جيل دلوز.. وتجديد وظيفة الفلسفة

قال إنه ليس مثقفا لأنه لا يمتلك ثقافة جاهزة ولا يتحدث في كل شيء

جيل دلوز
جيل دلوز
TT

جيل دلوز.. وتجديد وظيفة الفلسفة

جيل دلوز
جيل دلوز

امتد شغب الفيلسوف الفرنسي جيل دلوز (18 يناير «كانون الثاني» 1925 - 4 نوفمبر «تشرين الثاني» 1995) ليصل إلى متاهات متعددة، قرع بمطرقته التي تغذت من فلسفات من سبقوه وبالأخص نيتشه وهيدغر، ليصعد من الأعماق إلى السطوح. فهو الذي يعد الفلسفة «فن إبداع المفاهيم»، والمفهوم ليس الهدف منه الوصول إلى الحقيقة، بقدر ما يكون مفردات للحقيقة لتصير أدوات ومفاتيح لتتعامل مع أجوائها - كما يعبر في كتابه «ما هي الفلسفة؟» الذي اشترك معه في تأليفه فليكس غيتاري.
رأى أن وظيفة الفلسفة ومبادئها الإغريقية يجب أن تفحص وتفتت وتضبط بتهمة وضع «ترسيمة» للمناهج والخطوط التي تسير بها، ويعد دلوز المفهوم «لا أهمية له منقطعا عما يمفْهمه، لا يجهز كله، ينخرط في تكوين ذاته عبر تكوينه لغيره، ليس ثمة وحدة سكونية للمفهوم، أقصى ما يمكنه أن يفعله مع أشياء العالم، وأشياء الفكر، هو أن يجعل الشيء لا يأتي إلا ومعه نظامه، لأن نظام الشيء هو شيء أيضا». وحول هذه الجمل الأخيرة، يشرح مترجم «ما هي الفلسفة؟» مطاع صفدي، وبدقة، هذا المعنى في مقدمة الكتاب وفي مقالات له عنه في مجلتيه اللتين يصدرهما: «العرب والفكر العالمي»، و«الفكر العربي المعاصر».
تنوعت الأعماق التي ضربها دلوز بطرقته بحثا عن سطوح، عن جذوع بلا جذور، عن جذمور، ذلك أن «المتعدد يجب أن يصنع، ليس عبر إضافة بعد أعلى دوما، بل على العكس عبر طرائق أكثر بساطة واعتدال داخل الأبعاد المتوافرة، ليكون الواحد دوما مكونا من مكونات المتعدد، ومحذوفا منه في الآن نفسه. فالواحد يحذف من المتعدد الذي يتعين تشكيله وكتابته... إن نظاما كهذا يمكن أن نسميه (جذمورا rhizome). فالجذمور هو بمثابة ساق نباتية تحت أرضية، مختلفة تماما عن الجذور والجذيرات».
شمل مشروع جيل دلوز الفلسفي أزمة الفلسفة، والأصول اليونانية في الفلسفة، وعلاقة الفلسفة بالعلوم بمختلف اتجاهاتها، وبحث البداوة في الفكر، والوحدة والكثرة في كتابه: «الفرق والتكرار»، والصورة والسينما في: «سينما 1» و«سينما 2». هذا فضلا عن أبحاثه الكثيرة حول الفلاسفة، فهو الذي درس نيتشه بكتاب يعد من أهم الدراسات عن نيتشه، ربما لا يفوقها إلا دراسة هيدغر الشهيرة عن الفيلسوف الألماني نيتشه. كما تعرض لهيغل ولديفيد هيوم عن «التجريبية والذاتية - مبحث في الفاهمة البشرية وفقا لهيوم». كذلك تطرقت كتاباته إلى هيغل وديكارت وليبنتز والفلسفة الإغريقية، وكان قارئا مهما للفيلسوف الفرنسي برغسون واستفاد منه في شرارة بدء مؤلفاته في قراءة السينما والصورة.
من بين الدراسات المهمة عنه: «نسق المتعدد - أو جيل دلوز» من تأليف: فليب مانغ، الذي خص الفصل الثالث من كتابه لـقراءة رؤية دلوز حول السينما، عادا مؤلَّفه «المحاولة الأولى الجادة، التي تأتي لتسد ثغرة الاهتمام الفلسفي بالجمال السينمائي، وظلت ثيمة السينما حاضرة في مؤلفاته بشكل أو بآخر». ويضيف أن «الهوامات والشبه (Simulacres et fantasmes) وهي تلك الصور التي نراها منبسطة في منزلقة، سائرة على سطح الماء، أو تلك التي تنعكس على سطح أملس»، مشيرا إلى إعادة دلوز الاعتبار للسطوح وخاصة في كتابه: «منطق المعنى» الذي سرد فيه مقولة بول فاليري الشهيرة: «إن سطح الجلد، هو العمق الغائر، الذي لا يضاهيه عمق آخر». كانت هذه العبارة مقربة من استشهادات دلوز ومعانيه واستطراداته.
ثمة اهتمام قوي من المفكرين العرب بفلسفة جيل دلوز، ونوقشت وشرحت ضمن المشاريع والشروح والتناول النقدي أو السردي لفلسفات الاختلاف، أو فلسفات الحداثة البعدية. أما الدراسات الخاصة به فأشير، على سبيل المثال، إلى كتاب جمال نعيم: «جيل دلوز وتجديد الفلسفة»، وفي التقديم تطرق إلى قراءة نقدية لترجمات عربية لم تنصف النص الدلوزي وضرب مثلا بترجمة مطاع صفدي لكتاب: «ما هي الفلسفة؟». وأشير إلى دراسة كتبها عادل حدجامي: «فلسفة جيل دلوز - عن الوجود والاختلاف»، فهي من الكتب القيمة التي صدرت أخيرا. أما الحضور الكبير لفلسفته، فهو واضح من خلال المجلات التي لا تزال تناقش مفاهيمه الحية، وتبصر إلى آثار الزلزال المدوي الذي أحدثه النص الدلوزي الكبير.
ارتبط بصلات حوارية مع مجايليه من الفلاسفة، من أمثال جاك دريدا الذي يعد دلوز (الصديق العدو)، وميشيل فوكو، وحتى يورغن هابرماس مع اختلاف المسار الذي يطرقانه، بل كان لا يجد حرجا في تناول نصوص مجايليه على عكس النفرة التي كانت تبدو بين هابرماس ودريدا والتي لم تحل إلى في السنوات الأخيرة من حياة دريدا. وحين صدر كتاب دلوز: «الفرق والتكرار» كتب جيل دلوز: «قد يكون هذا القرن دلوزيا بامتياز». فلسفته أضخم وأكبر من أن تختزل في ملف، في جريدة أو مجلة، غير أن الإشارة إلى مفاتيحها هدف هذه المقالة.
أصر دلوز على أن تاريخ الفلسفة ليس نظاما تأمليا بوجه خاص، إنه بالأحرى مثل فن «البورتريه» في الفن التشكيلي. احتقر الأساتذة الذين يدفعون ثمن رحلاتهم بالكلمات وبالتجارب، والندوات والمحاضرات، ونفى أن يكون مثقفا لأن المثقفين يتحدثون في كل شيء، ولهم رأي في كل شيء، مذكرا بوظيفة الفلسفة - بحسب رأي صديقه فوكو ومن قبله نيتشه - «إن مهمة الفلسفة محاربة الحماقة».
في حوار معه قال: «نحن نقترب من الوقت الذي سوف يكون من المستحيل علينا أن نكتب كتابا فلسفيا بالطريقة نفسها التي كتبت بها الكتب الفلسفية السابقة».
وحين ألم به الداء قفز منتحرا في 4 نوفمبر 1995، منهيا بذلك رحلة من السجال المعرفي، كان دلوز حدثا فلسفيا ضخما، وما إن رحل حتى كتب دريدا نعيا له: «سأتابع إعادة قراءة دلوز كي أتعلم، وسيكون علي أن أهيم وحدي».

* عضو مؤسس لحلقة الرياض الفلسفية



دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة

دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة
TT

دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة

دراسة عن «قصيدة النثر» العابرة

صدر حديثاً عن «دار غيداء للنشر والتوزيع» في عمان بالأردن كتاب «قصيدة النثر العابرة دراسة في مطولات منصف الوهايبي وقصائد أخر» للدكتورة نادية هناوي. وهو الثاني والثلاثون في عديد الكتب المنشورة لها. واشتمل الكتاب الجديد على ثلاثة فصول تدور حول المطولات الشعرية عند الشاعر التونسي منصف الوهايبي. يحمل الفصل الأول عنوان «العبور: من التجسير إلى الاجتياز»، وفيه ثلاثة مباحث، تناولت فيها المؤلفة ممكنات قصيدة النثر من ناحية القابلية على العبور، ووصفية فاعلية العبور وصنفية قصيدة النثر ودوامية تعابرها.

واهتم الفصل الثاني بـ«موجبات العبور في مطولات منصف الوهايبي»، وفيه خمسة مباحث تدور حول موجبات العبور الأجناسي. أما الفصل الثالث فيحمل عنوان «ميزات قصيدة النثر العابرة: مقاربة بين مطولتين»، وفيه عرضت المؤلفة نقاط التلاقي والاختلاف في عبور قصيدة النثر، ومثلت على ذلك بمطولتين شعريتين: الأولى هي «الفصل الخامس» للشاعر عبد الرحمن طهمازي، والأخرى هي «نيابوليس (نابل) - لنذبوشة (لمبدوزا)» للشاعر منصف الوهايبي.

وينتهي الكتاب بخاتمة هي حصيلة استنتاجية تؤشر على ما لعبور قصيدة النثر من آفاق فنية ودلائل يضمنها فضاؤها الأجناسي العابر على سائر أجناس الشعر وأنواعه. ويأتي بعد الخاتمة ملحق قدمت فيه المؤلفة منظورها النقدي في ثلاث قصائد لشعراء عراقيين هم عبد الرحمن طهمازي وياسين طه حافظ وموفق محمد.

ومن مطولات الشاعر منصف الوهايبي المدروسة في هذا الكتاب «بدر شاكر السياب: ما زال يهطل في قصيدته المطر» و«شارع بول فاليري. سيت. صيف. 2011» و«قيروان: لوحة الأحد الكبيرة» و«الفينيقيون: رسوم لم يحلم بها بانويل» وغيرها.

عن مفهوم العبور الأجناسي في قالب قصيدة النثر، تذهب المؤلفة إلى أنه «ليس من عادة التراكيب أن تستجد أو تتوالد إلا بترابط يساعد على ابتكارها؛ إما بإعادة صنعها، وأما بتنمية تشكلها باستمرار وبتجديد يتماهى فيه القديم بالضعيف والمتهاوي بالسطحي فتغدو التراكيب المبتكرة أقوى شكلاً وأصلب بنية وأعمق دلالة. وبهذا يكون العبور ناجزاً بالانبثاق من الترابطات التي ساهمت في إعادة تقنين الفضاء الكتابي بين المعبور عليه والعابر». وتضيف أن الترابط تأسيس تقاني وصورته تحويلية، وفيها تنعكس تأثيراته النوعية، مشتملة على مستويات وعلاقات ذات مفاصل ومجسات تدخل بمجموعها في عمليات صناعة القالب العابر.

وعن الشروط التي يستدعيها العبور، تقول إن «الاستجابة لمستلزمات التطور الأدبي في بعديه الشكلي والموضوعي واتساع واطراد هذه الاستجابة، له دور مهم في توثيق صلات الأجناس الأدبية بسلسلة متشابكة من المشتركات التي تجعلها في مجموعات وكل مجموعة تؤلف نوعاً من الأنواع الأدبية، وتتألف كل مجموعة من فصائل ورُتب شبيهة بما في أجناس الكائنات الحية من روابط فتتشعب عبرها فصائلها بشكل عضوي وبحسب ما لها من صلات طوبوغرافية ووظائفية، تمنحها قدرات أكبر على الاستمرار والنماء».