إسبانيا: الأزمة الكتالونية بانتظار مقاربات جديدة

بعد توقيف الزعيم الانفصالي بوتشيمون... واحتجازه في ألمانيا

إسبانيا: الأزمة الكتالونية بانتظار مقاربات جديدة
TT

إسبانيا: الأزمة الكتالونية بانتظار مقاربات جديدة

إسبانيا: الأزمة الكتالونية بانتظار مقاربات جديدة

بعد نصف سنة على انطلاق «المغامرة الانفصالية» الكتالونية التي شكلّت أكبر تهديد لوحدة الدولة الإسبانية في تاريخها الحديث، يبدو المشهد محزناً في هذا الإقليم المتوسطي الذي منذ عقود يستقطب اهتمام الفنانين والمبدعين، ويجذب السيّاح والتجار وهواة الرياضة من أرجاء المعمورة. كارليس بويدجيمونت، الزعيم الانفصالي الذي أعلن قيام «الجمهورية الكتالونية» متحديّاً حكومة مدريد وقرارات المحكمة الدستورية، يقبع الآن في أحد السجون الألمانية إلى جانب مهرّبي مخدّرات ومغتصبين ومرضى نفسانيين بانتظار أن يبّت القضاء الألماني طلب تسليمه إلى السلطات الإسبانية. ومن شبـه المؤكد أن تنتظره عقوبة بالسجن لسنوات بتهمة التمرّد والعصيان المدني والتحريض على الفتنة. أما بقيّة الزعماء الذين قادوا «المغامرة الانفصالية» فليسوا بحالٍ أحسن من حال رئيسهم الذي فرّ متخفيّاً إلى بلجيكا، ومن هناك راح يتنقّل في العواصم الأوروبية محفوفاً برموز الحركات الانفصالية في أوروبا. ومعظم هؤلاء الآن إما في السجون قيد المحاكمة، أو اختاروا الفرار من وجه العدالة الإسبانية التي يبدو أنها السلاح الوحيد في متناول حكومة مدريد المركزية... المستمرة في جمودها السياسي إزاء ما يعتمل في أغنى أقاليم إسبانيا.
يرى متابعو الشأن السياسي في إسبانيا أن الملاحقات القانونية التي يخضع لها القادة الكتالونيون الانفصاليوّن تحول دون تكليف أي منهم تشكيل الحكومة الإقليمية المرتقبة بعد الانتخابات الأخيرة التي فازت فيها الأحزاب المطالبة بالاستقلال بغالبية بسيطة. ومن ثم، فمن دون تشكيل الحكومة الإقليمية يستحيل إبطال مفاعيل المادة 155 من الدستور الإسباني التي لجأت إليها سلطات مدريد لتعليق العمل بنظام «الحكم الذاتي» في كتالونيا، ووضع المؤسسات المحلية في الإقليم تحت الإشراف المباشر للسلطات الفيدرالية المركزية.
وليس هناك ما يشير حتى الآن إلى أن الأحزاب الانفصالية مستعدة لتقديم مرشّح لا يخضع لملاحقة قانونية كي يشكل الحكومة الجديدة؛ تمهيداً لمحاولة الخروج من الطريق المسدودة الذي وصل إليه الصدام بين مدريد وبرشلونة. وبعد شهرين على الانتخابات المحلية الأخيرة في كتالونيا يتبدّى يوماً بعد يوم أن البرنامج الوحيد للقوى الانفصالية في هذه المرحلة هو الإصرار على المواجهة، أياً كان الثمن، والتهميش الكامل والمنتظم للمعارضة البرلمانية التي فازت بنسبة 48 في المائة من المقاعد، بل وحصلت على أصوات شعبية أكثر مما حصلت عليه الأحزاب الانفصالية.
- حسابات الانفصاليين
في حسابات الانفصاليين، أن استمرار المواجهة مع مدريد يعزّز صورة «الضحيّة» التي يراهنون على استغلالها لزيادة شعبيتهم واستدرار الدعم الخارجي لمن «يدافعون عن أنفسهم في وجه قمع الدولة المركزية». إلا أن الاستطلاعات الأخيرة تبيّن أن التأييد للقوى الانفصالية إلى تراجع، بينما تتسع دائرة المعترضين على إدارة الأزمة داخل هذه القوى التي تشرذم قادتها بين معتقلٍ وفارٍ من العدالة بعيداً عن القواعد الشعبية. وهذه الأخيرة، تراقب بقلق تراجع النمو الاقتصادي وركود الحركة السياحية وارتفاع معدلات البطالة... بعد خروج نحو أربعة آلاف من المؤسسات الصناعية والتجارية والمصرفية من كتالونيا. وفي المقابل، لا تبدي حكومة مدريد أي جاهزية للانفتاح على الحوار، متشبثّة بمشروع سياسي قوامه البقاء في السلطة بأي ثمن، ومحاصر بسلسلة من فضائح الفساد وتراجع حاد في الشعبية.
بعض الأصوات المعتدلة داخل المعسكر الانفصالي بدأت تدندن ترنيمات «انفتاحية» من باب التمهيد لمرحلة جديدة، وتطويق «المنحى الانتحاري» الذي دفعت باتجاهه بعض القوى المتطرفة. إذ أعلن كارليس رييرا، الناطق بلسان الحزب الذي يتزعمه الزعيم الانفصالي الفار كارليس بوتشيمون، أمام البرلمان يوم الخميس الماضي «أن المسرى الانفصالي انتهى»، داعياً القوى الانفصالية التي خاضت الانتخابات الأخيرة متحالفة إلى «التحلّي بالواقعية والشجاعة وإعادة رسم استراتيجية جديدة». مثل هذه التصريحات الصادرة عن قيادي انفصالي بارز في الحزب الوازن، شعبياً وفي البرلمان، تحمل المراقبين على التفاؤل إذا ما تبيّن أنها ليست من باب كسب الوقت والتقاط الأنفاس بهدف إعادة تنظيم الصفوف تأهباً لمرحلة جديدة من المواجهات مع الحكومة المركزية - المترنّحة منذ تشكيلها - على قاعدة ما تيّسر لتمرير المرحلة، والخروج من الطريق المسدودة الذي أفضت إليه الانتخابات العامة الأخيرة.
لكن بعض المراقبين المتابعين عن كثب الوضع في كتالونيا يرون أن النواة الأساسية للقوى الانفصالية، التي تضّم أحزاباً من اليمين إلى أقصى اليسار التروتسكي - أي البورجوازية المالية والنخب الفكرية - كانت تدرك منذ البداية أن قيام جمهورية مستقلة، معترف بها دوليّاً، شبه مستحيل في المرحلة الراهنة. ذلك أن في صميم هواجس الاتحاد الأوروبي، الذي تشكّل إسبانيا إحدى ركائزه السياسية والاقتصادية والجغرافية، إفلات الحركات القومية العديدة في دياره من عقالها.
وعلى هذا الأساس يرجّح مراقبون أن يكون الهدف الحقيقي من «المغامرة» في فصلها الأول هو دفع الحكومة المركزية الضعيفة، والتي غالباً ما خانها «الحامض النووي الفرنكي» (نسبة إلى ديكتاتور إسبانيا السابق الرحل الجنرال فرانشيسكو فرنكو) النائم في خلاياها، إلى اللجوء للقمع الأمني والاعتقالات والملاحقات القضائية. وهذا ما يؤدي إلى استنهاض القواعد الشعبية المتردّدة حيال تأييد الانفصال، والنيل من صدقية الديمقراطية الإسبانية، تسهيلاً لاستقطاب التعاطف الخارجي الذي افتقدته المغامرة بعد الأسابيع الأولى.
بعض المحللين النافذين في أوساط النخب الانفصالية يلمحّون إلى أن بوتشيمون ورفاقه قد أدّوا دورهم. وبالتالي، فإن المرحلة التالية تقتضي تولّي قيادات جديدة قادرة على استثمار ما تحقق في الجولة الأولى، وبخاصة ارتفاع نسبة المؤيدين للانفصال إلى النصف تقريباً، بعدما كانت تراوح عند 30 في المائة خلال السنوات القليلة الماضية. وهؤلاء يدعون إلى الإسراع في إعادة تنظيم المعسكر الانفصالي حول تفاهمات أفقية ثابتة بين أطيافه المتباعدة عقائدياً واجتماعياً قبل أن يستقرّ الإحباط في أوساط القواعد الشعبية، وتتشكل تحالفات جديدة تمليها ضرورة رأب الصدع الاجتماعي العميق ووقف النزف الاقتصادي المتسارع، الذي بات يرخي بثقله على المشهد الكتالاني منذ أواخر العام الماضي.
- بوادر تفاؤل...
ويبدو الآن أن الجناح المتطرف الذي يقوده بوتشيمون، والذي يأخذ عليه بعض حلفائه «انسلاخه» عن الواقع السياسي والاجتماعي، قد بدأ يفقد سيطرته الحصرية على القرارات التي توجّه الدفّة الانفصالية. ومن البوادر التي تحمل على التفاؤل بانفراجات ممكنة خلال الأسابيع المقبلة، تعاقب الدعوات الصادرة عن الاشتراكيين الكتالونيين وبعض الأصوات المعتدلة في صفوف اليمين والوسط إلى تشكيل «حكومة إنقاذ» ائتلافية تستعيد نظام «الحكم الذاتي»، وتضع «خريطة طريق» مشتركة لحلحلة الأزمة، مع ملاحظة أن هذه الدعوات لم تلقَ الرفض الفوري المعتاد من القوى الانفصالية.
في هذا السياق، يذكّر البرلماني الاشتراكي والمحلل البارز سانتي فيلا بما كان يردّده المؤسس الأول للمشروع الأوروبي جان مونّيه بأن «لا شيء ممكناً من غير الأشخاص، ولا شيء دائماً من غير المؤسسات»، معتبراً أن إنقاذ كتالونيا من محنتها بات مستحيلاً خارج المؤسسات الديمقراطية الوطيدة، وبمعزل عن قيادات حكيمة ومنزّهة عن المصالح الحزبية أو الشخصية.
بيد أن المعضلة الأساسية المستعصية في الأزمة التي تعاني منها كل من كتالونيا وإسبانيا راهناً، تكمن في انحباس الأطراف داخل دوّاماتها وشعاراتها الموروثة، وفي عجزها عن أدنى مستويات التواصل حول مسلمّات التعايش والبديهيات الديمقراطية.
ولعلّ أكثر ما يستوقف المراقب للمشهد السياسي والاجتماعي الإسباني، منذ عقود، هو أن البلد الذي أدهش العالم بنضج تجربته الانتقالية من حكم ديكتاتوري مديد إلى نظام ديمقراطي عصري وراسخ، وكان للكاتالونيين الدور الأبرز في معادلة استقراره ونموه السريع والمذهل، يغرق اليوم في أوحال أزمة عبثية يدرك الجميع أن المنتصر فيها خاسرٌ.
وهنا أشير إلى أنني كنت أجريت عام 2014 حواراً مطوّلاً مع رئيس الوزراء الإسباني الأسبق ادولفو سواريث - الذي قاد عملية تفكيك ديكتاتورية الجنرال فرنكو التي استمرت 35 سنة، ولعب الدور الأساس في إرساء قواعد النظام الديمقراطي - قبل أشهر من وفاته. وخلال الحوار سألته عن سر نجاح تلك التجربة الفريدة في التاريخ الحديث، التي أصبحت مادة تُدرّس في العديد من كليات العلوم السياسية في العالم، فأجاب سواريث: «انتقلنا من القانون إلى القانون بواسطة القانون». وهو ما يعطي الانطباع أن المأزق الكتالوني اليوم هو ثمرة إصرار الانفصاليين على تحقيق أهدافهم خارج الأطر القانونية التي شاركوا في وضعها وارتضوها، وإصرار حكومة مدريد على استخدام القانون لمآرب غير قانونية.
- سمات «الأسرة» الإسبانية
من الشائع في المُتخيّل الاجتماعي الإسباني أن أهل كتالونيا يمثّلون الاعتدال في المسلك والحصافة في التعاطي مع الشأن العام والحرص على الاستقرار بأي ثمن، بعكس الباسك المعروفين بتطرّفهم ونزوعهم إلى العنف، أو الأندلسيين الموصوفين بالمبالغة والإفراط.
ولعلّ في هذه الصفات المتأصلة عند الكتالونيين، إضافة إلى شغفهم بالتجارة واتقانهم أساليبها، ما يساعد على فهم الأسباب التي أبقت هذه المقاطعة في منأى عن الصراعات والاضطرابات الكبرى التي شهدتها إسبانيا منذ القرن التاسع عشر، لتغدو اليوم الإقليم الأغنى من حيث القوة الاقتصادية الخامسة في الاتحاد الأوروبي. إلا أن الحركة الانفصالية التي تتعاقب فصولها على المشهد السياسي الإسباني منذ خريف العام الماضي، وتتدرّج وقائعها بين انقطاع «خيط الحوار» السياسي والعصيان المدني والتمرّد على المنظومة القانونية، تدفع إلى الحذر في التسليم بصواب الأفكار الموروثة، وتنصح بالتروّي عند مقاربة هذه الأزمة، والتكهّن بتداعياتها وتشخيص مخارجها.
لا شك في أن اعتقال بوتشيمون قبل أيام على يد أجهزة الأمن الألمانية، وإيداعه السجن بانتظار البتّ في طلب تسليمه إلى السلطات الإسبانية، شكّل ضربة قاسية للحركة المطالبة باستقلال كتالونيا. غير أنه، من ناحية أخرى، فتح الباب أيضاً على احتمالات التصعيد التي ما زالت تتصدّر برنامج الانفصاليين رغم ظهور بعض بوادر التصدّع في صفوفهم خلال الأسابيع الأخيرة، إثر الدعوات الخجولة – الآنفة الذكر – لفتح قنوات للحوار مع القوى السياسية الأخرى، وإعادة النظر في المسار الصدامي الذي انتهجته الأحزاب والقوى المطالبة بالاستقلال حتى الآن.
- ملاحقة استخباراتية
تفيد معلومات موثوقة بأن أجهزة الاستخبارات الإسبانية كانت تتعقّب بوتشيمون منذ فراره إلى بلجيكا، وإنها هي التي أبلغت الأجهزة الألمانية عن مكان وجوده. ومن المرجّح، أن هذه الأخيرة لم تقدم على اعتقاله من دون إيعاز من السلطات السياسية في برلين، التي تدرك تمام الإدراك أن ردّها على طلب الاسترداد الذي تقدّمت به مدريد، سلباً أو إيجاباً، ستكون له تداعيات ذات شأن على العلاقات بين البلدين.
ومن هذا المنطلق تأتي الخطوة الألمانية لتؤكد أن الاتحاد الأوروبي - الذي كان اكتفى بدور الشاهد على هذه الأزمة المعتملة في دياره، متذرّعاً بأنها «مشكلة داخلية» - أدرك أخيراً أن المشكلة الكتالونية، على غرار القوميات الكثيرة النائمة في البيت الأوروبي: «مشكلة أوروبية» لا بد من التصدّي لها واحتوائها قبل فوات الأوان. ومما لا شك فيه، أن خروج البريطانيين من الاتحاد وصعود الأحزاب والحركات الشعبوية واليمينية المتطرفة - كما بيّنت الانتخابات الإيطالية الأخيرة - هي التي تشكّل الخطر الأكبر على المشروع الأوروبي الذي تسخّر له برلين وباريس طاقات كبيرة لإنهاضه من كبواته الحالية.
القراءات القانونية من جهتها، ترفد القراءة السياسية لاعتقال بوتشيمون وطلب تسليمه إلى السلطات الإسبانية. إذ يستند الحقوقيون إلى التشابه الكبير بين أحكام الدستورَين الألماني والإسباني فيما يتعلّق بتنظيم الإدارة الفيدرالية في الحالة الأولى وأقاليم «الحكم الذاتي» في الثانية. ومن ثم، يستبعدون أن يقرّر القضاء الألماني رفض طلب مدريد، ولا سيّما، وأن التمرّد الانفصالي ملحوظ في الأحكام الدستورية الألمانية ضمن باب الانتهاكات الخطيرة التي تهدد وحدة الدولة وانسجام المجتمع.
- شعور بالخذلان الخارجي
المعسكر الانفصالي، من جهته، بدأت تظهر عليه بالفعل علائم الوهن والإحباط بعدما تيقّن من أن الدعم الخارجي الذي كان يراهن عليه لم يتعدَّ اهتمام وسائل الإعلام لفترة محدودة. وهذا، بينما تتراجع شعبيته داخل الإقليم بفعل الأضرار التي بدأ الاقتصاد الكتالوني يعاني منها بعد هجرة آلاف الشركات والمؤسسات الكبيرة إلى مدريد ومدن إسبانية أخرى. أما الخطوات التصعيدية الأخيرة، كالمظاهرات والصدامات مع الشرطة في شوارع برشلونة، عاصمة كتالونيا، وتصريحات كتلك التي وردت على لسان رئيس البرلمان، عندما قال: «ليس من حق أي قاضٍ أن يلاحق رئيس كل الكتالونيين»، لا بد من إدراجها ضمن السهام الأخيرة في جعبة الانفصاليين إثر انسداد الأفق أمامهم، والملاحقات القضائية في حق زعمائهم، وقلة التجاوب الأوروبي مع مطالبهم.
لكن إذا كان الانفصاليون يجدون صعوبة في استيعاب الأضرار التي لحقت بمشروعهم والتكيّف مع المعطيات الجديدة التي فرضتها عليهم الهزائم التي لحقت بهم، فمن الخطأ الاعتقاد أن سلطات مدريد حقّقت نصراً حاسماً في مواجهتها المفتوحة مع الحركة الانفصالية. فالحقيقة أن الحكومة المركزية المترنّحة التي يرأسها ماريانو راخوي (زعيم الحزب الشعبي اليميني) لا تختصر إسبانيا التي صنفّتها مجلة «الإيكونوميست» في طليعة الديمقراطيات الراسخة، وأوروبا ليست هي البيروقراطية القامعة للهويات... كما روّج الانفصاليون ومعهم الساعون إلى ضرب المشروع الأوروبي.
ومن ثم، فالمجازفة التي أقدم عليها الانفصاليون عندما تجاهلوا أحكام الدستور وقرار المحكمة الدستورية وأعلنوا الجمهورية من طرف واحد، كانت تتويجاً لهروب الحكومة المحلية إلى الأمام بعدما أنهكتها فضائح الفساد، وتراجعت شعبيتها، وانسدّت قنوات الحوار بينها وبين الحكومة المركزية. وفي المقابل، كانت أيضاً ثمرة حسابات مدريد الخاطئة في التعاطي مع الشأن الكتالوني بجمود مذهل وتشدّد مُستلهم من «التجربة الباسكية» التي طويت صفحتها أخيراً بعد أربعة عقود من القمع والعنف المسلّح والإرهاب.
- المسؤولية... والحل
صحيح أن ثمّة مسؤولية كبيرة ملقاة اليوم على عاتق الأحزاب الكتالونية التي دفعت بالملف الانفصالي في طريق من غير منافذ قانونية أو سياسية، وذهبت في التصعيد إلى شفا الانهيار الاقتصادي والعزلة الاجتماعية.
لكن المسؤولية الأكبر تقع على حكومة مدريد، التي قد يغريها الوقوع في فخ توهّم أنها ضربت رأس الأفعى الانفصالية، فتجنح إلى المزيد من التشدد واللجوء إلى أدوات القمع - القانونية والأمنية - كاشفة وجه «الموروث الفرانكوي» الذي جهد الانفصاليون لاستدراجها إليه منذ اللحظة الأولى.
وبناءً عليه، فإن المخرج الوحيد الآمن على الأمد الطويل أمام مدريد هو الإسراع في الإعداد لمراجعة دستورية بالتوافق مع الأحزاب الوطنية ترسي قواعد جديدة لنظام فيدرالي يعطي صلاحيات أوسع للأقاليم التي تنشط فيها حركات وأحزاب تطالب بالمزيد من «الحكم الذاتي» أو الاستقلال قبل أن يرتفع الستار عن مشهد انفصالي آخر.
- كاتالونيا في سطور
> يقع إقليم كتالونيا في الشمال الشرقي من شبه الجزيرة الإيبرية وتبلغ مساحته 32 ألف كيلومتر مربع (6 في المائة من مساحة إسبانيا) ويبلغ عدد سكانه 7.5 مليون نسمة. ويعود تاريخ المؤسسات المحلية، المستقلة أو ذات «الحكم الذاتي»، في كتالونيا إلى أواخر العصر الوسيط عندما كانت تتمتع بصلاحيات إدارية وسياسية واسعة تحت مملكة آراغون، ثم ضمن مملكة إسبانيا.
في عام 1714 وقفت كتالونيا إلى جانب سلالة الهابسبورغ النمساوية في الحرب التي خسرتها ضد سلالة البوربون، التي أسست نظاماً ملكياً مركزياً مطلقاً في إسبانيا، وألغت كل المؤسسات المحلية في كتالونيا.
بعد سقوط النظام الملكي في إسبانيا وإعلان الجمهورية عام 1931، أعلن الكتالونيون قيام جمهوريتهم إثر فوز الأحزاب اليسارية الكتالونية في الانتخابات، لكن بعد التفاوض مع مدريد اكتفوا بالحصول على حكم ذاتي بصلاحيات واسعة بإشراف الحكومة المحلية التي ما زالت إلى اليوم تعرف باسم الجنراليتات.
عام 1939 ألغى الجنرال فرانشيسكو فرنكو المنتصر في الحرب الأهلية الإسبانية مؤسسات الحكم الذاتي الكتالوني، وباشر نظامه حملة قمع قاسية حظّرت على الكتالونيين استخدام الرايات المحلية وسماع الأناشيد الوطنية، بل حتى التكلم باللغة الكتالونية.
ثم في العام 1940 ألقت قوات «الغستابو» (الشرطة السرية) النازية القبض على رئيس «الجنراليتات» (مجلس القيادة) الكتالوني، الذي كان فاراً إلى فرنسا، وسلمّته إلى نظام فرنكو، الذي حاكمه بسرعة وأعدمه في برشلونة.



يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
TT

يون سوك ــ يول... رئيس كوريا الجنوبية أثار زوبعة دعت لعزله في تصويت برلماني

تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط
تحت ضغط الفضائح والخلافات انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أن شعبيته انخفضت إلى 19 % فقط

تشهد كوريا الجنوبية، منذ نحو أسبوعين، تطورات متلاحقة لا تلوح لها نهاية حقيقية، شهدت اهتزاز موقع رئيس الجمهورية يون سوك - يول بعد إعلانه في بيان تلفزيوني فرض الأحكام العرفية، وتعليق الحكم المدني، وإرساله قوة عسكرية مدعومة بالهيلوكوبترات إلى البرلمان. ثم اضطراره للتراجع عن قراره في وجه معارضة عارمة. بيد أن تراجع الرئيس خلال ساعات قليلة من هذه المغامرة لم يزد المعارضة إلا إصراراً على إطاحته، في أزمة سياسية غير مسبوقة منذ التحوّل الديمقراطي في البلاد عام 1980 بعد فترة من الحكم التسلطي. ولقد تطوّرت الأوضاع خلال الأيام والساعات الأخيرة من الاحتجاجات في الشوارع إلى تصويت برلماني على عزل يون. وبعدما أقر البرلمان عزل الرئيس ردّ الأخير بتأكيد عزمه على المقاومة والبقاء... في أزمة مفتوحة لا تخلو من خطورة على تجربة البلاد الديمقراطية الطريّة العود.

دبلوماسي مخضرم خدم في كوريا الجنوبية قال، قبل بضعة أيام، معلقاً على الأزمة المتصاعدة: «إذا تم تمرير اقتراح العزل، يمكن وقف (الرئيس) يون (سوك - يول) عن مباشرة مهام منصبه لمدة تصل إلى 180 يوماً، بينما تنظر المحكمة الدستورية في القضية. وفي هذا (السيناريو)، يتولى رئيس الوزراء هان دوك سو منصب الرئيس المؤقت، وتُجرى انتخابات جديدة في غضون 60 يوماً».

وبالفعل، دعا هان دونغ - هون، زعيم حزب «قوة الشعب»، الحاكم، إلى تعليق سريع لسلطات الرئيس مستنداً - كما قال - إلى توافر «أدلة موثوقة» على أن يون سعى إلى اعتقال القادة السياسيين بعد إعلانه الأحكام العرفية الذي لم يدُم طويلاً. ومما أورده هان - الذي كان في وقت سابق معارضاً للمساعي الرامية إلى عزل يون - إن «الحقائق الناشئة حديثاً قلبت الموازين ضد يون، بالتالي، ومن أجل حماية كوريا الجنوبية وشعبنا، أعتقد أنه من الضروري منع الرئيس يون من ممارسة سلطاته رئيساً للجمهورية على الفور». وتابع زعيم الحزب الحاكم أن الرئيس لم يعترف بأن إعلانه فرض الأحكام العرفية إجراء غير قانوني وخاطئ، وكان ثمة «خطر كبير» من إمكانية اتخاذ قرار متطرف مماثل مرة أخرى إذا ظل في منصبه.

بالتوازي، ذكرت تقارير إعلامية كورية أن يون يخضع حالياً للتحقيق بتهمة الخيانة إلى جانب وزير الدفاع المستقيل كيم يونغ - هيون، (الذي ذُكر أنه حاول الانتحار)، ورئيس أركان الجيش الجنرال بارك آن - سو، ووزير الداخلية لي سانغ - مين. وحقاً، تمثل الدعوة التي وجهها هان، وهو وزير العدل وأحد أبرز منافسي يون في حزب «قوة الشعب»، تحولاً حاسماً في استجابة الحزب الحاكم للأزمة.

خلفية الأزمة

تولى يون سوك - يول منصبه كرجل دولة جديد على السلطة، واعداً بنهج عصري مختلف في حكم البلاد. إلا أنه في منتصف فترة ولايته الرئاسية الوحيدة التي تمتد لخمس سنوات، شهد حكمه احتكاكات شبه دائمة مع البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، وتهديدات «بالإبادة» من كوريا الشمالية، ناهيك من سلسلة من الفضائح التي اتهم وعائلته بالتورّط فيها.

وعندما حاول يون في خطابه التلفزيوني تبرير فرض الأحكام العرفية، قال: «أنا أعلن حالة الطوارئ من أجل حماية النظام الدستوري القائم على الحرية، وللقضاء على الجماعات المشينة المناصرة لنظام كوريا الشمالية، التي تسرق الحرية والسعادة من شعبنا»، في إشارة واضحة إلى الحزب الديمقراطي المعارض، مع أنه لم يقدم أي دليل على ادعائه.

إلا أن محللين سياسيين رأوا في الأيام الأخيرة أن الرئيس خطّط على الأرجح لإصدار مرسوم «الأحكام العرفية الخرقاء» أملاً بحرف انتباه الرأي العام بعيداً عن الفضائح المختلفة والإخفاق في معالجة العديد من القضايا المحلية. ولذا اعتبروا أن عليه ألا يطيل أمد حكمه الفاقد الشعبية، بل يبادر من تلقاء نفسه إلى الاستقالة من دون انتظار إجراءات العزل، ومن ثم، السماح للبلاد بانتخاب رئيس جديد.

بطاقة هوية

ولد يون سوك - يول، البالغ من العمر 64 سنة، عام 1960 في العاصمة سيول لعائلة من الأكاديميين اللامعين. إذ كان أبوه يون كي - جونغ أستاذاً للاقتصاد في جامعة يونساي، وأمه تشوي سيونغ - جا محاضرة في جامعة إيوها للنساء قبل زواجها. وحصل يون على شهادته الثانوية عام 1979، وكان يريد في الأصل أن يدرس الاقتصاد ليغدو أستاذاً، كأبيه، ولكن بناءً على نصيحة الأخير درس الحقوق، وحصل على شهادتي الإجازة ثم الماجستير في الحقوق من جامعة سيول الوطنية - التي هي إحدى «جامعات النخبة الثلاث» في كوريا مع جامعتي يونساي وكوريا - وأصبح مدّعياً عاماً بارزاً قاد حملة ناجحة لمكافحة الفساد لمدة 27 سنة.

ووفق وسائل الإعلام الكورية، كانت إحدى محطات حياته عندما كان طالب حقوق عندما لعب دور القاضي في محاكمة صورية للديكتاتور (آنذاك) تشون دو - هوان، الذي نفذ انقلاباً عسكرياً وحُكم عليه بالسجن مدى الحياة. وفي أعقاب ذلك، اضطر يون إلى الفرار إلى الريف مع تمديد جيش تشون الأحكام العرفية ونشر القوات والمدرّعات في الجامعة.

بعدها، عاد يون إلى العاصمة، وصار في نهاية المطاف مدعياً عاماً، وواصل ترقيه الوظيفي ما يقرب من ثلاثة عقود، بانياً صورة له بأنه حازم وصارم لا يتسامح ولا يقدّم تنازلات.

مسيرته القانونية... ثم الرئاسة

قبل تولي يون سوك - يول رئاسة الجمهورية، كان رئيس مكتب الادعاء العام في المنطقة المركزية في سيول، وأتاح له ذلك محاكمة أسلافه من الرؤساء. إذ لعب دوراً فعالاً في إدانة الرئيسة السابقة بارك غيون - هاي التي أُدينت بسوء استخدام السلطة، وعُزلت وأودعت السجن عام 2016. كذلك، وجه الاتهام إلى مون جاي - إن، أحد كبار مساعدي خليفة الرئيسة بارك، في قضية احتيال ورشوة.

أما على الصعيد السياسي، فقد انخرط يون في السياسة الحزبية قبل سنة واحدة فقط من فوزه بالرئاسة، وذلك عندما كان حزب «قوة الشعب» المحافظ - وكان حزب المعارضة يومذاك - معجباً بما رأوه منه كمدّعٍ عام حاكم كبار الشخصيات، وأقنع يون، من ثم، ليصبح مرشح الحزب لمنصب رئاسة الجمهورية.

وفي الانتخابات الرئاسية عام 2022 تغلّب يون على منافسه الليبرالي لي جاي - ميونغ، مرشح الحزب الديمقراطي، بفارق ضئيل بلغ 0.76 في المائة... وهو أدنى فارق على الإطلاق في تاريخ الانتخابات في البلاد.

الواقع أن الحملة الانتخابية لعام 2022 كانت واحدةً من الحملات الانتخابية القاسية في تاريخ البلاد الحديث. إذ شبّه يون غريمه لي بـ«هتلر» و«موسوليني». ووصف حلفاء لي الديمقراطيون، يون، بأنه «وحش» و«ديكتاتور»، وسخروا من جراحة التجميل المزعومة لزوجته.

إضافة إلى ذلك، شنّ يون حملته الانتخابية بناء على إلغاء القيود المالية والموقف المناهض للمرأة. لكنه عندما وصل إلى السلطة، ألغى وزارة المساواة بين الجنسين والأسرة، قائلاً إنها «مجرد مقولة قديمة بأن النساء يُعاملن بشكل غير متساوٍ والرجال يُعاملون بشكل أفضل». وللعلم، تعد الفجوة في الأجور بين الجنسين في كوريا الجنوبية الأسوأ حالياً في أي بلد عضو في «منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية».

أيضاً، أدى استخدام يون «الفيتو» تكراراً إلى ركود في العمل الحكومي، بينما أدت تهم الفساد الموجهة إلى زوجته لتفاقم السخط العام ضد حكومته.

تراجع شعبيته

بالتالي، تحت ضغط الفضائح والخلافات، انخفضت شعبية يون، وقبل أقل من شهر أظهر استطلاع للرأي أجرته مؤسسة «غالوب كوريا» أن شعبيته انخفضت إلى 19 في المائة فقط. وتعد «كارثة» الأحكام العرفية الحلقة الأخيرة في سلسلة من الممارسات التي حددت رئاسة يون وأخطائها.

إذ ألقي باللوم على إدارة يون في التضخم الغذائي، وتباطؤ الاقتصاد، والتضييق المتزايد على حرية التعبير. وفي أواخر 2022، بعدما أسفر تدافع حشود في احتفال «الهالوين» (البربارة) في سيول عن سقوط 159 قتيلاً، تعرضت طريقة تعامل الحكومة مع المأساة لانتقادات واسعة.

زوجته في قلب مشاكله!

من جهة ثانية، كانت كيم كيون - هي، زوجة الرئيس منذ عام 2012، سبباً آخر للسخط والانتقادات في وسائل الإعلام الكورية الجنوبية. فقد اتهمت «السيدة الأولى» بالتهرب الضريبي، والحصول على عمولات لاستضافة معارض فنية عن طريق عملها. كذلك واجهت اتهامات بالانتحال الأدبي في أطروحتها لنيل درجة الدكتوراه وغيرها من الأعمال الأكاديمية.

لكن أكبر فضيحة على الإطلاق تورّطت فيها كيم، كانت قبولها عام 2023 هدية هي حقيبة يد بقيمة 1800 جنيه إسترليني سراً من قسيس، الأمر الذي أدى إلى مزاعم بالتصرف غير اللائق وإثارة الغضب العام، لكون الثمن تجاوز الحد الأقصى لما يمكن أن يقبله الساسة في كوريا الجنوبية وشركاؤهم قانونياً لهدية. لكن الرئيس يون ومؤيديه رفضوا هذه المزاعم وعدوها جزءاً من حملة تشويه سياسية.

أيضاً أثيرت تساؤلات حول العديد من القطع الثمينة من المجوهرات التي تملكها «السيدة الأولى»، والتي لم يعلَن عنها كجزء من الأصول الرئاسية الخاصة. وبالمناسبة، عندما فُتح التحقيق في الأمر قبل ست سنوات، كان زوجها رئيس النيابة العامة. أما عن حماته، تشوي يون - سون، فإنها أمضت بالفعل حكماً بالسجن لمدة سنة إثر إدانتها بتزوير وثائق مالية في صفقة عقارية.

يُضاف إلى كل ما سبق، تعرّض الرئيس يون لانتقادات تتعلق باستخدام «الفيتو» الرئاسي في قضايا منها رفض مشروع قانون يمهد الطريق لتحقيق خاص في التلاعب المزعوم بالأسهم من قبل زوجته كيم كيون - هي لصالح شركة «دويتشه موتورز». وأيضاً استخدام «الفيتو» ضد مشروع قانون يفوّض مستشاراً خاصاً بالتحقيق في مزاعم بأن مسؤولين عسكريين ومكتب الرئاسة قد تدخلوا في تحقيق داخلي يتعلق بوفاة جندي بمشاة البحرية الكورية عام 2023.

وهكذا، بعد سنتين ونصف السنة من أداء يون اليمين الدستورية عام 2022، وعلى أثر انتخابات رئاسية مثيرة للانقسام الشديد، انقلبت الأمور ضد الرئيس. وفي خضم ارتباك الأحداث السياسية وتزايد المخاوف الدولية يرزح اقتصاد كوريا الجنوبية تحت ضغوط مقلقة.

أمام هذا المشهد الغامض، تعيش «الحالة الديمقراطية» في كوريا الجنوبية أحد أهم التحديات التي تهددها منذ ظهورها في أواخر القرن العشرين.