إلى البلاد، بالتعاون مع الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون، في خطوة تستهدف توسيع الشراكة الثقافية وكسر حاجز الانقسام، من خلال تجميع الليبيين بالثقافة والفن.

وتشارك في النسخة الأولى من المهرجان، التي انطلق الأحد، 5 سفارات أوروبية عاملة في ليبيا، بأعمال يتم عرضها للجمهور مجاناً لمدة 5 أيام، تنتهي الخميس المقبل. وعبّر سفير بعثة الاتحاد الأوروبي لدى ليبيا، نيكولا أورلاندو، عن سعادته لافتتاح أول مهرجان سينمائي ليبي - أوروبي في طرابلس، إلى جانب الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون، وسفارات فرنسا وألمانيا وإيطاليا ومالطا وإسبانيا. وعدّ هذا الحدث «علامة فارقة في الشراكة الثقافية بين ليبيا والاتحاد».

ويعرض مساء اليوم (الاثنين) فيلم «راعي البقر من الحجر الجيري» المقدم من سفارة مالطا، بقاعة الهيئة العامة للسينما والمسرح في شارع الزاوية بطرابلس، التي دعت الجمهور للاستمتاع بمشاهدته.

البوستر الترويجي لفيلم «فتاة عادت» الإيطالي (إدارة المرجان)

وبجانب الفيلم المالطي، فإن العروض المفتوحة للجمهور تتضمن، وفق ما أعلنت إدارة المهرجان، ورئيس بعثة الاتحاد، «طفلة عادت» من إيطاليا، و«قصر الحمراء على المحك»، إسباني، ويعرض الثلاثاء، ثم «كليو» (ألمانيا) الذي يعرض للجمهور الأربعاء، على أن يختتم المهرجان بفيلم «عاصفة» الفرنسي.

ولوحظ أن الدول المشاركة في المهرجان حرصت على تروّج الأعمال المشاركة، من هذا المنطلق دعا المركز الثقافي الفرنسي والسفارة الفرنسية في ليبيا الجمهور الليبي لحضور الفيلم الفرنسي الذي أخرجه كريستيان دوغواي، وقالا في رسالة للجمهور الليبي: «نحن في انتظاركم لتشاركونا هذه اللحظة السينمائية الاستثنائية».

جانب من افتتاح مهرجان الفيلم الأوروبي في طرابلس (البعثة الأوروبية إلى ليبيا)

وكان رئيس هيئة السينما والمسرح والفنون، عبد الباسط بوقندة، عدّ مبادرة الاتحاد لإقامة المهرجان «خطوة إيجابية في مسار الشراكة بين ليبيا، متمثلة في هيئة السينما والمسرح والفنون، والاتحاد الأوروبي والدول الخمس المشاركة».

وأضاف بوقندة، في كلمة الافتتاح، الذي بدأ الأحد بعرض الأفلام، أن المناسبة «تفتح آفاقاً واسعة في مجالات السينما كواحدة من أهم أنواع التواصل بين الشعوب ومرآة عاكسة لكثير من القضايا الاجتماعية والإنسانية والثقافية التي تسهم بفاعلية في توعية الناس، وتدفع بهم تجاه الارتقاء والإحساس بالمسؤولية».

بوستر فيلم «عاصفة» الفرنسي (السفارة الفرنسية لدى ليبيا)

وخلال مراسم الافتتاح، عُرض فيلم «شظية» الليبي الذي أنتج في الثمانينات، من تأليف الأديب الليبي المعروف إبراهيم الكوني، ويحكي قصة معاناة الليبيين مع الألغام التي زرعت في صحراء ليبيا خلال الحرب العالمية الثانية، وراح ضحيتها كثير من المواطنين في مدن ومناطق مختلفة من البلاد.

وبجانب العروض السينمائية في ليبيا، تُجمّع الفنون في ليبيا عادةً من فرقت بينهم السياسة، ويحشد المسرح على خشبته ممثلين من أنحاء البلاد، كانت قد باعدت بينهم الآيديولوجيات في زمن ما، يحكون جميعاً أوجاعهم عبر نصوص ولوحات إبداعية، ويفتحون نوافذ جديدة للتلاقي والحوار بعيداً عن النزاع والانقسام السياسي.

وسبق أن تعطلت الحركة الفنية المسرحية في ليبيا، مُتأثرة بالفوضى الأمنية التي شهدتها ليبيا عقب اندلاع ثورة «17 فبراير» التي أسقطت نظام الرئيس الراحل معمر القذافي عام 2011. لكن مع الاستقرار النسبي الذي تشهده ليبيا يظل الرهان على الفن في اختبار الانقسام السياسي، الذي ضرب البلاد، لتوحيد الليبيين.