شهادات غير قاطعة لمسؤولين ليبيين سابقين في قضية تمويل ساركوزي

ضياع أرشيف عهد القذافي ساهم في اختفاء معلومات مهمة

ساركوزي مستقبلاً القذافي في قصر الأليزيه بباريس في ديسمبر 2007 (إ.ب.أ)
ساركوزي مستقبلاً القذافي في قصر الأليزيه بباريس في ديسمبر 2007 (إ.ب.أ)
TT

شهادات غير قاطعة لمسؤولين ليبيين سابقين في قضية تمويل ساركوزي

ساركوزي مستقبلاً القذافي في قصر الأليزيه بباريس في ديسمبر 2007 (إ.ب.أ)
ساركوزي مستقبلاً القذافي في قصر الأليزيه بباريس في ديسمبر 2007 (إ.ب.أ)

تبدو أدلة ليبية خاصة بالقضية المثارة لدى محققي باريس، عن تمويل العقيد الراحل معمر القذافي لانتخابات الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، هشَّة وضعيفة. إلا أن بعض قيادات النظام الليبي القديم، وبعض المقربين من القذافي، لديهم إصرارٌ على أن التمويل قد حدث، وبملايين الدولارات، وأنه «توجد أدلة قوية ستظهر لاحقاً».
لم تقدم معظم هذه الأطراف، حتى الآن، إلا مكاتبات عدة كانت جرت منذ 2005 مع الجانب الفرنسي، منها ما هو ممهورٌ بتوقيع منسوب لساركوزي نفسه، حين كان ما زال وزيراً للداخلية في بلاده، بيد أنها لا تتضمن أي دليل على تحويل مباشر لأموال لدعم حملته.
ومع ذلك، ذكر قادة من نظام القذافي، وصديق سابق لساركوزي، أنهم كانوا شهوداً على التمويل «وعلى صفقات بين طرابلس وباريس أكبر بكثير من التمويل».
وفي زاوية فندق صغير من الفنادق ذات الطابع الأوروبي في ضاحية الزمالك الراقية في قلب القاهرة، بدأ المترجم السابق للقذافي، الدكتور مفتاح المسوري، بلا وثائق قاطعة، يمكن أن تُقدم للمحققين الفرنسيين، باستثناء قوله إنه «سمع من القذافي، في مارس (آذار) 2011 أنه دفع 20 مليون دولار لتمويل حملة ساركوزي». وسبق ذلك اتهامات من قيادات كانت مقربة من العقيد، الذي قُتل في غارات حلف شمال الأطلسي (الناتو) على ليبيا، تشير إلى أن التمويل بلغ نحو خمسين مليون يورو.
ورغم ضعف هذه المزاعم، فإنها تبقى مُربِكة ومثيرة لغضب ساركوزي الذي شنّ في المقابل، وخلال الشهر الماضي، هجوماً على أنصار القذافي.
يكمُن الخطر، هنا، عموماً، في أن الاتهامات صادرة، أولاً وأخيراً، عن شخصيات ليبية وغير ليبية، ما زالت على قيد الحياة، تقدم نفسها بصفتها شهود إثبات. ومن بين هؤلاء، قادة من الوزن الثقيل، جرى القبض عليهم في تونس وموريتانيا والنيجر، والزج بهم في سجون طرابلس بعد مقتل القذافي، مثل رئيس المخابرات العسكرية عبد الله السنوسي، ورئيس الحكومة في العهد السابق، البغدادي المحمودي، ومدير الأمن الداخلي، عبد الله منصور، الذي قدم شهادة مصورة بالفيديو لسجَّانيه من الجماعات المتطرفة، حول ملابسات تمويل انتخابات ساركوزي.
ونفى الرئيس الفرنسي الأسبق وجود أدلة مادية بشأن الاتهامات عن تلقيه أموالاً ليبية لحملته الانتخابية في 2007، والتي فاز إثرها بالرئاسة واستمر فيها حتى 2012، لكن بدا من حديثه للمحققين في باريس، كما سربته صحف عدة قبل أسبوعين، أنه ينظر إلى أنصار القذافي على أنهم ربما كانوا وراء ما سيتعرض له من محنة جراء هذه القضية.
وبمجرد استدعائه للتحقيق في باريس، شن مقربون من النظام الليبي السابق، من بينهم ابن عم القذافي، أحمد قذاف الدم، هجوماً لاذعاً على ساركوزي في وسائل إعلام فرنسية. ولم تقتصر الاتهامات على التمويل، لكنها حمَّلت الرئيس السابق مسؤولية تدمير ليبيا أيضاً.
من زاوية داخل بهو الفندق المصري، كان الدكتور المسوري يتابع، قبل يومين، ما تبثه قناة «فرانس 24» عن القضية وأبعادها، حيث كان الرجل قبل اثني عشر عاماً حاضراً في اجتماع بين ساركوزي والقذافي، وآخرين.
وعمل المسوري في مكتب القذافي، منذ عام 1996.
يقول وهو يرتب أوراقاً تخص المصالحة بين الليبيين، إنه لم يكن مجرد مترجم للفرنسية لدى العقيد الراحل، لكنه كان مستشاراً له أيضاً. وفي الأيام الماضية أثارت تصريحات أطلقها أثناء وجوده في كل من تونس والقاهرة، عن قضية ساركوزي، لغطاً جديداً، رغم أن ما ذكره لا يزيد كثيراً عما نقله عنه، في عام 2013، موقع «ميديابارت» الفرنسي.
يقول المسوري، وهو ينظر من وراء نظارته الطبية، متذكراً تلك الأيام من عام 2005، ويبدو واثقاً: «جاءنا ساركوزي في زيارة كوزير للداخلية، بدعوة من نظيره الليبي نصر المبروك. كان من الطبيعي أن يستقبله الأخ القائد (القذافي) كما هو معتاد بالنسبة لهذا المستوى من الضيوف. التقى به بالفعل في باب العزيزية (مقر الحكم في العاصمة)».
يضيف: إن ساركوزي طلب لقاءً ثنائياً مع القذافي... «فخرج المرافقون. أما هما فتكلما سوياً بلغة إنجليزية ركيكة. استمر اللقاء بينهما من خمس إلى عشر دقائق». ويشير إلى أن ساركوزي قال، خلال الاجتماع، إنه يريد أن يرشح نفسه للانتخابات، وأن القذافي رحب بأن يكون لليبيا صديق في قصر الإليزيه. وقال له: مستعدون لمد يد العون لك، وأن نساعدك. وانتهت الزيارة. ويفسر المسوري تعبير «مد العون» بأنه وعد من القذافي بدعم مالي.
وذكر ثلاثة من قيادات النظام السابق، من بينهم المسوري، أنهم كانوا على علم بنقل أموال إلى حملة ساركوزي، لكنهم لم يشاهدوا عملية النقل نفسها. وطلب اثنان من هؤلاء القادة عدم ذكر اسميهما، في هذه القصة لأسباب أمنية، لكنهما وافقا على أن يكون حديثهما مسجلاً.
وفي سؤال مباشر للمسوري:
«هل كنت في أي وقت من الأوقات شاهداً على خروج أموال لحملة ساركوزي؟».
فأجاب: أنا كشاهد، لا. لم أر أي حقيبة متجهة لساركوزي أو أي رئيس آخر».
«وهل حملتَ حقائب أموال لآخرين؟».
فأوضح: «نعم... حملت». لكنه رفض ذكر أي أسماء للزعماء الذين نقل لهم أموالاً من مخصصات القذافي... «لا يمكن أن أقول... هناك رؤساء أفارقة، وبعضهم ما زال في السلطة». ويضيف: إن تمويل حملات الرؤساء ليس حكراً على ليبيا، بل إن كثيراً من مرشحي الرئاسة في العالم الغربي يتلقون أموالاً لدعم حملاتهم الانتخابية سواء من دول، أو شركات، أو رجال أعمال.
وبحسب مقربين من القذافي، كانت هناك أموال تخصص للبند السياسي بمكتب القائد، يتم جلبها من المصرف المركزي، وتوضع في حقائب في مقر المراقب المالي للرئاسة في مقر الحكم بطرابلس، ويكتب على كل حقيبة قيمة ما فيها؛ مليون. مليونان. ثلاثة، وهكذا.
يقول «هذه مخصصات الرئاسة تأتي كتلة واحدة، وتصرف وفقاً لإرادة الرئيس (القذافي)». ويضيف: «بالطبع، لا يعلم المصرف المركزي بأوجه صرف الرئاسة لهذا الأموال. حتى المراقب المالي ليس لديه تفاصيل عن وجهة الكثير من هذه المخصصات. هذا ليس حكراً على القائد، وإنما أي رئيس دولة يتبنى سياسة الحضور الدبلوماسي في الخارج، يقوم بذلك».
ويستند المسوري في شهادته حول تمويل حملة ساركوزي على قصة وحيدة، على ما يبدو. وفيما عدا روايته لها، من الصعب إثبات صحتها مادياً.
تقول هذه الرواية، إن صحافية فرنسية سألت القذافي في مارس 2011، عن حجم الأموال التي دفعها لحملة ساركوزي. فقال لها القذافي إنه لا يتذكر الآن، وأنه سيبلغها غداً عن طريق المسوري.
يضيف مترجم القذافي، وهو يمسح براحة يده على لحيته الخفيفة: «في اليوم التالي قال لي القائد: (على فكرة أنا استفسرت عن موضوع المساهمة الخاصة بحملة ساركوزي، الذي سألت عنه الصحافية، وأن المبلغ 20 مليون دولار)». ويقول المترجم الذي يؤلف القصائد الشعرية بالعربية والفرنسية: «أنا شاهد... وهذا ما عرفته».
وسبق للنيابة الفرنسية أن استمعت إلى إفادة من المسوري عبر الهاتف، في قضية ساركوزي، على خلفية تصريحاته التي أطلقها في وسائل إعلام فرنسية عام 2013، يقول: سألوني، حينذاك، فأكدت لهم نفس الكلام. وقلت لهم بما عرفته من القذافي عن موضوع التمويل.
وبسؤال المسوري مجدداً، عما إذا كان قد رأى أي وثيقة تحوي مخاطبة من ساركوزي للقذافي يقول فيها له إنه يحتاج إلى أموال لدعم حملته الانتخابية، يجيب: «لا... أصلاً لا يوجد رئيس (أو وزير داخلية في حالة ساركوزي حينذاك) يقول أنا أريد أموالاً». ويزيد موضحاً بشأن ما إذا كان هناك أي مكاتبات مصرفية حول الموضوع: «طبعاً لا يوجد دليل مصرفي؛ لأنه لا يوجد تحويل مصرفي من الأساس. إذا كان هناك تحويل مصرفي فيكون من خارج ليبيا وبأسماء غير آخرين».
خلال شهادته في التحقيقات، حين كان ما زال محتجزاً في سجن الهضبة، يقول مدير الأمن الداخلي، عبد الله منصور لمستجوبيه: سمعت أنه تم تحويل أموال لساركوزي عبر فرع لمصرف ليبي في لبنان. وكان السنوسي مشرفاً على هذه العملية.
ويبدو من شهادات من كانوا موجودين في قناة التواصل بين ساركوزي والقذافي، من ليبيين وفرنسيين، إضافة إلى رجلي الأعمال اللبناني، زياد تقي الدين، والفرنسي من أصل جزائري ألكسندر الجوهري، إنها تخلو، على ما يبدو، حتى الآن، من وثائق مادية مباشرة. أي أنه يمكن القول إن هناك شهادات شفهية ومؤشرات فقط، إلى أن يثبت العكس.
من جانبه، يعلق المسوري قائلاً: «الأمر بسيط... هناك اعترافات السنوسي، والبغدادي، ومنصور، في محاضر التحقيق معهم عقب القبض عليهم في طرابلس. اذهبوا إليهم... فهم ما زالوا موجودين إلى الآن في السجون». وفي الأيام الماضية أبدت عائلة السنوسي قلقاً من انقطاع التواصل مع ابنها في محبسه.
يقول مصدر من العائلة: «لا نعرف في الوقت الراهن أين هو بالتحديد... منذ ثلاثة أشهر (أي من قبل الجدل الأخير حول قضية التمويل) نحن نحاول التواصل معه، أو معرفة مصيره، دون جدوى. في السابق لم تكن أخباره تنقطع عنا إلا أسبوعاً أو أسبوعين». وتشير تسريبات في العاصمة الليبية إلى أن محققين غربيين التقوا السنوسي في مقر أحد المسؤولين في طرابلس بعد جلبه إليهم من محبسه، وأن القوة التي جاءت به من السجن رجعت من دونه.
يقول مصدر قضائي ليبي، إن محققين فرنسيين زاروا العاصمة بالفعل، في وقت سابق، قبل هذه الواقعة، وأنهم لم يلتقوا بأي من هذه القيادات المسجونة في طرابلس، وقاموا فقط بالاطلاع على محاضر فيها إقرار من بعض مسؤولي النظام السابق تحوي معلومات تخص قضية ساركوزي. ويضيف: «أخذوا نسخاً من هذه المحاضر، لكنهم لم يلتقوا لا بالسنوسي، ولا بالبغدادي، ولا بمنصور».
وعما إذا كان يعتقد أن مثل هذه الشهادات كافية، أم أنها تظل مجرد قرائن، يجيب الدكتور المسوري قائلاً، إن «القضاء يؤمن بأدلة، وحين يأتي أحد ويقول لك أنا رأيت، فيسمونه شاهد إثبات. أي قاضٍ في العالم ينظر لأداة الجريمة ولشهود العيان، وهؤلاء شهود عيان على العلاقة (بين ساركوزي والقذافي)، وكلامهم مكتوب قضائياً، حتى قبل إثارة القضية».
وعلى كل حال، ساهم السطو على أرشيف الدولة الليبية منذ وقت مبكر من عام 2011 في اختفاء معلومات مهمة. وتقول واحدة من القصص التي رواها عبد الله منصور، من سجنه في طرابلس: «حين بدأت فرنسا في قصف ليبيا مطلع ذلك العام، كان سيف الإسلام، نجل القذافي، متحمساً للإعلان، لأول مرة، عن أن والده موَّل الحملة الانتخابية لساركوزي. كان سيف يريد الانتقام من الرئيس الفرنسي، باعتباره ناكراً للجميل، ويتهمه بأنه يحشد الدول الغربية لضرب ليبيا».
يقول منصور في تحقيقات معه مصورة بالفيديو وهو بملابس المسجونين الزرقاء، عندما كان في سجن الهضبة، على طريق مطار طرابلس الدولي: «حين سأل سيف الإسلام والده عن الوثائق التي تثبت ذلك، لم يتم العثور على أي تسجيلات تخص الموضوع. فتم إخطار رجال المخابرات. وبعد البحث، فوجئ الجميع بأن كل هذه الوثائق اختفت». يقول قيادي من النظام السابق: كانت خيانة من أطراف داخل حلقة القذافي.
ومنذ 2011 اختفى معظم أرشيف عهد القذافي الذي استمر في الحكم 42 عاماً.
يقول مستشار للمجلس الرئاسي أثناء وجوده في مصر مؤخراً: «لم نستطع الوصول إلى معظم أرشيف الدولة في قطاعات الرقابة الاقتصاد والمالية، وفي مؤسسات الأمن الخارجي والأمن الداخلي (الاستخبارات)، وفي جهاز التخطيط. كما اختفى الكثير من أرشيف السجلات المدنية وتعداد السكان والسجلات العقارية، ومعاملات الشركات الأجنبية التي كانت تستثمر مليارات الدولارات في ليبيا قبل مقتل القذافي».
تعيش ليبيا في فوضى عارمة منذ ذلك الوقت. لا يوجد يقين بشأن أي شيء. كل قصة تتفرع منها مئات الخيوط بلا نهاية محددة.
في العام الماضي، جرى نقل مساجين النظام السابق من سجن الهضبة إلى سجون أخرى تديرها ميليشيات، ولا تشرف عليها النيابة العامة، وذلك عقب اجتياح السجن في حرب بين قوات في العاصمة في مايو (أيار) الماضي. وكان من بينهم السنوسي والمحمودي ومنصور.
وقبل أيام أطلقت السلطات البريطانية سراح الجوهري بعد احتجازه لأكثر من شهر بشأن قضية ساركوزي. والجوهري، هو الآخر، مطلوب للمثول أمام القضاء الفرنسي حول الموضوع نفسه. يقول قيادي من نظام القذافي: «يعلم هذان الرجلان (تقي الدين، والجوهري) تفاصيل نقل الأموال لساركوزي، حيث كانا محسوبَين على الجانب الفرنسي المرتبط بطرابلس، وبخاصة مع السنوسي».
من جانبه، ذكر تقي الدين اسم رجل أعمال عربي، قال إنه كانت له صلة، مثل الجوهري، بموضوع «ساركوزي - القذافي»، مع أنه لم يرد ذكره، من قبل، ضمن اللغط الدائر حول التمويل. وهذا مؤشر على أن قضية الرئيس الفرنسي السابق يمكن أن تؤثر على كثيرين ما زالوا بعيدين عن الأضواء. كما ذكر تقي الدين، اسم بشير صالح، الذي يتحدث الفرنسية، ويوصف بأنه كان مديراً لمكتب القذافي.
وأصيب صالح فيما يعتقد أنها محاولة اغتيال في أواخر فبراير (شباط)، في جنوب أفريقيا، التي يقيم فيها منذ سنوات، حيث هجر فرنسا بعد خروج ساركوزي من قصر الإليزيه. وينفي صالح أي علاقة له بقصة التمويل. لكن قيادياً في النظام السابق يقول، في مقابلة مسجلة معه في فيلته بالقاهرة، إن صالح يرفض الزج باسمه في القصة خوفاً على حياته.
ويتحرك هذا القيادي نفسه، رغم إقامته في العاصمة المصرية، بخطوات محسوبة في ظل هواجس تعتريه بأنه يمكن استهدافه من خصوم غامضين، بعد أن كان لزمنٍ مقرباً من القذافي ونجله ورؤساء أجهزة أمنية في طرابلس.
ويقوم بعض من زعماء النظام السابق، ممن تفرقت بهم السبل في مصر وتونس، بالتواصل وإرسال برقيات بين حين وآخر إلى زعماء دوليين ولمنظمات دولية بما فيها الأمم المتحدة، كان آخرها برقية تتضمن مخاوف على مصير السنوسي. ولدى بعضهم طرق منذ سنوات لتنشيط حملات قانونية وإعلامية ضد ساركوزي داخل باريس.
وفي منزل آخر قرب القاهرة، محاط بحراسات أمنية خاصة، ومزود بكاميرات مراقبة، يقول مسؤول ليبي كان مقرباً من القذافي متحدثاً عن ساركوزي: «سنسحقه. لقد كان ناكراً للجميل. أعطيناه أمولاً فقصفنا بالصواريخ».
لكن أين الوثائق؟ أين الأدلة؟ يجيب موضحاً، إن هناك «أدلة ووثائق سُلمت للسلطات الفرنسية خلال السنوات الماضية... هناك فريق نشط يعمل على هذا الأمر. لو لم تكن هناك أدلة لما تعامل القضاء الفرنسي مع الموضوع بهذه الجدية».
بيد أنه يقرُّ بأن معظم أرشيف الدولة الليبية، نقله زعيم في الجماعة الليبية الإسلامية المقاتلة، إلى قطر، بعد اجتياح المنتفضين لمقر القذافي في باب العزيزية، مشيراً كذلك، وبمرارة، إلى ضلوع أطراف من النظام السابق في تسليم وثائق أخرى مهمة للسلطات الفرنسية نفسها منذ بداية 2011، أي قبل خروج القذافي من طرابلس.
ومثل كثير المقربين الآخرين من النظام السابق، يبدو الاعتماد حتى الآن على مجرد تكهنات ومؤشرات في قضية تمويل حملة الرئيس الفرنسي السابق. ومن بين جدران غرفة الاستقبال المزينة بصور القذافي، يقول هذا القيادي المخضرم، وهو يرشف القهوة: «ما يمكن أن أقوله لك هو أن كل من كان على علاقة بموضوع التمويل، جرى استهدافه أو ما زال عرضة للاستهداف».
ويتابع قائلاً: «لقد جرى القبض على المحمودي في تونس في 2012، وتسليمه لليبيا، بعد أن ذكر محاميه، وقتها، أن موكله يريد أن يتحدث عن الأموال التي دفعتها ليبيا لساركوزي. كما أن السنوسي اختطف من موريتانيا، في العام نفسه».
وحدثت هذه الأمور في عهد ساركوزي... نعم، لكنها لا يبدو أنها تعكس مؤشراً قوياً؛ لأن هناك مسؤولين ليبيين آخرين من النظام السابق جرى تسليمهم من الخارج للحكام الجدد في طرابلس، أو محاولة استهدافهم في منافيهم الاختيارية، حتى بعد خروج ساركوزي من قصر الإليزيه.
ويعد منصور، وهو شاعر رهيف الحس كما أنه رجل أمن يتسم بالقسوة، من بين هؤلاء، حيث سلمته النيجر لطرابلس في 2014. ويضيف القيادي الليبي في أسى: «وأنا أيضاً تعرضت لهجوم في 2013»، بالإضافة إلى استهداف صالح في جنوب أفريقيا أخيراً... «كلنا يعلم حقيقة ما جرى. وهناك من يسعى لدفن الماضي».
ورافق هذا الرجل، القذافي كظله، منذ الصغر. وله علاقات قوية بالسنوسي والمحمودي ومنصور. ويقول إنه أصبح يخشى على حياتهم بعد تفجر قضية التمويل في فرنسا... «هذه القيادات مستهدفة، وقد بعثنا، نحن قيادات النظام السابق، رسالة للأمم المتحدة، حملناها المسؤولية عن حياة هؤلاء الذين هم في السجون؛ لأننا نعدهم شهوداً رئيسيين في قضية ساركوزي».
حتى مترجم القذافي يبدو أنه يخشى على حياته من عواقب تصريحاته الأخيرة بشأن ساركوزي، مشيراً إلى أن بعضاً ممن تولوا المسؤولية في ليبيا، ينظرون إلى الرئيس الفرنسي السابق بوصفه بطلاً ومنقذاً لهم من القذافي.
وبعد قليل من الصمت يقول: «(وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ)... وكل شيء متوقع... ربما حين أعود لليبيا، يلقون القبض عليَّ، ويجبرونني على العودة عن تصريحاتي، وبخاصة أن هناك إشاعات تقول إن مسؤولين كباراً في ليبيا اتصلوا بجهات أمنية ليبية بشأن البحث عني، أو إجباري على الرجوع عن أقوالي».
وكان بهو الفندق قد خلا من الرواد. وعبر النافذة بدت ضاحية الزمالك أكثر هدوءاً. وللخروج من زخم قصص التمويل المخيفة، ردد المسوري مقتطفات من قصائده إحداها باللغة الفرنسية، تتحدث عن النسيم والزهور وهجر الحبيب. ولا يعد الرجل، على ما يبدو، من أنصار النظام السابق. وهو ينظر إلى نفسه باعتباره دبلوماسياً لا علاقة له بالسياسة.
يقول إنه يعتقد، بصفته مواطناً ليبياً، أن «ثورة فبراير» جاءت من أجل حرية الرأي؛ و«لذلك أتمنى أن يكون ما سمعته عن أنني مطلوب من السلطات في ليبيا، مجرد شائعات، لأن أي إجراء ضدي بسبب تصريحاتي عن ساركوزي، يعد نقيضاً للديمقراطية ودولة المؤسسات والقانون».



في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

TT

في ذكرى 7 أكتوبر... «إسرائيل التي تعرفونها لم تعد قائمة»

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)
دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

بعد يومين اثنين من هجوم «حماس» على البلدات والمواقع العسكرية القائمة في غلاف غزة، يوم 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، طلب عدد من الضباط الإسرائيليين الاجتماع بنظرائهم من أجهزة الأمن الفلسطينية، وأبلغوهم بأن «إسرائيل التي يعرفونها حتى اليوم لم تعد قائمة. ستتعرفون على إسرائيل أخرى».

لم يقولوا هذه الكلمات بلهجة توحي بمضمون العداء والتهديد. لكنها قيلت بمنتهى الصرامة. كان الوجوم طاغياً على الوجوه. فهؤلاء الضباط يعرفون بعضهم جيداً. هم الطاقم الذي يمثّل حكومة إسرائيل، من جهة، والحكومة الفلسطينية، من جهة ثانية، والمهمة الموكلة إليه هي القيام بما يعرف على الملأ بـ«التنسيق الأمني» بين الطرفين. اجتماعات هؤلاء الضباط مستمرة منذ توقيع اتفاقات أوسلو وإقامة السلطة الفلسطينية قبل 30 سنة، وهي تُعقد تقريباً بشكل يومي.

وعلى عكس الانطباع السائد لدى كثيرين، لم يقتصر التنسيق بينهم أبداً على الملفات الأمنية. كانوا يجتمعون في البداية لغرض تطبيق الاتفاقات ومنحها طابعاً إنسانياً. اهتموا بقضايا تحسين العلاقات التجارية والاجتماعية والاقتصادية، وأيضاً الأمنية. اهتموا ذات مرة بمنح تصاريح العودة لعشرات الآلاف من الفلسطينيين الذين عادوا من الشتات واستقروا في الوطن. واهتموا بتسهيل خروج وعودة الطلبة الفلسطينيين الجامعيين وجلب عمال فلسطينيين إلى إسرائيل واستيراد البضائع الفلسطينية إلى إسرائيل أو تصديرها إلى الخارج. نظموا دوريات مشتركة لضمان سلطة نفاذ القانون التي كان فيها الضباط والجنود يتناولون الطعام معاً، وصاروا فيها يتقاسمون رغيف الخبز.

دمار واسع جراء الغارات الإسرائيلية على خان يونس في 26 أكتوبر 2023 (أ.ف.ب)

وقد شهدت العلاقات بينهما طلعات ونزلات كثيرة، وكان عليهم أن يمتصوا الأحداث العدائية. ففي الطرفين توجد قوى حاربت الاتفاقات ولم تطق سماع عبارة «عملية السلام». بدأ الأمر عام 1994 بمذبحة الخليل التي نفذها طبيب إسرائيلي مستوطن، والتي رد عليها متطرفون فلسطينيون بسلسلة عمليات انتحارية في مدن إسرائيلية. وعندما تمكن اليمين المتطرف في إسرائيل من اغتيال رئيس الوزراء، اسحق رابين، بهدف تدمير الاتفاقات مع الفلسطينيين، حصل تدهور جارف في العلاقات بين الطرفين.

وعندما فاز بنيامين نتنياهو بالحكم، أول مرة سنة 1996، زاد التوتر وانفجر بمعارك قتالية بين الجيش الإسرائيلي وبين ضباط وجنود في أجهزة الأمن الفلسطينية. وعند اندلاع الانتفاضة الثانية عام 2000، كادت تقع حرب بينهما. وعاد الجيش الإسرائيلي ليكرس الاحتلال وعادت الأجهزة الفلسطينية إلى قواعد منظمة التحرير وأيام الكفاح. لكن قادة الطرفين، بمساعدة الأميركيين ودول مختلفة، حاولوا تطويق الأوضاع.

وظل أعضاء فريقي التنسيق الأمني يلتقون وينسقون. تعاملوا مع بعضهم البعض على أساس المصالح المشتركة «بيزنِس»، لضمان الحد الأدنى من التواصل. وكل من الطرفين يعترف بأن الأمر ضروري وحيوي، برغم أن الشعبويين في إسرائيل يعتبرون ذلك استمراراً لاتفاقات أوسلو وتمهيداً للاعتراف بدولة فلسطينية، فيما بعض الفلسطينيين يعتبر ذلك تهادناً مع إسرائيل وتعاوناً معها «ضد المقاومة». ولكن رغم هذه الانتقادات من أطراف في الجانبين، يصمد فريق التنسيق في وجه تشويه جهوده. فالضباط من الطرفين يدركون أن فك التنسيق ثمنه باهظ، فلسطينياً وإسرائيلياً.

والجديد الآن أن الضباط الإسرائيليين يأتون إلى الاجتماعات وهم يؤكدون أنهم ينوون الاستمرار في التنسيق لكن الفلسطينيين «سيجدون إسرائيل مختلفة». كانوا صادقين. ورسالتهم هذه كانت موجهة ليس فقط للضباط أو المسؤولين الفلسطينيين، بل للشعب الفلسطيني كله... ومن خلاله إلى كل العالم.

دمار واسع في قطاع غزة بعد سنة على الحرب الإسرائيلية (الشرق الأوسط)

«واحة الديمقراطية».. لم تعد موجودة

مع مرور سنة كاملة على الحرب في غزة، يمكن القول إن إسرائيل تغيّرت بالفعل، منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023. مقولة الجنرالات الإسرائيليين لنظرائهم الفلسطينيين يرددها جميع القادة الإسرائيليين السياسيين سواء كانوا في الحكومة أو المعارضة، كما يرددها القادة العسكريون من كل الأجهزة. يريدون تثبيت فكرة أن إسرائيل تغيّرت في عقول شعوب المنطقة والعالم. والواقع، أن هذه الفكرة باتت حقيقة مُرّة.

فإذا كان هناك من يعتبر إسرائيل «فيلّا جميلة في غابة موحشة» أو «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط» أو «دولة حضارية» أو «جبهة متقدمة للغرب في الشرق» أو «دولة التعاضد السكاني» أو «دولة القيم وحقوق الإنسان»، فإن كثيراً من قادتها وقسماً كبيراً من شعبها تنازلوا، كما يبدو، عن هذه المفاهيم تماماً، في أعقاب ما حصل في 7 أكتوبر. صاروا معنيين باستبدال هذه الصفات. فالفيلّا أصبحت الغابة. والواحة باتت منطقة جرداء. والدولة الحضارية باتت تتصرف كوحش جريح. والتعاضد السكاني صار جبهة واحدة ضد العرب. والقيم وحقوق الإنسان ديست بأقدام الجنود ودباباتهم وغاراتهم. كأن إسرائيل تريد أن يتم النظر إليها بوصفها جرافة تدمر كل ما ومن يعترض طريقها، أو كأنها «دولة الانتصار على كل أعدائها».

تُعبّر الأرقام في الواقع عن نتيجة هذا التغيّر في طريقة تصرف الإسرائيليين. إذ تفيد إحصاءات الحرب في قطاع غزة بأن 60 في المائة من البيوت والعمارات السكنية مدمرة، والبقية متصدعة أو آيلة إلى الانهيار وغير آمنة. وفي مقدمها المستشفيات والعيادات الطبية والمساجد والكنائس والجامعات والمدارس ومخيمات اللاجئين. كلها دُمّرت بقرارات لا يمكن سوى أن تكون «مدروسة» ولأغراض «مدروسة»، بحسب ما يعتقد كثيرون. أما حصيلة القتلى فتقترب من 42 ألفاً، ثلثاهم نساء وأطفال. والجرحى أكثر من 100 ألف. وهكذا تدخل الحرب في غزة التاريخ كواحدة من أكثر الحروب دموية في القرن الحادي والعشرين، وفق تقرير لصحيفة «هآرتس» اعتمد تدقيقاً للبيانات بما في ذلك معدل ووتيرة الوفيات، إضافة إلى الظروف المعيشية للسكان في القطاع.

تقول الصحيفة إنه في الوقت الذي يتشبث فيه رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وغيره من المتحدثين الإسرائيليين بحجتهم المفضلة، وهي اتهام المجتمع الدولي بالنفاق فيما يتعلق بالحرب في قطاع غزة، والادعاء بأنه يتجاهل الصراعات والكوارث الإنسانية الأخرى، فإن الأرقام المسجلة حتى الآن تجعل الحرب في غزة تتجاوز دموية النزاعات في كل من العراق وأوكرانيا وميانمار (بورما). وبما أن عدد سكان غزة لا يتجاوز مليوني شخص، وعدد القتلى يضاهي 2 في المائة من السكان، فإن مقارنة بسيطة مع إسرائيل تبيّن أنه لو قُتل في إسرائيل 2 في المائة من السكان لأصبح عدد القتلى 198 ألفاً.

يقول البروفسور، مايكل سباغات، من جامعة لندن للصحيفة: «من حيث العدد الإجمالي للقتلى، أفترض أن غزة لن تكون من بين أكثر 10 صراعات عنفاً في القرن الحادي والعشرين. ولكن بالمقارنة مع النسبة المئوية للسكان الذين قتلوا، فإنها بالفعل ضمن الخمسة الأسوأ في المقدمة». ويضيف سباغات، وهو باحث في الحروب والنزاعات المسلحة ويراقب عدد الضحايا في تلك الأزمات: «إذا أخذنا في الاعتبار مقدار الوقت الذي استغرقه قتل واحد في المائة من هؤلاء السكان، فقد يكون ذلك غير مسبوق».

ووفق حساباته، فإنه في الإبادة الجماعية للروهينغا في ميانمار، على سبيل المثال، قتل نحو 25 ألف شخص، وفقاً للأمم المتحدة. وفي الإبادة الجماعية للإيزيديين على يد تنظيم «داعش»، في عام 2015، تشير تقديرات الخبراء إلى أن 9100 شخص قتلوا، نصفهم من خلال العنف المباشر والنصف الآخر بسبب الجوع والمرض، بالإضافة إلى الآلاف الذين اختطفوا.

عائلات المحتجزين الإسرائيليين في غزة تشكو من أن الحكومة تتجاهل مصيرهم (أ.ف.ب)

ومنذ بدء الحرب في غزة، بلغ متوسط معدل الوفيات نحو 4 آلاف وفاة شهرياً. بالمقارنة، في السنة الأولى من الحرب في أوكرانيا، بلغ معدل الوفيات 7736 شهرياً، بينما في أكثر سنوات الحرب دموية في العراق، في عام 2015، كان عدد القتلى نحو 1370 شهرياً. في هاتين الحربين، كان العدد الإجمالي للقتلى أعلى بكثير مما كان عليه في الحرب في غزة، لكن هذين الصراعين استمرا، وما زالا مستمرين، لفترة أطول بكثير.

الحرب في غزة تبرز أيضاً بالمقارنة مع حروب تسعينات القرن العشرين، على غرار الحرب في دولة يوغوسلافيا السابقة. واحدة من هذه المناطق كانت البوسنة، وفي أسوأ عام من الصراع، 1991، كان متوسط عدد القتلى شهرياً 2097، والعدد الإجمالي للقتلى على مدى أربع سنوات كان 63 ألفاً.

الفرق الأبرز بين بقية حروب القرن الـ21 والحرب في قطاع غزة هو حجم الأراضي التي تدور فيها المعارك وعدم قدرة المدنيين غير المشاركين على الفرار من المعارك، وخاصة نسبة الضحايا بين إجمالي السكان. امتدت الجبهات في أكبر حروب هذا القرن، في سوريا والعراق وأوكرانيا، على مدى آلاف الكيلومترات ووقعت المذابح في مئات المواقع المختلفة. والأهم من ذلك، أن المدنيين في تلك الأماكن يمكنهم، حتى ولو بثمن مؤلم، الفرار إلى مناطق أكثر أماناً. ففي سوريا، غادر ملايين اللاجئين إلى بلدان أخرى، مثل الأردن وتركيا ودول أوروبية. كما غادر مئات الآلاف من اللاجئين الأوكرانيين مناطق خط المواجهة وانتقلوا غرباً.

أما في غزة البالغة مساحتها 360 كلم مربعاً، أي جزءاً بسيطاً من حجم أوكرانيا، فقد اندلع القتال في كل مكان تقريباً من أرجائها، ولا يزال مستمراً. لقد تم تهجير معظم سكان القطاع، لكن هروبهم إلى المناطق التي حددها الجيش الإسرائيلي كمناطق آمنة لم يساعد دائماً، وقتل العديد منهم في هذه المناطق أيضاً. بالإضافة إلى ذلك، فإن الظروف المعيشية في هذه المناطق المصنفة إنسانية، قاسية للغاية، إذ يعاني اللاجئون من الاكتظاظ والمرض ونقص المأوى الآمن ونقص الأدوية وأكثر من ذلك.

والمشكلة الأكبر أن كثيراً من هذه الفظائع تم ويتم بقرارات واعية من المسؤولين الإسرائيليين. فإذا وصلت معلومة للمخابرات الإسرائيلية أو شبهة بأن فلاناً ناشط في «حماس»، كان يتم قصف بيته على من فيه، بلا انذار أحياناً أو بإنذار وجيز. وإذا دخل عنصر يعتبر «مطلوباً»، من أي تنظيم فلسطيني، إلى مقهى، كان يتم قصف المقهى على من فيه. وحتى المسجد كان يتم تدميره أيضاً في حال اشتبهت إسرائيل بأن شخصية ما تختفي داخله.

التغيير الجديد... نظرة فوقية

في الماضي كان الإسرائيليون يقومون بمثل هذه الممارسات، لكنهم كانوا يخجلون منها. يحاولون التستر عليها. كانوا يكسرون ويجبرون. فمقابل القتل والبطش كانوا يبرزون قصصاً لجنود قدموا المساعدة. ظهر معترضون نددوا بالبطش ضد الفلسطينيين الأبرياء. أما اليوم فلم يعد هناك شيء من هذا. كثيرون في إسرائيل باتوا يقولون إنه لا يوجد في نظرهم أناس أبرياء. فالعائلات الفلسطينية تساند أولادها، ولذلك يجوز معاقبتها. الطفل الفلسطيني سيكبر ويصبح جندياً، ولذلك فلا يجب أن ترحمه.

وإذا كان شبان مخيمات اللاجئين يقاومون، فيمكن أن يتم حرمان كل سكان المخيم من الماء والكهرباء والبنى التحتية، عقاباً لهم. بات الفلسطينيون «حيوانات»، بحسب وصف وزير الدفاع يوآف غالانت المفترض أنه من يرسم سياسة الجيش. والحقيقة أن هذه النظرة الفوقية تجاه الفلسطينيين صارت سائدة اليوم في المجتمع الإسرائيلي، ورغم أن هذا الاستعلاء هو بالذات ربما ما أوقع إسرائيل في إخفاقات 7 أكتوبر. باغتتها «حماس»، بلا شك، بهجوم شديد يومها. ولولا أن مقاتلي الحركة وقعوا في مطب أخلاقي شنيع، ارتكبت خلاله ممارسات مشينة ضد المدنيين الإسرائيليين، لكان هجومهم اعتُبر ناجحاً، بغض النظر عن النتائج التي أدى إليها لاحقاً. فقد احتلوا 11 موقعاً عسكرياً وأسروا عدداً من جنود وضباط الجيش الإسرائيلي.

صور وتذكارات لإسرائيليين خُطفوا أو قُتلوا في هجوم «حماس» على موقع «سوبر نوفا» الموسيقي في غلاف غزة يوم 7 أكتوبر العام الماضي (إ.ب.أ)

لكن التغيير الذي أرادت إسرائيل أن يظهر للعرب، انسحب أيضاً على إسرائيل نفسها. لقد تغيرت تجاه الإسرائيليين أنفسهم. انتهى الخجل في السياسة الداخلية. فالائتلاف اليميني الحكومي، في نظر منتقديه، بات يسن قوانين تتيح الفساد، مثل القوانين التي تضرب استقلالية القضاء، والقانون الذي يضعف المراقبة على التعيينات الحكومية بحيث يمكن تعيين موظفين غير مؤهلين في مواقع إدارية رفيعة، والقانون الذي يوفر لرئيس الحكومة المتهم بالفساد تمويلاً لمصاريف الدفاع عن النفس في المحكمة من خزينة الدولة. أما القضاة في إسرائيل فباتوا يخافون الحكومة ويصدرون قراراتهم وفقاً لأهوائها، في كثير من الأحيان.

والأكثر من ذلك، لم تعد إسرائيل اليوم تتعامل مع حياة الإنسان الفلسطيني أو اللبناني بأنها رخصية، بل أيضاً مع حياة الإنسان الإسرائيلي. فالحكومة باتت تستخدم منظومة «بروتوكول هنيبعل»، الذي يقضي بقتل الجندي الإسرائيلي مع آسريه، حتى لا يقع في الأسر.

في معركة مارون الراس الأخيرة في الجنوب اللبناني، أمر الضباط جنودهم بخوض القتال لمنع عناصر «حزب الله» من أسر جثة جندي، وكلفها الأمر مقتل ستة جنود وجرح أكثر من عشرة. والمواطنون الإسرائيليون المحتجزون لدى «حماس» في غزة، مهملون، كما تقول أسرهم التي تتهم نتنياهو بأنه يرفض التوصل إلى صفقة تبادل تضمن إطلاق سراحهم.

وبدل احتضان عائلات هؤلاء المحتجزين، ينظم مناصرون للائتلاف اليميني الحاكم حملة تحريض عليهم ويعتدون على مظاهراتهم الاحتجاجية. وفوق ذلك كله، تبدو الحكومة وكأنها تشجع اليمين المتطرف على مهاجمة قيادة الجيش، فهي لم تحاسب مجموعات منهم نظّمت اعتداءات على معسكر للجيش، ولم تمنع حتى اعتداءات مستوطنين على الجنود الذين يحمونهم في الضفة الغربية.

إسرائيل اليوم صارت خانقة أيضاً للإسرائيليين الذين يفكرون بطريقة مختلفة عن الحكومة. كلمة سلام صارت لعنة. والخناق يشتد حول حرية الرأي والتعبير. واتهام المعارضين بالخيانة صار أسهل من شربة ماء.

والتغيير الأكبر، على الصعيد الداخلي، هو أن رئيس الحكومة ورؤساء ووزراء ائتلافه الحكومي، يعملون على المكشوف لتغليب مصالحهم الذاتية والحزبية على مصالح الدولة. ويقول منتقدو نتنياهو إنه يعرف أن الجمهور لا يريده في الحكم وينتظر أن تنتهي الحرب حتى يسقطه، ولذلك هو يعمل، ببساطة، على إطالة الحرب ليبقى في السلطة.

في ذكرى 7 أكتوبر، تبدو إسرائيل بالفعل وكأنها تغيّرت. قيادتها الحالية مصممة على تأجيج الصراع أكثر وتوسيعه. لا يهدد ذلك فقط بمزيد من التأجيل للتسوية مع الفلسطينيين، بل يخاطر أيضاً بحروب فتاكة قادمة تورثها إسرائيل لأبنائها وبناتها.