فرنسيس مكدورمند: أطلب من الجمهور أن يؤازر النجاح الذي تشهده سينما المرأة

تتحدث عن الأوسكار والغضب ومراحل حياتها

كما بدت في «فارغو»
كما بدت في «فارغو»
TT

فرنسيس مكدورمند: أطلب من الجمهور أن يؤازر النجاح الذي تشهده سينما المرأة

كما بدت في «فارغو»
كما بدت في «فارغو»

أن تموت فرنسيس مكدورمند أو لا تموت... هذه هي المشكلة.
على الأقل في غضون فيلم Blood Simple عندما استأجر زوجها (دان هدايا) تحرياً خاصاً (م. إيميت وولش) ليقتلها قبل أن تقلب الزوجة الطاولة ويصبح زوجها هو المهدد بالقتل.
«Blood Simple» (1984) كان الفيلم الأول لفرنسيس مكدورمند التي ملأت قبل أيام ليست بالبعيدة عواميد الصحف والمجلات وشغلت صفحات المواقع بسبب فوزها بالأوسكار عن فيلمها الأخير «ثلاث لوحات خارج إيبينغ، ميسوري».
دخلت فرنسيس ذلك الفيلم مجهولة وخرجت منه نجمة. لكن ذلك لم يكن الشيء الوحيد الذي خرجت به مكدورمند من الفيلم، بل خرجت كذلك بزوج وقف - مع شقيقه وراء الكاميرا مخرجاً هو جووَل كووَن.
كانت في السابعة والعشرين من عمرها عندما مثلت ذلك الفيلم، فهي وُلدت في الثالث والعشرين من شهر يونيو (حزيران) سنة 1957 من عائلة كندية بالتبني. والدها كان مبشراً دينياً في بعض كنائس الولايات الشرقية والوسطى من أميركا وانتقلت معه كثيراً قبل أن تستقر العائلة في بنسلفانيا حيث دخلت مدرستها العليا.

حب التمثيل بدأ مبكراً عندما لعبت، وهي ما زالت دون العشرين سنة دور ليدي ماكبث في مسرحية في المعهد وبعد تخرجها دخلت معهد يال الشهير للدراما.
بعد يال وصلت إلى نيويورك وشاركت مع الممثلة هولي هنتر العيش في شقة واحدة ولعبت على خشبة المسرح خارج برودواي قبل أن تجد نفسها مطلوبة لتمثيل ذلك الفيلم البوليسي الداكن.
بعد «دم بسيط» وضعها المخرج سام ريمي في دور مساند في «موجة جريمة» ثم انتظرت عامين ودخلت تصوير «تربية أريزونا» لزوجها وشقيقه ناتان كووَن وشاركتها هولي هنتر الأدوار الأولى لجانب نيكولاس كايج.
في العام التالي وجدناها في فيلم الآن باركر «مسيسيبي بيرننغ» لتكر السبحة بعد ذلك: «داركمان» لسام ريمي (1990)، «أجندة مخفية» لكن لوتش (1990)، «اختصارات» لروبرت ألتمن (1993)، «نجمة منفردة» لجون سايلس (1996). هذا وسواه تقاطع دوماً مع أدوارها في أفلام الشقيقين جووَل وناتان كووَن: «جسر ميلر» (1990) «بارتون فينك» (1991) و«فارغو» (1996) أحد أهم أفلامها في ذلك الحين.
أفلامها لم تتوقف عند نهاية التسعينات بل استمرت من دون انقطاع يذكر مع زوجها ومن دونه. وبذلك بنت صرحاً من نحو 48 فيلما بما فيها الفيلم الذي مكّنها من الحصول على جائزة الأوسكار للمرة الثانية عن «ثلاثة إعلانات...» (الأول كان عن دورها في فيلم «فارغو» بعد عام من إنجاز الفيلم).
عندما تسلمت الأوسكار استغلت وقوفها على المنصّة لكي تدعو هوليوود إلى قبول الإناث من الممثلات لا كمواهب أداء فقط، بل كشركاء عمل وصاحبات قرار. هذا ترك انطباعاً جيداً. لكن هل سيدوم؟
الشرق الأوسط التقت فرانسيس مكدورمند ودار معها الحوار التالي:
> بقدر ما كان فوزك بالأوسكار حدثاً بالنسبة إليك وللفيلم بأسره بقدر ما تركت كلمتك تأثيراً كبيراً. هل تتوقعين تغييراً كبيراً في هوليوود بناءا على دعوتك أو بسبب ما حدث منذ فضيحة هارفي وينستين؟
- التغيير بدأ بالفعل. هناك حذر من الخوض في الطمي وتفضيل استخدام الطرق الآمنة هذه الأيام. لم أقصد من كلمتي القول بأن وضع الممثلات سيء، بل قصدت أن هذا الوضع يمكن له أن يكون أفضل. هوليوود مدينة رجالية المنشأ إلى حد، لكن المرأة كمنتجة وكمخرجة وككاتبة وممثلة كان لها دور كبير في هذه النشأة ولا تزال لكن الحقوق عليها أن تتساوى ولا تترك لقرارات فردية. كذلك يجب أن تتسع دائرة التعاون الخلاق مع النساء. على هوليوود أن تستمع أكثر.
> أفلام المرأة في العام الماضي ومطلع هذا العام كانت حاضرة بقوّة. رأيناها قوية في فيلمك، وكذلك في أفلام السوبر هيرو. ما تعليقك على هذا النجاح؟
- إنه نجاح كبير. الجمهور يقبل على هذه الأفلام. أقبل على «ثلاثة إعلانات» وأقبل على «ليدي بيرد» وعلى «ووندر وومان». لكن ما على هوليوود والجمهور القيام به هو السعي لمزيد من هذه الأفلام. بل أطلب من الجمهور مؤازرة هذه الأفلام النسائية.
> طالما أن الجمهور راغب بها. أقصد أنه في اللحظة التي يتوقف الجمهور عنها ستتوقف هوليوود عن إنتاجها. أليس كذلك؟
- هذا ما يحدث عادة لذلك أهيب بالجمهور أن يؤازر النجاح الحالي وألا يجعله ظرفياً. عليه أن يطلب حضور المرأة على نحو أقوى. هذا يتم بسيناريوهات جيدة لا بنسخ متكررة وشخصيات نمطية‪.‬
> هل تجدين أن هذا الحضور النسائي على الشاشة هو رد غير مباشر على تلك الفضائح التي وقعت مؤخراً؟
- ليست موقوتة بالطبع لكي تواكب تلك الفضائح أو تأتي كاحتجاج عليها أو كنتيجة معاكسة لها. وشخصياً لا أكترث لكي أصرف الوقت على الحديث في شأن هذه الفضائح. ما علينا القيام به هو طرح الأسئلة الأكبر حول سياسة التفرقة الجنسية وكيف يمكن أن نتجاوزها. هناك بطولات على الشاشة وهذا جيد، لكن هوليوود مدعوّة لتقديم المزيد.

إضافة على السيناريو
> «ثلاثة إعلانات» قدّم شخصية امرأة قوية العزيمة مستعدة للذهاب إلى أقصى درجات ممكنة في مسعاها لمعرفة ما حدث لابنتها. البعض قارن شخصيتك هذه بشخصية جون واين في أفلامه. هل تعجبك هذه المقارنة؟
- نعم. أحببت توظيفه كفكرة. دائماً ما أحببت تمثيله. هل تعلم، كانت قدماه صغيرتان على الرغم من طوله وهذا ما جعله يسير كمن يبحث عن توازنه. هذا ما قرأته في أحد الكتب عنه.
> هل تهوين قراءة كتب السير الشخصية؟
- لا. لكن ذلك الكتاب، الذي لا أذكر اسم مؤلفه، كان استثناءً. قرأته بشغف من الغلاف إلى الغلاف. تعرف أن اسمه كان ماريون موريسون وغيّره إلى جون واين. اسم أفضل تأثيراً. كان يعرف ما يريد ويعرف أن الجمهور يريده جون واين وليس ماريون موريسون.
> في «ثلاث لوحات» اشتغلت على صورة المرأة الواثقة من نفسها. هل كان ذلك موجوداً في السيناريو أم أنك تدخلت لتطويره؟
- إذا نظرت إلى قائمة أفلامي ستجدني لعبت الكثير من شخصيات المرأة الضحية. هذه المرّة أعتقد أنني منحت الدور شيئاً أكثر مما كان عليه في البداية لكن ليس للمرّة الأولى. أعتقد أنني دوما ما جلبت إلى الشخصية ذلك القدر الإضافي. ما أثارني على الورق هو أن هذه المرأة يمكن النظر إليها كضحية من أكثر من وجه إلى أن قررت أن تأخذ الأمور والقرارات بنفسها. بذلك توقفت عن أن تكون ضحية وأصبحت عنصراً في تغيير مسار حياتها.
> هل بنيت شخصية ميلدرد تبعاً لشخصية حقيقية تعرفينها؟
- لا. لكني أعتقد أن هناك أجزاءً من هذه الشخصية في كل النساء أو في كثير منهن على أي حال.
> هناك أيضاً من قارن بين دورك في هذا الفيلم ودورك في «فارغو» على صعيد قوّة الشخصية في كلا الفيلمين.
- علي أن أقول إنني لا أوافق. شخصيتي في «فارغو» كانت ملازمة للمرحلة الاجتماعية التي كانت تعيشها المرأة حين ذاك وهي مرحلة مختلفة عن تلك التي نعيشها اليوم. تستطيع أن تقول إن كلتا المرأتين كانتا عنيدتين في سبيل تحقيق غاية البحث عن الحقيقة. مارج في «فارغو» كانت تريد أن تكشف حقيقة خطة وضعها رجل للتخلص من زوجته والحصول على فدية من أبيها لذلك قام بتدبير حادثة الاختفاء. ميلدر في فيلمي الأخير هي امرأة غاضبة إلى حد مواز للتراجيديا الإغريقية. الأولى ليست غاضبة بل عنيدة وتقوم بواجبها كامرأة بوليس وهي حبلى. هنا هي ليست غاضبة بل في حالة هيجان.
> مارج كانت شرطية طيبة، لكن ميلدرد لم تكن امرأة طيبة.
- إلى حد نعم. لكن ميلدرد خسرت ابنتها وهي معذورة. لو حدث ذلك معك هنا (أميركا) لا تدع هذا الوضع من دون أن تسعى بكل طاقتك لتعرف ما الذي حدث ومن هم الجناة ولماذا لم يستطع البوليس معرفتهم. ربما في ظروف أخرى كانت ميلدرد ستبدو امرأة طيبة. لكني أود أن أؤكد على أنها لم تكن مجرد امرأة غاضبة. لا. لم تكن غاضبة مطلقاً بل مهتاجة.

ستون سنة
> هل حدث أنك شعرت بغضب جامح كما في «ثلاث لوحات»؟
- أغضب لكني لا أنفعل. كل غضب له طريقة معالجة. إنه رد فعل طبيعي لكن على المرء أن يعالجه بحكمة. الغضب قد يكون أفضل حافز للتغيير.
> هل أخبرك المخرج مارتن ماكنوف أنه شاهد أفلامك السابقة؟
- أعتقد أنه لم يشاهد كل أفلامي السابقة فقط بل مسرحياتي أيضاً. شعرت وأنا أتحدث إليه أنه يعرفني. طبعاً قال لي أنه شاهدني على الشاشة كثيراً، لكن حديثه معي جعلني أشعر بأنه شاهدني أكثر مما أوحى.
> هل شعرت في مراحل حياتك المختلفة بحالة من عدم الإنصاف؟
- عمري 60 سنة الآن ولا بد أنه حدث معي حالات كثيرة من هذا النوع. أكثر من ذلك، مهنتي كلها بُنيت على وضع من اللا إنصاف. منذ أن كنت ممثلة شابة وهناك من قال لي لا تستطيعين فعل هذا الأمر أو تمثيل هذا الدور. وهناك من قال إنني لست ممثلة طبيعية. لكن هذا حفزني لأثبت أخطاءهم وسوء تقديرهم لما أستطيع القيام به. أعتقد أن دوري في «ثلاث لوحات» هو ذروة الرد على أولئك المشككين. لم يكن من الإنصاف أن يُقال لي ذلك. كان يمكن أن يدمرني أو يدمر أي ممثلة أو ممثل مبتدئ.
> هل يغير الأوسكار وضع الممثل ومهنته بالفعل؟
- يعتمد الأمر على حالات مختلفة. بالنسبة لي سعيدة بما حصلت عليه من تقدير. غولدن غلوبس وأوسكار وجوائز جمعيات نقاد كثيرة، لكن لا أرى كيف يمكن لهذه الجوائز أن تتدخل مباشرة في توجيه مهنتي. لقد أفادت ممثلين آخرين من الجنسين، لكنها لم تتدخل في تطوّر مهنة ممثلين آخرين.
> هل تعتبرين بلوغك الستين بمثابة حجر أساس لمرحلة جديدة؟
- إنها مناسبة ربما للنظر إلى الماضي ومعاينة موقعي الآن، لكني بصراحة لا أتكل كثيراً على النتائج (تضحك). لقد فكرت سابقاً في أن أمارس عملاً آخر بجانب التمثيل، لكني لم أكن مستعدة في الواقع. لم أجد سبباً كافياً. أنا زوجة جيدة. هناك مراحل في حياتي ركّزت فيها على أن أكون «ست بيت» صالحة.
> ماذا عن التمثيل للمسرح؟ هل يشكل لديك الأهمية ذاتها؟
- أحب المسرح ودائماً ما سعدت بالتمثيل المسرحي، لكني أستطيع البقاء حية من دونه. لن أموت إذا لم أمثل للمسرح، لكني أفضل أن أبقى ممثلة مسرحية.
> مثلت تحت إدارة زوجك وشقيقه عدة أفلام آخرها قبل سنتين («مرحى يا قيصر») لكن ذلك لم يحد من نشاطك مع مخرجين آخرين. ما الذي تجدينه مختلفاً بين العمل مع مخرج هو زوجك وبين العمل مع مخرج غريب عنك؟
- لماذا عليه أن يحد من نشاطي؟ أنا ممثلة وأقرأ الكثير من العروض وأختار ما أعتقد أنني أجد نفسي فيه أو ما يجعلني أشعر بأن علي أن أدعم هذا العمل بوجودي أو، ثالثاً، أنه من الإجادة بحيث علي القبول به لهذا السبب على الأقل.
مسألة أنني متزوجة من مخرج هي في نهاية حساباتي. لكن من ناحية سؤالك هو الاختلافات فأنا سعيدة بأن زوجي كما أي مخرج آخر يمنحني الحرية لكي أتصرف كما أرغب. أعتقد أن هناك مخرجين أوصياء يطلبون من الممثل ما لا يشعر به وإن قام به على خير وجه. بالنسبة لي لا يثيرني مثل ذلك المنهج. أجده يأخذ مني ولا يعطيني شيئاً.
> هل تشاهدين أفلامك حال خروجها للعروض السينمائية أو تتحاشين ذلك كما يفعل البعض؟
- أشاهدها بالطبع. ليس عندي أي سبب لكي أخشى ردة فعلي على ما قمت به.
> هناك من يؤثر ألا يراها مطلقاً أو ليس في الوقت الراهن لها على أي حال.
- نعم. قرأت ذلك سابقاً، لكن ذلك عائد إلى قرار شخصي لا أطبقه بنفسي. أحب أن أرى الفيلم الذي مثلته في أي وقت. هناك أفلاماً لي شاهدتها أكثر من مرّة.
> هل تشاهدين أفلامك القديمة؟
- نعم لكني لا أفعل ذلك كثيراً.
> بالنسبة لك ما هو التطوّر الذي طرأ على تمثيلك منذ الثمانينات وإلى اليوم؟
- هذا سؤال صعب لأن هناك الكثير من التطوّر الذي لازمني طوال هذه الفترة. أعتقد أن هذا التطوّر طبيعي ويحصل مع معظم الممثلين. بالنسبة لي ألاحظ أنه بات لدي صوت مختلف. في البداية ربما كنت تستطيع أن تضع بدلاً عني أي ممثلة أخرى، لكن بعد حين أعتقد أنني أصبحت أنا على الشاشة. هل تدرك ما أقول؟
> تماماً. وهذا ربما بدأ مع «فارغو».
- ذكرت «فارغو» في حديثك أكثر من مرّة وأوافقك. كان الدور من تلك التي منحتني الفرصة لكي أستبدل بعض الحقائب السابقة بجديدة. وبما أنك سألت، شاهدت مؤخراً فيلمي الأول «دم بسيط» وبعده شاهدت «فارغو» والآن «ثلاث لوحات» وبينها جميعاً هناك أدوار أخرى، وأعتقد أن هذا التطور الذي تتحدث عنه موجود في كل هذه الأعمال. هي مراحل وكل مرحلة تضيف شيئاً لما سبق.



100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
TT

100 عامٍ من عاصي الرحباني

عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)
عاصي الرحباني وفيروز (تويتر)

في الرابع من شهر الخِصب وبراعم اللوز والورد، وُلد عاصي الرحباني. كانت البلادُ فكرةً فَتيّة لم تبلغ بعد عامها الثالث. وكانت أنطلياس، مسقط الرأس، قريةً لبنانيةً ساحليّة تتعطّر بزهر الليمون، وتَطربُ لارتطام الموج بصخور شاطئها.
لو قُدّر له أن يبلغ عامه المائة اليوم، لأَبصر عاصي التحوّلات التي أصابت البلاد وقُراها. تلاشت الأحلام، لكنّ «الرحباني الكبير» ثابتٌ كحقيقةٍ مُطلَقة وعَصي على الغياب؛ مقيمٌ في الأمس، متجذّر في الحاضر وممتدّةٌ جذوره إلى كل الآتي من الزمان.


عاصي الرحباني خلال جلسة تمرين ويبدو شقيقه الياس على البيانو (أرشيف Rahbani Productions)

«مهما قلنا عن عاصي قليل، ومهما فعلت الدولة لتكريمه قليل، وهذا يشمل كذلك منصور وفيروز»، يقول المؤلّف والمنتج الموسيقي أسامة الرحباني لـ«الشرق الأوسط» بمناسبة مئويّة عمّه. أما الصحافي والباحث محمود الزيباوي، الذي تعمّق كثيراً في إرث الرحابنة، فيرى أن التكريم الحقيقي يكون بتأليف لجنة تصنّف ما لم يُنشر من لوحاته الغنائية الموجودة في إذاعتَي دمشق ولبنان، وتعمل على نشره.
يقرّ أسامة الرحباني بتقصير العائلة تجاه «الريبرتوار الرحباني الضخم الذي يحتاج إلى تضافر جهود من أجل جَمعه»، متأسفاً على «الأعمال الكثيرة التي راحت في إذاعة الشرق الأدنى». غير أنّ ما انتشر من أغانٍ ومسرحيات وأفلام، على مدى أربعة عقود من عمل الثلاثي الرحباني عاصي ومنصور وفيروز، أصبح ذخيرةً للقرون المقبلة، وليس للقرن الرحباني الأول فحسب.

«فوتي احفظي، قومي سجّلي»
«كان بركاناً يغلي بالعمل... يكتب بسرعة ولا يتوقف عند هاجس صناعة ما هو أجمل، بل يترك السرد يمشي كي لا ينقطع الدفق»، هكذا يتذكّر أسامة عمّه عاصي. وفي بال الزيباوي كذلك، «عاصي هو تجسيدٌ للشغف وللإنسان المهووس بعمله». لم يكن مستغرباً أن يرنّ الهاتف عند أحد أصدقائه الساعة الثالثة فجراً، ليخرج صوت عاصي من السمّاعة قارئاً له ما كتب أو آخذاً رأيه في لحنٍ أنهاه للتوّ.
ووفق ما سمعه الزيباوي، فإن «بعض تمارين السيدة فيروز وتسجيلاتها كان من الممكن أن يمتدّ لـ40 ساعة متواصلة. يعيد التسجيل إذا لم يعجبه تفصيل، وهذا كان يرهقها»، رغم أنه الزوج وأب الأولاد الأربعة، إلا أن «عاصي بقي الأستاذ الذي تزوّج تلميذته»، على حدّ وصف الزيباوي. ومن أكثر الجمل التي تتذكّرها التلميذة عن أستاذها: «فوتي احفظي، قومي سَجّلي». أضنى الأمر فيروز وغالباً ما اعترفت به في الحوارات معها قبل أن تُطلقَ تنهيدةً صامتة: «كان ديكتاتوراً ومتطلّباً وقاسياً ومش سهل الرِضا أبداً... كان صعب كتير بالفن. لمّا يقرر شي يمشي فيه، ما يهمّه مواقفي».


عاصي وفيروز (تويتر)
نعم، كان عاصي الرحباني ديكتاتوراً في الفن وفق كل مَن عاصروه وعملوا معه. «كل العباقرة ديكتاتوريين، وهذا ضروري في الفن»، يقول أسامة الرحباني. ثم إن تلك القسوة لم تأتِ من عدم، فعاصي ومنصور ابنا الوَعر والحرمان.
أثقلت كتفَي عاصي منذ الصغر همومٌ أكبر من سنّه، فتحمّلَ وأخوه مسؤولية العائلة بعد وفاة الوالد. كان السند المعنوي والمادّي لأهل بيته. كمعطفٍ ردّ البردَ عنهم، كما في تلك الليلة العاصفة التي استقل فيها دراجة هوائية وقادها تحت حبال المطر من أنطلياس إلى الدورة، بحثاً عن منصور الذي تأخّر بالعودة من الوظيفة في بيروت. يروي أسامة الرحباني أنها «كانت لحظة مؤثرة جداً بين الأخوين، أبصرا خلالها وضعهما المادي المُذري... لم ينسيا ذلك المشهد أبداً، ومن مواقفَ كتلك استمدّا قوّتهما».
وكما في الصِبا كذلك في الطفولة، عندما كانت تمطر فتدخل المياه إلى المدرسة، كان يظنّ منصور أن الطوفان المذكور في الكتاب المقدّس قد بدأ. يُصاب بالهلَع ويصرخ مطالباً المدرّسين بالذهاب إلى أخيه، فيلاقيه عاصي ويحتضنه مهدّئاً من رَوعه.

«سهرة حبّ»... بالدَين
تعاقبت مواسم العزّ على سنوات عاصي الرحباني. فبعد بدايةٍ متعثّرة وحربٍ شرسة ضد أسلوبه الموسيقي الثائر على القديم، سلك دروب المجد. متسلّحاً بخياله المطرّز بحكايا جدّته غيتا و«عنتريّات» الوالد حنّا عاصي، اخترع قصصاً خفتت بفعلِ سحرِها الأصواتُ المُعترضة. أما لحناً، فابتدعَ نغمات غير مطابقة للنظريات السائدة، و«أوجد تركيبة جديدة لتوزيع الموسيقى العربية»، على ما يشرح أسامة الرحباني.


صورة تجمع عاصي ومنصور الرحباني وفيروز بالموسيقار محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، بحضور بديعة مصابني وفيلمون وهبي ونجيب حنكش (أرشيف Rahbani Productions)
كان عاصي مستعداً للخسارة المادية من أجل الربح الفني. يحكي محمود الزيباوي أنه، ولشدّة مثاليته، «سجّل مسرحية (سهرة حب) مرتَين ولم تعجبه النتيجة، فاقترض مبلغاً من المال ليسجّلها مرة ثالثة». ويضيف أن «أساطير كثيرة نُسجت حول الرحابنة، لكن الأسطورة الحقيقية الوحيدة هي جمال عملهم».
ما كانت لتكتمل أسطورة عاصي، لولا صوت تلك الصبية التي دخلت قفصَه الذهبي نهاد حدّاد، وطارت منه «فيروز».
«أدهشته»، يؤكّد الزيباوي؛ ويستطرد: «لكنّ أحداً منهما لم يعرف كيف يميّز بين نهاد حداد وفيروز»... «هي طبعاً المُلهِمة»، يقول أسامة الرحباني؛ «لمح فيها الشخصية التي لطالما أراد رسمَها، ورأى امرأةً تتجاوب مع تلك الشخصية»، ويضيف أن «عاصي دفع بصوت فيروز إلى الأعلى، فهو في الفن كان عنيفاً ويؤمن بالعصَب. كان يكره الارتخاء الموسيقي ويربط النجاح بالطبع الفني القوي، وهذا موجود عند فيروز».


زفاف عاصي الرحباني ونهاد حداد (فيروز) عام 1955 (تويتر)

دماغٌ بحجم وطن
من عزّ المجد، سرقت جلطة دماغيّة عاصي الرحباني عام 1972. «أكثر ما يثير الحزن أن عاصي مرض وهو في ذروة عطائه وإبداعه، وقد زادت الحرب اللبنانية من مرضه وصعّبت العمل كثيراً»، وفق الزيباوي. لم يكن القلق من الغد الغامض غريباً عليه. فهو ومنذ أودى انفجارٌ في إحدى الكسّارات بحياة زوج خالته يوسف الزيناتي، الذي كان يعتبره صياداً خارقاً واستوحى منه شخصيات لمسرحه، سكنته الأسئلة الحائرة حول الموت وما بعدَه.
الدماغ الذي وصفه الطبيب الفرنسي المعالج بأنه من أكبر ما رأى، عاد ليضيء كقمرٍ ليالي الحصّادين والعاشقين والوطن المشلّع. نهض عاصي ورجع إلى البزُق الذي ورثه عن والده، وإلى نُبله وكرمه الذي يسرد أسامة الرحباني عنهما الكثير.
بعد المرض، لانت قسوة عاصي في العمل وتَضاعفَ كرَمُه المعهود. يقول أسامة الرحباني إن «أقصى لحظات فرحه كانت لحظة العطاء». أعطى من ماله ومن فِكرِه، وعُرف بيدِه الموضوعة دائماً في جيبِه استعداداً لتوزيع النقود على المحتاجين في الشارع. أما داخل البيت، فتجسّد الكرَم عاداتٍ لطيفة وطريفة، كأن يشتري 20 كنزة متشابهة ويوزّعها على رجال العائلة وشبّانها.
خلال سنواته الأخيرة ومع احتدام الحرب، زاد قلق عاصي الرحباني على أفراد العائلة. ما كان يوفّر مزحة أو حكاية ليهدّئ بها خوف الأطفال، كما في ذلك اليوم من صيف 1975 الذي استُهدفت فيه بلدة بكفيا، مصيَف العائلة. يذكر أسامة الرحباني كيف دخل عاصي إلى الغرفة التي تجمّع فيها أولاد العائلة مرتعدين، فبدأ يقلّد الممثلين الأميركيين وهم يُطلقون النار في الأفلام الإيطالية، ليُنسيَهم ما في الخارج من أزيز رصاص حقيقي. وسط الدمار، بنى لهم وطناً من خيالٍ جميل، تماماً كما فعل وما زال يفعل في عامِه المائة، مع اللبنانيين.


عاصي الرحباني (غيتي)