عن دار «شركة الوراق للنشر المحدودة» يصدر قريباً كتاب «نظريّة المعرفة عند ابن خلدون - دراسة تحليليّة»، وهي أساساً دراسة أكاديمية نال عنها عالم الاجتماع علي الوردي أطروحة الدكتوراه. وهي مكتوبة باللغة الإنجليزية، وقد ترجمها إلى العربية د. أنيس عبد الخالق محمود القيسي.
وننشر هنا مقدمة د. الوردي للكتاب:
يعدّ ابن خلدون من الشخصيّات الغامضة التي يصعُب فهمها، ولم يتّفق نقّادُه على المعنى الحقيقي لكتاباته قطّ. ويعزو البعضُ إليه بعضَ النيّات التي لعلّه لم يفكّر بها قطّ.
وبينما يذكر أحد الكُتّاب أنه شخصٌ متديّنٌ للغاية، يعدّه آخر ملحداً وعلمانياً إلى أبعد الحدود. وبينما يعدّه أحدهم عروبياً متفانياً، يعدّه آخر بربرياً عدواً لدوداً للعرب. وفي الآونة الأخيرة شَبَّهَ أحد الكُتّاب العرب مقدّمته بالكتاب المقدّس لكي يستنهض الجيل الجديد في العالم العربي اليوم، كرمز لعظمة أجدادهم ودليلاً على ذكائهم المبدع؛ في حين دافع كاتب عربي آخر عن حرق جميع كتبه ونبش عظامه أيضاً بدعوى أنه كان عدواً مؤكّداً للأمّة العربيّة.
وقد ولّى الزمن الذي كانت تعدّ فيه هذه الحقيقة معلومة موضوعيّة موجودة «هناك»، وبالتالي فإن أي شخص يتمتّع بنظرة ثاقبة يستطيع أن يفهم حقيقتها الكاملة. إن هذه الفكرة لم تعدّ صحيحة. فالحقيقة الآن ظاهرة معقّدة للغاية ومن المستحيل أن يُنظر إليها كلياً من منظور منفرد. ويمكن أن نشبّه الحقيقة بهرم متعدد الأوجه. فلا يستطيع أحد أن يرى جميع أوجهه في آن واحد وهو واقفٌ في مكان واحد. وقد أشار مانهاين إلى أن الحقيقة لا يمكن أن تُفهم إلاّ من خلال شكل دائريّ، أي من خلال نظرة عامّة تجمع جميع الآراء الشخصيّة المختلفة.
إن الخطأ الذي وقع فيه منتقدو ابن خلدون هو أنهم يحاولون فرض فئاتهم ومبادئهم الفكريّة الخاصّة، أي رؤاهم الخاصّة، على ابن خلدون. وكانت النتيجة أن خرج كلّ منهم في دراسته بتفسير مختلف إلى حدٍّ ما.
فالمفكّر العربي طه حسين، والمترجم الفرنسي لمقدّمة ابن خلدون دي سلان (*)، يشكوان من غموض كتابات ابن خلدون وتناقضاتها. والواقع أن ابن خلدون بعيدٌ عن تقديرهم، فكتاباته واضحة جداً مقارنة بالكُتّاب الآخرين في عصره وثقافته. ويمكن أن يُعزى غموض ابن خلدون الذي يشكو منه دي سلان إلى أن الأخير درس ابن خلدون من زاوية «سكونيّة»، بينما كان ابن خلدون ينظر إلى الظواهر الاجتماعيّة من زاوية «متحرّكة».
ويرى ابن خلدون أن الشيء نفسه يمكن أن يُنظر إليه على أنه جيّدٌ وسيّءٌ، مفيدٌ وضارّ. وهذا رأي متناقضٌ بشكل صادم لمَن ينظرون إلى الأمور من خلال منطق أرسطو. فلا يستطيع دي سلان ومعظم نُقّاد ابن خلدون، ولا سيما الكُتّاب العرب في العصر الحديث، أن يفهموا كيف يمدح ابن خلدون العربَ ويعلن في الوقت نفسه بأنهم أكثر الشعوب همجيّة على الأرض.
ولأن هؤلاء الكُتّاب يعيشون تحت تأثير الحضارة الحديثة، فهُم لا يستطيعون الامتناع عن الاستنتاج بأن «الهمجيّة» هي إحدى أكثر الصفات المهينة والمخزية التي يمكن أن توْسَم بها أي أمّة. ولكن عندما ننظر من خلال منظور ابن خلدون، نرى أن تلك «الهمجيّة» ليست مهينة كما يعتقد أولئك المنتقدون. فعندما نتتبّع حجّة ابن خلدون، قد نرى أن مفردة «همجيّة» تحمل المعنى نفسه الذي تحمله مفردات «الرجولة» و«الشجاعة» و«الحُريّة» و«الفخر» وما إلى ذلك. وقد تعني الحضارة لدى ابن خلدون «النعومة» و«الأنوثة» و«الجبن» و«الذلّ»، وما إلى ذلك. وقد عدّها ابن خلدون من علامات النقص لدى الشخص.
ويمكن أن نفسّر الكثير من حالات الاختلاف والجدل المحتدم بين الحين والآخر بين الأطراف المتصارعة والمدارس والطوائف وما إلى ذلك، على أنها نزاعٌ بين آراء مختلفة بشأن الزاوية التي يُنظر منها إلى الحقيقة. وقد يكون لأي طرف، سواءً كان يدري أو لا يدري، فئاتٌ وتصوّرات تتعارض مع آراء الطرف الآخر تماماً، فيحاول كلّ منهما أن يقنع الآخر دون جدوى، وبأن الحقّ في صفّه. ويعود السبب في عقم هذا الجدل دائماً إلى فشل كلّ طرف في فهم التصوّرات الخفيّة الكامنة في تفكير الآخرين. وأول خطوة ينبغي أن نتّخذها لكي نفهم حقيقة ما يقوله أو يدّعيه الآخرون هي أن نحاول الوصول إلى أعماق عقولهم لكي نفهم «المبادئ الأولى» لتفكيرهم؛ أي أن ننظر من خلال منظورهم الخاص.
لقد عاش ابن خلدون في ثقافة تختلف عن ثقافتنا تماماً، والحقّ أنه هاجم معظم النزعات الفكريّة وعُقد المواقف في عصره. ولكن على الرغم من ذلك لن نستطيع أن نفهم وجهة نظره ما لم ندرس تلك النزعات والقِيَم التي هاجمها أولاً. ولكي نفهم المعنى الحقيقي لنظريّة ابن خلدون، من الضروري أن نضع أنفسنا في مكانه وننظر إلى العالم من خلال عينيه. إن أحد الأهداف الرئيسة لهذه الدراسة دحض هذه الفكرة التي أرى أنها باطلة من أي أساس علميّ. فابن خلدون، مثل أي مفكّر بالضبط، هو ابن عصره. وعلى الرغم من مظهر الإبداع العالي في نظريّته الاجتماعيّة، إلاّ أنها نتاجٌ نهائي لسلسلة طويلة من الحركات الفكريّة الإسلاميّة. وليس من قبيل المبالغة أن نقول بأن نظريّته كانت نوعاً من التوليف بين الآيديولوجيّات المتضاربة والمعتقدات الطائفيّة في الإسلام. وليس من الغريب أن نجد نظريّة كهذه تظهر في المجتمع الإسلاميّ، لكن من الغريب إلى حدٍّ ما أن نجدها تظهر في وقت متأخّر جداً.
تتناول الأطروحة الحاليّة أربعة مواضيع تشكّل أهم المحاور التي تدور حولها نظريّة ابن خلدون. وسنقدّم هذه المواضيع من زاوية الثنائيّات ـ نقطة إزاء أخرى. وسنستعمل مفهوم فيبر «النمط المثاليّ» بكثافة عند مناقشة تلك الثنائيّات. ولأن الدراسة الحاليّة تتناول الفكر في ضوء سوسيولوجيا المعرفة أساساً، فإن مفهوم «النمط المثاليّ»، أو ما يسمّيه بيكر «الطوبولوجيا البنّاءة»، سيبدو أداة ضروريّة في هذه الدراسة، لأن العقل البشري يميل عُموماً إلى التفكير من زاوية الثنائيّات في الطوبولوجيا. وسنرى فيما بعد أن التفكير هو نتاجٌ اجتماعيٌّ. وهو، كما يشير رايت ملز، حوارٌ صامتٌ مع عدوّ وهميّ. ولذلك، فإن أي نقطة تثار للمناقشة أو التفكير بصورة طبيعيّة تتّخذ شكل «المؤيِّد» و«الوهميّ». ويمكن أن نقول إن معظم فلسفات التاريخ ونظريّاته عن البشريّة ما هي الإنتاجاتٌ لخلافات شديدة. وليس ثمّة مفكّرٌ يستطيع أن يقدّم نظريّة دون أن يكون على علم تامّ أوّلاً ببعض الخلافات التي نوقشت بالفعل، وبقيت دون حلّ أحياناً. والظاهر أن العقل البشري ينمو ويزدهر على مواضيع يعارض فيها طرفان بعضهما البعض إلى أبعد الحدود. وبمجرّد أن يتمّ التفكير بقيمة معيّنة، يظهر عكسُها في العقل، وهكذا يحدث جدلٌ ساخنٌ، سواءً كان صامتاً داخل «الذات»، أو صاخباً بين المتحدّثين.
وقد سببت المواضيع الأربعة التي يبدو ابن خلدون كان مهتماً بها جداً، طوال تاريخ الإسلام، خلافات مثيرة. وهي كالآتي:
1) المثاليّة والواقعيّة.
2) اليقين والاحتمال.
3) العقل والدين.
4) الإسلام والبداوة.
ولذلك، قسّمت الدراسة على أربعة أقسام، يتناول كلّ منها إحدى هذه الثنائيّات الأربع.
«نظريّة المعرفة عند ابن خلدون... دراسة تحليلية» لعلي الوردي
https://aawsat.com/home/article/1220321/%C2%AB%D9%86%D8%B8%D8%B1%D9%8A%D9%91%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%B9%D8%B1%D9%81%D8%A9-%D8%B9%D9%86%D8%AF-%D8%A7%D8%A8%D9%86-%D8%AE%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%86-%D8%AF%D8%B1%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D8%AA%D8%AD%D9%84%D9%8A%D9%84%D9%8A%D8%A9%C2%BB-%D9%84%D8%B9%D9%84%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B1%D8%AF%D9%8A
«نظريّة المعرفة عند ابن خلدون... دراسة تحليلية» لعلي الوردي
«نظريّة المعرفة عند ابن خلدون... دراسة تحليلية» لعلي الوردي
مواضيع
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة